الحرّيّة في ميزان الفلسفة
د. ديانا حدّارة*
إنّها الحرّيّة التي كانت ولا تزال من أكثر المفاهيم المثيرة للجدل بوصفها قيمة إنسانيّة سامية، ومفهوم كلّيّ ينطوي على مزيج من العناصر الأخلاقيّة، والاجتماعيّة والوجدانيّة والجماليّة. وهي المسألة التي كانت ولا تزال تشغل بال المفكّرين والفلاسفة حتّى عصرنا الحاضر. فنحن لا زلنا نتسساءل مثلما كان القدماء يتساءلون عما إذا كنّا نتصرّف في هذا العالم، مدفوعين بفعل قوى خارجيّة تسيّرنا أم أننا كائنات حرّة تتصرّف بوحي عقليّ وإرادة حرّة!
فهل يمكن القول بوجود حرّيّة أم لا؟ وما معنى أن نكون أحرارًا وفي الوقت نفسه نخضع لقوانين الطبيعة، والعائلة، والمجتمع، والدين، والدولة؟ وإذا كانت قوانين الطبيعة لا حول ولا قوة للإنسان في وضعها، فلمَ يضع الإنسان قوانين يلزم نفسه الخضوع لها؟ ألا يعدّ القانون الذي ينتجه الإنسان سواء كان جماعة أو دولة، نفيًا لحرّيّته الفرديّة؟ وإذا كان الإنسان كائنًا حرًّا فلمَ عليه الخضوع للضرورات والحتميّات؟ وهل الإنسان حرّ في ألاّ يكون حرًّا؟
الحرّيّة كما وردت في المعجم الفلسفيّ خاصيّة الموجود، الخالص من القيود، العامل بإرادته أو طبيعته (1المعجم الفلسفيّ، جميل صليبا، الشركة العالميّة للكتاب، ج 1، 462) وبهذا المعنى تبدو الحرّيّة مفهومًا كلّيًّا غير متعيّن، وهي قيمة معياريّة ترسم ملامح مثل أعلى للعقل النظريّ، وفي الوقت نفسه تبدو الحرّيّة مقولة واقعيّة محمّلة بعناصر مستمدّة من واقع اجتماعيّ وسياسيّ. وهذا التداخل بين ما هو نظريّ وما هو عمليّ، بين الأخلاقيّ والسياسيّ، هو الذي ميّز التاريخ النظريّ لمفهوم الحرّيّة، وهو يفسّر تنوّع المشاريع الفكريّة والفلسفيّة واختلافها التي تناولت مسألة الحرّيّة في سياق الوجود الاجتماعيّ والتاريخيّ.
نحاول في هذا البحث النظر في مفهوم الحرّيّة عند جان جاك روسو التي جعلها محور فكره السياسيّ والتربويّ، وإيمانويل كانط الذي ربط الحرّيّة بالأخلاق. وهو محاولة متواضعة لإعادة قراءة نظرتهما إلى الحرّيّة علّنا نستطيع من خلال معالجتهما لهذه المسألة أن نجد إجابات عن بعض الأسئلة التي سبق وطرحناها.
ولمّا كانت الحرّيّة هي من أكثر المفاهيم التي عالجها الفكر الإنسانيّ على مرّ العصور، نجد أنّه من المفيد الإلماح إلى كيفيّة تناولها عند الفلاسفة اليونان، ويليهم المفكّرون المسلمون، ومن ثَمَّ نلمح إلى بعض مفكّري عصر الأنوار، لنقرأ في مفهوم الحرّيّة عند روسو وكانط موضوع هذا البحث.
الحرّيّة في الفكر الفلسفيّ اليونانيّ
عند التفكير في انبثاق فجر الفلسفة اليونانيّة، نجد أنّها كانت نتاج إرادة الفكر اليونانيّ الذي أراد أن يتحرّر من قيود الأسطورة، والخرافة التي حكمت عقله، وتحكّمت في تفكيره لقرون ليست بالقليلة. فكانت الفلسفة ثمرة لإرادة التحرّر من سلطة “الميتوس” أي الأسطورة وضيق آفاقه، لأجل العيش في رحابة “اللوغوس”، أي العقل ولا محدوديّته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** معيد في الجامعة اللبنانيّة، الفرع الثالث، كلّيّة الآداب، قسم الفلسفة.
وهذا ما تمثّل في النسق الفلسفيّ السقراطيّ. فقد أراد سقراط تعليم الناس كيفيّة توليد المعرفة، والحكمة، والحقيقة من عقولهم الخاصّة، بدل الاتّكال على عقول الآخرين فكانت مقولته الشهيرة، “اعرف نفسك بنفسك” بدل أن تعرف نفسك عن طريق الآخرين. فمع سقراط أصبحت الحرّيّة تعني فعل الأفضل، وهذا يفترض معرفة ما هو الأحسن فاتّخذت الحرّيّة معنى التصميم الأخلاقيّ وفقًا لمعايير الخير التي يقرّها العقل (تاريخ الفلسفة اليونانيّة من بداياتها حتّى المرحلة الهلسنيّة، عبد الرحمن مرحبا، عزّ الدين للطباعة والنشر، 1993، ص 212 – 214).
أمّا أفلاطون فقد أخذ معنى الحرّيّة وجود الخير فكان تتمّة لنسق أستاذه سقراط، فالخير هو الفضيلة، والخير محض ويُراد لذاته، ولا يحتاج إلى شيء آخر، والحرّ هو من يتوجّه فعله نحو الخير. فدعا الإنسان، في نظريّة المثل ومن خلال “أسطورة الكهف” إلى التحرّر من الظواهر الخادعة لرؤية الحقيقة المجرّدة، والوصول إلى المعرفة الحقّة الخالية من الأوهام، والضلال، وأشباه الحقيقة، وتحرّر العقل لأجل بلوغ الحقيقة العقليّة التأمّليّة المطلقة، كخير أسمى ينير حياة الإنسان ووجوده الفرديّ والجماعيّ (تاريخ الفلسفة اليونانيّة من بداياتها حتّى المرحلة الهلسنيّة، عبد الرحمن مرحبا، عزّ الدين للطباعة والنشر، 1993، ص 239). وأفلاطون هنا يعوّل كثيرًا على الحرّيّة، لأنّه زعم أنّ الإنسان عاش بروحه المثاليّة قبل أن يعيش ببدنه، في عالم أسماه (عالم المُثُل): “وهناك عرفت روح الإنسان روح الحقائق“، (تاريخ الفكر الفلسفيّ عند العرب، حنّا فاخوريّ وخليل الجر، مكتبة لبنان، ناشرون، ص، 73) فهو يرى أنّ الحرّيّة ضروريّة لأن يصل الإنسان إلى ذلك العالم،عالم المُثل. فالحرّيّة عنده هي انطلاقة الإنسان نحو كماله من دون عوائق، أو حواجز مرتبطة بشوائب الأرض والجسد، ليس هذا على الأرض فحسب، فهو يعتقد أنّ نفوس الفلاسفة الذين يناضلون في حياتهم من أجل ملاحقة الحكمة، والسعي وراء نيلها ستتحرّر بعد الموت من كلّ قيود. وهذه إشارة واضحة من أفلاطون إلى أنّ الإنسان سيعود كما جاء إلى عالم المُثل، ولكن شريطة أن يكون حرًّا في متابعة الحكمة، وأن لا يقيّد نفسه بأواصر الأرض والجسد، وبالطبع فإنّ هذه مرحلة متطوّرة في سلوك الإنسان قليل من يرتقي إليها. وفي جمهوريّته التي ينشدها، أو مدينة الحرّيّة والديمقراطيّة، فإنّه يشير إلى أنّ حرّيّة كلّ إنسان في أن يرتّب حياته وينظّمها بالصورة التي تناسبه تحت قانون ينطبق على الجميع. لذا يرى أفلاطون، أنّ الحرّيّة هي أفضل ما يملكه الناس وأكمله، ولذلك فهناك مدينة واحدة فقط هي عندما يملك المرء الحرّيّة الطبيعيّة للعيش بسلام. ولكن أفلاطون نفسه يحذّر في الوقت نفسه من أنّ حبّ الحرّيّة المتزايد يؤدّي حتمًا إلى فقدان هذه الحرّيّة وتسليمه، أي الحبّ، مقاليد الحكم إلى طاغية يفسح المجال للشهوات، ولا يعيش إلاّ عبدًا، ومستبدًّا يجهل الحرّيّة الحقّة، والصداقة الخالصة (تاريخ الفكر الفلسفيّ عند العرب، حنّا فاخوريّ وخليل الجر، مكتبة لبنان، ناشرون، ص94).
أمّا أرسطو فقد أخذ على عاتقه صياغة آلة عقليّة فكريّة سمّاها “الأورغانون” تُمكّن الإنسان الذي يتبعها في نمط تفكيره من تجاوز الخطأ والتزييف… وأن يحرّر نفسه، وعقله منها بهدف التمكّن من ملامسة الحقيقة اليقينيّة، والمطلقة التي لا يساوره فيها أيّ شكّ لأنّها منطقيّة. وهذه الآلة العقليّة هي المنطق. غير أنّ أرسطو نفسه نجده يعترف أنّ الإنسان مقيّد بإكراهات ففي مؤلَّفه “الأخلاق إلى نيقوماخوس” يحاول الفيلسوف اليونانيّ من خلال تحديده للفضيلة باعتبارها موضوع الانفعالات، والأفعال، أن يميّز بين الأفعال الإراديّة والأفعال اللاإراديّة. ويمكن القول مع أرسطو إنّ هناك أفعالاً لاإراديّة حقًّا، وهي التي تقع بالعنف أو بالجهل، فهناك مبدأ خارجيّ يمارس عنفه على الأشخاص بحيث لا نجد أثرًا للفاعل أو المنفعل، ولا علاقة للإنسان بها، لذا فهو يربطها بالاختيار الذي لا ينتج عن المعرفة وحدها، بل أيضًا عن الإرادة، والاختيار هو اجتماع العقل والإرادة معًا. أمّا الأفعال الإراديّة فهي الأفعال التي تتمّ حسب إرادة الشخص، أي نابعة من إرادته. لكن هناك أفعال يمكن اعتبارها مختلطة، فهي في ظاهرها أفعال إراديّة، إلاّ أنّه يمكن اعتبارها لاإراديّة. ومن هنا، وبحسب أرسطو، فالأفعال الإراديّة هي عكس ذلك، أي إنّها أفعال لاإراديّة، فعلى الرغم من أنّ الإنسان حرّ في اختياره لها، فإنّ حرّيّته تكون مقيّدة بإكراهات تتمثّل في الخوف من الضرر، أو الطمع. (تاريخ الفلسفة اليونانيّة من بداياتها حتّى المرحلة الهلسنيّة، عبد الرحمن مرحبا، عزّ الدين للطباعة والنشر، ص، 304 – 306).
وأمّا الأبيقوريّون، فقد آمنوا بمبدأ حرّيّة الإرادة الإنسانيّة، ومن أجل ذلك أقصوا أيّ علل خارجيّة (طبيعيّة كانت، أو إلهيّة) عن التدخّل بأيّ شكل في إملاء الفعل الإنسانيّ، وجعل مصدر هذا الفعل العقل الإنسانيّ وحده. ونظر أبيقور مؤسّس الأبيقوريّة إلى مبدأ الحرّيّة هذا على أنّه طوق النجاة للخروج بالإنسان من الحتميّة المفضية إلى الشلل، ومن دائرة الأقدار، فلا ينطلق الإنسان في كلّ أفعاله إلاّ وفقًا لإرادته الحرّة هو، ومن ثَمَّ فلا تحتّم عليه فعله، ولا لحظة الابتداء متطلّبات الزمان، ولا المكان، ولا الإرادة الإلهيّة، بل عقله وحده. ومن أجل ذلك نظر أبيقور إلى العقل الإنسانيّ على أنّه أساس التكليف، والذي تقوم عليه المسؤوليّة الإنسانيّة، وبالتالي هو محرّك لفعل الحرّيّة. وانتهج نزعة مادّيّة فرديّة عقليّة لكي يفسح مكانًا في نسقه الفلسفيّ للحرّيّة الإنسانيّة، وذلك من أجل أن يحفظ الإنسان هدوئه، وسلامه القائمان في عقله، ويحميه من الخوف من قوى عديدة لا تحصى، وطالبه بأن يجاهد للإبقاء على حياته الفرديّة متحرّرة من الاضطرابات والمخاوف، وكذلك الشهوات. ومن هنا فسرّ الأبقوريّون سعادة الإنسان، وحرّيّته في أن لا يكون تحت رحمة ما لا يستطيع السيطرة عليه. فلا يعتمد الفعل الإنسانيّ الحرّ، في رأي أبيقور، على العلل الخارجيّة (اصطدامات الذرّات) ولا على العلل الباطنيّة التي تتمثّل في حركة ذرات النفس الإنسانيّة الناشئة من ثقلها، وإنما يكون العقل الإنسانيّ عرضة للإنحراف كما يريد إلى الجهة التي يختارها دون أي إجبار .(تاريخ الفكر الفلسفيّ عند العرب، حنّا فاخوريّ وخليل الجر، مكتبة لبنان، ناشرون، ص 97 – 99)
يمكن القول إنّ “اللوغوس” أي العقل هو المحرّك الأوّل للحرّيّة في الفكر اليونانيّ على اختلاف مذاهبه، فقد ربط الحرّيّة بمفهوم الخير المطلق الذي ينشده العقل الإنسانيّ، وهي ملازمة لتطهير الذات والفكر من كلّ الشرور للوصول إلى الخير الأسمى مدفوعًا بإرادة خيّرة تغلب الشرّ الموجود على هذه الأرض، لنجد أنّ مسألة الحرّيّة في الفكر الإسلاميّ أخذت منحًى دينيًّا قوامه علاقة الإنسان بالله، فكان السؤال الأساس هل الإنسان خالق أفعاله، وبالتالي هو حرّ في سلوكه أم أنّه مسيّر في أفعال اختاره الله له؟
الحرّيّة في الفكر الإسلاميّ
نجد في الفكر الإسلاميّ مواقف عديدة حاولت معالجة إشكاليّة الحرّيّة التي ارتبطت بالجانب الدينيّ، أي علاقة الإنسان بالله، وما إذا كان خالق أفعاله أم أنّه يسير وفق ما رسمه له الله، وبالتالي أتت معالجة مسألة الحرّيّة كإشكاليّة دينيّة أكثر من كونها إشكاليّة فلسفيّة… ويمكننا في هذا المجال أن نلمح إلى موقفين يتمثّلان في فرقتين كلاميّتين، وهما: المعتزلة والأشعريّة. نادت المعتزلة بالحرّيّة الإنسانيّة، فالإنسان حرّ في أفعاله وسلوكيّاته، فكما أنّ الله قادر على الخلق، فإنّ الإنسان قادر على خلق أفعاله. ومن هنا، وبالنظر إلى كون الإنسان قادر على خلق أفعاله فهو حرّ حرّيّة مطلقة. وما يوضح هذه الفكرة هو نظريّة العدل الإلهيّ عند المعتزلة، التي مفادها أنّ الله أعطى الإنسان الاستقلاليّة في اختيار أفعاله، فليس من العدل أن يكون الله هو مصدر أفعال الإنسان، أو مجبر على اتّباعها. (المعتزلة الفكر الحرّ، عادل العوّا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ص، 86 – 89)
أمّا بالنسبة إلى الأشاعرة فقد دافعوا عن وحدانيّة الخالق، ويرون بأنّه لو كان للإنسان القدرة على الخلق لخلق أفعاله، إلاّ أنّ صفة الخلق تحضر عند الله فقط دون غيره، وإذا سلّمنا بالفكرة الأولى لسقطنا في الشرك. وكحلٍّ لهذه الإشكاليّة اقترح الأشاعرة “مبدأ الكسب” أي إنّ الإنسان يكتسب أفعاله ولا يخلقها. (المعتزلة الفكر الحرّ، عادل العوّا ،الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ص، 95)
أمّا في الفكر الفلسفيّ فنشير إلى ابن رشد الذي حاول التوفيق بين أنصار الحرّيّة وخصومها، ليبيّن أنّه لا يمكن الحديث عن حرّيّة مطلقة، ولا عن حتمية مطلقة، فالإنسان يتّصف بالقدرة على الفعل، والإرادة، والاختيار، ولكن أفعاله مشروطة أيضًا بالقوانين، والسنن التي سنّها الله في الكون، وكذلك مشروطة بالأسباب التي هيّأها له، ومن ضمنها قدراته البدنيّة. “إنّ الله خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي عبارة عن أضداد، ولكن اكتساب تلك الأشياء لا يتحقّق لنا إلاّ بمواتاة أسباب سخّرها الله لنا من خارج الأفعال المشوبة إلينا تتمّ بالأمرين معًا أعني بإرادتنا وبالأسباب الخارجيّة”. (تاريخ الفكر الفلسفيّ عند العرب، حنا فاخوريّ وخليل الجر، مكتبة لبنان، ناشرون، ص 97 – 99)
الحرّيّة في عصر النهضة
اتّخذت الحرّيّة معانيَ عديدة في الفكر الفلسفيّ لعصر الأنوار، ونحن في هذا المجال سوف نلمح إلى بعض ممّن نظّروا في الحرّيّة، لنفهم أكثر نظرتي روسو وكانط لها. يعرّف توماس هوبز الحرّيّة بأنّها “انعدام العوائق أمام أيّ فعل يريد الإنسان تحقيقه” فبحسب هوبز جميع الأفعال البشرية، محدّدة تحديدًا دقيقًا أو هي ضروريّة فالإنسان حرّ في أن يفعل ما يريد ما لم تكن هناك عقبات تقف أمامه، ما يعني أنّ الحرّيّة عند هوبز هو غياب العوائق، والعقبات أمام حركة الفعل، أي الخلو من القهر المادّيّ – الفيزيائيّ، وكلّ فعل يتمّ وفقًا لدوافع، والإنسان يكون حرًّا بقدر ما يستطيع التحرّك. يفهم من كلام هوبز أنّ الحرّيّة ينبغي أن تكون جزءًا من الإنسان لا أن تقوده القوانين إليها، على أن تكون هذه الحرّيّة حقيقيّة لا وضعيّة، وهوبز صريح في مدعاه، فامتلاك الإرادة والرغبة لا يعنيان الحرّيّة بعينها ما دامت هناك موانع تعيق الإنسان عن تحقيق رغبته وتمرير إرادته، (إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز فيلسوف العقلانيّة سلسلة الفكر المعاصر، ص، 421). وكما غيره من فلاسفة التنوير، فقد وجد هوبز أنّ حرّيّة الإنسان في الحالة المدنيّة مقيّدة بحرّيّة الآخرين، وهو أن يتنازل كلّ فرد عن حقّه في أن يضع يده على جميع الأشياء، وأن يقنع بذلك القدر من الحرّيّة إزاء الغير الذي يمنح به هو نفسه إزاء الآخرين. (إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز فيلسوف العقلانيّة سلسلة الفكر المعاصر، ص، 371)
أمّا بالنسبة إلى باروخ اسبينوزا، فالحرّيّة في حالة الطبيعة كما تصوّرها هي حرّيّة مطلقة تشمل كلّ ما يقع تحت قدرة الفرد في غياب تامّ للجريمة، أو الخطيئة. فهل حقًّا الإنسان حرّ في هذه الحالة؟ علمًا أنّه خاضع لقوة الغريزة، والشهوة، ومبدأ حفظ الذات؟
يمكن استخلاص نظرة اسبينوزا إلى الطبيعة البشريّة وإلى الحرّيّة، بأنّ الحرّيّة تكمن في معرفة الضرورة، فأنت حرّ في الوصول إلى هدفك فقط عندما تدرك فقط لماذا تجعل الظروف من الضروريّ عليك أن تحقّقه، ومادامت الظروف هي التي تصنع الإنسان، أصبح لزامًا علينا أن نغيّر هذه الظروف إذا أردنا أن نحقق الخير الأعظم للإنسان. إنّ اسبينوزا لم يعتقد في حرّيّة الإرادة بمعنى اللاحتميّة فكلّ حدث يقع بضرورة رياضيّة. “وعندما لا نعي الظروف الخارجيّة، ونعني فقط حالاتنا العقليّة والجسميّة، فإنّنا نتخيّل أنّ أفعالنا تكون حرّة، كالحجر، إذا كان لا يعي إلاّ حالاته الداخليّة فحسب، فإنّه يفترض أنّه يحدّد بإرادته الخاصّة المجرى الذي يتّبعه عندما يُلقى إلى أعلى في الهواء”. يرى اسبينوزا بأننا عبيد لانفعالاتنا وأفكارنا الغامضة ودوافعنا، دافع حفظ الذات مثلاً، ويقترح حلاًّ لتحرير أنفسنا من عبوديّة التفكير بصورة واضحة “إنّ الحرّيّة الإنسانيّة من ثَمَّ، هي ببساطة مسألة قبول الكون، لأنّك تفهم ضروراته الرياضيّة. ومتى تمّ ذلك، ستحصل على سلام العقل، ستتحرّر من الانفعالات، وتكون قادرًا على أن تردّ الشرّ إلى الخير”. (مدخل إلى الفلسفة، جون لويس، دار الحقيقة، بيروت ص. 96 – 103)
إنّ إلماحًا سريعًا لموقع مفهوم الحرّيّة عند بعض مفكّري الحداثة، يبيّن لنا أنّ هذا المفهوم يحتلّ مركز الصدارة في الفكر الغربيّ، وهو إشكاليّة فلسفيّة بذل في سبيلها الكثير من الجهد الفكريّ. من هنا برزت إشكاليّة الحرّيّة عند روسو إشكاليّة سياسيّة من جهة، وإنسانيّة وجوديّة من جهة ثانية.
الحرّيّة عند روسو
لقد احتلّت الحرّيّة مركزًا جوهريًا في فكر جان جاك روسو، وهذا ما عكسه في مؤلَّفيه” العقد الاجتماعيّ” و”إميل” على الرغم من أنّهما مؤلَّفان مختلفان في التوجّه حيث الأوّل يعكس الفكر السياسيّ لروسو، فيما الثاني يحمل فلسفة روسو في التربية، فإنّ كليهما يشكّلان إفصاحًا عن الحرّيّة، وقانونًا لها. ولإبراز المكانة المركزيّة التي يحتلّها مفهوم الحرّيّة ضمن فلسفة جان جاك روسو يكفي تأمّل هذا المقطع الوارد في كتابه “العقد الاجتماعيّ”: “ولد الإنسان حرًّا وهو في الأغلال حيثما كان. ذاك يظنّ نفسه سيّد الآخرين، وهو ما انفكّ أكثرهم عبوديّة. ترى كيف حدث هذا التغيير؟ ذاك أمر أجهله. ما الذي يمكن أن يجعله مشروعًا؟ أظنّ أنّه بإمكاني حل ّهذه المشكلة”. (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص، 11)
عند التأمّل في هذا نجد أنّ روسو يؤكّد على أنّ الحرّيّة فطرة الإنسان رغم القيود المفروضة عليه منذ ولادته، ففي حالة المجتمع لم يعدّ للحرّيّة المعنى نفسه الذي كان لها في حالة الطبيعة، إذ تحوّلت هذه الحرّيّة من طبيعيّة إلى مدنيّة، ذلك أنّ الإنسان يصير مقيّدًا بمجموعة من القوانين تمنعه من ممارسة حرّيّته الطبيعيّة. بهذا المعنى فإنّ الحرّيّة معطى أوّل بالنسبة إلى الإنسان وملازمة لماهيّته الإنسانيّة، ووثيقة الصلة بها بشكل طبيعيّ، ففي التمثّل الافتراضيّ لحالة الطبيعة، يصوّر الإنسان في وضع يتوافق مع ماهيّته، إذ ينعم بمفرده بإحساس الوجود، ويتمتّع بذاته دونما حاجة إلى العلاقة مع الآخر، ويستقلّ بذاته بلا قسر، ويشعر بالرضا حين يحسّ حياته الخاصّة في ذاته، ففي حالة الطبيعة، الحرّيّة هي في المقام الأوّل، ولا حاجة إلى أن تؤسّس، إذ هي ملازمة لطبيعة الإنسان ذاتها، حتّى إنّه يمكننا اعتبارها صفته الجوهريّة، وإن كان من الواجب إرساء الحرّيّة من جديد فمعنى ذلك أنّها فُقدت. ورغم أنّ روسو يعترف أنّه يجهل كيفيّة حصول ذلك، فإنّ ظنّه في حلّ هذه المشكلة كما ورد في قوله الآنف الذكر، يؤكّد إمكانيّة جعل التغيّر الذي حدث في الإنسان مشروعًا، أي العمل على وضع مبادئ تقوم عليها الحرّيّة في حالة المدنيّة بالشكل الذي ينمّي الحرّيّة الطبيعيّة ويطوّرها، والعقد الاجتماعيّ ما جاء إلاّ لحلّ هذه الإشكاليّة، أي إيجاد شكل للتجمّع يحمي، ويحفظ بمجموع القوة المشتركة حرّيّة كلّ واحد وممتلكاته، ويظلّ بواسطته كلّ واحد، وإن اتّحد مع الجميع، لا يطيع سوى نفسه، ويبقى حرًّا بالدرجة نفسها التي كان عليها سابقًا (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، في الميثاق الاجتماعيّ، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص، 25 – 27) فكيف يحدث ذلك؟ كيف يمكن الإنسان أن يحفظ حرّيّته الشخصيّة، في الوقت الذي يخضع فيه لقانون الجماعة الذي قد يفرض عليه التزامًا لا يتوافق مع حرّيّتّه الخاصّة، بل قد يتمرّد على نفسه؟
يرى روسو أنّ العقد الاجتماعيّ هو الذي يضمن للإنسان الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة التمدّن، وهو انتقال يحدث فيه تغيرًا بارزًا باستبداله العدالة بالغريزة في مسلكه، وإضفاء الأخلاقيّة اللازمة على أفعاله. أي إنّ أعظم ما يكسبه الإنسان بالعقد الاجتماعيّ هو الحرّيّة الأخلاقيّة والمدنيّة، فيقول: “إنّ ما يفقده الإنسان بالعقد الاجتماعيّ هو حرّيّته الطبيعيّة والحقّ غير المحدود الذي كان له…، أمّا ما يكسبه فهو الحرّيّة المدنيّة… التي وحدها تجعل الرجل سيّد نفسه، لأنّ الباعث المندفع من الشهيّة وحدها هو عبوديّة، والطاعة للقانون الذي فرضناه على أنفسنا هي حرّيّة…”. (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، في الحال المدنيّة ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص،31 – 32)
وبهذا المعنى تكون الحرّيّة المدنيّة هي الصفة الإنسانيّة ذاتها لدى روسو، وبالتالي فإنّ تخلّي المرء عن حرّيّته المدنيّة، إنّما هو تخلّ عن صفته كإنسان، وعن حقوق الإنسانيّة، وحتّى عن واجباتها. وليس من تعويض ممكن لأن يتخلّى عن كلّ شيء. إنّ مثل هذا التخلّي يتنافر مع طبيعة الإنسان، فتجريد إرادته من كلّ حرّيّة إنّما هو تجريد لأفعاله من كلّ صفة أخلاقيّة (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص،35 – 36).
وكما يقول روسو، فأن يتخلّى الإنسان عن حرّيّته، إنّما هو ضرب من اللامعقول الذي يستحيل تصوّره عقليًّا، فمثل هذا الفعل لا شرعيّ ولاغٍ لمجرد أنّ الذي يقوم به يفتقد الحسَّ السليم. لذا فإنّ عدم الإضرار بالنفس رأي ذهب إليه روسو فيقول: “لا تعتمد الحرّيّة على أن يفعل الفرد ما يريد بإرادته الخاصّة، بقدر ما تعتمد على ألاّ يخضع لإرادة شخص آخر، وهي تعتمد أكثر على عدم خضوع الآخرين لإرادتي الخاصّة. ففي الحرّيّة العامّة ليس لأحد الحقّ في أن يفعل ما تحرّمه عليه حرّيّة الآخرين، إنّ الحرّيّة الحقّة لا تدمّر نفسها قط”. (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص44 – 45)
لذلك كانت الإرادة العامة التي تنجم عن مقتضيات العقد الاجتماعيّ والموجّهة إلى السلطة التي تسمّى سيادة، إرادة ثابتة لمجموع أفراد الدولة، فعبرها يصبحون أحرارًا، وهم يعبِّرون عن هذه الحرّيّة من خلال القوانين. لذلك جعل روسو السلطة التشريعيّة في يد الشعب دون غيره، وكلّ قانون لا يقرّه الشعب هو قانون لاغٍ. ولهذا السبب كان التشريع هو الذي أنتج الديمقراطيّة في فكر روسو، وهي الحركيّة التي تحدّد مفهوم المواطن لديه، فهذا الأخير لا يمتلك سلطة انتخابيّة، وإنّما سلطة تشريعيّة. فالفرد نفسه بالنسبة إليه هو في الوقت نفسه، وبشكل غير متمايز، واحد من الرعايا ومشرّع، وذاك هو الملمح المميّز لديمقراطيّة الهيئة السياسيّة، حيث مصطلح المواطن يجمع بين مفهوم الطاعة والسلطة التشريعيّة، لأنّ جوهر الهيئة السياسيّة هو في التوافق بين الطاعة والحرّيّة، وأنّ كلمتي رعية وسيادة، إنّما هما كلمتان متلازمتان لهما المعنى نفسه ويتلخّص في لفظة المواطن (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص،46 – 49). هذا الموقف نجده عند صاحب روح القوانين مونتيسكيو حين دافع عنه وقال بالنظام السياسيّ الديمقراطيّ الذي يسمح للأفرد بالقيام بما يريدون في ظلّ شروط يضعها القانون، فالقوانين هي التي تنظّم العلاقات داخل المجتمع وتضمن الحرّيّات، وهذا النمط من الحرّيّة يوجد داخل الحكومات المعتدلة التي تقوم على مبدأ الجمهوريّة، وهذا هو الشكل الذي بحسب مونتسكيو يضمن للإنسان الفرد الحرّيّة، فالدولة الناظمة للقوانين تضمن حرّيّة الأفراد، ويمكن الأفراد ممارسة حرّيّتهم في ظل القوانين.
ولكن على الرغم من روح الحرّيّة الذي يسكن الفكر السياسيّ لروسو، فإنّ مفهوم الإرادة العامّة، يجعلنا نتساءل أي موقع لحرّيّة الفرد وسط الإرادة العامّة للشعب؟ “فإن كان الشعب سيّدًا، فإنّ أعضاءه ما أن يجتمعوا حتّى تسود كيمياء غريبة. فمن الإرادة الفرديّة للجميع تنبثق إرادة عامّة هي شيء مختلف نوعيًّا عن إرادة الجميع، وتمتلك خصائص خارقة”. الإشكاليّة التي تطرح ههنا هي التمييز الدقيق بين الواجبات التي يجب أداؤها أوّلاً بوصفنا مواطنين، والحقّ الطبيعيّ الذي يجب أن نتمتّع به بوصفنا كائنات إنسانيّة، وهذه الإشكاليّة التي تتجاوز الطبيعة التقنيّة، لأنّها ترتبط في عمقها بمنطق النزعة التعاقديّة الحديثة ذاتها، الذي استعاده روسو واشتغل داخله، فإذا كانت العلاقة بالحقّ تفترض المؤسّسة المدنيّة، وقيام هذه الأخيرة على الاتفاق والتواضع لا على الطبيعة، فإنّ الناس ليس لهم حقوق إلا تلك التي تمنحهم إيّاها الجماعة التي ينتمون إليها، وهو ما كان واضحًا لدى هوبز (انظر فصل العقد الاجتماعيّ وقيام الدولة في كتاب توماس هوبز فيلسوف العقلانيّة، إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة الفكر المعاصر، ص 367 – 387)، ولكن مع روسو تقوم النزعة الاتفاقيّة على مطابقة الإرادة العامّة مع رأي الأكثريّة “ففيما عدا العقد البدائيّ، فإنّ رأي الأكثريّة ملزم دومًا لكلّ الآخرين، وذلك نتيجة للعقد نفسه” (جان جاك روسو، العقد الاجتماعيّ أو مبادئ القانون السياسيّ، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص،53)، والحال أنّه في مقدورنا أن نرى في الأفضليّة الكمّيّة المحضة التي منحت للعدد هنا صورة أخرى لقانون الأقوى، وقد اتّخذت صفة حقّ، وكما يتساءل روسو نفسه “ولسائل أن يسأل كيف يمكن إنسانًا أن يكون حرًّا ومرغمًا على الامتثال لإرادات غير إرادته؟ كيف يكون المعارضون أحرارًا وخاضعين لقوانين لم يرضوا بها؟
وعن هذا السؤال يجيب روسو نفسه بالقول: المسألة مطروحة بشكل سيّئ. فالمواطن يرضى بكلّ القوانين حتّى تلك التي توضع بالرغم عنه، وحتّى تلك التي تنزل عليه عقابًا حين يتجاسر على خرق واحد منها. فالإرادة الثابتة لكلّ أعضاء الدولة هي الإرادة العامّة، وبفضلها هي يكونون مواطنين أحرارًا (جان جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا، تقديم أحمد زكي محمّد،الشركة العربيّة للطباعة والنشر، القاهرة، (د.ت)، ص100)، وهذا البعد الإكراهيّ للمرء على أن يكون حرًّا، يجعلنا نسأل كيف يمكن المرء أن يكون متّبعًا لإرادته الخاصّة وفي الوقت نفسه مكرهًا؟ لا شكّ في أن جان جاك روسو لا يقصد بالإكراه، الجانب المظلم والسلبيّ منه لأنّ هذا خلاف الحرّيّة، وخلاف رسالة الانبياء والمفكّرين والفلاسفة لتحرّيّر الإنسان من رقّ الحياة وسلبيّاتها، فالإنسان تتنازعه أهواؤه وغرائزه لأنّه مكوّن من خير وشرّ، فهو قد يقدم على مزاحمة حرّيّة الآخرين، ولكنّه إذا وجد أنّ القانون يمنعه، فإنّه سيخضع للقانون وهو مكره، فالإكراه هنا فيه جوانب قانونيّة، وحقوقيّة، وأخلاقيّة ينبغي للإنسان أن يسلّم بها، خصوصًا، وأنّه ساهم في وضعها، كي يضمن حرّيّته التي لا يجوز أن تتعدّى حدود حرّيّة الآخرين، وإلاّ تدهورت الحياة المدنيّة بأهلها.
من هنا فإنّ روسو أكّد أنّ الأفراد يجب أن يلقّنوا كيف يريدون ما اتّفقوا على أن يقوموا به ضمن العقد الاجتماعيّ، والأكيد هو أنّه حتّى الحرّيّة الفرديّة يوجد عليها قيد هو ذاك المتعلّق بما هو مفيد للفاعل، وكما يقول روسو في كتاب إميل، أو في التربية: “من دون شكّ، أنا لست حرًّا في ألاّ أريد خيري الخاصّ، وأنا لست حرًّا في أن أريد شرّي، ولكن حرّيّتي تكمن في هذا بالذات، وهو أنّي لا أقدر على أن أريد إلاّ ما هو مناسب لي، أو ما أعتقد أنّه كذلك”. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre quatrieme,pages 364 – 365 النص الأصلي “sans doute je ne suis pas libre de ne pas vouloir mon propre bien, je ne suis pas libre de ne vouloir mon propre mal;mais ma liberte consiste en cela meme que je ne puis vouloir que ce qui m’est convenable, ou que j’estime tel”
والتقرير في المناسب وغير المناسب، وما هو خير وما هو شرّ في الحياة الاجتماعيّة داخل الدولة الناجمة عن العقد يعود أمره إلى القانون الذي وضعه الشعب. لكن بالعودة إلى الاستشهاد السابق فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: بأيّ معنى يكون الوجود مع الأغلبيّة وحده كافيًا لضمان صواب رأي ما؟ فالدولة لا ينبغي أن تعدّ مبدءًا لكلّ الحقوق، والاتفاقيّات المدنيّة غايتها هي قوننة شروط ممارسة الحقوق التي تسبقها وضمانها، التي لا يتبع تحديدها لأيّ إرادة إنسانيّة، حتّى ولو كانت إرادة الأكثريّة، لأنّها بأكثر العبارات إيجازًا، نابعة من حقّ طبيعيّ، وهو ما ظلّ روسو نفسه غير قادر على التملّص منه، وهذا ما يدلّ عليه قوله في كتابه الثاني “إميل”: “إنّ ما هو خير ومطابق للنظام، إنّما هو كذلك بحكم طبيعة الأشياء، وباستقلال عن الاتفاقيّات البشريّة“. إذًا فالخير فطرة طبيعيّة في الأشياء في ذاتها، في هيئتها الأولى، وبالتالي فإنّ الشرّ شيء غير طبيعيّ ودخيل على الطبيعة. ولكن هل هذا يعني أنّ إرادة الخير هي فطرة الإنسان، وما الذي يميّزه عن الحيوان!
في كتابه “إميل” يرى روسو أنّ التمييز بين الإنسان والحيوان لا يكون بالتفكر والتقليد الفلسفيّ السائد، “فكلّ حيوان له أفكار لأنّ له حواسّ، بل إنّه يركب أفكاره إلى حدّ معيّن، والإنسان لا يختلف عن البهيمة بهذا الصدد إلا اختلاف الأكثر والأقل.” جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، 1972، ص، 81). وعليه لا يمكن أن نتخذ من التفكر معيارًا للتمييز بين الإنسان والحيوان. فحسب جان جاك روسو “التمييز النوعيّ الذي للإنسان عن الحيوان لا يقيمه الذهن بقدر ما يصنعه كون الإنسان فاعلاً حرًّا (جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، 1972، ص، 80). ولكن ما الذي يحرّك الإنسان ليكون هذا الفاعل الحر؟
الجواب نجده في كتاب أصل التفاوت بين الناس، إذ يؤكّد روسو قائلا: “إنّي لا أرى في كلّ حيوان إلا آلة محكمة الصنع، وهبت لها الطبيعة حواسّ لأجل تصريف نفسها بنفسها… وإنّي لأرى، على وجه الضبط، الأشياء نفسها في الآلة الإنسانيّة عدا فرقًا واحدًا وهو أنّ الطبيعة تتولّى وحدها القيام بكلّ عمل في الآلة التي هي الحيوان، على حين أنّ الإنسان يعاون الطبيعة في ما تعمله بصفته عاملاً حرًّا” (جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، 1972، ص، 49) فكيف بلور روسو أفكاره بخصوص الحرّيّة، ومضمونها في أهمّ مؤلَّفاته الفلسفيّة إميل؟ وكيف استطاع أن يحدث انقلابًا في هذا المفهوم حيث جعل منه معيارًا للتمييز بين الإنسان والحيوان؟ وما هي الصورة التي رسمها روسو للحرّيّة؟ وما هي مقوّماتها؟
حين افتتح روسو الفصل الأوّل من الكتاب الأوّل لكتابه العقد الاجتماعيّ بالقول: “ولد الإنسان حرًّا، وفي كلّ مكان، هو الآن يرسف في الأغلال. وهي القضيّة التي نجدها بشكل صريح في مؤلَّفه إميل، إذ يؤكّد على أنّ الإنسان المدنيّ “يولد، ويعيش، ويموت في رقّ العبوديّة، حين يولد يوتقونه بقماط، وحين يموت يسمّرون عليه تابوتًا، ومادام على وجه الدنيا، فهو مكبّل بشتّى النظم“. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre quatrieme,pageslivre premier page 43, النص الفرنسي” l’homme civil, nait, vit et meurt dans l’esclavage; a sa naissance on le coule dans un maillot; a sa mort on le cloue dans une biere;tant qu’il gardes la figure himaine, il est enchaine par nos institutions” فماهي حقيقة الحرّيّة الطبيعيّة للإنسان في مؤلَّف إميل؟ وماهي تمظهراتها؟
إنّ الحرّيّة الطبيعيّة للإنسان تظهر، في أدنى تجلٍّ لها، في المستوى الفيزيقيّ، إذ يعبّر عنها بالرغبة الجامحة والمستمرّة في الحركة، أي إنّ الجسد يحتاج إلى حرّيّة الحركة في التنقل والاستكشاف. فهي حاجة طبيعيّة، وكلّ مانع يعترض أرضاء هذا النزوع نحو تلبيتها، إنّما هو بمثابة عرقلة للنموّ الطبيعيّ للطفل على المستويّين الجسديّ، والنفسيّ الذي بدوره يؤدّي إلى عرقلة نموّه على المستوى المعرفيّ العقليّ. وعليه فإنّ الحرّيّة خير، والحاجة إلى الحركة هي أوّل تمظهر لها. فالأطفال يحتاجون “إلى أن يقفزوا، ويجروا، ويصيحوا كلّما راق لهم ذلك، وجميع حركاتهم هذه، إنّما هي في الواقع احتياجات بدنهم وتكوينهم الذي يريد أن يتقوّى بالنشاط والرياضة. لذلك منحت الطبيعة الطفل وسائل خاصّة لتقوية الجسم وتنميته”. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre seconde,pages101
ولما كانت الحرّيّة طبيعيّة في الطفل، كان علينا أن “… نترك للطفولة ممارسة الحرّيّة الطبيعيّة، تلك الحرّيّة التي تبعد الأطفال ولو إلى حين عن الرذائل التي نصاب بها حتمًا تحت نير العبوديّة. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre seconde,page105. لكن هذا لا يعني أنّ حرّيّة الطفل تبقى في إطار حرّيّة الحركة، أي حرّيّة الفعل، وإنّما تتجاوز هذا الحدّ إلى أن تصير حرّيّة للإرادة. وهذا أمر مرهون بنموّ ملكاته وتطوّرها التي تجعل منه كائنًا أخلاقيًّا.
أن تكون الحرّيّة هي حرّيّة الإرادة، فهذا معناه أنّ الكائن الإنسانيّ يحقّق إرادته هو، وليس ما يريده الآخرون. أي أن يكون بمقدوره أن يكفي ذاته بذاته، فهو في غنى عن الجميع، ولا يرغب إلاّ في ما هو قادر على تحقيقه وإشباعه. ومن ثَمَّة كانت الحرّيّة المظهر الأوّل للخير. والإنسان في حالة الطبيعة هو الجدير بهذه الحرّيّة، لأنّ له القوى لإشباع حاجاته المحدودة. وبفعل الضَعف الذي تعانيه الطفولة، فإنّها لا تملك القوى الكافية لتلبية حاجاتها التي تفوق الإمكانيّات التي وهبتها إيّاها الطبيعة. فكانت حرّيّته منقوصة كتلك التي صارت للإنسان المدنيّ. لذا، فإنّ بعض الأطفال بحسب روسو لا يتمتعون حتّى بتلك الحرّيّة المنقوصة. إذ تهيمن عليهم حاجاتهم وأهواؤهم، وترمي بهم في جماح عبوديّتها. وهو أمر خارج عن طبيعتهم، لأنّ هذه العبوديّة ناتجة من سوء التربية التي لا تميّز “بدقّة بين الحاجة الحقيقيّة، أو الحاجة الطبيعيّة، وبين الحاجة المبنيّة على نزوة بدأت تنبت في رأسه، أو الحاجة التي تنجم عن فرط الحيويّة فيه. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre seconde,pages99
من هنا يعدّ روسو أنّ تجربة الخطأ والصواب لدى الكائن الإنسانيّ هي بمثابة دليل على حرّيّة إرادته، وتجعل من تجلّيات ممارستها. فـهذا الكائن له القدرة دائما على الإرادة، في حين لا يكون دائما قادرًا على تنفيذ ما ترغب فيه إرادته. وعندما ينساق وراء أهوائه وغواياتها، فإنّه يخضع خضوعًا بيّنًا لموضوعات خارجيّة. يقول روسو: “عندما ألوم نفسي على ذلك الضعف، لا أصغي إلاّ لصوت إرادتي. فأنا عبد برذائلي، وحرّ بندمي. وشعوري بحرّيّتي لا يمّحى منّي إلاّ عندما أبتذل نفسي فأمنع صوت الروح من الارتفاع ضدّ قانون الجسد. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre quatrieme,page364 إذًا إرادة الإنسان الحرّة تعني عند روسو كما هي رأيناها عند الأبيقوريّين، عدم الخضوع للأهواء والغرائز، غير أنّه أضاف إلى أنّ العبوديّة، أي عبوديّة الإنسان لأهوائه، هي نتيجة التربية السيّئة غير المتوازنة، التي لم تنمِ قدرة الإنسان على السيطرة على الأهواء والغرائز التي تتحكّم في أهوائه وغرائزه.
الإنسان إذًا حرّ، فعّال لما يريد. لكن تحقيق إرادته هذه تبقى مشروطة بأن تتوافر لديه الأدوات، والقوى الكافية التي تمكّنه من تلبية حاجاته، وأهوائه من دون أن يكون خاضعًا لها. وهو الأمر الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة إلاّ في حالة الطبيعة. أمّا الإنسان المدنيّ فهو مستغرق في حاجات متولّدة من رحم الحالة المدنيّة، ولا يملك لها العدّة، والقوى القادرة على تلبيتها بشكل كامل. ما يبقي الإنسان غارقًا في عبوديّتها. وهذا الوضع المدنيّ هو ما يجعل الأفراد تابعين لبعضهم البعض، لأنّ ما يملكه أحدهم من وسائل لبلوغ إشباع تلك الحاجات اللاطبيعيّة يفتقر إليه الآخرون. لهذا السبب يقيم روسو تمييزًا دقيقًا بين التبعيّة للأشياء، والتبعيّة للناس: “هناك نوعان من التبعيّة: تبعيّة الأشياء، والأشياء تابعة للطبيعة. وهناك تبعيّة البشر، والناس تابعون للمجتمع. فأمّا تبعيّة الأشياء فهي خالية من الأخلاقيّات، ولا تضرّ مطلقًا بالحرّيّة، ولا تنجم عنها رذائل. وأمّا تبعيّة البشر فهي مختلّة الترتيب، ولهذا تنجم عنها الرذائل كافّة. Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre seconde,pages 100 – 101 وهنا نقف على دلالة أخرى لمفهوم الحرّيّة عند روسو التي تقضي بالاستقلال، والتحرّر التامّ من التبعيّة للآخرين، واللهث وراء الحاجات. فالإنسان الطبيعيّ لا يعرف الشرّ إلا عندما تربطه بأشباهه علاقة اجتماعيّة. وهو لم يعرف العبوديّة، والتبعيّة إلاّ عندما انخرط في الحياة الاجتماعيّة.
ولكن هل هذا يعني أنّ المجتمع يستعبد الفرد؟
بالطبع لا، فما قصده روسو هو أنّ الحرّيّة منافية للعبوديّة، فإذا كان التابع للآخرين غير مستقلّ عنهم، فهو ليس حرًّا، وكلّ متبوع هو أيضًا ليس حرًّا لأنّ الحرّيّة تقتضي وتستلزم المساواة بين الناس، مساواة تقوم بخضوع الجميع للقانون نفسه الذي يفترض فيه أن يرسم حدودًا لممارسة هذه الحرّيّة. حدود ترسمها حرّيّة الآخرين. فالعلاقة بين الحرّيّة والقانون لا تقتصر على حالة الاجتماع، بل على حالة الطبيعة أيضًا حيث يكون الفرد حرًّا بفضل القانون الطبيعيّ الذي يسري على الجميع، وهذا ما أراد أن يؤكّده في مؤلَّفه “العقد الاجتماعيّ”.
ولما كانت الحرّيّة هي استقلاليّة الإرادة عن كلّ الإرادات الفرديّة وعن إرادة المجتمع، وكان الإنسان ذا طبيعة خيّرة، وكانت هذه الحرّيّة ذاتها جزء من طبيعته، كانت إرادته إرادة خيّرة. وبما أنّ روسو يعدّ أنّ الإنسان فعال في أحكامه، وأنّ إدراكه ليس إلاّ القدرة على المقارنة والحكم، “تبيّن أنذ حرّيّته ليست إلاّ قدرة مماثلة لهذه القدرة، أو ناجمة عنها. فالإنسان يختار الخير مثلما يحكم بالحقّ. ومن يسيء الحكم يسيء الاختيار Rousseau Emile ou de l’education,GF Flammarion,livre seconde,page 101 الحرّيّة إذًا مقرونة باختيار الخير. فالإنسان عندما لا يريد الخير، فهو ليس حرًّا، كما أنّه ليس حرًّا في أن يختار الشر.
على الرغم من أنّ روسو رأى أنّ الحرّيّة حاجة أصيلة في الإنسان، فإنّها تكتسب مشروعيّتها العمليّة من خلال التزامها بجملة قواعد وضوابط وشروط. وهنا نلمح بواكير فكرة هيغل الشهيرة في تعريف الحرّيّة بأنّها (التحديد الذاتيّ)، وهي الفكرة التي نجدها عند كانط في استقلال الإرادة التي تشرّع لنفسها قانونًا لتسير عليه، فكأنّ الحرّيّة هي أن يطيع الإنسان نفسه، أو إرادته الكلّيّة، فهو عندما يطيع القانون الذي اشترك بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة في سنّه، فإنّه في الواقع يطيع نفسه، وعندما يعصي هذا القانون ربّما يترتّب على هذا العصيان عقاب، وبالتالي فإنّه يطلب العقاب لنفسه، وهكذا يصبح سلوك الفرد، وحرّيّته صورة مصغرة للديمقراطيّة، وهي أن يحكم المرء نفسه بنفسه! وتكون الديمقراطيّة السياسيّة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وعندئذٍ فقط يكون حرًّا.
إنّ ما يمكن استخلاصه ممّا سبق هو أنّ فكرة الحرّيّة شكّلت ركنًا أساسيًّا لفلسفة روسو السياسيّة والتربويّة، والغاية التي اشترطت ميلادها، لكن معناها الذي يرتبط بالقانون، والذي يجعل الشعب يكره ذاته بذاته تلقائيًّا من خلال السلطة التي تصدر عنه، ويمارسها على ذاته، تبقى في حاجة إلى تطهير إن جاز القول من خلال تأصيلها ضمن ميتافيزيقا الحقّ، كمكوّن من مكوّنات المجال العمليّ، وتلك هي المَهَمَّة التي سيضطلع بها كانط.
عمانوئيل كانط
انكبّ الفيلسوف الألمانيّ عمانوئيل كانط على الاهتمام بمفهوم الحرّيّة، كإشكال إنسانيّ دائم الحضور في كلّ الحقب والعصور التاريخيّة، واللحظات الوجوديّة للإنسان. واهتمامه هذا تمظهر في كلّ مشروعه الفلسفيّ النقديّ، وخصوصًا في كتابه “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق” الذي تناول فيه إشكال “حرّيّة الإرادة” التي ميّز فيها بين “الحرّيّة السلبيّة” التي لا تتقيّد بمبادئ وواجبات أخلاقيّة، في مقابل “الحرّيّة الإيجابيّة” التي تنبني على حرّيّة الفعل، وحرّيّة الإرادة الملتزمة بالقانون الأخلاقيّ، وبأوامره كمرشد وموجّه لها، لكي لا تسقط في الفوضى، لأنّ هذه الحرّيّة تنبع من “إرادة خيّرة” تجعل الشخص يعامل غيره كما يعامل نفسه، ويرسم حدودًا لحرّيّته هي بداية حرّيّة الغير.
يعدّ كانط أنّ الفعل الخيّر أخلاقيًّا هو الفعل الذي يستجيب إلى القانون الأخلاقيّ وحده، وهو القانون الذي يعبّر عن العقل، الذي يرتبط بمفهوم الحرّيّة التي تأخذ مكانة أساسيّة في منظومته الفلسفيّة بصفتها تعبيرًا عن قدرة العقل على تحديد سلوك الإنسان. كما أنّ تشكيل الحياة الأخلاقيّة الخلفيّة الفكريّة للحرّيّة التي تفترض شرطًا قبليًّا. ففي نقد العقل العمليّ تصبح الحرّيّة مسعى تتطلّع إليه الأخلاق، بمعنى أنّ المبدأ الأخلاقيّ يرتبط مباشرة بمبدأ الحرّيّة، ويصبح العقل الخالص نفسه عمليًّا، وبهذا تصبح الحرّيّة ليست محور فلسفته الأخلاقيّة فحسب، بل ونواتها الجوهريّة.
يضع كانط الوجود العينيّ الواقعيّ بجانبيه، الإنسان والطبيعة، نصب عينيه دائمًا، وهو لا يقدّم لنا حالة فرديّة، ولا موقفًا جزئيًّا، وإنّما طابعًا أنموذجيًّا عامًّا، وفي شكل تجريديّ بهدف استخلاص الخاصّ من العامّ، والفرديّ من المجرّد، وإن كان الخاصّ والفرديّ هما النقطة التي تنطلق منها تأمّلاته العسيرة.
إنّ ما أراد كانط تحديده أنّ الأصل في الأفكار الأساسيّة في الأخلاق، ومقدّمتها، هو الأمر الأخلاقيّ المطلق، أي العقل الخالص نفسه. فالمعارف عند كانط نوعان: معارف عرضيّة جزئيّة نستمدّها من التجربة، ومعارف ضروريّة مطلقة وشاملة تنبع من العقل، ومنها المعارف الرياضيّة والطبيعيّة التي تساعدنا على التنبؤ بما يحدث في الكون. غير أنّ معرفتنا بـ”الأمر الأخلاقيّ” الذي يصلح لكلّ إنسان، وفي كلّ زمان ومكان، هو كونه قانونًا عقليًّا مطلقًا يصدر عن العقل، مستقلاًّ عن التجربة. يقول إنّنا نعيش في عالمين مختلفين فنحن ننتمي بأحاسيسنا، ودوافعنا، وميولنا إلى العالم الحسّيّ، ونخضع للقوانين الطبيعيّة التي تتحكّم فينا، ونحن بعقولنا وحدها أعضاء في هذا العالم المعقول، ومواطنون في مملكته، التي يطلق عليها “الغايات في ذاتها” التي نجد فيها مفتاح هذه الازدواجيّة. فالتجربة لا تستطيع أن تقدّم لنا مثالاً واحدًا يؤكّد أنّ الأمر الأخلاقيّ يمكن أن يرد فيها في صورته الخالصة، ولكن إذا أمعنّا النظر في هذه الازدواجيّة التي يتميّز بها الوجود الإنسانيّ فمن الممكن تفسير كيف يمكن أن يصبح الأمر الأخلاقيّ ممكنًا، وذلك بالانتقال خطوة خطوة من التجربة إلى الميتافيزيقيا، أي من تصوّر الإنسان لطبيعته، من حيث هو كائن عاقل ويكون العالم بالنسبة إليه وحدة تجمّع في شخصه، الطبيعة وعالم العقل (الشيء والشيء في ذاته). كما أنّ هناك العالم الحسّيّ الذي ننتمي إليه باعتبارنا كائنات حسّيّة. وهناك العالم المعقول الذي تشرّع فيه قوانين أفعالنا، ونعدّ أحرارًا بمقدار خضوعنا لهذه القوانين. وليست الحرّيّة سوى هذا الخضوع الإراديّ للقوانين.
والإنسان حرّ بقدر ما يخضع للقانون الذي يضعه لنفسه. وأنّ فكرة الحرّيّة هذه، التي يستمدّها الإنسان من العقل التي تجعله عضوًا في هذا العالم المعقول، هي الشرط الوحيد الذي يجعل الأمر الأخلاقيّ المطلق ممكنًا. أمّا كيف يخضع الإنسان لهذا الأمر الأخلاقيّ المطلق الصارم! فيجيب كانط، لأنّ الإنسان هو الذي يشرّع القوانين لنفسه، ويحدّد الفعل الذي يقدم عليه، وأنّ احترامه للقانون الذي شرّعه بنفسه يجعله ينفّذ ما أمر به الأمر الأخلاقيّ المطلق بالعقل، لأنّه فعل صحيح، وحقّ في ذاته، الذي رفعه إلى مستوى القانون الضروريّ المطلق.
من هذا المنطلق نفهم أنّ كانط ربط الحرّيّة بما هو داخليّ في الإنسان، بحرّيّة العقل والفكر، وبأن تكون لنا القدرة والإرادة الذاتيّة على استخدامهما دون قيد أو شرط، ومن دون تسلط. ويبدو ذلك جليًّا حين تكلّم على التنوير فيتساءل كانط قائلاً: “ما التنوير؟ أن يتحلّى كلّ شخص بالشجاعة في استخدام عقله، وأن يتحرّر من الوصاية التي تكبّل إرادته. والتنوير، الذي هو في جوهره فعاليّة نقديّة، غايته تحرّيّر الإنسان من أسر السلطة الدينيّة، والسياسيّة غير المستنيرة، وتحريضه على الخروج من حالة القسور التي عليها، والشرط الأساسيّ للقيام بذلك هو توافر أسباب الحرّيّة. أمّا بالنسبة إلى الاستنارة فلا شيء مطلوب غير الحرّيّة بمعناها الأكثر براءة. (عمانوئيل كانط، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، محمّد المزوغي، الطبعة الأولى 2007، رابطة العقلانيّين العرب، ص، 21)
غير أنّ كانط يؤكّد أنّ الأمر ليس بهذه السهولة، فالواقع المعيش، والظروف السياسيّة تؤكّد عكس ما يصبو إليه الإنسان، فعلاً، يبدو أنّ السلطات التي ينبغي أن تبادر إلى تنوير الناس هي ذاتها التي تكبّله، وتمنعه من تفعيل طاقته الذهنيّة وتفرض عليه الوصاية.
إذًا كيف نجروء على التحرّر والتفكير بأنفسنا؟ إنّ مطلب الحرّيّة ليس بالمطلب المجرّد، فحرّيّة الفكر، التي يعنيها كانط، ليست مقولة متعالية عن الشروط الاجتماعيّة والسياسيّة، والتنوير لا ينشد حرّيّة تتجاوز حدودها لتصبح نوعًا من الفوضى، بل هي مقيّدة بطاعة الأوامر، وهذا التقييد بحسب كانط لا يتنافى مع أغراض التنوير عمومًا. فالتجربة تبيّن “أنّه في كلّ مكان يوجد تحديد للحرّيّة”، وعليه من الضروريّ التمييز بين أنواع متعدّدة من تحديد الحرّيّة، وأيّها أفضل للحفاظ على التنوير وضمان حرّيّة التفكير. (عمانوئيل كانط، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، محمّد المزوغي، رابطة العقلانيّين العرب، الطبعة الأولى 2007 ص، 21 – 24)
وهذه الحرّيّة تتطلّب شجاعة تقوم على طرد الخوف الذي يحمله الإنسان من المعرفة، ومن عدم القدرة على استخدام العقل بكيفيّة سليمة، وطرد الخوف الذي يجتاح الإنسان من غياب الكفاءة على التفكير السليم والمنتج، بل لا بدّ من الجرأة على المعرفة ليملك الشجاعة للخروج من حالة الوصاية العقليّة التي يمارسها عليه الآخرون، والأحكام المسبقة، والأفكار الموروثة، والمعارف العامّيّة المتداولة… التي أصبحت لها سلطة على عقولنا، وتتحكّم في توجيه مسار فكرنا، حتّى صرنا نتوهّم أنّها هي الحقائق المطلقة، والأبديّة التي لا تفنى، وبأنّنا سنتو، وندخل في دوامة فارغة من اللاحقيقة إذا ما نحن حاولنا التخلّي عنها، والتفكير بذواتنا وبعقولنا، بل إنّ كلّ هذا مجرّد وهمٌ يتبخّر عندما نمتلك الشجاعة على أن نفكر نحن بأنفسنا دون وصاية، ودون إحساس بالنقص أو الذنب. “لتتجرأ على المعرفة، ولتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك الخاصّ، ذلك هو شعار التنوير” والشجاعة على استخدام العقل والجرأة على المعرفة، والقدرة على مواجهة كلّ ما يحدّ من قدرة الإنسان على التفكير الحرّ، والمستقلّ، والذاتيّ، هي أقوى من الشجاعة التي يطلبها الإنسان لأجل الإطاحة بالاستبداد السياسيّ، لأنّ ما يمهّد الطريق لهذا النوع من الاستبداد هو الاستبداد الفكريّ والعقليّ، هو وجود عقول تقبل أن يفكّر بدلاً منها، عقول تقبل بإملاءات الآخرين، عقول تتلقّى بدل أن تفكّر وتنتج، عقول تستهلك كلّ ما يقدّم لها بدل أن تبحث، وتفحص، وتشكّ، وتفهم وتتأمّل… وحين يؤكّد لنا كانط أنّ التنوير، شرطه الوحيد هو الحرّيّة “بالنسبة إلى الاستنارة لا شيء مطلوب غير الحرّيّة بمعناها الأكثر براءة”. (عمانوئيل كانط، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، رابطة العقلانيّين العرب، الطبعة الأولى 2007 ص، 21)، إنما يدعونا إلى الاستعمال العلنيّ للعقل في كلّ المجالات.
وهنا يقدّم كانط تمييزه الشهير بين مجالين مختلفين لاستخدام العقل: “أجيب فأقول إنّ الاستخدام العامّ لعقلنا لا بدّ من أن يكون حرًّا في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالاستنارة إلى البشر، غير أنّ الاستخدام الخاصّ لعقلنا لا بدّ من أن يخضع لتحديد صارم جدًّا، دون أن يكون ذلك من الموانع المحسوسة في طريق الاستنارة”. (عمانوئيل كانط، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، الطبعة الأولى 2007 رابطة العقلانيّين العرب، ص، 22)
عند النظر في هذه المقولة يتبيّن لنا أنّ ما يريده كانط هو استخدام عقلنا بحرّيّة في جميع المجالات على نحو طليق، هناك مجال مسموح فيه للمواطن باستعمال عقله بحرّيّة تامّة دون قيد أو شرط، وهو مجال الاستخدام العامّ لعقلنا، أي كما يعرّفه كانط: “ذلك الذي يقوم به المرء حينما يكون عالمًا باتّجاه الجمهور الذي يقرأ. وفي المقابل، هناك مجال تحدّد فيه الحرّيّة تحديدًا صارمًا، ولا يسمح فيه لأيّ أحد بالإدلاء بآرائه، أو نشرها، أو تعليمها للناس، وهذا هو الاستخدام الخاصّ للعقل، أي حسب تعريف كانط، ذلك: “الذي يعطينا الحقّ في ممارسته من موقع مدنيّ، أو أيّ وظيفة محدّدة أنيطت بنا“. (عمانوئيل كانط، الدين في حدود العقل، رابطة العقلانيّين العرب، ص، 23)
في كتابه “نقد العقل المحض” أثار كانط إشكاليّة إمكانيّة قيام العلم. بمعنى: كيف تكون المعرفة العلميّة، التي تتمتّع بطابعيْ الضرورة والكلية، ممكنة. والضرورة تعني صحة تطبيق القوانين العلمية على جميع الظواهر بصرف النظر عن تغير الأمكنة والأزمنة، والكلية هو شمول القانون لجميع الظواهر بلا استثناء. فقانون السببية، مثلا، لا بد أن ينطبق على كلّ الظواهر التجريبية، فكل ظاهرة لها سبب. وهذا هو الشمول، وفي الوقت ذاته لا بد أن ينطبق على الظواهر في كلّ زمان وكل مكان. (عمانوئيل كانط نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، 46 – 51)
ولكن حين نتأمّل في هذا العالم الذي نعيش نلاحظ أنّ هناك عالمين: عالم الظواهر التجريبيّة، وعالم الأشياء في ذاتها التي لا تخضع لقوالب العقل، وتصوّراته، وقوانينه كالزمان، والمكان، والعلّيّة (السببيّة) وغيرها من المقولات. فالعلّيّة مثلاً تحكم عالم الظواهر بشكل حتميّ لا مجال فيه للاستثناء، أي لا مجال فيه للحرّيّة. وجسم الإنسان ظاهرة كغيرها من الظواهر، وينطبق عليه قانون العلّيّة، وقوانين العقل النظريّ الذي يجعل التجربة ممكنة. فكلّ فعل نقوم به، وكلّ سلوك نسلكه يظلّ بوصفه سلوكًا تجريبيًّا خاضعًا لقوانين الطبيعة. فأين الحرّيّة؟ يقول كانط. فالناس منذ وجدوا لهم أخلاق، ويجب علينا أن نفحص هذه الأخلاق لكي نستدلّ منها على أنّنا أحرار. إنّ الأخلاق الإنسانيّة (التي يسمّيها كانط بالشعبيّة) قائمة على الأمر والنهي. ولو لم نكن أحرارًا في القيام بهذا الفعل، أو تركه لما كان للأمر والنهي (الأخلاق) أي معنى!. أجل، إنّني أشعر في ذاتي بقدرتي على القيام بهذا العمل، أو ذاك، أو عدم القيام به، وهذا دليل على أنّني حرّ. ولو كنا مبرمجين على أن نسلك مسالك معيّنة، وأن نفعل أفعالاً معيّنة فلن يكون للأوامر، والنواهي، والقيم، وبالتالي الأخلاق أي وجود. (أسس ميتافيزيقا الأخلاق، عمانويل كانط، ترجمة محمّد فتحي الشنيطيّ، درا النهضة العربيّة، 1970، 167 – 168) رورو
لقد توصل كانط من هذا التحليل إلى أن الحرّيّة هي شرط وجود الأخلاق، أي إنّنا ننصاع للأخلاق لأننا في الحقيقة أحرار. فالأخلاق وإن كانت سبب معرفتنا بالحرّيّة، إلا أن الحرّيّة هي سبب وجود الأخلاق.
إذًا يمكن القول إنّ وجود القوانين الأخلاقيّة التي تعين الإرادة الإنسانيّة، وتحدّدها، وتوجهها نحو هذا الفعل, أو ذاك ليس نابعًا من عالم الظواهر، أو التجربة لأنّ عالم الظواهر محكوم بالقوانين الطبيعيّة الحتميّة التي لا يسمح فيها بأيّ استثناء، أي لا يسمح فيها بالحرّيّة التي هي الشرط الضروريّ للقوانين الأخلاقيّة. فكيف نبرّر الحرّيّة؟ أو كيف نعرفها؟ أو كيف تكون ممكنة ما دام كلّ العالم محكومًا بالحتميّة؟ يفسّر كانط إيماننا بالحرّيّة بإعطائها معنًى غير مألوف: فالحرّيّة عنده هي العلّة التلقائيّة التي ليس لها علّة. أي إنّها المبادرة الأولى، والسبب الأوّل الذي لا يسبقه سبب، التي بالمقابل تنتج عنها معلولات. (عمانوئيل كنط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القوميّ، ص، 273).
نستنتج أنّ النومين أي الشيء في ذاته عند كانط هو العلّة الأولى، أو السبب الأوّل الذي لا يسبقه سبب، أي العلّة التلقائيّة غير المشروطة، وبعبارة أوضح: هو الحرّيّة. فالنومين هو الطرف الأوّل الذي انطلقت منه سلسلة الأسباب. وما دام الأمر كذلك فإنّنا إذا عرفنا أنّ ذواتنا تنقسم قسمين: أنا ظاهريّة تجريبيّة خاضعة لقوانين الطبيعة، وأنا متعالية نومينيّة غير خاضعة للطبيعة، عرفنا أنّ الأخيرة هي في صميمها حرّيّة، ما يعني أنّ الموقف المادّيّ، أي السلوك الظاهر، خاضع لقوانين الطبيعة، كالجاذبيّة، والعلّيّة، وغيرها، ولكن إرادتي حرّة تمامًا لأنّها السبب الأوّل والتلقائيّ لهذا السلوك. ففي نقده للعقل العمليّ يرى كانط إنّ الإنسان نومين بوصفه حاملاً للحرّيّة، وظاهرة بوصفه خاضعًا للطبيعة. أنا حرّ، إذًا فأنا كائن أخلاقيّ هل هذا يكفي؟ يجيب كانط بالنفي ذلك أنّ كثيرًا من الإرادات البشريّة قد يعيّنها ويحدّدها الشرّ، أو توجّهها اللَذّة غير المباليّة بالخير. فما العمل؟ يعود كانط، ويبحث في العقل المحض عن قانون أخلاقيّ، أو أمر مطلق يكون قاعدة تهتدي بها الإرادة الخيّرة. وهذا الأمر له الصيغة التالية: “لا تفعل الفعل إلاّ بما يتّفق مع المسلَّمة التي تمكِّنك في الوقت نفسه من أن تريد لها أن تصبح قانونًا عامًّا” افعل دائمًا تبعًا لقاعدة يمكنك أن تعرف في الوقت نفسه أن تجعلها كلّيّة على نمط قانون… على هذا النحو من ثَمَّ تتشكّل صيغة إرادة خيّرة خيرًا مطلقًا”. (إمانويل كانط، أسس ميتافيزقا الأخلاق، ترجمة محمّد فتحي الشنيطيّ، دار النهضة العربيّة، 1970، ص، 142). وبصياغة أخرى يمكن أن نقول: حينما تريد أن تتحقّقق مّن أن فعلك صادر عن القانون الأخلاقيّ، فاسأل نفسك: هل تريد أن يصبح عملك هذا قانونًا للبشر جميعًا؟
إذا كانت الحرّيّة نابعة من عالم الأشياء في ذاتها، ومن ضمنها الأنا المتعالية، النفس المعقولة، وإذا كان معنى الحرّيّة في إطار الأنا يحمل معنى المبادرة التلقائيّة العفويّة غير المشروطة، أي إنّ فعل الإرادة يفاجئ القوانين الحتميّة، ولا يحفل بها… فلماذا كفَّ النومين (بوصفه سببًا مطلقًا للفينومين) عن المبادرة التلقائيّة؟ ولماذا كان سببًا أوّلاً ثابتًا بينما هو في مجال الإرادة الإنسانيّة سببًا أوّلاً تلقائيًّا (متغيّرًا)، أو متنوّعًا في تمظهره في المسلّمات الذاتيّة التي تعيِّن الإرادة؟! والإرادة لا تقتصر على الخير فحسب، فإرادة الشرّ هي بالضرورة مما ينطبق عليه وصف الأولى، أي إنّ لها حرّيّة المبادرة!
يرى كانط أنّ الشرّ يأتي من الرغبة، أي الهوى، بصورة عامّة، أمّا العقل فلا ينبع منه إلاّ الواجب الأخلاقيّ الخيِّر. وبذلك فالقاعدة الأخلاقيّة تحمي ذاتها من التناقض، أي لا تهدم نفسها بنفسها، فالشرّ هو بالتعريف خلاف الخير. وما دامت إمكانيّة الهدم لا يمكن أن تتحقّق في عالم الظواهر بوصفه منسوجًا بشكل محكم، ومتين لا يسمح باستثناء، فهي، أي إمكانيّة الهدم أو الشرّ، ذات طابع أنطولوجيّ قويّ. لأنّها بالضرورة لن تكون تجريبيّة، كما أنّها لن تكون عمليّة محضة، فالعقل العمليّ المحض مصدر للخير وحسب، فمقر التصورات الأخلاقيّة قائم في العقل بصورة قبليّة، كما يقول كانط في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق: “إنّ قانون الخير لا يهدم نفسه. أي إنّ الفعل الخيِّر، وإن كان يبدأ من الحرّيّة، إلاّ أنّه يظلّ مطيعًا، محكومًا بالجبريّة، جبريّة الواجب المطلق، بينما الشرّ لا يذعن إلاّ للحرّيّة. الحرّيّة كمعيار لتقييم الفعل الأخلاقيّ، أي أن يعدّ الأخلاق ذات قيمة ومعنى، عندما تكون صادرة عن إنسان حُرّ، غير خاضع لأي نوع من أنواع الإكراه”. وهذه الحرّيّة المفترضة هي أمر غير واقعيّ، لأنّ الوعي، والضمير الأخلاقيّ يتشكّل بواسطة التاريخ والثقافة، وبالتالي فإنّ الإنسان ليس حرًّا في خِياراته بالمعنى الذي قد توحي به الكلمة، بل هو خاضع لإكراهات الثقافة والتاريخ. فالأخلاق بما أنّها سُلطة، فهي، بالتعريف، مناقضة للحرّيّة. وهل معنى هذا أنّ الإنسان في النهاية مُكره على الفضيلة بواسطة الوعي الثقافيّ والتاريخيّ؟
هنا نجد كانط قد رسّخ خاصّيّة أساسيّة ومُهِمَّة عند روسو فجعل الأنا الملزِمة هي نفسها الأنا الملزَمة، كي لا يطغى الواجب الأخلاقيّ على حساب حرّيّة الإنسان. ويتحقّق هذا التطابق بين هاتين “الأنانين” حين تعتمد الأنا المشترعة، أي الملزِمة، منهجًا تجريبيًّا يقود إلى طرق متعدّدة، عند نهاية كلّ واحد منها تعميمات استقرائيّة، قد تصلح أساسًا لأوامر مشروطة، ولكن لن تصلح لأوامر مطلقة. لذا فعلى هذه الأنا أن تعتمتد منهجًا متعاليًا يؤدّي إلى قوانين قبليّة، وهي بالتالي كلّيّة ضروريّة، وجديرة بأن تكون ملزِمة. وعند ما تتوصّل الأنا المشترعة إلى هذه القوانين فهي تتوصّل إليها بصفتها ذات عقلانيّة، وليس بأيّ صفة أخرى، لذا تكون هذه القوانين ملزمة على نحو غير مشروط، لكلّ ذات عاقلة في كلّ زمان ومكان. وعندما يطيع الإنسان الذات العقلانيّة فإنّما يطيع قانون الأخلاق الأعلى، ويلتزم أحكامه، ولا يطيع إرادة تعسفيّة، أو نزوة. (إمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجم محمّد فتحي الشنيطيّ، دار النهضة العربيّة، 1970، 118 – 125).
لقد جمعت العقلانيّة النقديّة الكانطيّة بين فعل المعرفة، والحقيقة الموضوعيّة من جهة، وبين فعل الحرّيّة، والواجب من جهة أخرى دون تناقض، واستطاع كانط بفعل حسّه الفلسفيّ، والأخلاقيّ العميق، وبنزعته النقديّة المتعالية أن يجمع بين هذين الطريقين بشكل يخدم الفعل الأخلاقيّ والإنسانيّة عامّة. وأهمّ ما يميّز الفكر الكانطيّ هو أنّه وظّف عقلانيّته في التأسيس لفلسفته الأخلاقيّة أي في تأسيس الواجب الأخلاقيّ، حيث بيّن كانط أنّ الأخلاق سلوك واقعيّ عمليّ، لكنّها رغم ذلك مبادئ أوّليّة قبليّة قائمة في العقل، لذلك كان العقل هو المؤسّس الفعليّ للأخلاق فيما التجربة هي الآليّة التي تترجمه، فيتحوّل بذلك العقل إلى ضمير يوجّه صاحبه على أرض الواقع. وحتّى يكون الواجب الأخلاقيّ ثابتًا يجب أن ينزّه الواجب عن كلّ غاية، وأنّ قانون الإرادة الخيّرة أي هذا الصوت الباطن الذي ينبعث من أعماق وجودنا يجعل أداء الواجب من أجل الواجب فقط، الواجب الذي لا يطلب غاية أخرى غير ذاته. والقانون الأخلاقيّ هو القانون الذي يقول: “إنّ الفاعل الأخلاقيّ يتصرّف أخلاقيًّا إذا سيطر العقل على كلّ ميوله”. فالواجب آمر مطلق يربط بين الإرادة الخيّرة، وبين القانون الأخلاقيّ الكلّيّ، والشرط الأوّل لتحقيق القانون الأخلاقيّ هو الحرّيّة، فأوّل الشروط الممكنة ليصبح المثل الأخلاقيّ حقيقة واقعية هو الحرّيّة، التي تعني الاستقلال الذاتيّ للإرادة الخيّرة، فهي تلك الحالة التي يتّصف بها الفاعل الأخلاقيّ عندما يضع لنفسه قاعدة فعله.
لقد بنى كانط نموذجه الأخلاقيّ على أساس فلسفته النقديّة التي ميّزت في الإنسان، جانبين، جانب طبيعيّ محسوس خاضع للضرورة وجانب أخلاقيّ معقول قائم على أساس الحرّيّة، وأعطت الأولوية للجانب العمليّ على حساب الجانب النظريّ، وذلك لأنّ الإنسان أسمى من أن ينحصر في قوانين الطبيعة، بل هو عضو مشرع في مملكة الغايات. أمّا التناقض الموجود بين عالم الطبيعة (الضرورة)، وعالم الأخلاق (الحرّيّة) أي بين العقل النظريّ، والعقل العمليّ، يبقى موجودًا إذا لم نبحث عن وسيلة للتقريب بينهما، لكنّ كانط استطاع أن يجد هذه الوسيلة المتمثّلة في الحكم الجماليّ والغائيّ، ففلسفة الجمال والغائيّة ما هي إلا مجرّد فلسفة أخلاقيّة توسّع من نطاق مملكة الغايات، وتعلي من شأن العقل العمليّ، فالحكم الغائي هو الوحيد الذي يسمح لنا بأن نوحد بين مملكة الطبيعة، ومملكة الغايات في نسق واحد متكامل. إن الأخلاق عند كانط تقوم على أساس “مفهوم الإنسان” فهي ليست في حاجة إلى الدين بل تكفي نفسها بنفسها بفضل “العقل العمليّ المحض”، وبالتالي فهي تقوم على “مبدأ استقلال الإرادة” أو “الحرّيّة الإنسانيّة” والسبب الذي أدى كانط إلى رفض تأسيس الأخلاق على الدين، هو أنه من المستحيل أن يخضع القانون الأخلاقيّ لأي سلطة خارجيّة تعدو حدود الإرادة البشرية، فهو يرفض كلّ نزعة فلسفيّة تقيم الأخلاق على السلطة الإلهيّة. كما أن عبادة الله هي العمل بالقانون الأخلاقيّ ليس قسرًا، بل عبادة حرّة نابعة من الكيان الداخلي للإنسان عن طريق أدائه لواجباته. ومسألة السلام والخير في العالم تتوقف على مجهود النفس البشرية، وعلى وعيها الباطني بواجباتها وبحرّيّتها وعدم خضوعها لأي سلطة خارجيّة فهي تخضع فقط لسلطة النفس والإلزام الذاتيّ لها. والتشريع الخارجيّ للواجب هو الذي يضبط ضبطًا صارمًا هذه الكرامة، ويحفظ حرّيّة الإنسان في تلاقيها بحرّيّة الآخر داخل المجتمع. فهذا غير كافٍ إذا لم يستند إلى التشريع الباطنيّ للقانون الأخلاقيّ عن طريق الفضيلة، التي تعطينا معنى الحرّيّة في وضعها الباطنيّ عن طريق معرفة الواجبات الأخلاقيّة التي تصدر مباشرة من القانون الأقصى للخلقيّة.
يمكن القول إنّ فلسفة كانط درست في ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌﻘل، ﻭﺍﻟﺤرّيّة ﺍﻟﻤﺠرّﺩﺓ، ﻭﺘﺨلّت ﻋﻥ ﺍﻟﻤﻴﻭل، والأهواء فيما نظر ﺭﻭﺴﻭ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ بكلّ ما يحمله من تفاصيل متناقضة، ﻭﺍﻟﻤﻁﺎﻟﺒﺔ ﺒﺤﻘﻭﻗﻪ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘيّﺔ، والاستمتاع ﺒﺤرّيّته، بصفتها ملكة طبيعيّة فطريّة من جهة، وبصفتها حقّ إنسانيّ يخضع الفرد للقيود التي يعيّنها القانون. لقد أراد كلا المفكّرين تحرير الإنسان من القيود التي تقف حجر عثرة أمام نموّه وتطوّره على المستوى الإنسانيّ، لقد أرادا إنسانًّا يعقل حرّيّته في ذاته ولذاته، فكانت الحرّيّة الغاية الأسمى في مملكتي العقل، والمجتمع الإنسانيّ. فهل استطاع الإنسان المعاصر، وتحديدًا في عالمنا العربيّ أن يصل إلى هذه الغاية؟ ولماذا هذا التسابق نحو تقييد أنفسنا بأغلال العقائد الدينيّة، والسياسيّة والمجتمعيّة رغم أنّنا نتوق إلى الفوز بالحرّيّة؟ لماذا نخضع لإكراهات رجال الدين، والسياسة باسم الحرّيّة؟ لماذ تحوّل فهمنا للحرّيّة من فطرة إنسانيّة، ونظام طبيعيّ إلى فوضى إنسانيّة يصعب كبح جماحها المتوحّش، والمتمثّل في ثورة الاتّصالات، والإعلام؟
ومهما يكن تبقى الحرّيّة فعل فرديّ وجماعيّ، فعل استمراريّة، منفتح، إراديّ، وليس لحظة تاريخيّة أو زمنيّة، أو لحظة مجتمعيّة يعيشها، أو عاشها مجتمع دون غيره. فحرّيّة الفكر والعقل، وتحرّر الإنسان من كلّ ما يعرقل فكره ويقيّده، واستخدامه الذاتيّ، والسليم للعقل. بالتالي ما دامت هناك قيود تسلّط على فكرنا، وعقولنا لكي تحد ّمن وظيفتهما، فلا بدّ لنا من فعل حرّ يحرّر ذواتنا، وعقولنا من كلّ ما يعيق، ويحدّ من قدرتنا على التفكير.