عنف المدينة وصراع الذّات في رواية ”صيادو الريح” للكاتبة لمياء الألوسيّ
د. ليلى قاسحي*
مقدمة
شكلت المدينة بوصفها فضاءً يجسد مجموعة من الأنساق الثّقافيّة، والاقتصاديّة، والرّمزيّة مادة خصبة للدّراسات، والمقاربات النقدية لأنّها “مركز يتمحور حوله كلّ شيء”(1)، والمدينة متشبعة بالإنسان الذي يقطنها، وهي نسيج الخلفية التي يتحرك عليها، إذ تبدأ في الغالب معظم التغييرات في المدينة سواء أكانت ثقافيّة، أو سياسيّة، أو اقتصاديّة. إذ تنطلق من الفئات العليا لتصل إلى الفئات الدّنيا، لتنتشر حتى تصل إلى القرية، ومن هنا تظهر لنا أهمية المدينة ليس بوصفها فضاءً مادّيًّا قائمًا على المباني الجغرافيّة، والأبعاد الهندسيّة، والفيزيائيّة فحسب، بل لما تتضمّنه من دلالات، ورموز تأويليّة وإيحائيّة، وزيادة التأكيد على “مركزية المجتمع المدنيّ، وإعادة إنتاج ما هو حاصل وتكريس له، وهو علامة قصصية تؤكد العلامة الإديولوجيّة”(2). والمدينة في المفهوم اللغوي من الوحدة الفعليّة “مدن، ويقال مدن بالمكان، أقام فيه، ومنه المدينة، وهي “فعيلة” وتجمع على مدائن بالهمز، ومُدْنٍ ومُدُنٍ بالتخفيف والتثقيل… والمدينة الحصن يبنى في أصطمة الأرض، مشتقّ من ذلك، وكلّ أرض يبنى به حصن في مدينة، والنسبة إليها مدينيّ، والجمع مدائن ومدن”(3).
وتشير بعض الدّراسات أن لفظ “(المدينة) مأخوذ من “ديان” العبرية التي تعني القاضيّ الذي يحقق النّظام في المجتمع، ويرجع هذا اللفظ في الأصل إلى كلمة “دين”، وأنّ لهذه الكلمة بهذا المعنى أصلاً في الأرامية والعربية، أي إنّها ذات أصل سامٍ، وعرفت المدينة عند الأكاديين، والأشوريين بالدّين أيّ القانون”(4). وقد شغلت المدينة حيزًا مهمًّا في المسار السّردي لرواية “صيادو الريح”(5) للرّوائيّة العراقية لمياء الألوسيّ(6)، فكيف قدمت لنا فضاء المدينة؟ وما هي الدّلالات التي تحملها؟ وما تأثيرها على الذّات والهُوية؟ تدور أحداث الرّواية في مدن، ومناطق عراقيّة نالت من الأذى، والرّعب الشيء الكثير، من قبل قوى الإرهاب الداّعشيّة، إذ تروي السّاردة مأساة شعب ذاق مرارة العيش، ومحنة الهجرة والنّزوح، انطلاقًا من تجربتها الشّخصيّة ورحلتها الصّعبة من مدينة “تكريت”، إلى “أربيل”، والعودة إلى “تكريت” من جديد، وخلال عمليات السّرد المتنوعة تقدم الرّوائيّة صورًا متعدّدة عن نماذج بشرية متوترة، خائفة ومحطمة. ترصد لنا بكل واقعيّة مشاهد تدميريّة صادمة عن مدن عراقيّة احتلها التنظيم المتوحش، وحالات التّشرد، والضّياع، والفزع التي عاشتها شخصيات الرّواية.
1ــــ عنف المدينة، وفوضى الأحداث
تقدم رواية “صيادو الرّيح” مقاطع تصويريّة مشبعة بصفات طوبوغرافيّة عن مدن عراقيّة متعدّدة، وأول مدينة ما تذكره السّاردة هي مدينة “بغداد” من خلال الملفوظ السّردي التّالي “الجيش يتحرك من بغداد، لماذا من بغداد؟ والقاعدة العسكريّة بكل إمكانياتها لا تبعد سوى كيلومترات من المدينة، قاعدة بسعة المدينة المحتلة، لا يتحرك منها جنديّ واحد، ينتظرون قدوم الجيش من بغداد، داعش في الشّوارع بسياراتهم الحديثة… والطائرات العراقيّة تحلق ثم تحط في مطار قاعدة سبايكر، وتعود لتحلق مرة أخرى باتجاه بغداد، أيُّ مهزلة هذه؟ إحساس بأن الحياة أصبحت رخيصة حد اللعنة… يا للمهانة”(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جامعة الجزائر 2ـ أبو القاسم سعد الله.
ارتبط اسم بغداد بالحضارة والتّاريخ والسّلام، وتضمّ الآثار العربيّة، والبابليّة، والفارسيّة، ومشهورة بتعدّد المقامات الدّينيّة، وشواهدها الإسلاميّة، والقلاع والقصور “لم ترتبط مدينة بغداد التي بناها الخليفة العباسيّ أبو جعفر المنصور بتاريخ قديم، كأنّها أرادت أن تكون شاهدة على بزوغ حضارة خاصة بها لوحدها، لا تغرف من تاريخ قديم، كأنّها بذلك أرادت تأسيس تاريخها الخاص بها، سيرتها المتميزة”(8)، كما اقترن اسم بغداد بالأدب، والإبداع خصوصًا الفنّ القصصيّ والسّردي “فكانت بغداد المدينة العربيّة الأولى السّبّاقة إلى تأسيس مشروع طموح من المعرفة السّردية الرّاقية التي نهضت عليها أوّليّات الرّواية العربية المتمثلة في قصص “ألف ليلة وليلة”، التي ترجمت إلى العديد من لغات العالم… يتسع فضاؤها لكل الإثنيات، وتتفاعل مع كل أشكال التنوع الثقافي الوافد عليها”(9). هكذا كانت صورة بغداد اللامعة المشعّة تاريخًا وحضارة، فنًّا وأدبًا، لكن تغيّر كل شيء مع قدوم تنظيم داعش، فقد أصبحت بغداد في نظر السّاردة مدينة تجعل الحياة “مهزلة، رخيصة”، مدينة للخوف، للمهانة، لأنّ سياستها رثة وهزيلة. وتنتقل السّاردة إلى موضع آخر لتصور لنا عنف المدينة، وعمق الخراب الذي شهدته الشّوارع والأحياء المتعدّدة فيها، حيث تقول: “انتهى كلّ شيء، إلا قلقيّ الذي بات إيمانًا بأن المدينة ما عادت لنا، خفق قلبي وأنا أشمّ رائحة الحرائق والدّخان المنبعث من هنا وهناك، أشعر بالاختناق وأنا أرى شِباك القادمين تحاك حول المدينة، وتخيّم عليها، أحسست أنّ الموت القادم تنقله خطواتهم التي تتحرك، يرشدها صمت المدينة ورضاها… مفاصل الحياة تئن بإيقاع أجش مرتعش وقد أصبحت قواها واهنة”(10). تنقل لنا الرّوائيّة صورة صادمة لمدينة تقطعت أوصالها، مدينة ضائعة أستبيحت من قبل تنظيم داعش، وقد اعتمدت السّاردة على حاسة الشّم في وصف المكان، ورصد حالاته المأسويّة والكارثيّة: (رائحة الحرائق، الدّخان)، ولهذه الحاسة قيمة فنيّة عالية في تحقيق “أكبر قدر من الجماليّة للمكان الموصوف… وتعدُّ الوسيلة الرئيسة للتمييز والفرز، فإنّ الفنان ينزل درجة، أو درجتين، أو أكثر في جمالياته المقدمة، وكل ذلك يمكن أن يعتمد على المكان الموصوف، أو تقديم جمالياته”(11)، فرائحة الحرائق، والدّخان الكثيف تشي بعمق المأساة، وتوحي بدرجة الدّمار المسيطرة على فضاء المدينة، حتى أضحت فريسة ضعيفة في شِباك المتملّقين المفسدين، هذا ما جعل الموت والخواء يلفان المدينة وشوارعها ويحيطان بها من كلّ ناحية، ما أدى إلى انتشار الخوف والفزع بين الناس “أصبحت أكثر يقينًا من أن المقاصل تنصب في باحات المدينة وأزقتها، بل إن الوضع أصبح خطيرًا جدًا، في الخارج كانت الشّمس حارقة والهدوء يلفُّ المكان. وكأنّ الشوارع أفرغت“(12).
إنّ الموت المعلن عنه في فضاء المدينة أضحى حقيقة صارخة، وأدى إلى تعشش الخوف واليأس والرّعب في نفوس قاطنيها والخطر يحوم حولهم من كل مكان، وتظهر هذه المعاني جلية من خلال الملفوظات السردية الآتية:
ـــ “لكن لم يكن متوقعًا أن يأتي الخوف بكل جحافله، ويصل بهذه السرعة”(13).
ـــ “ماهو مصير هذه المدينة؟ بالكامل، فصول هذه التّداعيات تبدو من دون تفاصيل، تدخل الإنسان في أتونها من دون مقدّمات، محاولة جرّ بلد إلى الانتحار، لقد أصبحت خطوط الدّم أكثر وضوحًا وأشد اتّساعًا إلى أن تحولت إلى بحار من الدّم”(14).
ــــ “رائحة الدّم أضحت بديلا عن رائحة النهر، ورائحة المدينة”(15).
ـــــ “في السّاعة الثانيّة ظهرًا تكدّس الحزن في القلب، تلاحقني صرخات النسوة، الموت المعلن عنه يلف المدينة، لا يستثني فيها زاوية، يعبث بحياتها”(16).
إنّ العامل المشترك بين هذه المقاطع السّرديّة هو موضوعة الموت، بوصفه سمة تمييزيّة طاغيّة على الفضاء المدينيّ، وقد عمدت الرّوائيّة إلى التّنويع اللفظيّ لتجسيد المعنى الواحد الثّابت، فقد وظفت جملة من الوحدات الاسميّة الدّالة على معنى واحد هو الموت، ويظهر ذلك جليًّا من خلال (الانتحار، خطوط الدّم، بحار من الدّم، رائحة الدّم…).
إنّ انتشار الدّم (خطوطه، بحاره، رائحته) ترمز إلى عمق الكارثة التي حلّت بالمدينة المكلومة المذبوحة، والتي فقدت هُويتها وكينونتها، وتعلن صراحة انهزامها وانكسارها بفؤوس أبنائها، وكل هذه الموصوفات “تملأ الذات القارئ بأنفاس الهزيمة”(17). وبعد الحديث عن مآسي مدينة تكريت تصور لنا السّاردة ما آلت إليه مدينة الموصل، وهي تؤكد أنّ “بعد سقوط الموصل تهالك في الصّمت المحير محاولة استجماع شتاتها كامرأة تواجه موجة فيضان يحاول اقتلاع بيتها، الفيضان الذي وصل إلى قَدَمَيْ المدينة، وابتلع قدرتها على البقاء… الآن تمكّن داعش من السّيطرة على مصفى بيجي، وعمت المدينة عاصفة من الإطلاقات النّارية وعلت أصوات التكبير عبر مكبرات الصوت في الجوامع”(18). تبدو السّاردة من خلال وصفها للمدينة، وتصوير العديد من الأحداث والوقائع جزعة خائبة متهالكة النّفس من حجم المأساة، وسوداويّة الأوضاع. أين يعمّ الظلام، ويخيّم الخوف في الشّوارع، ونفوس قاطنيها: “لفت المدينة سحابة سوداء خيّمت على كلّ شيء من المدينة، كان كالسّوط فغدت موحشة تبحث عن جذورها الممتدة في رحم الليل، وجالت في حارات المدينة وأزقتها التي أصبحت أكثر قتامة وبؤسًا من قبل، كل ذلك الهلع المسكون بالرّهبة، الذي يلسع الأجساد الغافلة”(19).
وفي خضم هذه الأحداث، وتعفن الواقع السياسيّ، وانهيار الاقتصاد الوطنيّ في البلاد، يتساءل الجميع عن أسباب اجتياح تنظيم داعش لتكريت، وسرّ قوته، وقدرته العجيبة على اختراق كل المؤسسات الحكوميّة بكل سهولة ويسر، من دون أن تصدها قوات الجيش أو الشّرطة، وعلامات الاستفهام كثيرة، وهذا ما تؤكده السّاردة: “منذ ذلك اليوم الذي دخلت فيه قوات داعش إلى تكريت لم أصدق اجتياحها السّريع للمدن، إذ لا يمكن أن تحقق هذه القوات المتوحشة، البربريّة التقدم من الأنبار إلى الموصل… ثم إلى تكريت مسافات طويلة تحتاج إلى إمكانيات جيش مدرب، وآليات كثيرة لاجتياح كلّ هذه الأراضي، ولكنها انتصرت مظفّرة بعد أن استولت على بنوك الموصل وآليات الجيش المنكسر”(20).
وتتعدّد الأصوات في الرّواية معلنة موقفها من الواقع السياسيّ المتدهور، فقد أصرّت الكاتبة من خلال شخصياتها الرّوائيّة على الارتقاء بمستوى الشّعب، والكشف عن وعيه بالقضايا السياسيّة، واستنكار موقف الحكومة من تنظيم داعش، ويظهر ذلك من خلال ما ردّده عماد في المقبوس السّردي الآتي: “قبل الانتخابات أُغلقت الشّوارع الخلفيّة، وكأنّ الحكومة كانت تستشعر أن هناك خطرًا قادمًا لا محال، الكلّ يستشعر هذا الخطر، البعض يعرف جيدًا حدوده، والبعض خائف، والبعض الآخر يدفع كي يقي نفسه الخطر، لكن لا يمكن تبرير خوف الحكومة وسلطاتها المحلّيّة، هكذا لا يمكن أن تترك المدينة لقمة سائغة سهلة بهذا الشكل الجبان”(21). ولفضاء المدينة وما حل بها من خراب، وتدمير دور كبير في فضح النّظام الجائر، والكشف عن مخططاته الهزيلة، إذ سعت السّاردة (البطلة) إلى قراءة الواقع ودراسته بطريقة ذكيّة تعتمد على المنطق في تحليل الأحداث والوقائع، وانتقاد المعطيات السياسيّة الملغمة بكل جرأة، وتؤكد أنّه “في تكريت لم تكن هناك خلايا نائمة، بل إنّها حواضن حقيقيّة لهذه القوات، والكلّ كان يعرف بذلك، الحكومة المحليّة، والحكومة هناك، فمعدل التّفجيرات التي حدثت في المدينة تثبت ذلك، والعدد الكبير من الشّرطة الذين قتلوا كان يثبت أن لهم امتدادًا قويًّا في هذه الأرض… إضافة إلى الصّمت الحكوميّ كل ذلك منحهم شرعيّة الاختباء والمراوغة، وعاثوا في الأرض فسادًا، وعرفوا كل شعابها ووديانها، وانتتشروا فيها سنوات طويلة تحت مسميات عديدة. أيّ مهزلة؟”(22).
وعطفًا على ما سبق نجد أن فضاء المدينة (تكريت) يمثل ذلك “الرّكام من الصّور، صورًا الحكيّ كلّه، تشيّ بأسرار الباطن، كما تكشف الملامح، والأشياء، والأفعال، والمقاصد، والأمكنة”(23).
إنّ جملة السّمات الطوبوغرافيّة السلبيّة المسندة للمدينة تجعل منها فضاءً منبوذًا ومعاديًا، وهذا ما يدفع بالشّخصيات الرّوائيّة إلى البحث عن فضاء آخر أكثر أمنًا وهدوءًا، فضاء تتوفر فيه الراحة والسكينة، إذ يقرر سكان المدينة المنكوبة الرّحيل، والهروب من طغيان الوافدين عليها. المفسدين في أرجائها.
وتنتقل السّاردة لتصف مدينة الحويجة التي نالت حظها من الخراب والدّمار، لتكوّن شواهد عينية تفضح النظام الفاشل “ما زلنا في الحويجة تمكنا من تأجير بيت بسيط، محلات قليلة كانت تزودنا باحتياجاتنا اليومية من الأكل، أما المحلات التي تركها أصحابها فقد أستبيحت للجميع، احتلت من قبل النّازحين… كل شيء مباح في هذه المدينة الصغيرة، الحياة على حافة الهاوية، والشّتاء يجرّ ذيوله، لكنّ البرد لا زال شديدًا، والقصف مستمر، والوضع غير آمن”(24). هذه هي المدينة المستباحة التي تشيّ بالخطر، وتنذر بالموت، بوصفها التّيمة الغالبة التي ميزت كل المدن العراقيّة، وارتسمت في عقول سكانها “أصبحنا في الحويجة كالمحكومين بالإعدام من الممكن أن ينفّذ فينا في أي لحظة، المهربون يجوبون الشّوارع يعرضون بضاعتهم بلا خوف كأن هناك اتفاقًا بينهم وبين قوات داعش، القرار بالمغادرة مع أحدهم لا يعني الشّجاعة، بل هو القناعة بأنّ الموت عندها سيكون بطيئًا”(25). وظفت السّاردة في نقل الأحداث تَقنية التّصوير الدّقيق والمفصل، المعتمدة في وصف المشاهد الحربيّة في الأفلام السينيمائيّة حتى تضفي سمة الواقعيّة على الأحداث، وتبث الحياة والحركة في الشّخصيات، بالتركيز على دقائق التّفاصيل في وصف الخراب والدّمار المنتشرين في كلّ مكان، مع توظيف كل الحواس لاستيعاب الوقائع والصور المتعدّدة “أزيز الطائرات الذي كان قريبًا جدًا وكأنّها فوق رؤوسنا، أخرست الأصوات، وعمّ السّكون… فالتهبت السّماء بضوء ساطع، أعقبه دويّ انفجار صاعق… فعمّ الظلام أرجاء المكان، كنا واثقات نحن الثّلاثة أنّ البيت انهار علينا، وأنّ الطائرات استهدفتنا… فخرجنا جميعًا، وبدأ الكل يركض باتجاه الانفجار الّذي انبثق منه صراخ… الكل كان يركض وأنا معهم باتجاه الدّخان المتصاعد”(26).
وتأكيدًا على ما سبق، نجد أن لفضاء المدينة أهميّة بالغة في النّهوض بالبناء الدّلالي للرواية، وتشبيعه بجملة المحمولات الرّمزيّة بوصفه “علة تواجد العمل الرّوائيّ”(27). ويتجلى من خلاله إبداع الرّوائيّ، ذكاؤه وتمكنه من نسج الأحداث بطريقة منسجمة ومتّسقة عن طريق ربط عناصر المكان بوشائج سلسة مع بقية المكونات السّرديّة المشكلة للخطاب الرّوائيّ لأّن “المكان هو الذي يساعد على التّنظيم الدّراميّ للأحداث”(28)، كما أن تضافر العناصر السّرديّة المكوّنة للعمل الرّوائيّ تظهر الدّور الرّائد للرّوائيّ في تفعيل المكان ومراعاة تأثير المدينة على الشّخصيات التي تقطنها، وتخترق كلّ شوارعها ومؤسساتها، وعلى طبائعها وأمزجتها “فمن اللازم أن يكون هناك تبادل بين الشّخصيّة والمكان الذي تعيش فيه، أو البيبئة التي تحيط بها بحيث يصبح بإمكان بنية الفضاء الرّوائيّ أن تكشف لنا عن الحالة الشّعوريّة التي تعيشها الشّخصيّة، بل وقد تساهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليها”(29). فالحالة المزرية التي آلت إليها المدينة، وانتشار الخراب والدّمار في أرجائها أثر كثيرًا على الشخوص، وخاصة البطلة، إذ تؤكد “أنّ أصوات قذائف الهاون، وأزيز الرّصاص، والرّجال المسلحون ببنادقهم يجوبون الشّوارع، ينفذون الأوامر، صعقت القرية بوجوههم المكشوفة والمعروفة، وكأنّهم أيقنوا أنّهم تسلموا زمام الأمور، كل ذلك يجعل يومنا ونهارنا ساعات نوم قلقة، قليلة تتخللها ساعات أخرى من التّرقب والخوف، وعلينا أن نحار الموت بلا سلاح… كنت أشعر أننا نحتظر، ولكن بعيون وقحة صلفة”(30). إن الإحساس بالخوف من فوضى المدينة، وإرهاب الجماعات المسلّحة وارتفاع أصوات القذائف والرّصاص، جعل الشّخصيّة الرّوائيّة تعيش حالات التّرقب والتّوجس، والانتظار القاتل من المستقبل، والخوف المقيت السّاكن في القلوب والعقول، وهذا ما تؤكده السّاردة من خلال الملفوظ السّرديّ التّالي “كلما سمعت ضجيجًا كنت أهرع إلى الباب كي أرى إن كانت سيارات داعش ستعاود الظهور من جديد، الاعتقالات أصبحت تمارس بشكل يومي… كنت أريد أن أتخلّص من توتري في البقاء وسط جحيم الانتظار، كل شراييني كانت معلقة على ما سيحدث، وأنا أنتظر الدقائق التي قد تمر حبلى بالأحداث”(32).
إن تأزم الأوضاع الأمنيّة المتدهورة في الفضاء المدينيّ سواء في الموصل، أو تكريت، أو أربيل يزيد من توتر السّاردة، ويضاعف إحساسها بالوحشة، والرّهبة، والوحدة، ويصعّد حالات الضّيق والاختناق، وعدم الشّعور بالأمن الدّاخلي، حتى في أكثر الأماكن ألفة للبطلة التي وجدت أن “المنزل موحش، والظلام ابتلع تفاصيل الأشياء ما جعلني أتحرك في دائرة مغلقة، دائرة تضيق حولي ويتزايد شعوري بالوحدة…”(33). كما وظفت الرّوائيّة في خطابها السّرديّ تَقنية الوصف، فاتحة المجال لمقاطع تصويريّة توحي بواقعيّة الأشياء، وتساهم في تشييد النّص، وإثراء أبعاده الفنّيّة، والدّلاليّة، والجماليّة ”فللوقفة الوصفيّة وظيفة تزيينيّة، أو بنويّة، أو رمزيّة لأنها دائمًا تشكل بظهورها في النص وفي جميع الوجوه والحالات توقفًا للسرد”(34)، ويظهر الوصف من خلال المقبوس الآتي: “في المدينة الصّغيرة، في الحيّ القائم خلف بقايا السّور المهدّم، بقي الحيّ كما هو لم يتغير، هو الوحيد الذي بقي بعيدًا عن جرافات الحكومة… هرمت البيوت، وتفقت جدرانها، وتآكلت أرضياتها، وخسفت شوارعها، ولم ينبها أن تقبع خلف ذلك السور الإسمنتيّ الذي امتد مع انسيابيّة الشّارع، جارفًا معه كل ما صادفه من بيوت، والأشجار، والمحلات المتفرّعة من الأزقة، والمتناثرة على التلال المطلة على النهر…”(35).
إن اهتمام السّاردة بوصف المدينة الصغيرة، وذكر جميع التفاصيل، وتشخيص خصائصها وبنياتها، يعزز فكرة الإيهام بواقعيتها بالنسبة إلى المتلقي، إذ تبدو حقيقية في تصوره، وتجعل “القارئ يقوم بعملية قياس منطقي، فما دامت هذه أحياء وشوارع حقيقية، إذن فكل الأحداث التي يحكيها الرّوائيّ هي كذلك تحمل مظهر الحقيقة، فالأمكنة وتواترها في الرّواية يخلقان فضاء شبيهًا بالفضاء الواقعي، وهما لذلك يعملان على إدماج الحكي في نطاق المحتمل”(36).
2ـ تصدّع الذّات وهشاشتها
تؤسس رواية “صيادو الريح” لفكرة البحث عن الهُوية التي تصدّعت في فضاء مفقود، وزمن ضائع يشوبه الرّفض والنّكران، وطن ممزق بين براثين الدّواعش من جهة، وفشل العديد من الأنظمة والسياسات المتعاقبة عليه من جهة ثانية، وطن مشحون بالتناقضات، مسكون بالإيديولوجيات، لأن “الوطن فضاء الهُوية بامتياز، هو منطلق ومنتهى الكينونة، من أبسط مكان، أو مشهد، أو صورة، أو علاقة فيه، إلى امتداداته كشذرات، وصور استعادة، وتذكر، وكحاجة وفقدان في الشّتات والمنافي وأوطان الغربة”(37). وفي خضم الأحداث تسعى السّاردة إلى استيعاب مفهوم الوطن وسط الشّتات المسيطر على أحاسيسها وزمنها إذ تقول: “تكدّس الألم في قلبي، وأحسست أنّ يدًا ثقيلة تعتصر كل حياتي، بل وتتجاوزني لتضعني أمام احتمال واحد هو عدم الثّقة بالزّمن، وإلى بعد ساعة واحدة قادمة من الآن، هذه القناعة جعلتني أقف متجمدة في وسط البيت أتلفت ضائعة، وطني إن ضاع، فوطني المحتمل لا يتعدى جدران بيتي هذا، الذي ستجعله تلك القذائف والصواريخ العشوائيّة يتداعى، فلا يصبح لي وطن مهما كان ضئيلاً، حالة مفرطة من الأنانية، واليأس، والتلاشي”(38).
إنّ إحساس الخوف من فقدان الوطن، الوطن العامّ ”العراق”، أو الوطن الخاصّ “البيت” يجعل الشّخصية البطل مرتبكة تعاني اليأس ما يعمّق لديها إحساس التلاشي والانهيار، لأنّها “ترصد صيرورة الوّعي بالفضاء كسند للهُويّة لدى الشّخصية الرّوائيّة”(39). ويزداد الشّعور بالغربة والاغتراب في فضاء الوطن المشحون بالنّزاعات والمسكون بالصّراعات عندما تعلن الساردة خلو المدينة من أهلها وقاطنيها، إذ تصرّح أنها “لم أفكر في الذّهاب إلى السّوق القريب على ناصية الشّارع الذي يبعد أمتارًا قليلة عن البيت، لكن كيف يتسنى لي الخروج؟ وأنا أطأ أرضًا لم أعد أعرفها، أو التّعامل معها، الجيران، والأصدقاء، والنّاس الذين كنت أعرفهم، كلهم رحلوا ولم يعد في الحي سوى بيت أو بيتين فقط… وأنا هنا وحيدة، لا أعرف الطّرقات التي أثقلت بالخطوات المتواترة لهؤلاء القادمين، ولا أمل في مغادرتهم… كل المحرمات تكسر خطوات الزمن في زوايا المدينة، وشوارعها، المحرمات تكبل الحياة في كل مكان”(40).
فالحرب القائمة في البلاد، والخوف المسيطر على قلوب النّاس، دفعهم إلى الرّحيل من منازلهم، إلى وجهات متعدّدة ما أدى بالسّاردة إلى إحساسها بجهلها للمكان، وعدم تعرّف خصائصه، وتمييز معالمه “فعندما يخلو الوطن من أهله فإنّه يصبح مجرّد خريطة فارغة لا تبعث على الحلم، أي على الحياة والتحدي”(41). فالإنسان يشعر بالأمن والأمان في وطن يحتضن سكانه، فتدبّ الحياة في كلّ شيء، النّاس، الشّوارع، الأسواق، المدارس، المقاهي… فتتوطّد العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد، وتزدهر البلاد، وينمو الاقتصاد “فهذا الإدراك العميق لمعنى الوطن، هو الذي يحوّل الأحاسيس إلى وعي، ويجعل من الوعي بالفضاء مادّة حيّة للفعل والديناميّة، والانتماء إلى التاريخ أي إلى الزمن”(42).
لكن خلو الوطن من معاني الألفة والحماية، وافتقاره لشروط الحياة الكريمة، ونكرانه لذات سكانه يجعل الشّخصيّات الرّوائيّة تشعر بالتّمزق في ذواتها، وتعلن بصراخها العالي رفضها له، وشعورها بالغربة والاغتراب في أحضانه، فيصبح فضاءً منبوذًا مرفوضًا، وهذا ما يشير إليه النص الآتي: “أيّ وطن هذا الذي يبارك إقصاءنا، ويرتضي إخصاءنا جميعًا، بإذكاء هذا الشعور من الخوف والقلق، والشعور بالعزلة، تلفظنا أحضان الوطن إلى خنادق الغربة والمنافي”(43).
إنّها الحرب لغة المحو والإقصاء، لغة الموت “إنّه صمت الموت المهيمن على المكان كوجه آخر مكتمل لوجه التّدمير الذي يأتي به القمع من الخارج إلى الدّاخل”(44). إقصاء الوجود والذّات، الذّاكرة والتّاريخ، هذا ما يجعل جدار الهُوية أكثر هشاشة، أقرب إلى التّصدع والتّشقق، ما يولد في نفس الشّخصيات الرّوائيّة الكثير من الكراهية والحقد على من تسبب في الحرب والفتنة وتمزق العراق، وتشتت شعبه، هذا ما نستشفه من المقبوسات السردية الآتية:
“ــ قال زوج عمتي: الخوف من الغد، دماء هؤلاء الشّباب ستتعلق في رقابنا، ورقاب أولادنا وأولاد الكلب، كيف لنا أن ننجو من مخططاتهم؟”(45)
“ــ من أمام منزلنا يريدون إصابة الطائرات، يا إلهي لا أتصور الوضع مع هؤلاء الأغبياء”(46).
“ــ أنا هربت، هربت خوفًا عليكم، الأغبياء لو لا رحمة الله لكنا الآن جميعًا في العالم الآخر”(47).
“ــ … والذي يلقى متنفّسًا له، كلّما هفت حادثة، أو صرخة ترافقها شتيمة مقذعة فيتهافت الآخرون، وقد تناثر السّباب، والشّتائم الفاحشة… أولاد الكلب أنتم والزمن علينا”(48).
إنّ إدراج جملة الصّفات السّلبية والوضيعة، وإلحاقها بعناصر تنظيم داعش والمتمثلة في الصفات الآتية: الأغبياء، أولاد الكلب، السّباب، الشّتائم الفاحشة، تنم عن الكره الشديد والحقد الدّفين الذي يكنه الشّعب العراقي للدّواعش، لأنّهم سبب الحالة المأسوية التي آلت إليها البلاد، وانحدارها إلى مستنقع الموت والهلاك والضّياع، واستفحال مظاهر الرعب والخوف في نفوس الشعب العراقي، وإحساسهم المتواصل بالقلق والألم في وطن ممزق هزّ كِيانهم، وعبث بذواتهم، ما يجعل الشّخصيات الرّوائيّة تدخل حيز الخذلان والرّفض، وتصر على السّمو بالذات والشغف بــ”الأنا” و”النحن”، “تنتابني مشاعر أثيرة، تزدحم، وتتنافس في الظهور، لكنني أكْبِتُها، يموت المكان إذًا، ونبقى نحن، والزمن والشوق الذي سيستمر طويلاً هذه المرة، لأننا جئنا من مدينتنا الصغيرة لنفترق، لكي نسافر إلى حقول مزروعة بالموت، بيوت مزروعة بالخوف”(49). كما تدخل السّاردة في صراع نفسيّ حادّ، ومرير مع نفسها، وتتساءل بصوت جريء عن جدوى وجودها، وحقيقة كينونتها، وفاعلية وطنيتها ما يساهم في تعميق إحساسها، بانشطار هُويتها، وخصوصًا أنّ السّرد في الرّواية جاء بضمير المتكلم على لسان الشّخصية المحوريّة التي تعمدت الكاتبة عدم ذكر اسمها، لأنهّا تحمل كل الأسماء، وتطرح كل التّساؤلات والإشكاليات، لأنّ الرّواية رحلة بحث عن الهُوية المضطربة في زمن الحرب، والشّتات، والضّياع، ومحاولة ترميم الذّات المتصدّعة من هول الأحداث، إذ يظهر اضطراب البطلة من خلال قولها: “بدأت أشعر وأنا أتجوّل في شوارع المدينة القديمة أنّني أريد أن أهرب من التّفكير في أنّنا غرباء في وطننا، هاربون من جلودنا، منفيون في انتظار قرار الإفراج القادم من بغداد على وقع المدافع، حالمون بالسّاعة التي تتغير فيها حياتنا، ونعود إلى أطلال مدينة كانت لنا”(50). وانطلاقًا من فضاء المدينة يكشف هذا النّص السّردي قضية أساسيّة تتمثل في الهُوية الجماعيّة، والتأثر بالوعيّ الجمعيّ، وتحديد الموقف العامّ من الوطن، ومحاولة استيعاب مفهومه، وتحديد أطره وسماته في زمن ضائع، وحرب دامية، وفي ظل هزات متتابعة “قد يكون ما حدث هزة عنيفة دامت عامًا كاملاً، هزة زعزعت كل اعتقاداتي القديمة حول الوطن، أنا واثقة أن ذلك لم يكن ناجحًا… لم يكن وطننا الواحد لم تلمّنا أربيل، لم تمنع عنا إحساس الغربة…”(51).
يشي النّص السّرديّ السّابق بموضوع الهُوية، واضطراب مفهوم الوطن الذي اكتسى طابعًا باهتًا، وحمل معنى شاحبًا، ما أدى بالشّخصيّة البطلة إلى الشّعور بالتّهميش والإقصاء، ما يدفعها إلى التنكر لوطنها، وإلغاء كل إحساس بوجوده خصوصًا بعد انتشار الخوف في أرجائه “في هذه اللحظة الحاسمة، وأنا أتردّد في محاولة للمخاطرة بالذّهاب إلى مسافة عشرة أمتار بعيدًا عن بيتي، يقزّمني الخوف، وأبقى وحيدة ضائعة يقرفني العطش، ويحبطني، لا أجد قطرة ماء بارد، أو لقمة خبز، أيّ وطن كسيح هذا؟ أيّ إنسان هامشيّ أنا؟ يغرقني الألم ويعجزني”(52). وأمام هذا الوعي الشّقيّ بمفهوم الوطن، تحاول لمياء الألوسيّ رسم صورة واضحة للخيبة والخذلان، والإحساس بالانهيار والهروب حتى من الأنا، ويظهر ذلك من خلال النّص السّردي الآتي “أعتقد أنّني أخذت عزائي الآن في وطني، وفي نفسي، وفي بيتي، ما عاد شيء يرضيني سوى أن أحاول التملّص من جلد الإنسان الذي أحمله على عاتقي، كم أشعر بثقله الآن”(53).
إنّ الحالة الاجتماعيّة الكارثيّة التي يعيشها الشّعب العراقيّ، بين الهجرة والنّزوح إلى أمكان متعدّدة من جهة، والرّغبة في البقاء والحياة من جهة ثانية، دفع بالألوسيّ إلى رسم صورة ناضحة لمعاناة الشّخصيات، وألمها في فصول متأزّمة من العمل الرّوائيّ، نتيجة فقدان أساسيّات الحياة الكريمة، وانتشار الجوع، وانقطاع التّيار الكهربائيّ، والتّركيز على العطش، وانعدام الماء البارد الذي عانت منه البطلة كثيرًا “سيصبح الماء باردًا بما يكفى، لكنني لم أتمكن من الانتظار طويلًا، كنت أقف أمام العبوة التي لها لون الطين المترسب في أسفلها، شربت بمتعة، ولذة فريدة لم أشعر بها من قبل، شربت، وكنت أتمنّى أن لا ينتهي الماء البارد أبدًا، يا أيّها الإله العظيم، ألم يكن بمقدورك أن تبقي آدم في جنتك؟ وتنقضنا من تناسل هذا العنصر الأحمق الذي يسمى الإنسان”(54).
أمام هذه المحن المتكرّرة، والأزمات القاسية، لا تملك البطلة إلا أن تثور وتنتفض بشدة، رافضة الإنسانيّة، متنكرة لوجود الإنسان كونه أنانيًا وأحمق، وهو المتسبب دائمًا في الآلام، والمآسي، والحروب، إذ تسعى الرّوائيّة في هذا المقام إلى اِستنطاق تجربتها الاِنفعاليّة من خلال الذّات السّاردة، وإماطة اللثام عن الوعيّ بالفضاء والزّمن في الرواية هذا الوعي الذي يتجسّد من خلال فضاء المدينة المنكوبة، بوصفها “آلية تعيد خلق ماضيها باستمرار”(55).
عنف المدينة والفوضى المنتشرة فيها كان سببًا في هشاشة ذات الشّخوص، وتصدّع الوعيّ الجمعيّ في الرّواية، وهو السّبب نفسه الذي دفع لمياء الألوسيّ إلى اتّخاذه “ليس مجرّد تَقنيّة، أو قيمة، أو إطار للفعل الرّوائيّ، بل هو المادّة الجوهريّة للكتابة الروائية”(56).
فعلاقة الشّخصية بفضاء المدينة يتجسّد من خلال عامل التّواصل، إذ لا يتحقّق الوجود الإنسانيّ إلا في فضائه، وما ينتشر فيه من حركات، وأصوات وضوضاء تشي بوجود نبض الحياة فيه، وهذا ما نلمسه في النص الآتي “تناهى إلى سمعي صوت طفل، قفزت، لم يكن حلمًا، بل كان صوت طفل، وطفل آخر، وكركرات قريبة، ثم تلقفت بعض العبارات الدّارجة، لم أكن أحلم، أجل… لقد كانت أصوات بشرية لأطفال من المنطقة يتحدثون، ويضحكون بصوت عالٍ”(57).
إنّ الإحساس بالأمن والسّكينة في فضاء يعجّ بالحركة، الصّراخ، والكركرات، والأصوات يزرع الفرحة والأمل في نفس البطلة، ويجعلها بمنأى عن الخوف الذي سكنها طويلاً، ويشعرها بوجودها، وارتباطها بعالمها الواقعيّ، عالم المدينة. “تأكّدت أنّ الأصوات حقيقيّة، الحياة… هناك حياة في الخارج، يا ربّ السّماء أصوات في الخارج… خرجت مسرعة لم أشعر بالخوف يا إلهي، كم بدا هذا الإحساس رهيفًا، ورقيقًا، أن تتحرّك من دون خوف، إنّهم أطفال حقيقيون، هذا شيء أكيد”(58).
وانطلاقًا مما سبق نجد أنّ الشّخصيّة البطلة، تشرع في ترميم ذاتها المتصدّعة، وتزيّين نفسها المشوّهة بعدما أدركت حقيقة وجودها، وضرورة التّصالح مع نفسها وفضائها (البيت، المدينة، الوطن)، ويظهر ذلك من خلال قولها “كم أحتاج أن أضع قدمي من جديد، كي أتمكن من اكتساب القناعة الكاملة، أو المنقوصة في استعادة الحياة، كي أجد عنوانًا جديدًا لوطن يمنحني يقينًا جديدًا”(59). من هنا تبدأ رحلة التّشييد الذّاتيّ، ومغامرة التّرميم الهُويّاتيّ، بالعودة إلى مدينة تكريت، إلى فضاء المدينة، إلى رحم الوجود وهذا ما نستشفه من قول السّاردة “هكذا إذًا ملأت الاستمارة، لا أريد تقبّل إلا فكرة العودة إلى الدّيار باكرًا، إلى بيتي… وأنا أعلم جيدًا أنّ الوضع هناك لا يبشّر بخير، لكنّني أردت العودة بصدق، وكأنّ تعويذة سحرية ربطتني بتلك الدّيار، عندما قطع حبلي السّريّ”(60).
إنّ الرّغبة الشديدة في العودة إلى (البيت/ المدينة) وبشعور صادق، لا زيف فيه، ولا نفاق يرمز إلى الرجوع إلى الأصل والمنبت، والعودة إلى المبادئ، والقيم السامية المفقودة، كما يحيل أيضًا إلى طلب الهدوء، والسّكينة المنشودة، ومعالجة الاختلال واللاتوازن الذي عانت منه البطلة لمدّة طويلة “فالبيت الذي ولدنا فيه بيت مأهول، وقِيم الألفة موزعة فيه، وليس من السّهل إقامة توازن بينها”(61)، وتتعزز هذه القِيم بوصول الشّخصيّة البطلة إلى بيتها فتلمح دلالات الحياة، والاستمرارية من خلال توظيف قرينة ترمز إلى معاني التفاؤل والتجدد والأمل، والمتمثلة في شجرة السّرو الخضراء، التي ظلت صامدة على الرّغم من كل تفجيرات القنابل والقذائف “شجرة السّرو الوارفة على باب الدّار، هي وحدها التي منحتني بركتها، كانت خضراء يانعة، وكأنها تعلن أنّ الحياة ما زالت بخير”(62).
وصفوة القول، إنّ الكاتبة قدمت صورة واضحة لمدينة عانت ويلات الحرب والشّتات، بسبب فشل المنظومة السياسيّة، وانهيار الصّرح الأخلاقيّ، وغياب المعيار القيميّ، وازدياد التآمر والتكالب الظاهر والمضمر على العراق، والرّغبة في جره إلى مستنقع الدّمار والخراب بانتشار الاجتياح الدّاعشيّ فيه، ما ساهم في طغيان العنف في الفضاء المدينيّ (تكريت، الموصل، أربيل)، وسيطرة الرّعب والخوف على نفوس الشّخصيات الرّوائيّة، ما أدى إلى تصوير نماذج بشرية صاخبة، مضطربة وممزقة، وذوات متصدّعة، وهُويات هشّة، فاقدة لمعاني الوجود، والتّاريخ والزّمن، إذ تطرح الكاتبة قضيّة الوطن، وصراع الواقع واللاواقع، الوعي واللاوعي، المنطق واللامنطق في بناء سردي مفعم بالأحداث والمقاطع الوصفية الدقيقة للأماكن والشّخصيات، والرؤى لتعرية الواقع المرير، وفضح كلّ المخطّطات المبيّتة، وإدراك الحقائق المخفيّة. الحقيقة الثابتة والقويّة التي تراها الكاتبة لمياء الآلوسيّ حلاًّ للأزمة، والمتمثّلة بضرورة العودة إلى الدّيار، واحتضان فضاء المدينة.
الهوامش
1ـ ميشال بوتور: بحوث في الرواية الحديثة، تر. فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط3، 1986، ص 120.
2ـ نجيب العوفي: مقاربة الواقع في القصة المغربية، المركز الثقافي العربي، (د.ط)، 1987، ص 57.
3ـ ابن منظور: لسان العرب، المجلد 13، دار صادر، بيروت، لبنان، (د.ط)، (د.ت) ص 40.
4 ـ عبد الرحمان بن يطو: هُوية المدينة وشكلنة الوعي الجمعي، مجلة اللغة والأدب، جامعة الجزائر 2، العدد 18، نوفمبر 2008، ص 81.
5ـ لمياء الآلوسي: صيادو الريح (رواية)، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة تونس، ط1، 2018.
6ـ لمياء الآلوسي: قاصة وروائية عراقية، من مواليد مدينة تكريت، تعد رواية “صيادو الريح” أول عمل روائي لها.
7ـ الرواية: ص19.
8ـ نجم والي: بغداد سيرة مدينة، دار الساقي (د.ت)، (د.ط) ص 24.
9ـ عبد الرحمن بن يطو: هُوية المدينة وشكلنة الوعي الجمعي، ص 82.
10ـ الرواية: ص 20.
11ـ شاكر النابلسي: جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1994 ص 33.
12ـ الرواية: ص 24.
13ـ المصدر نفسه: ص 46.
14ـ المصدر نفسه ص 47.
15ـ المصدر نفسه، ص نفسها.
16ـ نفسه، ص 34.
17ـ حسن نجمي: شعرية الفضاء المتخيل والهُوية في الرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، 2000، ص 144.
18ـ الرواية، ص 50.
19ـ المصدر نفسه، ص 51.
20ـ المصدر نفسه، ص 221.
21ـ نفسه ص 40.
22ـ نفسه ص 221.
23ـ حسن نجمي: شعرية الفضاء ص 138.
24ـ الرواية ص 278.
25ـ المصدر نفسه ص 279.
26ـ نفسه ص 110.
27ـ حسن بحراوي: بِنية الشكل الروائي (الفضاء، الزمن، الشخصية) المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط2، 1998، ص 84.
28ـ المرجع نفسه، ص 32.
29ـ نفسه ص 30.
30ـ الرواية ص 71، 72.
31ـ المصدر نفسه، ص 81.
32ـ المصدر نفسه ص 73، 74.
33ـ المصدر نفسه ص 209، 210.
34ـ حسن بحراوي: بِنية الشكل الروائي، ص 176.
35ـ الروائية ص 188، 189.
36ـ حميد لحمداني: بِنية الشكل السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط3، 2000 ص 65.
37ـ حسن نجمي: شعرية الفضاء، ص 159.
38ـ الرواية، ص 223
39ـ حسن نجمي: شعرية الفضاء، ص 161.
40ـ الرواية، ص 224.
41ـ المصدر نفسه، ص نفسها.
42ـ حسن نجمي: شعرية الفضاء، ص 160.
43ـ المرجع نفسه، ص نفسها.
44ـ سامي سويدان: المتاهة والتمويه في الرواية العربية، دار العلوم للنشر، بيروت لبنان، ط2، (د.ت)، ص 45، 46
45ـ الرواية، ص 53.
46ـ المصدر نفسه، ص 56.
47ـ نفسه، ص 59.
48ـ نفسه، ص 61.
49ـ نفسه، ص 275.
50ـ نفسه، ص 276.
51ـ نفسه، ص 282.
52ـ نفسه، ص 224، 225.
53ـ نفسه، ص 225.
54ـ نفسه، ص .236
55ـ يوري لوتمان: سيمياء الكون، تر. عبد المجيد نوسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2011، ص 194.
56ـ حسن نحمي: شعرية الفضاء، ص 59.
57ـ الرواية، ص 235.
58ـ المصدر نفسه، ص نفسها.
59ـ نفسه، ص 282.
60ـ نفسه، 284.
61ـ غاستون بشلار: جماليات المكان، تر. غالب هلسا، منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 1984، ص 43.
62ـ الرواية، ص 294.
المصادر والمراجع
أـ المصادر
لمياء الآلوسي: صيادو الريح (رواية)، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، ط1، 2018.
ب ـ المراجع
1ـ حسن بحراوي: بِنية الشكل الروائي (الفضاء/ الزمن/ الشخصية) ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1990.
2ـ حميد لحمداني: بِنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط3، 2000.
3ـ حسن نجمي: شعرية الفضاء ــــ المتخيل والهُوية في الرواية العربية ــــ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2000.
4 ـ شاكر النابلسي: جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، ط1، 1994.
5 ـ سامي سويدان: المتاهة والتمويه في الرواية العربية، دار العلوم للنشر، بيروت لبنان، ط2 (د. ت).
6 ـ عبد الرحمن بن يطو: هُوية المدينة وشكلنة الوعي الجمعي، مجلة اللغة والأدب، مجلة أكامديمية محكمة، يصدرها قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر2، العدد18، نوفمبر 2008.
7ـ غاستون باشلار: جمالية المكان، تر. غالب هلسا، منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 1984.
8 ـ ميشال بوتور: بحوث في الرواية الحديثة، تر. فريد أونطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط3، 1986.
9ـ نجم والي: بغداد سيرة مدينة، دار الساقي (د. ت)، (د. ط).
10ـ نجيب العوفي: مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية، المركز الثقافي العربي، د.ط، 1987.
11ـ يوري لوتمان: سيمياء الكون، تر. عبد المجيد نوسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2011.
المعاجم
- ابن منظور: لسان العرب، المجلد 13، دار صادر، بيروت لبنان، (د. ط)، (د. ت).