اللّغة العربيّة بين مفهوم حضاري وأزمة وجود
نور عودة*
لكل مجتمعٍ هيكليّةُ بنائيّة تنظّمه، وأسس يُبنى عليها؛ أمّا مفهوم مصطلح “المجتمع” فموازٍ لمفهوم مصطلح “الدّين”؛ وهما جوهر واحد متّفق عليه، والاختلاف يكمن في كيفيّة آداء الطّقوس. فكما أنّ أسس بناء الأديان واحدة، فالأمر عينه في أسس بناء المجتمعات: الانتماء، الهُوية، اللّغة، الأسرة، والأنظمة الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسّياسيّة.
وعليه؛ فإنّ اللّغة هي ركيزة اجتماعيّة يُبنى عليها أيّ مجتمع، وهي هُويّة تحدّد أصل الإنسان وانتماءه، وأيّ تضعضع يصيب الأصل، يضع الأمّة بأجمعهاها موضعَ الخطر الوجوديّ. ولأنّها هي كذلك، نواة المجتمع، وتحمل طابعًا انتمائيًا، تأتي في رأس سلّم أولويات الاختراق.
وليست كلّ الحروب الّتي تُشنّ عسكريّة صلبة، فإنّ أخطرها هي الحرب النّاعمة الملمس، الّتي تحمل بين طيّاتها استهدافًا مباشرًا للهُويّة من خلال اللّغة. وعادةً ما يتجلبب الاستهداف ثوب التّحضّر، والغاية، والهدف منه التّحكم، والسّيطرة على الإنسان أصلًا، بتجريده من هُويّته اللّغويّة، وتفريغه من محتواه الثّقافي، والأخلاقي، والمبدئي. وما نعيشه اليوم، خير دليل على ذلك.
من مدخل “الموضة”، دخل الغرب، واخترق اللّغة العربيّة، بشنّ حرب ناعمة تفوح منها رائحة تدمير حضاريّ، همّشوها بتجريدها من مفاهيم الانتماء والهُويّة بتحكّمهم بنواة عقل متداوليها، وألبسوها لباس التّخلّف؛ حتّى بات تداولها أقرب إلى الجهل منه إلى القضيّة الوطنيّة.
ولأنّنا ننتمي إلى أمّة توّاقة إلى التّمدّن، ومستوردة الأفكار كما السّلع بعيدًا من الصّنع الفكريّ المحلّيّ، فإنّ اختراقنا لُقمةٌ سائغة. خدّر عقولنا، وبلّد أذهاننا حتّى بتنا نتوق إلى استعمال بعض المفردات الأجنبيّة أثناء تحدّثنا باللّغة الأم لنثبت تحضّرنا، وانفتاحنا على لغات الغير، متأبّطين بصورة اللّغة المعولمة حجّة تخفي جهلنا.
وهذا النّوع من الاستعمار، والحروب لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى حِقبات زمنيّة، وثقافات استعمارية يتداولها المستعمَرون من جيلٍ إلى جيل، حتّى تصبح ذات طابع شائع سائد. وعلى ضوء هذا، يكون المستعمِر والمستعمَر –سيان – مساهمين في انحدار اللّغة العربيّة نحو الدّرك السّفليّ. ولانتشالها إلى أوْج المجتمع يحتاج أيضًا إلى حِقبات زمنيّة، وثقافات توعويّة تساهم في رفع مستوى التّوعية عند متداوليها.
ولكن؛ من ناحية أخرى، تحتلّ اللّغة العربيّة مكانة مرموقة بين نظيراتها من اللّغات. ولغة الضّاد هذه، هي لغة القرآن الكريم الّذي يفرض على كلّ الناطقين بها، العودة إليها في كلّ ما يخصّ شؤون تعلم القرآن، والدّين الإسلامي. فهل هي حقًا في خضمّ معركة صراع وجوديّ ومصيرها الزّوال؟
سمّيت بلغة الضّاد لتفرّدها بهذا الحرف دون سواها من اللّغات، وتميّزها به، حيث شاق الأعجميّ لفظه لثقله على اللّسان؛ وبلغة القرآن لأنّه حينما هبط الوحي على النّبي محمّد(ص)، أتاه جبرائيل بنمط من ديباج فيه كتاب، ثمّ قال له: اقرأ…
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ…﴾ (العلق: 1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* طالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة.
وعلى الرّغم من أنّه كان عالمًا بأكثر من سبعين لغة، كما نصّ على ذلك حفيده الشّرعي الإمام محمّد الجواد، إلّا أنّ الله أمرَه بأن يتلوَ على الأميّين رسالاته القرآنيّةِ باللّغةِ العربيّةِ من بينِ كلِّ لغاتِ العالمِ.
أسمّيها من على منبري الخاصّ باللّغةِ المعجزةِ، فهي عروسٌ ترفل بدقّة معانيها، وبمرادفاتها وأضدادها، وبوزن شِعرها، وبتبنّيها أكبر عددٍ منَ الاشتقاقات، منها: اسمُ الفاعلِ، والمفعولِ، وصيغُ المبالغةِ، والتفضيلِ وغيرُها، ولاستحالة إصابة المعنى الدقيق عندَ تعريبِ اللّغاتِ الأخرى، فكيف ستميّز أيّ لغةٍ عدا العربيّةِ بينَ الفروقات اللغويّة كالوجيفِ والرجيفِ، والعشقِ والهيامِ، والنجيِّ والصفيِّ والقرين؛ بين نظرَ ورمقَ، والحزنِ والكربِ، والعامِ والسنةِ، والتبديلِ والإبدالِ؛ وأيُّ لغةٍ استطاعتْ دمجَ الجملةِ بكلمةٍ واحدةٍ، الفعلُ المتعديُ مع الفاعلِ، والمفاعيلِ مثل: “أَسْقَيْناكُموهْ، وأنُلْزِمُكُمُوهَا” حيث تحتاج الأخيرة ستّ كلماتٍ إنكليزيّة لتعريبها shall we compel you accept it.وهنا تكمنُ الذّائقةُ اللّغويةُ الّتي تميّزُها من غيرِها.
وعلى مرِّ السّنوات، مرّتْ لغةُ القرآنِ الكريمِ بتحدّياتٍ جمّة، أبرزها أمام اللّغة الفرنسية، والإنكليزية لتنفضَ عنها غبارَها شاهرةً سيفَها في وجههِما منتصرة عليهما في نهايةِ المطاف. فها هي اللّغة الفرنسيّة يتراجع التّواصلُ بها بين الأفرادِ، وتدريسُها في المناهجِ التعليميّةِ حدّ الانعدامِ، وكذا سيكونُ حالُ اللّغة الإنكليزيّة المعولمة بعدَ خسارتها هذه الصّفة.
ولمّا كانت لغتُنا الأمُّ في خضمِّ الصّراعات هذه، اجتاحتْها لغةٌ لا مسقطَ رأس لها ولا انتماء، أُطلقَ عليها اسمُ لغةِ الإنترنت، الّتي تجمعُ النّطقَ العربيَّ، والأحرفَ الأجنبيّةَ مع الأرقامِ، لنجدَ جلّ التّواقين إلى التّمدّن قد سارعوا إلى استخدامِها لتدخلَ أكبرَ معركةٍ عبرَ العصورِ، وهوَ عصرُ انحطاطِ اللّغةِ العربيّةِ أمامَ لغةِ اللّاتمدن. ثلةٌ منَ الأشخاصِ ليستْ بالقليلةِ هرعوا، وموجةَ التقدّم إلى استخدامِها ليعودوا أدراجَهم بعدَ استنفاذِها، وها هيَ مع تقدّم الأيّام تندثرُ رويدًا رويدًا، وكذا حالها كلّما طرأتْ عليها موجةُ تقدّم.
فطالما أنّها لغة القرآن، وأنّ الكاتبَ، والشّيخَ، والصغيرَ، والكبيرَ، والعالِمَ، والجاهلَ، سيعودون إلى لغتهِم الأمّ كلّما أرادوا نظمَ بيتِ شعرٍ واحدٍ، أو تركيبِ جملةٍ صغيرةٍ فنحنُ ولغتُنا لسنا في خطر.
لذا، لا أنفي أنّ لغتَنا صدرُها رحبٌ أمامَ لغاتِ العالمِ ويسهلُ تصريفُ أيّ مفردةٍ أعجميّةٍ حتّى إعرابها، لكن يجب علينا أن نأخذها من مفهوم أبعد، وأعمق من مفهوم التّواصل؛ بوصفها قضيّة انتماء، وحضارة نحملها أينما توجّهنا، وعلى وجه الخصوص أولئك الّذين يسافرون من مشرق الأرض إلى مغربها بحقائب فارغة.
لا بأس بالتّحضر واتقان لغات أخرى، بل هو فعل مستحسن محمود، لكن، يجب ألّا نسمح لهذا التّحضر بأن يلغي أصلنا، وانتماءنا، وجذورنا؛ علمًا أنّ التقدمَ، والنهوضَ، والفكرَ، والتحضرَ يكمنُ في المحافظةِ على اللّغةِ الأمِّ، وإنّ التّغني باللغات الأخرى على حسابِها ليس سوى ضرب من ضروبِ الجهلِ والتّخلّفِ.