وعد بلفور وخطّة تقسيم فلسطين
عباس حيدر([1])
المقدّمة
تكمن أهمية خطّة الانفصال (عن غزّة) في أنّها تجمد عملية السّلام. وحين نجمّد هذه العملية، فإنّها تحول دون قيام دولة فلسطينيّة، وتحول دون مناقشة قضية كلّ من اللاّجئين، والحدود، والقدس عمليًا، وإنّ كلّ هذه الرزمة المسماة دولة فلسطينية بكل ما تتضمنه، أزيحت كلّها إلى أجل غير مسمى من جدول أعمالنا، وكل ذلك بمباركة رئاسية من الولايات المتحدة، وإقرار من الكونغرس بمجلسه. (دوف فايسغلاس الناطق باسم أرييل شارون هآرتس 6/10/2004)
وهكذا إذا أردنا أن نبقى أحياء علينا أن نقتل، ونقتل، ونقتل طوال اليوم، وفي كل يوم… إذا لم نقتل سينتهي وجودنا… الانفصال من جانب واحد لن يضمن سلامًا، وإنما دولة صهيونية يهودية ذات أغلبية ساحقة يهودية. (أرنون سوفير، أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا The Jerusalim post-10 May 2004).
احتل وعد بلفور مكانة كبيرة في النقاشات، والجدال الدّوليّ، وقد اقترح المؤرخون العديد من التفسيرات التي توضح سبب إصدار هذا الوعد، ومن الأسباب الأكثر أهميّة وتُوِصّل إليها بشأن منح اليهود فلسطين موطنًا لهم، وقد ورد عن بعض المؤرخين أن العديد من الذين يستلمون مناصب كبرى في الحكومة البريطانية كانوا صهاينة بحدّ ذاتهم. وأشار بعضهم إلى أنّ إصدار وعد بلفور لم يكن سوى عداء للسّامية، وأن منح الأراضي الفلسطينية لليهود لتكون وطنًا قوميًا لهم ليس إلا حلّاً جذريًا للمشكلات المتعلقة باليهود، ولمْ شملهم من جميع أنحاء العالم. كثيرون يسمعون بوعد بلفور من دون أن يعرفوا عنه شيئًا سوى اسمه فما هو وعد بلفور؟
وعد بلفور: التّعريف به
وعد بلفور أو إعلان بلفور بيان علنيّ أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى لإعلان دعم تأسيس «وطن قومي للشّعب اليهودي» في فلسطين التي كانت منطقة عثمانية ذات أقلية يهودية وفي الإعلان: «تنظر حكومة صاحبة الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشّعب اليهوديّ، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يفهم جليًا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة، والدّينيّة التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق، أو الوضع السياسيّ الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر».
وقد جاء هذا الإعلان الوعد ضمن رسالة بتاريخ 2 تشرين الثاني 1917 موجهة من وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور إلى اللورد ليوفيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهوديّ البريطانيّ، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصّهيونيّ لبريطانيا العظمى، وإيرلندا. وقد نُشِر هذا الإعلان الوعد في الصحافة بتاريخ 9 تشرين الثاني 1917، وقد مثّلت الكلمات الأولى في نص الوعد أول تعبير عام عن دعم قوة سياسيّة كبيرة للصّهيونيّة إذ إنّ مصطلح «وطن قومي» لم يكن قد ورد في أي بيان وشكّل سابقة في مواجهة القانون الدّوليّ([2]).
لقد كان لهذا الوعد آثار طويلة الأمد لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. فقد زاد من الدّعم الشّعبيّ للصّهيونيّة في أوساط المجتمعات اليهوديّة في جميع أنحاء العالم، وقاد إلى قيام فلسطين الانتدابيّة، وهو المصطلح الذي يشير حاليًا إلى إسرائيل، والأراضي الفلسطينيّة. كما تسبّب هذا الوعد بقيام الصّراع العربيّ الإسرائيليّ. في هذا السّياق لا بدّ من الإطلالة على الموقف البريطاني من هذا الوعد المشؤوم.
الموقف البريطانيّ تجاه وعد بلفور
هدفت بريطانيا من وقوفها مع اليهود، ومنحها فلسطين لهم إلى كسب تأييد يهود روسيا، والولايات المتحدة الأميركية، وكانت تأمل أن يتمكنوا من تشجيع حكوماتهم على الاستمرار في الحرب إلى أن يحرزوا النّصر.
رأت بريطانيا أنّ السيطرة على فلسطين، ووضعها تحت الانتداب هي مصلحة استراتيجيّة من شأنها أن تبقي مصر بشكل عام، وقناة السّويس بشكل خاص تحت إدارة النّفوذ البريطانيّ. بالإضافة إلى ضمانها وجود طرق اتصال حيوية تربط المستعمرات البريطانيّة في الهند. إضافة إلى تعاطف بريطانيا مع اليهود بشدّة «لتعرّض اليهود للعديد من الاضطهادات في أوروبا». كذلك ارتأت إنشاء وطن قومي لهم يُجمع شملهم فيه.
غير أن الرّأيّ العام العربيّ لا سيّما الصّحف العربيّة حذّرت من الحركة الصّهيونيّة، ونتائجها المؤدية إلى تشتيت الشّعب الفلسطينيّ، وتشريدهم عن أراضيهم، وقد قام النّاشط السياسيّ الفلسطينيّ عوني عبد الهادي بإصدار كتاب عن ذلك تضمن إن وعد بلفور جاء من مصادر أجنبية ليس لديها حقّ في فلسطين، وقد صدر هذا الوعد لحماية مصالح الشّعب اليهوديّ الذي ليس له أيّ حقّ في فلسطين. وبناء على ما قامت به الصحافة الفلسطينيّة، فقد أُوقفت عن العمل العام 1914، وعادت لتستأنف عملها العام 1919، ومنها صحيفة الاستقلال العربي التي كان مقرها دمشق)[3](.
تداعيات وعد بلفور
يُعدّ وعد بلفور السبب الرّئيس في حدوث نكبة فلسطين العام 1948 إذ قامت العصابات الصّهيونيّة المسلحة كعصابة شترين، وأراغون، وهاغانا بدعم من البريطانيين بارتكاب المجازر بحقّ الشّعب الفلسطينيّ، ومنها مجزرة دير ياسين، وبطرد الفلسطينيّين من أرضهم، وعددهم 750,000 فلسطينيّ، وقد زادت هذه العصابات من ارتكاب جرائمها بحقّ الشّعب الفلسطينيّ خصوصًا بعد أن أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين العام 1947، وفوّضت الأمم المتحدة بأمرها بعد أن كانت القوات البريطانية قد أسّست جيشًا من الصهاينة، ودرّبته، وزوّدته بالأسلحة، ومنحته الحكم الذّاتي، وهذا ما دفع الصهاينة لتأسيس الوكالة اليهودية، وبدأت أعمال التّطهير العرقي ضد الشّعب الفلسطيني([4]).
إن تنفيذ وعد بلفور، وتأسيس الجيش الصّهيونيّ، وإنهاء الانتداب البريطانيّ عن فلسطين، والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصّهيونيّة، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة بعد تهجير أرضها قوبل بانتفاضات فلسطينيّة، ومنها انتفاضة موسم النبي موسى العام 1920 كما عقدت المؤتمرات الوطنية في فلسطين، ومنها المؤتمر الفلسطينيّ الثّالث الذي عقد في حيفا العام 1920 معلنًا رفض الشّعب الفلسطينيّ لإعلان وعد بلفور وعدّه انتهاكًا الحقوق الدّوليّة وحقوق الفلسطينيين العديدة. في هذا السّياق السؤال المهمّ الذي يطرح نفسه ما هو تأثير وعد بلفور على القضية الفلسطينية.
تأثير وعد بلفور على القضية الفلسطينيّة
إن أول نتائج وعد بلفور الذي أعطته الحكومة البريطانيّة لليهود هو تفعيل المقولة المزيفة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وعلى أثر إعلان هذا الوعد عمّت الاحتجاجات جميع أنحاء فلسطين، وبعض الأقطار العربية، وفي 11 كانون الأول 1917. عندها دخلت الجيوش البريطانيّة بقيادة الجنرال الّلنبي القدس، وبدأت بتنفيذ وعد بلفور عمليًا، وحدثت صدامات بين العرب واليهود.
خلال انعقاد مؤتمر فرساي في كانون الثاني العام 1919 قدمت الحركة الصّهيونيّة إلى المؤتمر خطة مدروسة واضحة المعالم لتنفيذ مشروعها دعت إلى إقامة وصاية بريطانيّة لتنفيذ وعد بلفور على أن تشمل هذه الوصاية حدود فلسطين ضواحي صيدا منابع اللّيطاني، ونهر الأردن، وحوران، وشرق الأردن، والعقبة، وأجزاء من صحراء سيناء المصريّة([5]).
في شهر نيسان من العام 1920 اجتمع مندوبو الدّول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في مدينة «سان ريمو» الإيطالية بمؤتمر عُرف في ما بعد بمؤتمر «سان ريمو»، وأقرت الشّكل النّهائيّ لتقسيم الأراضيّ المحتلة من الدّولة العثمانيّة، والبَدء بهذا الانتداب بعد الحرب العالميّة الأولى، وبعد تفكيك الإمبراطوريّة العثمانيّة، وغطى هذا الانتداب فلسطين، ومعظم الأردن، وكانت عاصمة الانتداب على فلسطين القدس، وقد تشكَّل الانتداب البريطانيّ على فلسطين بشكل رسميّ على أساس وعد بلفور الذي ضُمِّن في صكّ الانتداب إذ أصبح التزامًا رسميًا معتمدًا دوليًّا.
وبنظرة سريعة على وعد بلفور وتضمينه صكّ الانتداب البريطاني بوثيقة رسمية واعتراف العالم به عبر اعتراف عصبة الأمم للانتداب على فلسطين، ودخول الولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك الحرب، وانتصار الحلفاء فإنّ الإجماع الدّوليّ، وبوجود مُناخ رسميّ عربي متآمر في ذلك الوقت أعطى فرصة عظيمة لقيام الكِيان الصّهيونيّ وإن بالتّدرّج. وكان ذلك لأسباب كثيرة منها: أنّ بريطانيا تحفظ مصالحها في الشرقين الأدنى، والأوسط، ومستعمراتها في الهند، ومنع قيام أيّ تواصل بين أبناء الشّعب العربيّ في منطقة آسيا، وشمال أفريقيا، وإيجاد الكِيان المخيف الذي يكون عصىً غليظة بيد الغرب يستخدمها بوجه الشّعوب، والأنظمة العربيّة إذا ما خرجت عن المسار الذي تحدده دول الغرب الاستعماريّ خصوصًا بعد تقسيم هذه المنطقة جغرافيًا إلى دول عدة، ووضع حدود لها عبر اتفاقية سايكس – بيكو.
وهكذا نرى أنّ وعد بلفور وما استتبعه من خروج بريطانيا من فلسطين، وبَدء الهجرة اليهوديّة إليها بدعم من دول أوروبيّة، وأميركيّة، وآسيويّة، وإقامة جيش من العصابات الصّهيونيّة مزوّد بأحدث الأسلحة آنذاك، قد أدّى تحرك جماهيريّ فلسطينيّ وعربيّ، وبدأ الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، وقد تشكّلت الجمعية الفدائيّة الفلسطينيّة التي قامت بعده عمليات فدائية ضد الوجود الصّهيونيّ، وكانت بداية حَراك أسّس لقيام الثّورة الفلسطينيّة الكبرى العام 1936، وهي من أطول الثورات إذ سادتها المظاهرات، والإضراب العام مرافقًا للعمليات الجهادية([6]).
نتائج وعد بلفور على السّاحة العربيّة
ومما لا شكّ فيه أن إعلان قيام «دولة إسرائيل» بموجب قرار صادر عن الأمم المتحدة الذي كان أحد أهم ثمار وعد بلفور أشعل المنطقة العربية، فكانت الحرب العربيّة الإسرائيليّة الأولى العام 1948 حيث انتهت هذه الحرب باتفاقية “رودس”، وكان من أكثر بنودها أهمّيّة عدم استغلال الهدنة الدائمة لأغراض عسكريّة، أو سياسيّة، وعدم اللجوء إلى القوة من أجل تقرير مصير فلسطين، وبطبيعة الحال فإن اتفاقية “رودس” جاءت لمصلحة الكِيان الصّهيونيّ المنتصر إذ إنّ الجيوش العربية هُزمت في هذه الحرب نتيجة لوجود أنظمة عربية فاسدة على رأس الحكم في دول الطوق مناوئة لفلسطين. فضلاً عن وقوف الغرب وخصوصًا بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية إلى جانب جيش الحرب الصّهيونيّ، وكان من نتائج هذه الحرب أنّ الأردن سيطر على ما يسمى الآن بالضّفة الغربيّة، واحتفاظ مصر بسيطرتها على قطاع غزة. وقُسّمت القدس إلى جزءين غربية خاضعة لسيطرة الكِيان الصّهيونيّ، وشرقية خاضعة لسيطرة الأردن كما كان من نتائجها، أن أصبحت «إسرائيل» العضو التّاسع والخمسين في هيئة الأمم المتحدة.
غير أن كل ما جرى لم يثنِ الشّعب الفلسطينيّ عن متابعة نضاله ففي العام 1965 أُنشئت منظمة التّحرير الفلسطينيّة، وتحولت المنظمة إلى حركة مقاومة بعد هزيمة العام 1967 وكان هدفها تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، واسترجاع الحقوق الفلسطينيّة السلبية بوساطة الكفاح المسلح على نمط الثورة الجزائرية.
كما أن المنطقة شهدت حروبًا عدة، منها: حرب العام 1967 التي أنتهت بسيطرة جيش الحرب الصّهيونيّ على كامل الأراضيّ الفلسطينيّة، والقسم الشّرقي من القدس، واحتلال أراضٍ عربية منها: هضبة الجولان السّوري، وصحراء سيناء المصريّة. وانتهت هذه الحرب بهزيمة قاسية للجيوش العربيّة، وبقرار صادر عن مجلس الأمن رقم 242([7]).
استمرت حالة الحرب بين العرب والصهاينة، حتى العام 1973 حيث شنّت مصر وسوريا هجومًا على الكِيان الصّهيونيّ، تعرض على إثرها لأضرار بالغة، فتدخلت الولايات المتحدة بكل ثقلها، وأوقفت الحرب بقرار رقم 338 صادر عن مجلس الأمن الدّوليّ.
خطّة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة
كان عمر الأمم المتحدة سنة 1947 عامين فقط، وقد عهدت بمسألة مستقبل فلسطين ومصيرها إلى لجنة خاصّة بفلسطين (أونسكوب)، واتّضح أن أيًّا من أعضائها لم يكن لديه خبرة مسبقة بحلّ النزاعات، أو معرفة بتاريخ فلسطين.
قررت هذه اللجنة تبنّي التقسيم مبدأً موجِّهًا في ما يتعلق بالحلّ المستقبليّ، وأوصت بإقرار تقسيم فلسطين إلى دولتين مرتبطتين فيدراليًّا بوحدة اقتصادية كما أوصت بإنشاء نظام خاص بمدينة القدس تكون فيه المدينة كِيانًا منفصلًا خاضعًا لنظام دوليّ بإدارة الأمم المتّحدة. وفي 29/ ت2/ 1947 أقرّت الجمعية العامّة للأمم المتحدة توصية اللجنة، فصوّر القرار 181([8]). من الواضح أن الأمم المتحدة، بقبولها قرار التّقسيم، تجاهلت كليًا التّركيبة الإثنية لسكان البلد. ولو قررت الأمم المتحدة أن تجعل الأراضي التي استوطنها اليهود في فلسطين متناسبة مع حجم دولتهم العتيدة، لما كانت أعطتهم الحقّ في أكثر من 10%. لكن الأمم المتحدة قبلت الادّعاءات القوميّة التي كانت الحركة الصّهيونيّة تشيعها بالنسبة إلى فلسطين، وزيادة على ذلك، رغبت في تعويض اليهود عن الهولوكوست النّازية في أوروبا.
قررت جامعة الدّول العربيّة (المنظمة العربيّة الإقليميّة)، والهيئة العربيّة العليا (الحكومة الفلسطينيّة الجنينيّة) مقاطعة التّفاوض مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين قبل صدور قرار الجمعيّة العامّة، ولم تشارك في المناقشات المتعلقة بأفضل طريقة لتطبيقه بعد ت2/ 1947. أمّا القيادة الصّهيونيّة فقد ملأت بسهولة هذا الفراغ، وأجرت حوارًا ثنائيًّا مع الأمم المتحدة بشأن خطة لمستقبل فلسطين. وهذا نموذج سنراه يتكرّر كثيرًا في تاريخ صنع السّلام في فلسطين، خصوصًا بعد أن انخرط الأميركيون في العملية سنة 1967. وإلى الآن كان «إحلال السّلام في فلسطين»، ولا يزال، يعني دائمًا اتّباع تصوّر وضعته الولايات المتحدة وإسرائيل، من دون تشاور جدِّي مع الفلسطينيين.
لقد ثبت أن تقسيم البلد – الذي كان في أغلبيته السّاحقة فلسطينيًا – إلى جزءين متساويين كان حلّاً كارثيًا، لأنّه جاء ضدّ إرادة السّكان الأصليّين الذين كانوا يشكّلون الأغلبية، أو الأمم المتحدة بإعلانها نيتها إيجاد كيانين سياسيين متساوّيين في فلسطين، أحدهما يهودي والآخر عربي، انتهكت حقوق الفلسطينيّين الأساسيّة، وتجاهلت كليًا قلق العالم العربي الواسع على فلسطين في داره، النضال ضدّ الاستعمار في الشّرق الأوسط. عندما اختارت الأمم المتحدة التقسيم هدفًا أساسيًّا لخطتها فإنّما تجاهلت بذلك اعتراضًا أساسيًّا كان الفلسطينيون يثيرونه ضدّ الخطة، وكان معروفًا لدى الوسطاء منذ أصدرت بريطانيا إعلان وعد بلفور قبل ثلاثين عامًا. وقد أوضح وليد الخالدي، الموقف الفلسطيني على النّحو الآتي: «إن سكان فلسطين الأصليّين، مثل السّكان الأصليّين في كلّ بلد آخر في العالم العربيّ، وفي آسيا، وأفريقيا، وأميركا، وأوروبا، رفضوا أن يتقاسموا البلد مع جماعة من المستوطنين»([9]). وبعد مرور ما يزيد على المئة عام على وعد بلفور، واثنين وسبعين عامًا على نكبة فلسطين مرّت المنطقة العربية بتطورات دراماتيكيّة عديدة، فعلى الصعيد الفلسطينيّ لا يزال الغليان الشّعبيّ سائدًا، وتشكّلت جبهات، ومنظمات فلسطينيّة جديدة، تخوض النّضال ضد العدوّ الصّهيونيّ. هذا بالإضافة إلى جانب الانتفاضات المتتالية بوجه الاحتلال، فيما أكثر الأنظمة العربيّة وقّعت اتفاقات مع الكِيان الصّهيونيّ منها ما هو دبلوماسيّ ومكشوف، كاتفاق كامب دايفيد، واتفاق العقبة، ومنها ما هو تجاري كالاتفاقيّات مع عمان، وبعض دول الخليج العربي، وكل هذا يؤدي إلى رضوخ النّظام الرّسميّ العربيّ، والقَبول، والتّسليم بوعد بلفور، والاعتراف بالكِيان الصّهيونيّ([10]).
إنّ الموقف الرّسميّ العربيّ مفكّك بحكم تقسيم المنطقة العربية، بموجب اتفاقية سايكس بيكو. وهذا الموقف العربيّ المفكّك يواجهه اندفاع صهيونيّ يملك قوّة اقتصاديّة ضخمة، وغطاءً سياسيًّا دوليًا، وعالميًا على رأسه الولايات المتحدة الأميركيّة، والدّول التي ثبتت وعد بلفور والتي أسست الأمم المتحدة في ما بعد. تلك كانت طبيعة المؤامرة بين دول الحلفاء التي ثبتت وعد بلفور، وضمنت قيام الكِيان الصّهيونيّ في فلسطين، وتشريد أهلها على الرّغم من أن معظم رؤساء هذه الدول كانت شعاراتها كاذبة، فالرئيس الأميركي ولسن أعلن في مبادئه عن حقّ الشّعوب في الحريّة، والسيادة، وتقرير المصير، وأعلن رئيس الحكومة الفرنسية أرستيد بريان أنّنا نحارب من أجل منح الشّعوب استقلالها.
غير أن ما يحدث اليوم منافٍ لكل هذه المبادئ، فما حدث في العراق، وقبلها فلسطين، وسوريا، واليمن، والبحرين، وليبيا، هو هجمة كبرى لاستكمال وعد بلفور بهدم المنطقة العربيّة، وإدخالها في حروب طاحنة ليبقى الكِيان الصّهيونيّ مسيطرًا، وبالعودة إلى فلسطين فإنّ التّراجع يبدو جليًا في خضمّ الصّراع العربي الصّهيونيّ نجد البرامج السياسيّة الفلسطينيّة تنحدر وتسقط، فمن برنامج التّحرير العام 1965 إلى البرنامج المرحليّ العام 1974 إلى برنامج الاستقلال العام 1988 إلى برنامج أوسلو العام 1993 إلى خارطة الطريق العام 2002، ولا يزال الوضع يتدحرج نزولاً. كل ذلك والكِيان الصّهيونيّ يضرب بعرض الحائط كلّ القرارات الشّرعيّة الدّوليّة، ومبادئ القانون الدّولي، وحقوق الإنسان، وقد تمكّنت من ذلك بسبب انفلات العقد العربيّ المرتمي في أحضان الغرب، والدّعم السياسيّ اللامحدود من دول الغرب لهذا الكِيان. إنّ الحركة الصّهيونيّة سعت منذ إعلان وعد بلفور إلى جعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود، كمرحلة أولى تمهيدًا لإقامة «إسرائيل الكبرى» التي تتسع لكلّ يهود العالم، وهذا موثق في كتاب “نداء اليهود” للكاتب هنري فينش، وضمنه دعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود صدر هذا الكتاب العام1916 ([11]).
في العام 1856 صدر كتاب «روما والقدس» لمؤلفه موسى هس دعا فيه إلى إقامة مستعمرات يهوديّة في مناطق غور الأردن، وقناة الّسويس، وفي السنة نفسها ظهرت حركة الرّواد التي ركّزت على تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، فيما برزت الحركة الصّهيونيّة بشكل مؤثر، وفعّال مع ثيودور هرتزل الذي وضع أسس الحركة الصّهيونيّة في كتابه الدولة اليهودية، ومن أُولى اهتماماته لمْ شمل اليهود، وتنظيم صفوفهم.
ولا تزال الحركة الصّهيونيّة مستفيدة من الدّعم الدّوليّ والتّفكك العربيّ، ولا تزال تفرض شروطها في كل المفاوضات لإجبار الفلسطينيّين على الرّضوخ، والموافقة عليها، ومنها إنهاء دور المقاومة وضربها، وإسقاط ورقتها وإلغاء القرار 194 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإلى اعتماد قيام دويلة فلسطينيّة قسم لا يوجد فيها جيش، ولا يوجد لها حدود دائمة وثابتة، ولا يكون لها سيادة على الأرض، والبحر، والجو، وإنّ أمنها مرتبط بحركة الأمن الإسرائيليّ، وفرض وقف الانتفاضة بشكل عمليّ.
إنّ لبنان الذي تحمّل أعباء القضيّة الفلسطينيّة على مستوى استقبال ما يزيد عن 450,000 مواطن فلسطينيّ، ووضعهم في مخيمات تحوّلت في ما بعد إلى بؤر مسلحة هددت السّلم الأهليّ اللبنانيّ، ولم يوضع قسم كبير من اللبنانيّين في مواجهة مع القضيّة الفلسطينيّة على الرّغم من مغالاة المنظّمات الفلسطينيّة في تدخلها في الشّأن اللبنانيّ، حتى الوصول إلى استخدام السلاح، رفض قائدٌ كبيرٌ من لبنان هو الإمام السيد موسى الصدر لتكتب بخط يده وعمق قناعاته وصدق التزامه، ميثاق الحركة السياسيّة التي أسسها. فقد أفرد مكانة خاصة لفلسطين تجعلها واحدة من أكثر قضايا العصر أهمّية، وقد نذر حياته من أجلها. وقد جاءت الفقرة السادسة من الميثاق النص على الشّكل الآتي:
«فلسطين الأرض المقدسة التي تعرضت، ولم تزل لجميع أنواع الظلم هي في قلب حركتنا وعقلها، وأنّ السعي لتحريرها أُولى واجباتنا، وأن الوقوف إلى جانب شعبها، وصيانة مقاومته، والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها، سيّما وأن الصّهيونيّة تشكل الخطر الفعليّ، والمستقبليّ على لبنان، وعلى القيم التي نؤمن بها، وعلى الإنسانية جمعاء، وإنّها ترى في لبنان بتعايش الطوائف فيه تحديًا دائمًا لها، ومنافسًا قويًا لكِيانها».
ولعل هذا النص يختزل أبعاد الموقف من قضية فلسطين، وقد وضعها الإمام السيد موسى الصدر في قلب، وعقل، وواجب، وشرف، وإيمان حركية ومشروع مسيرته السياسي، والفكرية، منطلقًا منها لتحديد مكامن الخطر الصّهيونيّ على لبنان بحيث يكون الانتصار لقضية فلسطين تطويقًا لمخاطر تحويل لبنان إلى فلسطين ثانية.
ويحتل الثّابت الوطنيّ المقام الثّالث، وإن كان البعد الوطني شاملًا للبعدين الدّينيّ، والعروبيّ في خطاب سماحة الإمام حول قضية فلسطين، فإنّ ترابط المصير، ووحدته بين المحرومين في أرضهم، والمحرومين من أرضهم زاد في قناعة الإمام الصدر ورؤيته إلى قضية فلسطين بما هي قضية لبنان بامتياز، ليس فقط من حيث طبيعة المشروع الصّهيونيّ التوسعي، وإنما أيضًا من حيث الدور الذي يمكن للأنموذج اللبناني القيام به في سياق الدّفاع عن وجوده بالذّات ضد هذا المشروع، وعلى جميع المستويات[12].
لقد حطت هذه الثّوابت، والدّوافع رحالها في مسيرة الإمام الصدر منذ مجيئه إلى لبنان إلى يوم خطفه وإخفائه. وقد تموضعت في كلّ خطاب، وعلاقة، وتصريح، وموقف، مثلما تموضعت في ميثاق، وبرنامج، وممارسة الحركة في ما بعد. مثلما تجسدت في تبعات الإصرار على حماية الثّورة الفلسطينيّة من التّصفيّة، وفي خيار الحوار اللبنانيّ – الفلسطينيّ مقابل إغراءات التقاتل، والاستنزاف المتبادل، والخسائر المشتركة. وفوق ذلك كلّه تجسدت هذه الثّوابت، والدّوافع، والمواقف في تأسيس الإمام الصدر للمقاومة اللبنانية (أمل) من الخطر الصّهيونيّ المتربص بلبنان انطلاقاً من جنوبه.
الخاتمة
في اللحظة التي أعطى فيها وزير الخارجية البريطانيّ، اللورد بلفور، الحركة الصّهيونيّة وعده في سنة 1917 بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
فتح الباب لنزاع مستديم سرعان ما اجتاح البلد وسكانه. وقد تعهد بلفور، في الوعد الذي أعطاه باسم حكومته، بحماية طموحات السّكان غير اليهود إشارة غريبة إلى السّكّان الأصليّين الذين كانوا يشكّلون الأغلبية السّاحقة في البلد، لكن هذا الوعد كان مناقضًا تمامًا لطموحات الفلسطينيّين الطّبيعيّة في بلورة قوميّتهم، وفي الحصول على الاستقلال.
في أواخر العشرينيّات من القرن الماضي، بات واضحًا أن هذا الوعد ينطوي في جوهره على إمكانيات حدوث عنف مدمر، وكان قد تسبب بمقتل مئات من الفلسطينيين واليهود. وهذا ما دفع بريطانيا وقتها إلى القيام بمحاولة جدّية، ولو على مضض بحلّ النزاع المدمّر بالتفاهم.
حتى سنة 1928، تعاملت بريطانيا مع فلسطين كأنّها دولة واقعة ضمن نطاق النفوذ البريطانيّ، وليست مستعمرة، دولة يمكن أن يتحقق فيها برعاية بريطانيا، الوعد المعطى لليهود وطموحات الفلسطينيّين سواء بسواء.
المراجع العربية
1 – إيلان بابه: التطهير العرقي في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت، 2007.
2 – د. شعلان، رجب: القضية الفلسطينية من الثورة إلى الدولة، دار جزين للطباعة، صيدا، 2007.
3 – د. شعلان، رجب: الإرهاب الأميركي، دار الخلود، ط1، بيروت، 2009.
4 – زنتاوي، شريف: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2005.
5 – الهيئة الفلسطينية لحماية حقوق الفلسطينيين، الأمة الأيديولوجية في تهجير، بيروت، 1997.
6 – د. شعلان، رجب: سماحة الإمام الصدر وجود وحضور رغم التغييب، دار جزين للطباعة والنشر، صيدا، 2004.
7 – أبو فخر، صقر: قراءات في المشروع الصّهيونيّ، مركز القدس للدراسات، بيروت، 2007.
8 – مركز القدس للدراسات: قراءات في المشروع الصّهيونيّ، بيروت، 2000.
9 – مركز بريل: المركز الفلسطيني لمصادر حقوق الإنسان والمواطنة واللاجئين.
المراجع الأجنبية
1- Ilan poippe, The Making of the Arab – Israeli Conflict, 1947 – 1951. Pp 16 – 46.
2- Walid Khalidi, «Reuisiting the UNGA Partition Resolution» Journal of Palestine Studies, Vol. XXVII, no.1 (Autumn), p.15.
طالب في المعهد العالي للدكتوراه الجامعة اللبنانيّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – قسم التّاريخ.-[1]
-[2] رجب، شعلان: القضية الفلسطينية من الثورة إلى الدولة، دار جزين للطباعة، صيدا 2007.
-[3] شعلان، رجب: الإرهاب الأميركي، دار الخلود، ط1، بيروت، 2009.
-[4] مركز القدس للدراسات: قراءات في المشروع الصهيوني، بيروت، 2000.
زانتاوي، شريف: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2005-[5]
[6]– الهيئة الفلسطينية لحماية حقوق الفلسطينيين، الأمة الأيديولوجية في تهجير، بيروت، 1997.
[7]– مركز بربل: المركز الفلسطيني لمصادر حقوق الإنسان والمواطنة واللاجئين.
[8]– Ilan poippe, The Making of the Arab – Israeli Conflict, 1947 – 1951. Pp 16 – 46.
[9]– Walid Khalidi, «Reuisiting the UNGA Partition Resolution» Journal of Palestine Studies, Vol. XXVII, no.1 (Autumn), p.15.
[10]- ايلان باتيه: التطهير العرقيّ في فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت، 2007.
[11]– أبو فخر، صقر: قراءات في المسروع الصهيوني، مركز القدس للدراسات، بيروت، 2007.
1 –شعلان: رجب: سماحة الإمام الصدر وجود رغم التغييب، دار جزين، صيدا، 2004.