الزمن وجدليّة الهزيمة والانتصار في الرواية اللبنانيّة
“عين الشلال” أنموذجًا
د.فريد عثمان
توطئة
عالجت رواية “عين الشلال” قضايا المقاومة التي واجهت بها الجماهير الشعبية الاحتلال الصهيوني في الجنوب، ونحن في هذه الدراسة سنحاول معرفة القضايا التي ميزّت هذه الرواية من غيرها من الروايات، كما سنحاول تبيان الأهمية التي تتمتع بها هذه الرواية على الصعيدين الأدبي والثقافي، ونعالج موضوع الزمن، وجدليّة الهزيمة والانتصار فيها.
يمكن القول إنّ البنية الدالّة هي الأساس الذي يعبّر عن رؤية المؤلّف التي تستند إلى موقف محدّد. ولمّا كان المنهج وسيلة للبحث عن المعرفة، بناء على قواعد ومقاييس مضبوطة، يغدو من الضرورة بمكان، اعتماد التطبيق العمليّ لمنهج معيّن، يسهم في بلورة الرؤية المعرفيّة. وعلى هذا، من الضروري اعتماد المنهج البنيويّ السيمائيّ في معالجة هذه الدراسة، كون السيمياء تشكّل فرعاً من اللسانيّات([1]). انطلاقاً من وجود بنية عميقة ذات دلالات إشاريّة، وتأويلات تتراءى خارج النصّ، ومن خلالها يمكن النّفاذ إلى تفسير الرّموز والإشارات ومحاولة الإحاطة بالدّلالات، وضرورة إدراك الظواهر الاجتماعيّة والنفسيّة والثقافيّة الخفيّة. ويتبدّى دور الناقد في إعادة إنتاج النصّ، بحسب ثقافة الناقد، وعمقها.
قد يصحّ القول إنّ الزمن في الأعمال الروائيّة هو زمن تخيّليّ، يقوم الروائي بابتداعه؛ “ليوفّر الدوافع التي تقوم بتحريك السرد، كالسببيّة والتتابع وترتيب الحوادث والتشويق والايقاع والاستمرار”([2]). ومن الممكن أن يكون هذا الزمن، نفسيًّا أو ذاتيًّا، يتمظهر لدى الشخصيّات بوساطة اللغة التي تعبّر عن حياتها الداخليّة، في اللحظة التي تعيشها، وهذا ما “يجعل من إحساس الشخصيّة بالزمن علامة سيمائيّة لها دلالتها التي يجب أن ينشدها الباحث”([3]). وبالإمكان اعتماد جملة من المحاور، تتناول دراسة الزمن في “عين الشلال”:
المحور الأوّل: علاقات الترتيب في رواية “عين الشلال”
يرتبط الزمن بالسرد، كون هذا الأخير يتضمّن ترتيب الأحداث وتتابعها، وتعبيراً عن تجربة الإنسان الداخليّة. وزمن السرد الفنّي يُعنى بخرق زمن الحكاية وفاق تقنيّات متعدّدة، ليشكّل انزياحاً فنّيّاً وينهض بدلالات متعدّدة، فتتقاطع الأزمنة، وتختلط سرعة حركة السرد وتتفاوت بين مسرود سريع: تلخيص وتوقّف: وقفة أو استراحة، وسرعة لا نهائيّة: ثغرة وبطء: مشهد”([4]).
يمكن دراسة الزمن في رواية عين الشلال، وفاق قضايا أساسيّة، تتناول: علاقات الترتيب، وعلاقات الديمومة، ثمّ علاقات التردّد، وذلك في إطار الجدليّة التي أُشير إليها من قبل. وتنتهي الدراسة بكلمة أخيرة تبيّن ما أمكن التوصّل إليه من نتائج.
1 . علاقات الترتيب وجدليّة الهزيمة والانتصار في الرواية
يتشكّل الزمن الروائيّ في الرواية، من خلال انزياح بعض التقنيّات السرديّة ضمن السرد، ويُلحظ فيها مفارقة زمن الأحداث، ويُستحسن التوقّف أمام علاقات الترتيب التي تتناول:
أ . الاسترجاع ودلالته
يشير هذا العنوان إلى استعادة حدث ما، أو أحداث جرت في الماضي، وقد يكون هذا الاسترجاع خارجيّاً: يفيد استعادة أحداث معيّنة، قبل بدء زمن الرواية، وداخليّاً: يفيد “استعادة ما حدث بعد بدء الزمن الروائيّ، وقبل الحدث الذي يُؤدّى”([5]). ومن المعلوم أنّ للاسترجاع وظائف متعدّدة يرمي إليها المؤلّف، إذ يملأ الفجوات التي يخلّفها السرد وراءه، كما يقدّم للقارىء معلومات حول سوابق شخصيّة جديدة قام الروائيّ بإدخالها إلى عالم القصّة، كما قد يقوم باطلاع القارىء “على حاضر شخصيّة غلبت عن مسرح الأحداث، أو عاودت الظهور من جديد”([6]).
أ . 1. الاسترجاع الخارجي في الرواية
وضع المؤلّف القارىء أمام أزمة الشخصيّة الرئيسة، وتمثّلت في مفاعيل العدوان الصهيونيّ الذي صبّ نيران غضبه على بلدات القرى الجنوبيّة اللبنانيّة؛ لتعاطف أبنائها مع المقاومين الفلسطيّين، وإيمانهم بعدالة قضيّتهم، مع الإشارة إلى وجود بعض الأصوات الوطنيّة التي رفضت ممارسات المتسلّطين الوقحة للاحتلال، والمشاركة في التصدّي للغزاة. نقرأ قول الراوي عن سمير:” تذكّر جدّته لأبيه، وحديثها عن أبيها ووقوفه في وجه المتسلّطين والإقطاعيّين الذين كانوا يسومون الفلاحين ألوان العذاب، ويقاسمونهم جناهم(..) فهو باعها من أجل أن يشتري بارودة أنكليزيّة وعشرين قنبلة يدويّة ومسدّساً إنكليزيّاً وحمل سلاحه والتحق بالمجاهدين في حيفا”([7]).
يكشف هذا المقبوس عن أوضاع الجنوب اللبنانيّ في مرحلة من تاريخ لبنان، تعود إلى عقود خلت. يُلحظ الحسّ الوطنيّ القوميّ من خلال مشاركة مجموعة من الوطنيّين اللبنانيّن في الأعمال القتاليّة ضدّ العدوّ الغاصب، وطرده من المناطق التي احتلّها، كما يشير إلى ندرة السلاح، وارتفاع ثمنه، واستعداد الإنسان الوطنيّ التخلّي عن الأرض، من أجل الحفاظ على ما تبقّى منها. وفي الوقت ذاته يشير إلى مواجهة رجال الإقطاع، والتصدّي للممارسات الظالمة التي شكّلت حليفاً لهذا العدوّ الخارجيّ. وما شراء السلاح واقتنائه إلّا علامة على الاستعداد للتضحية، من أجل قضيّة الإنسان، أينما كان. وما الالتحاق بالمجاهدين في حيفا إلا ترجمة عمليّة للإخلاص للوطن والأمة، لا يُقدِم عليها إلّا مَن كان رجلاً مؤمناً بحقّ الإنسان في العيش بحرّيّة وكرامة، على أرض وطنه. هي معادلة مقنعة، طرفها الأوّل يتمثّل في حقّ الإنسان في الحياة، وطرفها الثاني يتمثّل في الجرأة والإقدام، والاستهانة بالأخطار، من أجل تحقيق الأهداف الكبرى. والمؤلّف المتمكّن يعتمد الفنّيّة “في سرد ما يحدث: يقدّم ويؤخّر فعلًا على فعل، ويلعب وفاق ما يراه مناسبًا للمسار الذي يبني”([8]).
نقرأ في مكان آخر: “.. وأسفرت الغارة الجويّة عن مقتل طفلين من رفاقه، وجرح عشرة منهم.. وطار هو إلى الجلّ، ثمّ هوى على البحصاصة فانكسرت يده.. وعاد وحيداً إلى بيته تحت القصف والشظايا التي تتنثر حوله، والرعب يطلّ من عينيه.. وكالعادة، لم يجد سوى حضن أمّه”([9]).
يُظهر المقبوس بعض الممارسات الصهيونيّة الغادرة تجاه الشعب اللبنانيّ، كاشفاً عن حقده الدفين، إذ لم يتورّع عن بثّ الرعب في قلوب الأطفال، عندما يستهدفهم بالقصف الجوّيّ الذي لا يعبأ بحقوق الأطفال، بل لا تعنيهم حياتهم في شيء. ولعلّ ما يعنيه هو تهجير السكان، وإفراغ القرى من أصحابها، ضارباً بالمواثيق الدوليّة عرض الحائط. يظهر موقف المناضلين إنسانيًّا بالدرجة الأولى وكذلك “نجد قضيّة القيم الأخلاقيّة هي المطروحة بأبعادها الثلاثة في موازياتها لبنية المعرفة العقلانية تباعًا”([10]).
أظهر الاسترجاع الخارجيّ فداحة الظلم الذي تعرّض له أبناء الجنوب اللبنانيّ، على أيدي الغزاة الصهاينة حيناً، وعلى أيدي بعض رجال الإقطاع الذين راحوا ينهبون تعب الفلاحين، ويستغلّون عرقهم وأرزاقهم، حيناً آخر. وقد مهّد بهذا لمسوّغات الاعتماد على الذات، استعدادًا للمواجهة.
أ . 2. الاسترجاع الداخلي في الرواية
تضمّنت رواية “عين الشلال” مجموعة من الاسترجاعات الداخليّة، بعد بدء زمن الرواية، ويجد الدارس غير أنموذج من هذه الاسترجاعات، منها قول الراوي عن سمير:
“تعجّب من رقم الغرفة الذي كان مطابقاً لرقم الخيمة التي سكنها في مخيّم المهجّرين … هذا المخيّم الذي بقي يحفر في ذاكرته … وقد قفزت صورة خيمته إلى ذهنه وهو يصعد إلى غرفة أمّ نضال”([11]).
يرمي الروائيّ إلى الحديث عن معاناة أبناء الجنوب اللبنانيّ، عندما تدفع بهم وحشيّة العدوان الصهيونيّ إلى ترك بيوتهم وأرضهم، في أثناء وقوع هذه المنطقة تحت سيطرة القوّات الغازية، والحاجة إلى العيش في مخيّمات لا تتوافر فيها أبسط متطلّبات الحياة اليوميّة. هي صور مُحزنة ترسّخت في نفوس المهجّرين، وقد تكون محرّضًا على العمل؛ للتخلّص من الخوف والرحيل، وإخراج المحتلّين من المناطق التي سيطروا عليها، واستعادة شيء من الكرامة المهدورة.
نقرأ قول الراوي أيضًا: “وقد استقرّت هذه العائلة في بيت الأوزاعي، بعد أن منعت قوّات الاحتلال أمّ سمير من السكن في عين الشلال، وكانت القوّات الإسرائيليّة المحتلّة قد منعت أمّ سمير حتّى من تفقّد منزلها الذي فجّره الجيش الإسرائيليّ وهدمه بالكامل، على أثر اعتقال ابنها”([12]).
من الواضح هنا، أنّ استعادة هذ الحدث يُظهر حجم معاناة المهجّرين، ومحاولة القوّات المحتلّة إفراغ الأرض من أصحابها، ومنعهم من العودة إليها، حفاظاً على أمنهم المزعوم. وتدمير البيوت بالكامل محاولة يائسة لبثّ الرعب في القلوب، وقطع الصلة التي تربط الأرض والبيوت بأصحابها. وما ذلك إلّا لأنّ غاية العدوّ الرئيسة هي إبعاد الخطر من جنوده وعملائه، والعمل على استثمار الثروات ونهبها. ولا يمكن لهذا العدوّ أن يُحقّق أهدافه؛ لأنّ حبّ الأرض والوطن متأصّل في نفس المواطن الجنوبيّ، وهذا يشجّع على العمل على طرد المحتلّ وأعوانه، مهما عظمت التضحيات.
يمكن القول إنّ استعادة بعض الأحداث التي جرت بعد بدء زمن الرواية، تخدم غرض الروائيّ المتمثّل في نشر ثقافة المقاومة وتعميقها في نفوس المظلومين.
ب . الاستباق ودلالته في “عين الشلال”
إنّ الدخول إلى عمق الاستباقات في الرواية يُظهر تواجدها بشكل ملحوظ في القسم الثاني منها، وجاءت في الغالب قصيرة، كما في الرويات الأخرى. ومن نماذج الاستباقات التي حملت دلالات محدّدة قول سمير لناصر:
“بكرا بتروح إنت وبتعاين المكان، وبعد يومين رح إرسل لك شابّين، وهم من أصحابك، ورايحين يزوروك، وبتجهزوا المكان.. وبعدين منعمل معسكر تدريب، تحت ستار الكشّافة”. ويردّ ناصر:
“خلاص. أنا بكرا مسافر على البلد.. وبنشوف شو رح يطلع معنا”([13]).
يبتدّى التصميم على الممارسة المرتبطة بمقاومة الاحتلال الإسرائيليّ في هذه الاستباقات المتتابعة، فالشباب الذين تطوّعوا لتقديم الأنموذج الوطنيّ السبّاق، راحوا يخطّطون لعمل جدّيّ مثمر، مع اتّخاذ الاحتياط والانضباط، تجنّبًا لأيّ انزلاق في المخاطر. يضيء هذا الاستباق واقع البلاد، بعد أن توغّلت قوّات الاحتلال في بيروت، وبات من الأمور الملحّة البحث عن الأمور المتاحة التي لا تستلفت الأنظار. ويأتي ردّ ناصر؛ ليؤكّد الإصرار على التنفيذ والحزم، وهذا العمل تعبير مباشر عن أولى التجارب الكفاحيّة التي يخوضها الشباب الوطنيّ، في تلك البقعة على أطراف بيروت. ويمكن القول إنّ هذه الجمل الاستباقيّة تنطوي على ثقافة جديدة، ترمي إلى إحلال الانتصار محلّ الهزيمة، في مرحلة حاسمة من حياة الوطن وأبنائه. وفي مكان آخر يقول سمير :
“طيب ما بنّا مشاكل.. إذهبوا الآن إلى قريتكم وأنا أتّصل بكم في ما بعد.. يبدو أنّنا سندخل مرحلة جديدة من الاحتلال في هذه البلدة. ودّعهم وخرج عائدًا إلى بيته بدأ يشعر بالقلق، فاعتقال فوزي سيفتح أعين العملاء عليه ويضعونه في دائرة الشبهات”([14]).
من الواضح أنّ الاستباق في هذه الأسطر، يكشف عن مرحلة من القلق الذي تعيش الشخصيّات هواجسه، فهي تعلم جيّدًا أنّ انكشاف الأبطال المقاومين أمام أعين العملاء، سيعرّض العمل بأكمله للفشل. ويأتي تجنّب المشكلات من منطلق الحفاظ على سرّيّة العمل، وكذلك الحفاظ على أرواح المقاومين؛ لكي يترّسخ هذا الأنموذج، ويُحقّق النتيجة المتوخّاة. وبالإمكان القول إنّ هذا التخطيط المتأنّي يرسم معالم طريق جديدة، في كيفيّة التعاطي مع واقع جديد، اعتمادًا على ثقافة جديدة مغايرة لما سبق. لقد أدّت الاستباقات دورها في هذه الرواية، في ترسيخ ثقافة الانتصار، على أنقاض ثقافة الهزيمة القائمة على الرضوخ للأمر الواقع، والابتعاد من كلّ ما يعرّض الإنسان للخطر. لقد حالف التوفيق الكاتب في هذا المجال، إذ يعرف أنّه “يحتاج إلى شيء من البراعة والاحترافيّة، والذكاء الأدبي القائم على اكتساب التجربة والممارسة”([15]).
ج . التضمين ودلالته في رواية “عين الشلال”
قد يتّخذ التضمين نوعًا من الوقفة، عندما تُوقف سيرورة الأحداث، وتُدخل القارىء في زمنها الخاصّ. وفي “عين الشلال” يعثر الدارس على نماذج من التضمين، كما حدث مع “سمير” عندما راح يستعرض وضعه، بعد تلخيص مكثّف لقصّة المرأة والجاحظ([16])، ونقش صورة الشيطان على الخاتم. وربّما يكون الهدف من هذا التضمين هو إظهار حقيقة المحقّقين الذين تناوبوا على تعذيب المقاوم سمير، وتخويفه، وممارسة الضغوط النفسيّة عليه. وإذا ما عدنا إلى الوراء([17])، وجدنا تضمينًا آخر، يكتب فيه المؤلّف رسالة من سمير إلى إحدى الفتيات، يشرح فيها عواطفه المتدفّقة، وهو الفتى الوسيم. وإذا كان من الصحيح أنّه ليس للرسالة علاقة بالموقف النضاليّ، إلّا أنها تكشف عن توجّهات سمير العاطفيّة، وهو بعد في مرحلة المراهقة. إنّها تُظهر بوضوح كيفيّة فهمه للمرأة، وماذا يريد منها، بناء على تربية خلقيّة ناجحة.
ممّا تقدّم، يمكن القول إنّ الروائيّ عرف كيف يفيد من علاقات الترتيب، من استرجاع واستباق وتضمين، ويضعها في خدمة غرضه الروائيّ.
المحور الثاني: علاقات الديمومة في رواية “عين الشلال”
المقصود بهذه العلاقات هو سرعة القصّ، وهي تُحدّد “بالنظر في علاقة مدّة الوقائع أو الوقت الذي تستغرقه، وطول النصّ قياسًا لعدد أسطره وصفحاته”([18]). ويستطيع الرّوائيّ أن يروي بفقرة قصيرة ما حدث في أشهر. وقد يسرد بصفحات متعدّدة، مدّة من الزمن لا تتعدّى الدقيقة الواحدة. وربّما يعتمد الوصف الذي يوقف الزمن. ووظيفة هذه التقنيّات تتمثّل في إبراز دلالات معيّنة، يرمي إليها الروائيّ. ويعتمد أغلب الروائيّين أربع تقنيّات، هي: التلخيص، والوقف، والحذف، وأخيرًا المشهد. ويمكن البدء بـ:
أ . تقنيّة التلخيص ودلالتها في “عين الشلال”
إنّ تقديم أحداث مرحلة ما، في مقطع سرديّ قصير، يأتي على شكل تلخيص لما حدث، يتمّ باعتماد تقنيّة التلخيص، وبها “تُقدّم المشاهد والشخصيّات والاسترجاع”([19])، وكذلك تترابط عناصر السرد، وهذا الأداء يقرب من التقرير الخبريّ، وفيه مساحة النصّ تكون أكبر من سرعة القصّ. ومن نماذج التلخيص في “عين الشلال” قول الراوي: “.. وتابعت العائلة سيرها في شدّة الحرّ .. حتّى وصلت إلى مركز تجمّع سيارات النقل، والتي اختار سمير إحداها واستأجرها كي تنقله وعائلته إلى قريته، وسرعان ما نهبت هذه السيارة الطريق مسرعة، وسمير يتأمّل الأرض التي غاب عنها طويلًا ووصل مع الغروب إلى عين الشلال”([20]).
تناول التلخيص مددًا محدّدة ومعروفة في أغلب الأحيان، وقد ورد غير مرّة، مرتبطًا بشخصيّة (سمير)، كما في المقبوس أعلاه. ووظيفة هذا التلخيص متعلّقة بالسياق الذي يسرد عودة سمير إلى قريته بعد أن ترك بيروت.
إنّ تأمّل الأرض بعد غياب طويل قسريّ، يُظهر تعلّق الشابّ سمير بمسقط رأسه، وبالمكان الذي ترعرع فيه، وفي الوقت نفسه، يوحي بضرورة العمل على الإقامة الدائمة بالقرية، وهذه الإقامة لن تتحقّق ما لم تتحرّر الأرض من المحتلّين والعملاء. وينطوي هذا الأمر على تغيير كبير في تفكير سمير، وكذلك التصميم على ممارسة نهج المقاومة المشروع. وهاجس الهزيمة والنصر في معركته هذه الأفكار المتداخلة، والمتناقضة، والمتقاربة، ونستنتج من هذه الإشارات اللغوية والأسلوبية في النص أن كل كلمة تعبر عن أفكار متقاربة يحد بعضها بعضًا. فقيمة كل كلمة تحددها الاختلافات التي تشكل حقلها الدلالي([21])، وقد بيّنت قيمة هذه الأفكار المتداخلة في تشكيل وعي سمير وتوجّه نحو الشروع في تأسيس المقاومة من أجل تحرير الأرض كي يستقر في قريته آمنًا مطمئنًا.
نقرأ في مكان آخر قول الراوي عن سمير: “وكان يختار من القادرين الذين يأمن لهم، ومَن يراه بعيداً عن أعين الإسرائيليّين، ولذلك باشر عمله العسكريّ مع عفيف الذي اشترى درّاجة ناريّة .. هذه الدرّاجة التي جالا عليها في كلّ القرى المجاورة بحجّة زيارة الأصدقاء فلم يتركا قرية في المحيط إلّا ودخلا إلى أزقّتها وزواريبها”([22]).
يضع المؤلّف القارىء أمام مرحلة جديدة من مراحل الكفاح الوطنيّ، هي مرحلة حاسمة، تعتمد الإعداد والتخطيط والترويّ، وكذلك تحضير الوسائل التي تمكّن المناضلين من توجيه الضربات الموجعة بالغزاة، وامتلاك الجرأة على التنفيذ الدقيق. هي ثقافة جديدة مناقضة لما سبق، تقوم على استنهاض الجهود، وتأطيرها، ووضعها في مكانها الصحيح. وفي هذا توكيد لحتميّة انتصار قوى الحقّ، مهما عظمت التضحيات.
ب . تقنيّة الوقفة ودلالاتها في “عين الشلال”
يتمثّل الوقف بوجود خطاب لا يشغل أيّ جزء من زمن الحكاية. “والوقف لا يصوّر حدثًا؛ لأنّ الحدث يرتبط دائمًا بالزمن، بل يرافق التعليقات التي يثقحمها المؤلّف في السرد”([23]). وهناك غير نوع من أنواع الوقفات في الرواية. وما ينتج من الشعور بتوقّف الزمن، نتيجة “وقوع حدث مفاجىء، له تأثيره المباشر في الشخصيّة، فتشعر الذات أو الشخصيّة أنّ الزمن قد توقّف”([24]). ويجد الدارس مجموعة من تلك الوقفات، في رواية “عين الشلال”، منها قول الراوي عن سمير:”وضع غالون الماء تحت الحنفيّة، وأفرغ ما في برّاده من ألبان وأجبان وما تيسّر له من معلّبات وبعض الخبز.. وضع حاجياته في كيس من البلاستيك، ثمّ أسرع إلى غالون الماء فحمله بيده اليمنى والكيس باليسرى وركض في الشارع تحت القصف وأزيز الرصاص، وقبل أن يصل إلى مدخل المستودع، لمع في وجهه شهاب من نار، ثمّ انبعثت من الأرض غيمة كثيفة من الغبار الأسود”([25]).
يكشف هذا المقبوس عن تأثّر شخصيّة سمير، وردّة فعله تجاه القصف الإسرائيليّ العنيف على مدخل بيروت الجنوبيّ ، إذ يبادر إلى تأمين الحاجات الأوّليّة للمواطنين الذين لجأوا إلى الملاجىء؛ للاحتماء من خطر الموت تحت غزارة القصف. تُرسي هذه الأسطر مناخًا مفعمًا بالإقدام وتحدّي المخاطر، كيف لا وهو المناضل الشابّ الذي نذر نفسه لقضيّة الوطن. تمثّل هذه الوقفة تعبيرًا عن إيمان الشباب الوطنيّ بحتميّة الانتصار، وجهودهم المتواصلة ليست إلّا علامات فارقة، على طريق التحرير الطويلة التي قرّروا اقتحام مصاعبها، غير عابئين بالعواقب. لقد حاول المؤلّف القول إنّ على المناضل الاستعداد للبذل والتضحية، وفي هذا توكيد للنهج الجديد، وترسيخه.
نقرأ في مكان آخر: “انطلق سمير سيرًا على أقدامه بين شجرات التين والزيتون ودوالي العنب، وأعجبه عنقود ناضج شهيّ للعين فقطفه من كرم أبي محمود على طول الطريق المؤدّية إلى حارة البطم والتي خرج منها؛ ليصل إلى خلف دار جاره”([26]).
إنّ التركيز على البساتين، بأشجارها المتنوّعة، والهدف الذي يكمن خلف إيراد هذه الأسطر، قد يتمثّل في تصوير الحياة الريفيّة، وفي الجهود المتواصلة التي يبذلها الفلاحون؛ لاستثمار خيرات أرضهم، كما قد يتمثّل في الانتماء إلى الوطن، وكذلك يكشف عن خصوصيّة المكان، وضرورة العمل على العيش فيه بحريّة وكرامة، وهذا لا يتحقّق إلّا من خلال التضحيات([27]).
ج . تقنيّة الحذف ودلاتها في“عين الشلال”
هناك شيء من التقارب بين الوقفة والحذف، لجهة تسريع السرد، فالتقنيّة الأخيرة “تقضي بأسقاط مدّة طويلة أو قصيرة من زمن القصّة، وعدم التطرّق لما جرى فيها من وقائع وأحداث”([28]). وقد تكون المدّة المحذوفة محدّدة بشكل واضح، أو تكون ضمنيّة غير معروفة، يدركها القارىء من خلال قراءته لسير الأحداث. تنهض هذه التقنيّة بغير وظيفة، منها تحقيق التماسك الضروريّ لأجزاء العمل الروائيّ، ومع ذلك، يبقى لكلّ حذف وظيفته الخاصّة، تتحدّد الفنّيّة فيه من خلال قدرته على إيصال الدلالات المرجوّة، من غير إشعار القارىء بانقطاع السرد.
تتضمّن الرواية غير نوع من الحذف، منه ما كان قصيرًا، يتخطّى بعض الأمور الاعتياديّة، كما في قول الراوي:”بدأ سمير يومه الأوّل في مخيّم المهجّرين، عندما تسلّم هو وأمّه حصّتهما، من البطّانيّات وبعض الصحون والملاعق المعدنيّة، ووجبة من الطعام … في صباح اليوم الثاني ذهب إلى الحمّام المشترك”([29]).
لقد أسقط الروائيّ مدّة محدّدة من الزمن، لا تتجاوز اليوم الواحد، فهو لم يتطرّق إلى الحديث عمّا جرى مع سمير وأمّه، في النهار ولا في المساء، ذلك أنّ الأحداث التي جرت غير قابلة للتوظيف داخل الرواية؛ خدمة لأهدافها، مع أنّها تشير إلى معاناة المهجّرين القاسية من أبناء الجنوب، وشظف العيش في المخيّمات. ويجد القارىء نماذج أخرى كثيرة من الحذف المحدّد الذي لا يتجاوز زمنه اليوم أو اليومين ، أو الأسبوع أحيانًا.
انتهى القسم الأوّل من الرواية باستيلاء المقاومين الشجعان على مجنزرة إسرائيليّة، وركنها على الشاطىء المهجور. ونقرأ في بداية القسم الثاني من الرواية: “بدأت مرحلة جديدة من حياة “شعبة الجامع”، بعد أن تمكّنت القوّات الإسرائيليّة من الدخول إلى بيروت .. وتفرّق أخوة فتحي”([30]).
يلحظ القارىء فجوة زمنيّة، ما بين القسمين، فقد أغفل الروائيّ الحديث عن أحداث المدّة الفاصلة بين القسمين، وما ذلك إلّا لأنّها تشكّل عبئًا على السرد، ولا يمكن توظيفها، كما سلف القول. وإذا ما انطوى القسم الأوّل من المقبوس على مناخ تفاؤليّ، من خلال إلحاق الخسائر بالعدوّ، فإنّ القسم الثاني منه كان على العكس من ذلك. ومع ذلك، فإنّ المرحلة الجديدة تُضمر بداية جديدة، قوامها الاعتماد على الامكانات الذاتيّة، وتحضير المناخ اللازم للتغيير.
د . تقنيّة المشهد ودلالاتها في “عين الشلال”
هذه التقنيّة تعني “آونة زمنيّة قصيرة تُمثّل في مقطع نصّيّ طويل، يقدّم لحظات مشحونة ويدفع بالأمور إلى الذروة”([31]). ومن أجل تفسير ذلك، يمكن القول إنّ مساحة النصّ تساوي سرعة الحدث، أو تكون أكبر منها، وهذا يقود إلى الدخول في التفاصيل. بتعبير آخر: مرور الزمن ببطء في أثناء المشهد. ومن الجليّ أنّ تقنيّة المشهد هي النقيض لتقنيّة التلخيص، مع الفارق في وظيفة كلّ منهما. وعندما تكون زمنيّة القصّة كبيرة الأهمّيّة وأساسيّة، “تتحوّل تلقائيًّا إلى مشهد في السرد، وعندما تكون ضعيفة وثانويّة تتحوّل إلى إيجاز سريع مقتضب”([32]).
تتبدّى للقارىء المتمهّل نوعيّة الهموم التي تعبّر عنها رواية “عين الشلال”، إذ يجد أنّ تنوّع المشاهد وتعدّدها، عبر تجاوز الدلالة المترتّبة على الكلام، إلى المشاهد التي تحمل دلالة سيمائيّة. يجد الدارس مقاطع حواريّة متعدّدة، ورد بعضها قصير، على امتداد صفحات الرواية، ويُلحظ أنّ القسم الغالب منها جاء غير مراقب. نجتزىء منها الحوار الذي دار بين سمير وإسماعيل([33]):
-عليك اليوم أن تضبط بالدقيقة مرور الدوريّة من أمام العبوة..
-أنا كلّ يوم أراقبها، فهي تمرّ بين الثالثة والثالثة والنصف تقريبًا.
-بدّي وقت بالدقيقة..
-وأنت ليش ما بترصدها؟!
-وأنا كمان بدّي أرصدها، بس في الصباح عندي مشوار بقضيّة.. وبرجع لعندك.
-خير. شو بدّك تعمل؟!
بدّي أروح ركّب الصاعق..
-أترك هالأمر لي.. لأنّي أنا رتّبتها بمعرفتي..
-طيّب.. أنا بعد حوالي ساعة بقلّك..”([34]).
يتبيّن من هذا الحوار غير المراقب أنّ الهمّ الأساس يتمثّل في السعي إلى إنجاح العمليّة، بصرف النظر عن الجهد المبذول. وكون شخصيّة “سمير جبر” هي الشخصيّة الرئيسة، فإنّ همّها الأساس يتمثّل في خدمة القضيّة الوطنيّة، وهذا يُعزّز الدور الكبير الذي أدّته ثقافة مقاومة العدوان، وارتباطها بحتميّة الانتصار؛ لأنّ إرادة الشعوب لا تُقهر.
وقد يقطع المؤلّف السرد؛ ليُقدّم مقاطع وصفيّة، ذات وظيفة محدّدة، نقرأ قول الراوي عن سمير ورفيق دربه عفيف:”وسارت الدرّاجة وعلى ظهرها راكبان يسيران على الطريق الساحليّة البحريّة ويلفحهم نسيم البحر، وأشعّة الشمس الناعمة، ويحدّق سمير في “العين الحمراء القانية” التي تنزف دمها شلالًا يتساقط على البساط الأزرق، ثمّ تستعدّ للغوص إلى المياه المالحة”([35]).
يُظهر السياق أنّ هذا المقطع الوصفيّ قد ورد بين مقطعين حواريّين، إلّا أنّ المؤلّف قد أبطأ سرعة الزمن؛ ليرسم لوحة جميلة للشريط الساحليّ في الجنوب، ولعلّ هذا الوصف يسوّغ مشروعية العمل الدائب، لتحرير الأرض من الغزاة، ويربطه بثقافة المواجهة التي لا غنى عنها.
يمكن القول إنّ الروائيّ قد أحسن استخدام تقنيّات علاقات الديمومة، من تلخيص ووقف وحذف ومشهد، ووضعها في خدمة الغرض الرئيس للرواية المتمثّل في إحلال ثقافة المواجهة بدل ثقافة التراجع.
المحور الثالث: علاقات التردّد ودلالاتها في “عين الشلال”
إنّ ارتباط معدّل تكرار الحدث بمعدّل تكرار روايته هو ما تعنيه علاقات التردّد. ويتوافق أغلب الدارسين على وجود ثلاثة أقسام من هذه العلاقات:
الأوّل: انفراديّ عندما يكون الخطاب وحيدًا، يحكي مرّة واحدة ما جرى مرّة واحدة.
والثاني: تكراريّ يتكوّن من خطابات متعدّدة تحكي حدثًا واحدًا.
الثالث: وهو التردّد النمطيّ حيث “يحكي مرّة واحدة أحداثًا كثيرة متشابهة, متماثلة”([36]). ومن المفيد التوقّف أمام دام هذه التقنيّات في “عين الشلال”، وتبيان وظيفتها.
أ . التردّد الانفرادي ودلالالته
تتضمّن الرواية مجموعة كبيرة من الأحداث، ولكنّها ليست بالمستوى نفسه، لجهة أهمّيّتها. ولذلك، ينبغي التركيز على أحداث معيّنة، لا تتكرّر إلّا مرّة واحدة، تكون كافية لإيصال الدلالة.
وتُظهر العودة إلى رواية “عين الشلال” وجود أحداث معيّنة، لم تتكرّر سوى مرّة واحدة، كقول الراوي:”قلت لك لم أكن أعلم إنّهم من الجيش الإسرائيلي، كنت أستهدف إدارة السجن.. وهم كانوا يخرجون من إدارة السجن، ولم يخطر ببالي أنّهم من الجنود الإسرائيليّين، أنا أردت الانتقام لشرفي وعرضي، على ما فعلوه بي، من دون جرم أو ذنب ارتكبته .. لقد جعلوا حياتي جحيمًا..”([37]). حَظِي الحدث باهتمام الروائيّ؛ لأنّه يكشف عن وحشيّة الإسرائيليّين وعملائهم، في أثناء تعذيب المناضلين الوطنيّين، كما أنّه يُظهر بوضوح شديد، تمسّك المقاومين بحقّهم في الدفاع عن الوطن والأرض، وكذلك تميّزهم بالشجاعة ورباطة الجأش، ولعل ذلك عائد إلى اعتقادهم بتفاهة الحياة، إذا لم تكن قائمة على الحقّ والخير.
ويشير هذا إلى مقدرة الروائيّ على توظيف التقنيّات، وعلى الكشف من جهة أخرى، “فهذه القدرة على الكشف، تمثّل، من وجهة نظرنا الطريق الموصلة إلى المستوى الدلاليّ للنصّ”([38]).
ب . التردّد التكراريّ ودلالته
تمور الهواجس داخل بعض الشخصيّات، خصوصًا سمير، وارتبطت بمشكلته الرئيسة المتمثّلة بردع العدوان، والدفاع عن المظلومين والضعفاء. يقول الراوي بلسان سمير، في أثناء وقوعه في الأسر: “أين أنت يا أبي.. يا أبي إذا لم أجدك الآن فمتى أجدك”([39])؟. يتكرّر هذا القول غير مرة في الرواية، خصوصًا عندما يشعر سمير بالضعف، أو عندما يجد نفسه في مأزق. وإن دلّ هذا التكرار على شيء فإنّما يدل على الحاجة إلى التّخفيف من معاناته، جمعيّة كانت أم فرديّة.
وفي مكان آخر نقرأ قول أمّ سمير لابنها: “الله يعينك يا أمّي.. عم تتحمّل مسؤوليّات رجال كبار بيعجزوا عنها. كبرت قبل وقتك يا أمّي”([40]). أظهرت المرأة الإعجاب بابنها الفتى، غير مرّة، وقد يكون ذلك بقصد تشجيعه على تحمّل المسؤوليّة، في إشارة ضمنيّة إلى رضاها عن ممارسة ابنها لدوره الوطنيّ، كما يُظهر السياق.
ينسجم ما تقدّم مع إحلال ثقافة المواجهة بديلًا عن ثقافة التّراجع والرّضوخ للأمر الواقع. والثّقافة الجديدة تحمل بذور الانتصار والعمل من أجل هذا الهدف النّبيل. والمناضل الحقيقيّ هو بطل إشكاليّ، يشعر بالغربة حيال تدهور العالم، “قياسًا إلى القيم الأصيلة، فيبقى، مع ذلك، مشدودًا إلى إيمانه بالقيم وبالمثل الأصيلة”([41]).
ج . التردّد النمطي ودلالته
يلجأ المؤلّف إلى “التكثيف السرديّ للزمن الطويل الممتدّ الذي تشعر به الشخصيّة”([42])، ويتمّ هذا بإيجاز بعض الأحداث النمطيّة التي قد تتكرّر. ومن نماذج هذا التردّد في “عين الشلال” قول الراوي على لسان سمير: “أيوه ولا يهمّك يا صالح معوّدين على القهر! كلّ عمرنا منحمل فرشنا على أكتافنا ونرحل من مكان إلى مكان”([43]). هذا النوع من التكرار الذي يروي مرّة واحدة ما وقع مرات كثيرة هو الذي يتناسب مع الأسلوب العربي الذي يختصر دلالات كثيرة بأقل ما يمكن من الألفاظ([44]).
وهكذا يكشف هذا النوع من التكرار ” كلّ عمرنا منحمل فرشنا على أكتافنا ونرحل من مكان إلى مكان” عن نمطيّة واضحة المعالم، كونها تشير إلى ما بات كثير التكرار وبذلك عبّر عن همّ ليسّ فرديًّا، وإنّما عبّر عن همّ جمعيّ بامتياز تتلخّص فيه معاناة أبناء الجنوب لعشرات السنين، وهذه المعاناة هي التي تُكسب ثقافة المقاومة مشروعيتها، وقد تكون الرافعة التي تعيد للمظلومين الشعور بالعيش بكرامة، في وطن لم يحاول رفع الظلم عنهم. ويجد القارىء تكرارًا نمطيًّا في الحوار القصير بين شهاب وفراس:
“-شو .. كم مرّة صرت مكرّر هذا الكلام؟
-أكرّره كي تنجح العمليّة..”([45]).
يُبيّن السياق غيرة المقاومين على إنجاح العمليّة العسكريّة المزمع القيام بها، والحوار تعبير عن تكرار نمطيّ، وكذلك يظهر دور البطل الإيجابيّ، على أنّه “ممثّل ذكيّ ومكافح للمثل العليا الإنسانيّة، وفي الوقت ذاته، الشخص المركزيّ في كفاح يتمّ له فيه أخيرًا انتصار المثل الأعلى الإنسانيّ”([46]). ويعزز التكرار التماسك الدلالي للنص بمساره السردي، لأن الأساس الدلالي للنص هو الذي يحدد البنية السردية للنص ذاته، والتي تشكل كونًا مستقلا ذاتيًا لأنها تحاكي الواقع، وتعيد إنتاجه، وتتماهى معه بصورة ظاهرة أو ضمنية، فالتعارضات الدلالية المتكررة في النص(استقرار/ تهجير/ هزيمة/ نصر، فشل/ نجاح…إلخ. إن هذا التكرار المتنوع الدلالة في النص هو المسؤول عن توزيع الأدوار التشخيصية للقصة، وهو الذي يقرر تعريفًا وظيفيًا للبطل بالعلاقة مع البطل المضاد([47]).
ممّا سبق، يمكن القول إنّ الكاتب قد نجح في تقديم علاقات التردّد في الرواية، وهذا يؤكّد مقدرته على إكساب الرواية الفنّيّة المطلوبة.
كلمة أخيرة
عمل إبراهيم فضل الله على منح رواية عين الشلال ألوانًا متنوعة، كالنفسيّ والاجتماعيّ والسياسي، واستطاع من خلال هذه الأبعاد أن يلتقط من طبيعة عالم ريفيّ، بغية تسجيل بعض علاقاته ومعتقداته. وكذلك حرص على إرساء مناخ ثقافيّ مغاير، قد يسم المرحلة بأكملها.
لقد أظهر الكاتب المشكلات الناجمة عن الاحتلال البغيض، وكشف إلمامه الواضح والدقيق بأهم التفاصيل والدقائق التي وسمت تلك المرحلة، من تاريخ لبنان والجنوب بشكل خاصّ، أرّخَ لمرحلة خطيرة، انعكست على الوطن برمته، التزم المرحلة التي عاشتها شخصيّات روايته وهي مرحلة طويلة لا يستهان بها.
لقد قام الروائيّ بتلخيص بعض الأحداث، أو بتفصيلها، بحسب مقتضيّات هذا الواقع، والمشهد فهو عرض لحاجة لذلك العرض، وهذا كلّه يضع هذا العمل الفنّي الرّوائي تحت مجهر الكشف عن حقائق وتفاصيل دقيقة قد لا يعرفها الكثيرون.
ومهما يكن من أمر، فإنّ الباحث يظل قاصراً عن الوصول إلى دراسة وافيّة كاملة، في مضمار الرّواية؛ لأنّ السّرديّة العربيّة، لا تزال بحاجة إلى من يُحسن تدبّرها، لتصبح لها خاصيّة تطبعها شخصيتنا الثقافيّة، ما يدفعها للسير قدماً نحو مزيد في الإبداع.
المصادر والمراجع
المصادر
فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. ط 1، 2010 ، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان.
المراجع
1- أريفية، ميشال، السيميائية أصولها وقواعدها، تر، رشيد بن مالك، ط1، 2002، منشورات الإختلاف، الجزائر.
2- بحراوي، حسن: بنية الشكل الروائي، ، ط 1، 1990، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان.
3- بيير، ف، زيما، التفكيكية دراسة نقدية، تر، أسامة الحاج، ط1، 1996، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان.
4- الحسين، قصي، السوسيولوجيا والأدب، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،1993، بيروت ـ لبنان.
5- زراقط، عبد المجيد : في بناء الرواية اللبنانية، 1990، متشورات الجامعة اللبنانية، بيروت ـ لبنان.
6- زيتون، لينا علي: العالم الروائي ودلالاته عند عوض شعبان. أطروحة اختصاص في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية، مستنسخة.
7- زيتوني، لطيف:معجم مصطلحات نقد الرواية، ط 1، 2002، مكتبة لبنان ناشرون ودار النهار للنشر، بيروت ـ لبنان.
8- سويدان، سامي: ابحاث في النص الروائي العربي، ط1، 2000، دار الآداب، بيروت ـ لبنان.
9- صيداوي، رفيف رضا: النظرة الروائيّة إلى الحرب اللبنانية، ط1، 2003، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان.
10- عزام، محمد، شعرية الخطاب السردي، ط1، 2005، منشورات أتحاد الكتاب العرب، دمشق ـ سوريا.
11- العيد، يمنى: تقنيات السرد الروائي، ط1، 1990، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان.
12- قاسم، سيزا ، بناء الرواية، دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ. لا ط. 1984مطابع الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.
13- لوكاتش، جورج:دراسات في الواقعية، تر، نايف بلوز، بيروت، ط3، 1985، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشرـ بيروت ـ لبنان.
14- مبروك، مراد، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، لاط، 1998، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
15- مرتاض، عبد الملك، في نظرية الرواية، مجلة عالم المعرفة، عدد 240، 1998، الكويت.
16- مغنية، محمد جواد، الوضع الحاضر في جبل عامل في مطلع الإستقلال، بداية القهر والحرمان، ط2، 1984، دار الجواد، بيروت.
17- يقطين، سعيد، تحليل الخطاب الروائي، ط، 3، 1997، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ لبنان.
Gerard.. Fig111, Paris, Seuil,Coll, Poetique, 1972, P 143 Genette
Lukacs. George;La Theorie du Roman, Paris, Gallimard, tel, 1968.
[1] ـ أريفية، ميشال: السيميائية أصولها وقواعدها، تر، رشيد بن مالك، ط1، 2002، منشورات الإختلاف، الجزائر، ص: 20
2- قاسم سيزا: بناء الرواية، دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ. لا ط. مطابع الهيئة المصرية للكتاب، 1984، ص 34.
3- زيتون، لينا علي: العالم الروائي ودلالاته عند عوض شعبان. أطروحة اختصاص في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية، مستنسخة، ص 83.
4- زراقط، عبد المجيد : في بناء الرواية اللبنانية. بيروت،إدارة متشورات الجامعة اللبنانية، 1990، 2/705.
5- زراقط، عبد المجيد: في بناء الرواية اللبنانية، ص 706.
6- بحراوي، حسن: بنية الشكل الروائي. بيروت\ الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1990، ص 122.
7- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. بيروت، دار الفارابي، ط 1، 2010، ص 23-24.
8- صيداوي، رفيف رضا: النظرة الروائيّة إلى الحرب اللبنانية. بيروت، دار الفارابي، ط 1، 2003، ص99.
9- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. ص 17.
10- سويدان، سامي:أبحاث في النص الروائي العربي. بيروت، دارالآداب، ط 1، 2000، ص 170.
11- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. ص 250.
12- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 417.
13- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 243.
14- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 308.
15- مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية.الكويت، عالم المعرفة، العدد 240، 1998، ص 224.
16- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 371.
18- العيد، يمنى: تقنيات السرد الروائي. بيروت، دار الفارابي، ط 1، 1990، ص 82.
19- زراقط، عبد المجيد : في بناء الرواية اللبنانية. ص 708.
20- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. ص 285.
[21]– بيير، ف، زيما: التفكيكية دراسة نقدية، تر، أسامة الحاج، ط1، 1996، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، ص: 74
22- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. ص 294.
23- زيتوني، لطيف: معجم مصطلحات نقد الرواية. بيروت، مكتبة لبنان ناشرون ودار النهار للنشر، ط 1، 2002، ص 175.
24- مبروك، مراد: بناء الزمن في الرواية المعاصرة. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، لا ط ، 1998، ص 92.
25- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. ص 219.
26- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 329.
[27] ـ مغنية، محمد جواد: الوضع الحاضر في جبل عامل في مطلع الإستقلال، بداية القهر والحرمان، ط2، 1984، دار الجواد، بيروت، ص: 30
28- بحراوي، حسن: بنية الشكل الروائي. م، س، ص 156.
29- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م،ن، ص 22.
30- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 241.
31- زراقط، عبد المجيد: في بناء الرواية اللبنانية. م، س، ص 708.
32- .Gerard Genette: Fig111, Paris, Seuil,Coll, Poetique, 1972, P 143
33- هو واحد من عشرات المناضلين ضد العدو وعملائه، يعمل مع سمير في ورش البناء؛ لإزالة الشبهات.
34- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، س، ص 353.
35- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال، م . ن . ص 297.
36- يقطين، سعيد: تحليل الخطاب الروائي. بيروت\ الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 3، 1997، ص 78.
37- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، س، ص 379.
38- صيداوي، رفيف رضا: النظرة الروائيّة إلى الحرب اللبنانية. م، س، ص 98.
39- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م . س . ص 359.
40- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، ن، ص 78.
41- Lukacs. George;La Theorie du Roman, Paris, Gallimard, tel, 1968, P174.
42- مبروك، مراد: بناء الزمن في الرواية المعاصرة. م، س، ص 146.
43- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال. م، س، ص 42.
[44] ـ عزام، محمد: شعرية الخطاب السردي، ط1، 2005، منشورات أتحاد الكتاب العرب، دمشق ـ سوريا، ص: 106
45- فضل الله، إبراهيم: عين الشلال، م . س . ص 414.
46- لوكاتش، جورج: دراسات في الواقعية. تر. نايف بلوز، ط 3، 1985، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ص 84.
[47] الحسين، قصي: السوسيولوجيا والأدب، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1993بيروت، ص: 130