“البشير” (1870 – 1947) جريدة شاهدة للحقّ في عصرها دراسة تاريخيّة (القسم الثاني)
الخوري الدكتور مخائيل قنبر*
بعد أن عرضنا في القسم الأوّل من بحثنا نشأة جريدة “البشير”، ووصفنا مراحل تطوّرها، ولفتنا الانتباه إلى مبدئها، وعدّدنا بعضًا من أسماء مديريها، ورؤساء تحريرها، وأقلامها، وتوقّفنا عند الشّخصيّات البارزة منهم، وحدّدنا سياستها ورسالتها على ضوء علاقتها مع الصُحُف الأخرى المعاصرة لها، وأضأنا على احتجاباتها القسريّة، مُبيّنين أسبابها، نعمد في هذا القسم إلى التعمّق أكثر في رؤيتها ونهجها، فنتوقّف بادئ الأمر عند مفهوم الحقّ الذي اتّخذته لها شعارًا، ومن ثــَــمَّ نستعرض محاربتها البدع، والتيّارات الفكريّة، والإيديولوجيّة المناقضة لمفهوم الحقّ في تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة، ونتبيّن بعدها كيف رفعت راية الأخلاق العامّة في وجه الانحدار الأخلاقيّ، فكانت عن حقّ “ضمير الأمّة”. نضيء بعد ذلك على البعض من مواقفها التي جعلت منها صوت الّذين لا صوت لهم في وجه الاحتكار، والغلاء، والجوع، والبطالة… ونختم بحثنا في تحليل طروحاتها السّياسيّة، مظهرين تحيّزها للدّولة الفرنسيّة، ومُبيّنين كيف أنّها فضّلت توقيف صفّ حروفها، وإغلاق أبوابها نهائيّا على التّراجع عن خِياراتها السياسيّة، ومُعاداة الدّولة اللّبنانيّة الناشئة سنة 1947. وسنوثّق الاقتباسات من أعداد جريدة “البشير” في متن بحثنا على الشّكل الآتي: (عدد، سنة، صفحة رقم…، عمود رقم…) وهذا مثال على ذلك (عد 5242، 1937، ص 1، ع 2).
تصدّرت آية الإنجيل ﴿تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم﴾ أعداد جريدة “البشير” طيلة سبع وسبعين سنة. فما هو هذا الحقّ وهذه الحقيقة بالنسبة إليها؟ الحقيقة هي من الكلمة اللَّاتينيّة Veritas، مشتقة من كلمة Verus، “صحيح” وهي التّطابق بين الافتراض والواقع الذي يشير إليه هذا الافتراض. والحقّ والحقيقة كلمتان مترادفتان، فالحقيقة تعبِّر عن جوهر الحقّ وفحواه. والحقّ في المسيحيّة ليس فكرة إنّه شخص السيّد المسيح، ﴿أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالحقّ وَالْحَيَاةُ﴾ (إنجيل يوحنا 14: 6). يكشف الحقّ حقيقة الوجود ومعناه، حقيقة الله التي يستطيع البشر تقبُّلها من دون تحديدها، أو حدِّها لأنّ الله غير محدود، ولا مُدرَك. من يعرف الله يعرف ذاته وغاية حياته. لا يستطيع الإنسان أن يعرف كُنْهَ الوجود والهدف من وجوده من دون استعلان هذه الحقيقة له من فوق… من الخالق نفسه… والفلسفة بحثت أيضًا عن الحقّ والحقيقة، لأنّها تريد أن تعرف، فالحقّ، على ما قال أرسطو، هو الذي يحرّك فضول الإنسان، وهو الذي يجعل المعرفة ممكنة. لذلك يجب أن نبحث عن الحقيقة، لأن طبيعة وجودنا تدفعنا إلى ذلك، بينما يمنحنا العقل الوسائل. وقد مكّن الحقّ البشر من الخروج من الجهل، وكان المحرّك الذي قادهم إلى معرفة الذّات وإلى العالم من حولهم… بفضل الحقّ، يمتلك الإنسان المعايير التي تسهم في مقاربته لأمور الحياة. ولا شكّ في أنّ الصِّحافة كانت ولا تزال من أهمّ الوسائل التي تنصر الحقّ، وتنشر الحقيقة، وهذا ما سعت إليه “البشير” طيلة حياتها. ولعلّ ما قاله الأب لويس شيخو اليسوعيّ أحد أكثر أدباء القرن العشرين أهمّيّة، يُبيّن من دون أدنى شكّ رسالة الصِّحافة في إعلاء شأن الحقّ: “إنّها لشريفة مهنة الصِّحافة، ورتبة الكتابة في الهيئة الاجتماعيّة. إذ يجرّد الكاتب قلمه لخدمة كلّ مشروع صالح، وكل مسعى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة قسم الآثار.
حميد من شأنه ترقية الخير العامّ، ورفع شأن الوطن” (دي طرازي ج1، 1913 : 18).
- البشير والبدع والتّيارات الفكريّة والإيديولوجيّة
حاربت الكنيسة بقوّة البدعة الماسونيّة في بداية القرن العشرين، وقد أصدر البابا لاون الثالث عشر تحذيرًا إلى جميع أقطار العالم حول غاية الماسونيّة نشرته جريدة “البشير” سنة 1884، وهذا بعض ما ورد فيه: “أمّا غاية الماسونيّة فهي أن تقلب كلّ نظام دينيّ، وسياسيّ متولّد عن الدّيانة النّصرانيّة، وتقيم بدلًا منه نظامًا مبنيًّا على الطبيعة. همّ الماسونيّة أن تبيد الله وكنيسة يسوع المسيح، والبابا لأنّها لا تريد أن يكون الله خالق العالم. فإذا سألنا الماسونيّين من خلقكم ووضعكم في العالم فيجيبك بعضهم أنّه لا يعرف، وبعضهم يقول إنّه خلق من قوّة الطّبيعة…” (عد 30 تموز، 1884، ص 1، ع 1) بعد تحديد غاية الماسونيّة على لسان البابا أوردت “البشير” مقالات، ودراسات وإرشادات متعدّدة حول هذه الفئة وغاياتها، وكيفيّة تجنّب “حبائلها المهلكة” نورد بعضها بعد التّطرّق إلى رسالة المكرّم البطريرك الياس الحويّك سنة 1923، استنادًا إلى الرّسالة البابويّة المذكورة سابقًا. فقد وجّه البطريرك المذكور رسالة إلى المؤمنين تحت عنوان “رذل الماسونيّة” يعلن فيها رشق أعضاء الماسونيّة بالحرم الكبير، نشرتها “البشير” سنة 1923. وما جاء في الرّسالة: “إنّهم يأبون الارعواء عن غيّهم والانتصاح بنصائحنا الأبويّة، فإنّنا مستعدّون أن نعلن حرمهم بأسمائهم، ونشرهم مقطوعين من جسم البيعة ومن شركة المؤمنين ومن الدّفنة البيعيّة” (عد 3019، 1923، ص 1، ع 1). أمّا ما جاء من دراسات، وإرشادات، ومقالات في هذه الفئة فهذا بعضها: “بسمارك والفرنماسون” (عد 515، 1880، ص 1، ع 1)، “اعتصاب فرنماسون العالم بأسره يدًا واحدة على مقاومة الإكليروس” (عد 157، 1880، ص 1، ع 1)، “المستر برادلو والماسونيّة (عد 30 تموز 1884، ص 1، ع 3)، “خلاصة التّعاليم الكاثوليكيّة، والحقائق التّاريخيّة في الشّيعة الماسونيّة” (عد 1928، 1909، ص 3، ع 3)، “الادّعاءات الماسونيّة” (عد 3551، 1926، ص 1، ع 1). وقد اعترف أنصار الماسونيّة أنّ جريدة “البشير” هي عدوّهم الأول، وقد جاء في كتاب جرجي زيدان عن الماسونيّة الآتي: “وأشد مقاومي الماسونيّة في سوريا جماعة الجزويت، وقد أنشأوا لهذا الغرض وغيره جريدة دينيّة في بيروت دعوها جريدة البشير، وموضوعها مقاومة كلّ المذاهب و،الأديان إلا المذهب الكاثوليكيّ، والإيقاع بكل الجماعات إلا جماعة الجزويت، وليس من غرض كتابنا التكلّم عما وراء ذلك” (زيدان 2013: 110).
ومن المذاهب التي حاربتها جريدة البشير، مذهب العدميّة Le nihilisme والعدميّة بحسب تعريف الموسوعة العربيّة الميسّرة “مذهب كان له أتباعه في روسيا في القرن التاسع عشر، وهدفه هدم الأوضاع السياسيّة، والاجتماعيّة الفاسدة القائمة في “روسيا” بصرف النّظر عن طبيعة الأنظمة الصّالحة التي يجب أن تحل محلّها. وتميّز أنصاره بتحبيذهم الإرهاب، والاغتيال السياسيّ، ولذا عُدُّوا مسؤولين عن اغتيال القيصر إسكندر الثّاني، غير أنّ الطابع العامّ للقوميّة كان سلبيًّا، ولذلك غمرتها التّيّارات الفكريّة والسياسيّة الأخرى” (الموسوعة العربيّة الميسّرة، 1981: 2225). وقد جاء تحديد العدميّة على صفحات جريدة “البشير” كالآتي: “هو مذهب العدميّين كما يشير إلى ذلك اسم أصحابه. هو مذهب سلبيّ وما مباديه إلّا مبادي الدّمار، لا يعرف الحكام، ولا حقوق العائلة، ولا حقّ الملكيّة، ولا شرعًا، ولا قانونًا، ولا جنودًا، ولا كهنة، ولا ملكًا، ولا بابا، ولا إلهًا” (عد 31 آذار 1881، ص 1، ع 2).
ومن النّظريّات التي وقفت لها “البشير” في المرصاد نظريّة داروين “الذي قال إنّ أصل الإنسان من فصيلة القرود”، وقد حمل هذه النظريّة إلى لبنان، ونشرها في بعض الجرائد البيروتيّة الدكتور شبليّ شميل، وترجم كتابًا بهذا المعنى، فنصحت “البشير” قرّاءها “وذوي العقول والأذواق السليمة أن ينبذوا هذا الكتاب لأنّه ساقط بالإجماع من حيث الدّين والعلم، أمّا من حيث الدّين فلأنّه مناقض لنصّ الكتاب المقدّس، ولأنّ معرّبه قصد به تقوية مذهب الماديّين والمعطلة، وأمّا من حيث العلم فلأنّ حججه الواهنة وآراءه السّاقطة ليست مبنيّة على ركن فلسفيّ يُركن إليه، إنّما أساسها على رمل الافتراضات المستحيلة، وبخار التّخيّلات الواهية. ولا يخفى على ذوي الألباب ما يصدر عن هذا الكتاب من تشويش العقل في الدّين والعلم معًا” (عد 16 تموز 1884، ص 1، ع 1). وقد جاء في “البشير” مقالات علميّة عدّة للردّ على هذه النّظريّة لعلّ أكثرها أهمّيّة مقال بعنوان: “في أصل الإنسان وطبيعته” (عد 16 حزيران 1886، ص 1، ع 2).
تيّار العلمانيّة من التيّارات التي حاربتها جريدة “البشير”. وفي تحديد العلمانيّة، ردًا على سؤال “ما هي العلمانيّة؟” التي طرحته البشير، كان الجواب على الشّكل الآتي: أهي اللاطائفيّة نفسها، أم قتل رجال الدّين، والانصراف عن المسجد، والكنيسة إلى المحفل المثلّث الأنوار؟ اللاطائفيّة!… ونحن أوّل من يسير تحت لوائها الخفّاق، ونحن أوّل من يطلب فصل السّياسة عن الدّين، أمّا علمانيّتكم تلك العلمانيّة المشوّهة، النّاهدة إلى قتل الدّين في سبيل المحفل فإنّنا لنعرض عنها إعراضًا: لا لأنّها “العلمانيّة، بل لأنّكم نفثتم فيها روحًا خبيثة هي السّمّ التي تجول في عروقه هذه الروح”. كانت الحملة التي شنّتها جريدة “البشير” على هذا المذهب حملة جريئة، إذ كانت موجّهة إلى “حاكم لبنان”، الفرنسي كايلا([1]) أحد أتباع هذا المذهب في تلك الأيام، الذي صرّح في إحدى تصريحاته عن وجوب إنشاء المدارس العلمانيّة في لبنان، على غرار مدارس فرنسا العلمانيّة، وما جاء في تصريحه: “لا يوجد لسوء الحظ في لبنان مدارس وطنيّة، بل توجد مدارس مذهبيّة، فنحن نريد إنشاء مدارس حقيقيّة، تقوم على المبدأ العلمانيّ الذي لا يفضّل مذهبًا على آخر… إنّني أثني على المدرسة العلمانيّة لأنّها تُخَرِّج شبّانًا ليس فيهم تلك الروح المعروفة، بل هم يعملون بروح المدرسة وتعاليمها التي لا تفضّل فريقًا من أبناء الوطن على الآخر”. وقد كان لهذا التّصريح ردّة فعل عارمة من قِبَل رجال الدّين المسيحيّين والمسلمين. وما جاء في ردّ المطران أغناطيوس مبارك على الحاكم: “نحن نشجب العلمانيّة التي في واقع الفعل تحقّر الأديان كافّة على السّواء… انبذوا المبادئ العلمانيّة، وتمسّكوا بالمبادئ الدّينيّة التي لها وحدها أن ترقّي الإنسان أدبيًّا، ومادّيًّا، ودافعوا عن إيمانكم وعقائدكم” (عد 3308، 1925، ص 1، ع 1). وما جاء في توضيح عن ماهيّة المدارس العلمانيّة في ذلك الزّمن: “المدارس العلمانيّة اللادينيّة لا تحترم الأديان، وأنّ دعاة العلمانيّة لم يحاربوا الدّين بالقول فحسب، بل حاربوه بالفعل أيضًا، فإنّهم قد منعوا الله، سبحانه وتعالى من الدّخول إلى المدارس” (عد 3315، 1925، ص1، ع 1).
كان هذا عرضًا موجزًا لأكثر التيّارات أهمّيّة، التي حاربتها “البشير” بهدف إرشاد المؤمنين، وتوعيتهم لئلّا يعثروا، فينزلقوا في متاهات المظاهر الخدّاعة. أمّا الإديولوجيّات المناهضة للدين التي تصدّت لها فعديدة نذكر منها الاشتراكيّة والشيوعيّة. كان لـ”لبشير” مقال في غاية الأهمّيّة عن ماهيّة الاشتراكيّة، وكيفيّة نشأتها، وتطوّرها، نورد بعض ما جاء فيه: “طالما فكّر قوم من أكابر المفكّرين، وشهابذتهم من خلال الأجيال الماضية، بإيجاد مدينة فضلى رسموا صورتها بأشكال جميلة لمّاعة اختلفت باختلاف عقولهم وتصوّراتهم، منهم أفلاطون في مؤلّفه الجمهوريّة وتوما موروس في كتابه “المدينة الخياليّة”، وكامبانلا في تأليف سمّاه “مدينة الشّمس” وفنلون في “تلماك” إذ يجعل من جمهوريّة سالانت صورة جميلة لتلك المدينة الخياليّة التي حلم بها المتذمّرون من المدينة الماضية… كتبهم لم تكن متشابهة إلّا في أمر واحد عظيم متناهٍ في الجمال طمحت إليه أبصارهم، وهو الاشتراكيّة الشّعبيّة التي لم يبدأ الناس يتمثّلون لها شكلًا معروفًا إلّا في أواخر الجيل الثّامن عشر، ولم تبدأ هي بالانتشار إلّا حين استبنط البخار، وزادت المواصلات، فأصبحت تترقّى بترقّي الصناعات الخطيرة التي أوجدها ذلك الاختراع… في سنة 1848 ظهرت الكتابات الأولى لماركس، وأنجل، على أنّ ماركس لم يأت في تأليفه بشيء جوهريّ جديد، وجلّ ما عمل أنّه نسّق مبادئ من تقدّموه مثل (مورللي، غودوين، سان سيمون، لويس بلان… وغيرهم)، وألبسها حلّة جميلة جديدة من قلمه السّاحر العجيب. ومن ثــَــمَّ ظهر العلماء من جهابذة الاشتراكيّة المعتبرين فسعوا في توطيد أركانها، وتمكين دعائمها، وتفانوا في الجهاد في سبيل نشر رايتها وإعلاء منارتها وهم من الألمان: كوتسكي، بيبل، برنستين، ومن الرّوس: بليشانوي، ولينين، ومن الإنكليز: هندمن، ومن الفرنسيّين: غسد، وسوريل، ومن الإيطاليّين: لابريولا، وتوراتي” (عد 3389، 1925، ص1، ع1). أمّا هدف نشر هذه المقالة فكان للفت القرّاء إلى أسماء الكتّاب الذين يروّجون التّعاليم الاشتراكيّة التي كانت نقطة الانطلاق للحزب الشّيوعيّ، التي عملت “البشير” جاهدة على محاربته ابتداء من سنة 1933.
أمّا حرب “البشير” ضدّ الشيوعيّة، فكانت أسلحتها، كما دأبت منذ نشأتها، الحرف، والفكر، والمعرفة. انطلاقًا من ذلك عمدَت الجريدة إلى نشر تاريخ الشيوعيّة، وفكرها على صفحات أعدادها، قبل التّنبيه إلى مخاطر أفكارها وإيديولوجيّتها. ففي العدد 4554 طرحت سؤالًا عن نشأة الشّيوعيّة، ثمّ أجابت عنه كالآتي: “كان الرفيقان لينين ومارنوف يرأسان الحزب الاشتراكيّ في المجلس النّيابيّ الرّوسيّ، وكانت غاية هذا الحزب المدافعة عن حقوق الفلاحين والعمّال. وفي سنة 1903 نشأ خلاف بين لينين ومارنوف أدّى إلى شطر حزبهما إلى شطرين، فظلّ أشياع مارنوف اشتراكيّين يحملون اسم “منشوفيك” أي أقليّة، وحمل أنصار لينين اسم “بولشيفيك” أي أكثريّة، ولبث الآخرون على خطّتهم وآرائهم السياسيّة القديمة، وقام لينين وأشياعه يتطلّعون إلى مذهب “كارل ماركس” أب الشيوعيّة، فخلبهم ذلك المبدأ. ولما توسّموا فيه إشباع رغباتهم، راحوا يسعون إلى تحقيقه. وفي مؤتمر سنة 1905 وضع لينين برنامجًا لسياسته تستقي روحه من مذهب كارل المذكور… وعندما اتّقدت نيران الحرب العالميّة الأولى سنة 1914، اغتنم لينين الفرصة لإشعال الثّورة، وباشر تنفيذ فكرة تهييج الأفكار واستنهاض الهمم، وبذر الوعود المعسولة للفلاحين والعمّال، وساعده في مَهَمَّته تلك سوء حالة الفلّاح من جهة، والأموال الألمانيّة التي توفّرت له من جهة أخرى… وفي 7 تشرين الثاني من السنة 1917 مشى قادة الثورة على نار الدّم إلى عرش القياصرة يذرونه رمادًا مفظّعين بالعائلة المالكة، ومناصريها أشدّ تفظيعًا! وانتشرت الأخبار في سائر الأنحاء الرّوسيّة معلنة فوز الثّورة وانحدار الإمبراطوريّة… (عد 4554، 1933، ص 1، ع 1). وفي العدد 4529 طرحت “البشير” أسئلة عديدة بعد سقوط النّظام الشّيوعيّ في العالم، وخصوصًا في روسيّا: هل طبّق لينين، وأتباعه المبادئ التي رسموها للشّيوعيّة؟ وهل أنقذ هؤلاء الفقراء من الظلم، والفقر، والجوع؟ ما هي أهداف هذه البدعة في لبنان، ومن هم مروّجوها؟ إليكم مقتطفات من الإجابة: “هذه البدعة الغريبة التي ترمي إلى تقويض أركان النّظام، وهدم الأخلاق والآداب هي وليدة بعض اللاجئين الأغراب والمتشردين الأنكاس، وأكثرهم من أبناء أرمينيا الّذين بعد ما نزل بهم من نوازل، وشدائد أصبحوا لا يحسبون للحياة حسابًا، وسيّان عندهم وطئوا أرض لبنان أم سكنوا القطب الشّماليّ، فهم على الحالين أغراب لا يملكون شروى نقير، ويهمّهم إيقاد النّار والدّعاية للثورات حبًّا للمغنم والنّفوذ” (عد 4529، 1933، ص 1، ع 1). وجاء في العدد 5251: “هذه الشّيعة التي هي حربٌ على الله، وحرب على الحضارة وحرب على البشريّة… لأنّ الشيوعيّة طاعون الوطنيّة الفتّاك، فعلى الأمّة بجميع عناصرها أن تهبّ لمكافحتها” (عد 5251، 1937، ص 1، ع 1). كما كانت لـ”البشير” مقالات عدّة، ودراسات، ونداءات وجّهتها إلى رؤساء الحكومة والجمهوريّة مناشدة إيّاهم العمل على محاربة الشّيوعيّة، وخصوصًا بعدما بدأوا يوزّعون المناشير ويحدّدون مواعيد اجتماعاتهم، وأماكنها لترويج مبادئهم وتعاليمهم، ففي نداء إلى رئيس الجمهوريّة سنة 1937 جاء ما يلي: “… ألم تسمع يا فخامة الرّئيس بعيون موسكو، وعمالها، ومأجوريها، وقد انبثّوا في الأنحاء اللّبنانيّة ينشدون الثورة على عينك يا تاجر، وعلى مسمع رجال الحكومة وبصرهم؟ ألم يبلغ إليك صدى صرخاتهم الصاخبة في أثناء اجتماع عقدوه “بإذن الدّولة” على مرمى حجر من ديوانك؟ ألم يطلعك “وزير الدّعوة والنّشر” على ما يذيعون كلّ يوم من نشرات، وكتابات حول كلّ واردة وشاردة؟ ألم تطالع جريدتهم الرّسميّة الجديدة “لسان حال، موسكو” المطبوعة في قلب العاصمة اللّبنانيّة، والمذاعة بأبخس الأثمان بفضل المذهب الشّيوعيّ؟ (عد 5226، 1937، ص 1، ع 5). وعن المناشير التي يوزّعها الشّيوعيّون جاء في أحد النداءات إلى الحكومة تحت عنوان استفزاز: “نسأل الحكومة… هل طالعت ما يُطبع ويُنشر… هل طالعت مقالات الاستفزاز ضدّ اللّبنانيين الصّميمين… هل سمعت بتلك الصُحُف التي أنشئت في العاصمة اللّبنانيّة لبثّ الدّعوة البولشفيّة وأضرارها؟ هل لفت قلم المطبوعات نظرها مثلاً إلى كلّ ما تنشره جريدة الشّرق الطّائفيّة والبولشفيّة، ولا سيّما عنوان برقيّة هذا نصّه: “يا ليتنا نقتدي بأعمالها الشّريفة. اعتقال عدد كبير من الرّهبان وطرد أكثرهم…” حتى متى يدوم هذا الاستفزاز؟ حتى متى هذا الاستهتار؟ وهل ترضى الحكومة بأن تستباح هكذا في عهدها أقدس الحرّيّات والتقاليد اللّبنانيّة؟” (عد 5248، 1937، ص 1، ع 3). وفي وجوب مكافحة الشّيوعيّة التي تعمل من دون أيّ رادع قضائيّ في لبنان، طالبت “البشير” بتدخّل السلطات القضائيّة لقمع هذه البدعة، “فالقضاء قادر على وضع حد لانتشار الشّيوعيّة في هذه البلاد إذا ما جرى في مكافحتها على النّمط الذي يكافحها به القضاء العالميّ” (عد 5228، 1937، ص 1، ع 3). كما جاء ما يأتي في وجوب مكافحة الشيوعيّة التي تحاول أن تستفيد من الديموقراطيّة: “طاردوا الشيوعيّين حتّى النهاية، ولا تجعلوهم يستفيدون من الديموقراطيّة التي يحاربونها، فالبلاد تطلب تنظيفها منهم، ومن مؤامراتهم” (عد 5959، 1937، ص 1، ع 1). وللكنيسة الجامعة، والكنيسة المحلّيّة رأي متشدّد في الشيوعيّة. كانت “البشير” تحمله إلى قرّائها، وإلى الرأي العامّ، فقد نشرت في العدد 5193 سنة 1937 في الصفحة الأولى ما جاء في الرّسالة البابويّة العامّة في الشيوعيّة ومضارها، والمبادئ الاجتماعيّة الكاثوليكيّة الحقّة. “هي الرّسالة العامّة التي أصدرها في 19 آذار 1937 صاحب القداسة بيوس الحادي عشر المالك سعيدًا، وقد بسط فيها من جهة تعاليم البدعة الشيوعيّة ومضارها الرّوحيّة، والزمنيّة، وأساليب نشرها، ومن جهة أخرى المبادئ الاجتماعيّة الكاثوليكيّة الحقّة، وما جاء في ما ترتكز عليه تعاليم الشيوعيّة أنّها “على مبدأ المذهب المادّيّ المنطقيّ التّاريخيّ، الذي نادى به ماركس، والّذي يقوم على عدم وجود أيما كائن حقيقيّ سوى المادة في قواها العمياء…”. أمّا الكنيسة المحليّة فقد كانت دائمًا تندّد بهذه الشّيعة، وكان البطريرك اللّبناني يشجب الشيوعيّة تكرارًا، ويندّد بجميع مظاهرها وأنواع نشاطاتها (عد 6018، 1940، ص 1، ع 1).
- البشير والأخلاق العامّة
قال الآباء اليسوعيّون أصحاب جريدة “البشير” في بيروت: “الصُحُف إنّما جُعلت لسدّ منافذ الرّذيلة، وفتح أبواب الفضيلة” (دي طرازي ج1، 1913 : 12). من أجل ذلك كانت “البشير” ومن خلفها الرّهبنة اليسوعيّة يعملان على إعلاء دور الصِّحافة، وتشجيع قيام جرائد جديدة تُسهم في تحقيق الغاية التي أوردها الڤيكونت دي طرازي على لسان الآباء اليسوعيّين. ومن تلك الخدمات الجُلّى التي أدّاها اليسوعيّون لدعم الصِّحافة إسهامهم في تركيب معدّات الطباعة لجريدة بيروت. “فعندما أنشئت جريدة “بيروت الرّسميّة” في 22 كانون الأول سنة 1888 بعناية عليّ باشا حاكم بيروت بعد انفصالها عن ولاية سوريا، استُدعي الأخ أنطون كنعان اليسوعيّ المشهور بفن الطباعة لتركيب المطبعة الحجريّة الخاصة بها. فلما فرغ من العمل أرادت الحكومة أن تؤدّي له، ولمساعديه أجرة أتعابهم. فأبت نفسه الكريمة قَبول ذلك لقاء هذه الخدمة الوطنيّة. غير أنّ الولاية قدّرت عمله حقّ قدره فأرسلت إلى رئيس اليسوعيّين كتابًا يعلن شكر الحكومة لطغمتهم. ثمّ شفعته بساعة ذهبيّة على سبيل التذكار للأخ أنطون المشار إليه” (دي طرازي ج2، 1913 : 40).
كانت خدمة الحقّ من أهمّ المبادئ التي نادت بها جريدة “البشير”، وهذه الخدمة كانت مجرّدة من أيّ طمع بمغنم، أو خوف من مَغرم، وهذا ما عاشته “البشير” طيلة حياتها. فهي لم تبع نفسها، وقد حاول الكثيرون استمالتها بالدراهم، وقد خاب من حاول. فـ”البشير” وقفت نفسها للذّود عن حِياض الدّين والآداب، ومكافحة الظلم والدّفاع عن البريء والمظلوم، والحضّ على الفضيلة، وكل ما فيه مصلحة وطنيّة، فكيف لها أن تنقاد إلى رشوة مادّيّة كانت أم سياسيّة أم غيرها. لقد سارت “البشير” طوال حياتها لا تأبه لبطش حاكم، ولا صولة متنفّذ، وقد تعهّدت السّير في شعاب الحقّ على الرغم من كثرة الأشواك. والسّؤال الذي نطرحه بهدف استجلاء سياسة “البشير” الأخلاقيّة: كيف ذادت “البشير” عن الأخلاق العامّة؟ كتب يومًا الأستاذ الياس ربابيّ مقالًا تحت عنوان “الميكروبات”. قال، بعد عرضٍ لماهيّة الميكروبات، وطريقة معالجتها الطبيّة: “الميكروبات الخطرة لا علاج لها، ولا مستوصف تأوي إليه”. ومن هذه الميكروبات: “ميكروب القمار السّاري بين عموم طبقات الشّعب من الخاصّة، أو العامّة. ميكروب الخلاعة الزّاحف بخيله ورجاله على الأخلاق والآداب. ميكروب كساد الزواج، وقلّة طلّابه من جرّاء الحبّ الابتذالي في هذا العصر. إلى غيرها من الميكروبات التي يجب أن يتطهّر منها المجتمع حتّى يصبح مجتمعًا سليمًا” (عد 4501، 1937، ص1، ع 1). وما سنعرضه في هذه الفقرة هو بعض مخاطر تلك الميكروبات التي كافحتها “البشير” بالقلم، وحثّ الضمائر على سلوك الدّرب القويم.
كان للفنّ السّابع جمهوره الحاشد منذ سنواته الأولى في لبنان، ومعروف أنّ لهذا الفنّ عالمه السّاحر الخاصّ في كلّ المجالات، وأحد أكثر العوامل المُهِمّة التي دفعت به قُدُمًا هي المشاهد الخلاعيّة التي رافقت ظهور السّينما في العالم المعاصر. فطبيعيّ إذًا أن تظهر “مناهضة مناظر السّينما الخلاعيّة” من جريدة كالـ”بشير”. وقد عبّرتْ عن ذلك في مقالات عدّة نشرتها، منها مقال بعنوان: “مناهضة مناظر السّينما الخلاعيّة” تعرّضت فيه للقانون الصادر عن مؤتمر الولايات المتحدة الذي يمنع المشاهد السنماتوغرافيّة الخلاعيّة، وقد أثنت على هذا القانون “فَنِعْمَ المثلُ مثلَهم، وعسى أن يقتدي بهم أرباب العيال في أقطارنا، فيمنعوا عن سوق أولادهم إلى هذه المراسح الخلاعيّة حيث تسري إليهم عدوى الفساد فتقتل طهارة قلوبهم ونبل عواطفهم” (عد 4774، 1937، ص 1، ع 1). أمّا على صعيد المسرح، فقد كانت للبشير مواقف من المسرح الخليع. وقد أجبرتها هذه المواقف على التوقّف عن الصّدور مدّة أربعة أعداد. وإليك بالتفصيل ما جرى سنة ١٩٢١ عندما أوردت “البشير” مقالاً بعنوان “خلاعة وعار”، وقد جاء في المقال الذي تحدّث عن عرض رواية “الفرسان في الدّير” على أحد مسارح العاصمة الآتي: “رأت أمس بيروت بعض رعاع الإفرنسيّين يمثّلون على مراسحها ما يَنْدَى له الجبين خجلاً. رأت بعض رعاع الإفرنسيّين يقولون من بذيء الكلام، ويمثّلون من الحوادث المختلطة الكاذبة ما هو أعظم إهانة يُهان بها الدّين ورجاله”. وفي أثناء العرض عبّر بعض الشّبّان اللّبنانيّين عن “استيائهم وملأوا قاعة المسرح من صفير الاستقباح. وكان معظم الحاضرين من الضبّاط والجنود الإفرنسّيين. فتحامل بعضهم على المتظاهرين وأسمعوهم كلامًا مؤلمًا، واتّصلوا إلى أن ضربوهم، وجرحوا البعض منهم”. بعد سرد هذه الحادثة بالتفصيل ذكّرت “البشير” الحكومة بالرّقابة التي وعدت بها على المسارح محافظة على حرمة الدّين، وما جاء في حديث “البشير”: “إنّ كان للسلطة عناية في صون اسم فرنسا من أن يُهان، فهنا مجال لاتّخاذ التّدابير التي تراها مناسبة كي تَكُمَّ أفواه أولئك الرّعاع، وترجعهم أدراجهم من حيث أتوا” (عد 2669، 1921، ص 2، ع 4). وبعد توقف “البشير” لمدّة أربعة أعداد افتتحت العدد 2670 بكلمة إيضاح جاء فيها: “أجل لقد قُضي على جريدتنا أن تحتجب أربعة أيّام لمقال قلناه في العدد 2669. وإنّنا نبدي أقوى عواطف الشّكر، وأخلصها لقرّائنا الكرام، ولكلّ أصدقاء “البشير” الذين كان ذلك لهم فرصة أغتنموها لتشديد أواصر ولائهم ومضافرتهم. كما أبدت “البشير” اعتذارها من مجموع الشّباب: “تلك الشّبيبة الأبيّة التي لم تكن منقادة في احتجاجها، ومظاهرتها سوى لصوت الوجدان والضّمير، ستنقاد لهذا الصّوت نفسه فتقدّم عواطف شكرها، إلى حضرة وكيل المندوب السامي لأنّه أصدر قرارًا إداريًّا به، يمنع أن يمثّل على مسارح كلّ أقطار لبنان، وسوريا شيء يمسّ بكرامة الدّين المقدّس” (عد 2670، 1921، ص 1، ع 2). دفعت “البشير” الثّمن فاحتجبت لمدّة أربعة أيّام لأنّها كانت شاهدة للحقّ، ولكنّها مع ذلك نالت مأربها فمنعت بذلك تمثيل المسرحيّة على مسارح لبنان وسوريا.
ومن الآفات التي واجهتها “البشير” عبر أقلام كتّابها وحروفهم آفة البغاء. وفي شرعها تقول “البشير” إنّه لا يمكن للبنان ملتقى الدّيانات الثلاث، ومهد الحضارة، والتّمدّن أن يتحوّل إلى بؤرة فساد. هذا ما طالبت به “البشير” انطلاقًا من حسّها الوطنيّ والدّينيّ: “يتأسّف الإنسان العاقل ذو المبادئ الأدبيّة الحسنة، والعواطف الشّريفة الطيّبة أن يرى في بيروت مهد تمدّن الشّرقيّين، ومحور رقيّهم بعض أماكن قد تحوّلت إلى مسرح عموميّ، تتلاعب عليه المومسات ربّات الخلاعة، وتتمايل فيه الفتيات بمظاهر تقشعّر لها الأبدان، وتنفر من قباحتها القلوب”. ثمّ يتكلّم صاحب المقال عن “استقدام الفتيات من وراء البحار لبثّ روح الفساد، والخلاعة في قلوب الأهالي” ويحذر أصحاب الحانات: “فلا يلومنّ لائم أن استنهضنا همّة الحكومة إلى مساعدة الشّبيبة في المدافعة عن آدابها، وصيانة أخلاقها فنُقصي عن كلّ طبقات الشّعب خطرًا يتهدّده بالهلاك الأدبيّ فضلًا عن الخسارة المادّيّة” (عد 2640، 1920، ص 1، ع 4). هذا وعندما سُمح بإقامة بارات مرخّص لها، ثارت ثائرة “البشير” على الحكومة معلنة بصريح العبارة “أنّ البغاء الرّسميّ مُخالف للعدل” (عد 6166، 1940، ص 1، ع 1) ويجب مكافحته. وعندما استُبدِلتَ الأرتيستات الأجانب في الأندية المعروفة “ببنات الهوى” إبّان الحرب العالميّة الثانية كتبت “البشير” تحت عنوان “الأندية والأرتيستات” ما يأتي: “خطر خُلقيّ صحّيّ جديد تبعثه الحرب”. أوّلًا في ماهيّة الأرتيستات: “أمّا العمل المعهود إليهنّ فيه، فالمساهمة في ما يتقنّ من رقص، وغناء، وعزف على آلات الطرب، ومنادمة من يدعوهنّ من روّاد النّادي على موائد الشّراب لقاء أجر يزاد على ثمن ما يطلبن من مشروب، ولكنّهن لا يأخذنه وحدهنّ، بل يتقاسمنه مع مخدوميهنّ. وقد لوحظ أنّ هؤلاء الأرتيستات يؤخذن غالبًا من البلدان الأجنبيّة، لأنّهنّ هناك يُؤهّبن لمثل هذه المهنة بالمزاولة والمران، فيمهرن في دروب الدّعوة، والتّسويق، وطرق اكتساب المغانم والأرباح”. أمّا الخطر الكبير فاستبدال الأرتيستات الأجانب ببنات الهوى. فإلى شرطة الأخلاق وإلى أولياء الأمر السّاهرين على أخلاق الأمّة، نسوق هذه الكلمة، آملين أن يُحقّق في أمر أولئك النّسوة اللواتيّ يُقمن في الأندية بوظيفة “أرتيستات” حتّى إذا رأوا في إقامتهنّ هناك خطرًا على الآداب والصحّة، بادروا بكلّ سرعة إلى اتّخاذ ما يرونه موافقًا من التّدابير الحازمة التي تزيله إزالة تامّة، وتستأصل شأفته” (عد 6531، 1942، ص 1، ع 2).
وقد حاربت “البشير” من على منبر صفحاتها الرقص الخليع، والمراقص. فشأن الدّين ليس فقط أن يعلّم الإنسان طرق العبادة الواجبة لخالقه مع استقامة الإيمان به، على حسب الوحي الإلهي الصحيح، وارشاد العقل السّليم، بل أن يعلّمه الأدب أيضًا ويوجّهه إلى مناحي الخير، ويصرف عواطفه إلى غايات النّبل والكمال. من هذا المنطلق كانت “البشير” تحذّر من الرّقص الخليع. “الرّقص الخليع حرام، والتفرّج على الرّقص الخليع حرام” (عد 2692، 1921، ص 1، ع 1). وتحت عنوان “لقد طفح الكيل” حاولت “البشير” لفت نظر الحكومة، والصِّحافة إلى أهمّيّة الحفاظ على رسالتيهما: “المسارح العارية تسودها المستهترات، خالعات العذار، بنات جهنم… لقد طفح الكيل، وبلغ السّيل الزبى، ومع ذلك نرى الحكومة والصِّحافة مكتوفي الأيدي غير مهتمّين بما يهدّد كِيان الوطن، وكان من الأجدر بالأُولى أن تضرب بيد من حديد، وكان الأَولى بالثّانية أن تصرف بعض العناية في هذا الموضوع الحيويّ، إذ إنّ على المرء أن ينظر في شؤونه قبل النظر في شؤون البعيدين” (عد 4540، 1921، ص 1، ع 1). وقد أورد الأب أنطونيوس شيلي اللّبنانيّ كلامًا وجّهه للحكومة من على صفحات البشير، كان أصدق كلام يعبّر فيه عن رسالة “البشير”: “فبالأولى يجب أن تهتمّ الحكومة لمقاتلة أمراض الأخلاق والقضاء عليها، لئلّا تتخطّى عدواها إلى الأرواح… باحثة قبل كلّ شيء عن بعض مصادر تلك العلل والأمراض، في المدارس التي لا تأتي على ذكر اسم الله في تعاليمها، وفي مشاهدة الأفلام البذيئة، في الطّباعة التي تصدر الكتب والرّوايات الرّديئة، في المراقص والمسارح العارية من الحشمة والأدب، وفي البغاء السريّ المتسرّب إلى البيوت. وإنّنا ندفع الرجاء إليها أن تفتح عين اليقظة، والمراقبة على تلك الأزقّة، والمسارب، والأنفاق المظلمة الموبوءة، التي يلجأ إليها مرضى الأخلاق، وهم بمعزل عن كلّ عين ورقيب. وإنّها لفاعلة بإذن الله” (عد 5152، 1937 ص 1، ع 1).
ومن الآفات الخطيرة التي حاربتها “البشير” آفتيّ المخدِّرات والقمار. فالمخدِّرات ذاك الخطر القديم الجديد أشبعته “البشير” دراسة، وسطّرت عنه مقالات تصفه وتورد أخطاره ومضَاره، وتحذّر الشّبيبة من ركوب أمواجه. وقد انبرى الدّكتور أمين الجميّل أحد أهمّ أقلام “البشير” إلى تدبيج مقالات عدّة حول الموضوع، إضافة إلى المحاضرات التي كان يلقيها في أماكن عدّة. ومن المواضيع التي طرحها على صفحات “البشير” دراسات حول تأثير الكحول، والحشيش، والمورفين، والكوكايين” (عد 3101، 1923، ص 1، ع 1). وكان لـ”البشير” تلميح إلى أنّه على الدّولة ملاحقة، ومعاقبة مزارعي المخدِّرات، ومصدِّريها من كلّ الفئات، ومن دون محاباة. من أجل ذلك أوردت تحت عنوان “الحشيش والإقطاعيّة، وكيف تكون المحاباة” كيف أنّ الحكومة أتلفت الحشيش في بعض نواحي البقاع، وتركتها في مناطق نفوذ الإقطاعيّين. أمّا مرض “القمار”، مرض كلّ العصور، فقد كان لمحاربته في “البشير” مقام واسع، إذا صحّ التّعبير، إذ تكلّم فيه أكثر من كاتب، وبطريرك، وصُحُفيّ، ومواطن… فقد نشرت “البشير” سنة 1927 منشور البطريرك الياس الحويّك في “تحريم القمار” (عد 3650، 1927، ص 1، ع 1). وعلى صفحاتها نشرت قصّة متسلسلة بعنوان “حكاية إبريق الزيت” أخبر فيها الرّاوي عن تلك الآفة التي تأسر لاعبها، وتودي بحياته وحياة أحبّائه. كما واجهت الحكومات المتعاقبة التي كانت تحاول تكريس أماكن “مشرّعة للميسر”: في كلّ عام، عندما يأزف الرّبيع مبشرًا بقدوم الصّيف وموسم الاصطياف، يعود المتاجرون بالأخلاق إلى نغمتهم المعهودة، قائلين بوجوب تشجيع الاصطياف عن طريق إباحة المقامرة، مقترحين حصر هذه الرّذيلة في أماكن معلومة لا يرتادها سوى الأجانب وحدهم…”. فتجيب “البشير” بإصرار وتقول: “إنّ القضيّة ليست تجاريّة، بل خلقيّة، يتوقّف عليها مستقبل الأمّة وتربية ناشئتها” (عد 6052، 1940، ص 1، ع 1).
- البشير والحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة
قال تولستوي الفيلسوف الرّوسيّ الطائر الصيت: “الجرائد نفير السّلام وصوت الأمّة، وسيف الحقّ القاطع، ومجيرة المظلومين وشكيمة الظالم. فهي تهزّ عروش القياصرة، وتدك معالم الظالمين” (دي طرازي ج1، 1913: 10). فكم من مرّة قرعت طبول الحرب في زمن “البشير”، وكم كان كبيرًا عدد المظلومين في أيّامها، فكانت نفير السّلام عن حقّ، والمدافع عن الحقّوق السّليبة. رافقت “البشير” أزمة الحروب الكبرى، وكان لهذه الحروب تأثيراتها السّلبية على المجتمع اللّبنانيّ، وعلى الاقتصاد الوطنيّ، فعاش اللّبنانيّون أزمنة صعبة تحت كاهل الفقر، والجوع، والحرمان. وكانت “البشير” في تلك الأزمنة الصّوت الحرّ الصّارخ في وجه المحتكرين المتاجرين بلقمة الفقير، وكانت الضّمير الحيّ حيث ماتت الضمائر. عانى اللّبنانيون في الحرب الأولى الويلات من جراء الجوع المدقع والموت. وعند سكوت صوت المدفع عادت “البشير” للظهور (١٩١٩) حاملة على صفحاتها هموم المواطنين العُزَّل، وما خلّفته الحرب من قهر وتشرّد وغلاء. وفي تلك الأزمة حاولت “البشير” تصويب البوصلة في كيفية توزيع إعانات الطّحين التي كانت الحكومة الفرنسيّة توزّعها على اللّبنانيين. ومن أكثر العناوين المُهِمَّة التي تصدّرت صفحات “البشير” في تلك الحِقّبة عنوان “الغلاء في لبنان”، حمل في طيّاته شكرًا للدّولة الفرنسيّة على مبادرتها، وعتبًا على عدم المساواة بين المواطنين المعوزين، إذ وُزّع الطحين على بيروت، والبترون من دون الأقضية الأخرى: “وما نرجوه من المساعدة لقضاءيّ بيروت والبترون نتمنّاه لأنحاء الجبل كافّة. أشبعوا الجياع خبزَا هذا وحسب. فاللّبناني قنوع، ولا يريد أن يُحمّل الحكومة الآن فوق طاقتها إلى أن ينتهي المؤتمر (مؤتمر الصلح) من مقرّراته، وتوقيع الدول على معاهدات الصلح، وعلى تقسيم مناطق النفوذ بين الحلفاء في الأنحاء المتروكة إرثًا عن تركيا البائدة” (عد ٢٤٩٢، ١٩١٩، ص ٣، ع ٥). وكانت “البشير” تعرض لأسباب الغلاء وطرق معالجته عارضة على الحكومة آراءها، والخبراء الاقتصاديّين التي كانت تسألهم رأيهم وطروحاتهم. كان هذا في نهاية الحرب العالميّة الأولى. أمّا في بداية الحرب العالميّة الثانية، ومع زيادة الاحتكار، والغش، والخوف من المصير الأسود كانت “البشير” تندّد بالغلاء، وتحذّر من المجاعة، وتطالب بتحديد التّصدير، وكان همّها أن تجعل الكلمة الأولى التي تحيّي بها قرّاءها تدور على موضوع في مقدّمة المواضيع التي تهمّهم. وفي أواخر الثلاثينيّات كان موضوع الغلاء الضارب أطنابه في الأسواق، هو الموضوع الذي يهمّ اللّبنانيّين أكثر من أيّ موضوع آخر، فخصّصت له “البشير” حيّزا مُهِمًّا: “الغلاء أيضًا وأيضًا”، (عد ٥١٢٩، ١٩٣٧، ص ١، ع ٤) “غلاء وسائل الإعاشة ليس مبرَّرًا”، (عد ٥١٦٤، ١٩٣٧، ص ١، ع ١) “طمع المحتكرين ورغيف الفقراء”، (عد ٥١٣٨، ١٩٣٧، ص ١، ع ١) “أمّا لهذا الليل من آخر؟ أزمنة غلاء في حالتي الإمحال والإقبال”، (عد ٥٢٥٩، ١٩٣٨، ص ١، ع ١) “أنا من حزب الخبز”، (عد ٥٣٠٢، ١٩٣٨، ص ١، ع ٥) إقبال المواسم وجوع من كلّ زاوية في لبنان” (عد ٥٥٤٣، ١٩٣٨، ص ١، ع ١). نقلت “البشير” حالة اللّبنانيين بإخلاص من خلال هذه العناوين، التي تحدثت عن مآسي الجوع الصامتة. كان هذا عشيّة الحرب العالميّة الثانية، وعندما بدأت الحرب كان لـ”البشير” مواقف جريئة، واتّهامات خطيرة للمسؤولين في الحكومة الّذين كانوا يهتمّون بالأزمات، ويُهملون أسبابها، “فالاحتكار في زمن الحرب شرّ من اللصوصيّة… والاحتكار داء دويّ لا يشفيه إلا كي العقاب الزّاجر، فلتكافح السّلطة هذا الدّاء بالطرق الشّافية…” (عد ٢٩٨٨، ١٩٣٩، ص ١، ع ١). كان هذا اهتمام “البشير” في الشؤون الاقتصاديّة، أمّا على الصّعيد الاجتماعيّ، فكان للبشير اهتمام خاصّ بحالة المواطنين المعوزين والمتروكين. وكان موضوع السّكن من أحد المواضيع المُهِمَّة التي تطرّقت إليها “البشير” في صفحاتها، وطالبت الحكومة أكثر من مرة النّظر إلى حالة الشّعب الفقير، ومساعدته من خلال “بناء مستعمرة للأردن ولكلّ فقير في بيروت وإعادة إعمار البيوت المهدّمة” (عد ٢٩٨٨، ١٩٢٣، ص ٢، ع ٤). وكم من مرّة حملت “البشير” أنين المظلومين الخافت، وحوّلته أصواتًا صارخة تمزّق آذان الأسياد الظالمين، فجاءت عناوين هذه المقالات التي سنعدّدها صدى لمآسي البؤساء المعدمين العاطلين عن العمل: “وارحمتاه للفتيان: الفتيان المستخدمين والمعوزين” (عد ٥٢٥٠، ١٩٣٧، ص ١، ع ٤)، “لهفي على العامل الصّغير” (عد ٥٢٦٥، ١٩٣٧، ص ١، ع ١)، ”نريد عملاً للفقراء” (عد ٥٤٢٧، ١٩٣٨، ص ١، ع ٥)، “علّة ما لها دواء” (عد ٥٥٤٠، ١٩٣٨، ص ١، ع ١)، “الحرب أوجدت في لبنان 15,000 عاطل عن العمل” (عد ٦١٧٤، ١٩٤٠، ص ١، ع ١)، “ماذا نعمل لهذا الجيش العاطل؟ وهل تقرّر الحكومة أخيرًا وضع تشريع عادل منصف” (عد ٦١٧٨، ١٩٤٠، ص ١، ع ١). لم تكن “البشير” فقط لتعرض الواقع الذي يعيش فيه المواطن، بل كانت الصّوت الصّريح الذي يقترح الحلول على الحكومة: جاء تحت عنوان “البِطالة والصّرف من الخدمة”، عرض لعدة وسائل لمنع البِطالة تحت هذا العنوان “لماذا لا تنشئ الحكومة مديريّة للعمل مؤلّفة من خبراء كفوئين؟” (عد ٦١٧٨، ١٩٤٠، ص ١، ع ١). وشعورًا منها بواجب المحافظة على صحّة المواطن كان لـ”البشير” مواقف عدّة بهذا الشأن: تحت عنوان “إهمال فاضح في الشّؤون الصحيّة” (عد ٥٥٣٤، ١٩٣٨، ص ١، ع ١) كانت “البشير” تطالب بمكافحة الفوضى في هذا المجال، كما أنّها كانت تعرض على الحكومة في زمن “أزمة الخبز المزيّف الضّار بالصحّة أن توزّع (الدولة) القمح على الأهلين” (عد ٦٣٧٤، ١٩٤١، ص ١، ع ٣) حفاظًا على الصحّة العامّة. إضافة إلى ذلك كلّه كان لموضوع الآفات، والمعضلات الاجتماعيّة المكان البارز في صفحات “البشير”، فأفرزت لموضوع عمالة الأطفال، وعمل الفتاة اللّبنانيّة مقالات عديدة، نذكر منها “الأطفال المشردون” (عد ٦٠٠٣، ١٩٤٠، ص ١، ع ١)، “الفتاة اللّبنانيّة والعمل” (عد ٤٥١٠، ١٩٣٣، ص ١، ع ١). وفي حملها صوت الذين لا صوت لهم، كان لـ”البشير” اهتمام خاصّ بالمساجين. فقد كشفت من على صفحاتها الحالة المزرية لسجون العاصمة سنة ١٩٢٧، فقام رجال الأمن بالكشف على حالة السّجون. كشف ذاك التّقرير، المفاسد والجرائم الأدبيّة، والمادّيّة التي تدعو كلّ إنسان عاقل والحكومة إلى التفكير في حلّ لمعالجتها، “لأنّها من الأدواء الوبيلة التي تشيننا وتحطّ من كرامتنا” (عد ٣٧٠٢، ١٩٢٧، ص ١، ع ١). رأت “البشير” أنّ على الحكومة القيام بإصلاحات عدّة مُهِمَّة للغاية في هذه السجون “لأنّ الغاية من السّجن هي إصلاح النّفس” لا هلاكها.
كان هذا عرض للمواضيع المُهِمَّة التي جاءت في “البشير”، حول الأمور الاقتصاديّة، والاجتماعيّة التي كان يعاني منها المواطن في تلك الأيّام، وهو خير دليل لما كانت عليه “البشير” من الجرأة، وصواب الموقف، وشجاعة في قوّة الحقّ، وذلك إيمانًا من أصحابها بأنّ “الحقّ هو الذي يحرّر” الإنسان.
- “البشير” تواكب تكوين لبنان الدّولة
اعترف نابليون إنّ: “الصِّحافة ركن من أعظم الأركان التي تُشيّد عليها دعائم الحضارة والعمران” وقال: “إنني أوجس خيفة من ثلاث جرائد أكثر ممّا أوجس من مائة ألف جندي” (داغر، 1978: 18). وكم كان قلق السياسيّين كبيرًا من أقلام كتّاب “البشير” الذين كانوا يضيئون على مظالمهم وأخطائهم. وقال السّلطان عبد الحميد بعد أن هوى عن العرش: “لو عدت إلى يلدز لوضعت محرّري الجرائد كلّهم في أتون الكبريت” (دي طرازي ج1، 1913: 42)، وكم من مرّة تعرّضت “البشير” للمضايقات، وحُجِبتْ لأنّها كانت صوت الضّمير. في الذكرى المئويّة الأولى لإعلان لبنان الكبير، يجدر بنا أن نضيء على مواكبة جريدة “البشير” لهذا الحدث، علّ التّاريخ “المدرسة” يُسهم في تنقية الذّاكرة الجماعيّة لأبناء لبنان، فيتعلّموا من دروس الماضي، ويسهموا في رسم المستقبل الزاهر لوطن الأرز. بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى، انعقد مؤتمر الصلح في باريس لوضع أسّس سلم دائم، ولتقرير مصير بعض الشّعوب. وقد شاركت في هذا المؤتمر كلّ الدّول التي أعلنت الحرب على ألمانيا، كما شاركت بعض الوفود في نقل أماني شعوبها، ومن بينها الوفود اللّبنانيّة. كانت “البشير” تورد أخبار المؤتمرين من خلال المراسلات التي ترِدُها. وبسبب احتجابها طيلة الحرب العالميّة الأولى، لم تتمكّن من مواكبة الوفد اللّبنانيّ الأوّل إلى المؤتمر، إلّا أنّها تابعت أخبار الوفدين الثّاني والثّالث بتفاصيلهما. ولا بدّ من الإشارة إلى انقسام اللّبنانيّين حول مصير بلدهم. فقد طالب أهل الجبل بالاستقلال، وتوسيع الحدود، وقَبول المساعدة الفرنسيّة، أمّا أهل الولاية فطالبوا بالاستقلال الذّاتيّ، والارتباط بالحكم العربيّ في سوريا. وعلى الرغم من ذلك أُعلِن لبنان الكبير بحدوده الحاليّة في الأول من أيلول 1920. بعد عودة الوفد الأول من دون أن يصل إلى نتيجة واضحة بالنسبة إلى مطالبه، تزايدت شكوك اللّبنانيّين بنوايا الحلفاء فاجتمع مجلس الإدارة في 20 أيّار 1919 وقرّر إرسال وفد إلى باريس برئاسة البطريرك الماروني الياس الحويّك. غادر البطريرك الحويّك جونية في تمّوز 1919 وعرّج على روما. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ البطريرك الماروني، كان يرغب في أن يكون الوفد مؤلَّفًا من كلّ الطوائف. ولظروف طارئة تألّف الوفد من المطارنة مبارك، وفغالي، وشكرالله الخوري، وكيرللس مغبغب، ومن السّادة إسطفان الدويهي، وملحم إبراهيم، ولاون الحويّك. اقتصرت الأخبار التي كانت تنقلها “البشير” على اللقاءات التي كان يجريها البطريرك وبعض خطبه. وفي 23 كانون الأول 1919 وصل البطريرك الحويّك إلى بيروت (عد 2513، 1919، ص 1، ع 1). لكن الجنرال غورو كان قد سبق البطريرك المارونيّ، فوصل إلى لبنان في 23 تشرين الثّانيّ سنة 1919 (عد 2499، 1919، ص 1، ع 1). كانت “البشير” من أولى الصُحُف التي نشرت على صفحاتها الأولى صور المفوّض السّامي غورو قائد الجيوش الفرنسيّة في الشرق تحت عنوان “لتحيا فرنسا، ليحيا غورو” (عد 2498، 1919، ص 1، ع 1). بعد ذلك واكبت “البشير” زيارة الوفد الثالث إلى مؤتمر الصلح الذي ترأسه المطران عبدالله الخوريّ، وكان بعضويّة الأمير توفيق أرسلان، وألفرد سرسق، ويوسف الجميل، وإميل إدّة، أمّا الهدف فكان إرجاع ما سُلخ عن لبنان من أراضٍ (عد 2527، 1920، ص 2، ع 3). أمّا ما كان من إعلان لبنان الكبير، فبعد انتصار غورو في معركة ميسلون واحتلاله سوريا عسكريًا، قرّر تحقيق جزء من مطالب اللّبنانيّين، فأعلن دولة لبنان الكبير في 1 أيلول سنة 1920 فأطلقت “البشير” على ذاك اليوم التّاريخي اسم “سيّد الأيّام” (عد 2613، 1920، ص 1، ع 1). وكانت “البشير” تهتمّ كثيرًا بأخبار البطريرك الياس الحويّك، مطلقة عليه لقب “البطريرك اللّبناني”. وقد أوردت يومًا حديثه بمناسبة زيارة الجنرال غورو إلى بكركيّ، وما جاء فيه: “إنّني شيخ يا سيّدي القائد، ولكن ما بقي لي من الأيّام أخصّصه لمصلحة وطنيّ ومعاضدته” (عد 2536، 1920، ص 2، ع 2). وهذا ما فعله فعلًا البطريرك المكرّم، فأسهم عمله بقيام دولة لبنان الكبير الذي نحتفل بمئويّته هذه السنة.
كانت “البشير” شاهدة على الصراع الذي واكب نشأة لبنان الكبير بين اللّبنانيين المنقسمين إلى تيًارين، تيّار طالب باستقلال لبنان، واستعادة حدوده التّاريخيّة تحت الوصاية الفرنسيّة، وكانت “البشير” إحدى الصُحُف التي حملت لواءه. وتيّار طالب باستقلال إداريّ للبنان ضمن الوحدة السّورية، وقد حملت لواء هذا التيّار “جريدة بيروت”. اشتدّت عشيّة الحرب العالميّة الثانية، وفي ظلّ الانتداب الفرنسيّ على لبنان، النّزعة الطائفيّة في قلوب اللّبنانيّين. وخصوصًا بعد النكبات التي تعرض لها المسيحيّون، في أكثر من منطقة. فما كان من “البشير”، التي لم تكن لتتعاطى في أمور السياسة بتلك الجدّيّة، إلّا أن حزمت أمرها سنة ١٩٣٧ ووسعت نطاق أبحاثها، فأصبحت جريدة سياسيّة، ناقدة، روحيّة، بعد أن كانت إخباريّة روحيّة، وذلك شعورًا منها بوجوب قيام صوت مسيحيّ جريء في وجه من يثيرون النّعرات الطائفيّة، وينادون بالعروبة، والانضمام إلى سوريا. في هذا الجوّ المشحون طائفيًّا، عمدت “جريدة بيروت” إلى شنّ حرب ضروس على “البشير”، فما كان من “البشير” إلّا الردّ بإحكام على تلك الجريدة، وذلك ابتداءً من سنة ١٩٣٧. تحت عنوان “نكرزات طائفية” وَصَفت “البشير” “جريدة بيروت” قائلة: “ليس من يجهل مواقف “جريدة بيروت” في إثارة النّعرات الطّائفيّة، فهي لا تكتفي بنشر مقالات متواترة تزعم فيها أنّ حقوق الطائفة الإسلاميّة الكريمة “مهضومة”، بل كأنّي بها تحاول انتهاز كلّ سانحه بانتقاد المسيحيّين، واتّهامهم بما هم براء منه” (عد ٥١٤١، ١٩٣٧، ص١، ع٤). وكانت “جريدة بيروت” في نظر “البشير” جريدة العروبة العاملة في ميدان التعصّب الطائفيّ، المطالبة بحقوق المسلمين “المهضومة”، والمناوئة للمعاهدة اللّبنانيّة، واستقلال لبنان لأسباب طائفية فقط.
كان إحصاء سنة 1932 من الأمور الخلافيّة بين اللّبنانيّين، فقد أدّى دورًا أساسيًّا في سيرورة بناء الدولة في لبنان الحديث، مُشَكِّلًا الأساس الذي بني عليه التسّجيل “الرّسميّ” للسكان المقيمين في لبنان، وللمغتربين اللّبنانيّين، كما يعدُّ حَجَرَ الزّاوية في تشريعات المواطنيّة في لبنان، ولا يزال الإحصاء الوحيد الذي أُنجِز حتّى الآن. إلّا أن نتائج الإحصاء بحسب (المجلّة البريطانيّة لدراسات الشّرق الأوسط (1999)، 26،(2)، 219-214) كانت مسيَّسة إلى حدّ كبير، إذ إنّ كثيرًا من الأشخاص الذين أقاموا في لبنان لأجيال لم يجرِ تعدادهم كلبنانيّين، بينما مُنِحت المواطنة لحالات أخرى وضعها غير أكيد، وقابل للنّقاش. أمّا المقيمون الذين عُدُّوا “غير مرغوب فيهم” فقد استبعدوا من الوضع على قوائم السجلاّت الشّخصيّة، أو صنفوا كـ”أجانب”. مهّدت نتائج إحصاء 1932 الطّريق وقتها باتّجاه تقاسم التّمثيل السياسيّ الذي جاء بنسبة 6 للمسيحيّين و5 للمسلمين، وهي صيغة ظلّت قائمة حتّى اندلاع الحرب الأهليّة لعام 1975 التي انتهت باتّفاق الطائف الذي اعتمد المناصفة في العام 1990. عَدَّت “البشير” حينها أنّ الإحصاء انتزع الكثير من حقوق المسيحيّين، من أجل ذلك قرّرت التصدّي “لجريدة بيروت”، “جريدة العروبة الطائفيّة”. وفي مقال بعنوان “شعار الأنذال” أوردت “البشير” ما يأتي: “يشقّ علينا، وأيم الحقّ، العود إلى ردّ سهام تلك الجريدة المنادية بالطائفيّة المثيرة للنعرات المذهبيّة، ذات الموقف المعروف من الوطن اللّبناني. ويسوؤنا أن تنصرف هذه الجريدة عن طرق المواضيع النّافعة المفيدة، وتتفرّغ للسّباب، والشّتيمة، والردّ على البراهين الدامغة، والبيّنات الرّاهنة بما يخالف المعقول والمنطق. ومن اسمّ منشورات تلك الأقلام القتّالة، ما لم تتورّع عن الجهر به من استعدادها لاتّخاذها شعارًا كلمة فولتير المعروفة عن المسيح والكنيسة “لنسحق النذل” Écrasons l’infâme ، وقد حاولت التّمويه على قرّائها بقولها: إنّ فولتير إنّما قال هذه الكلمة عن اليسوعيّين… فهنيئًا لأولئك الذين يسيرون على أثر ذلك الكافر الهازئ بكلّ دين، ولا سيّما بالدّين الإسلاميّ، وينهجون نهجه الأعوج في البذاءة والتلفيق” (عد 5243، 1937، ص 1 ع 1). وفي قضية المفاوضات اللّبنانيّة السّورية حول المصالح المشتركة، وبعد إذاعة الحكومة اللّبنانيّة رغبتها في مباشرة المفاوضات سنة ١٩٣٧ لتسوية قضية المصالح المشتركة، طبقا لنص البروتوكول الثّاني في المعاهدة الفرنسيّة اللّبنانيّة، أوردت “جريدة بيروت” جريدة العروبة مقالًا افتتاحيًّا صدّرته بهذا القول القاطع: “لا نريد أن تقتصر المباحثات عند أحد المصالح المشتركة! بل أن تتناول النّظرة البعيدة التي يؤمن بها كثيرون، والتي تتلخّص في أنّ البلدين السّوريّ واللّبنانيّ سيصبحان بلدًا واحدًا يومًا من الأيام…” وما وطّد آمالها، على ما قالت جريدة “البشير” هو، ومعاذ الله، أن نشاطرها نحن آمالها هذه، في تحقيق هذه الرّغائب، إنّ رئيس الوفد المفاوض سيكون صاحب المعالي الأستاذ خير الدين الأحدب، رئيس الوزراء اللبنانيّ. ليس من لبنانيّ إلاّ وينبذ هذه الخطّة العوجاء. ليس من لبنانيّ إلا وينكر على “صحيفة العروبة” هذه الدّروس التي تلقيها على المفاوض اللّبناني… (عد 5142، 1937، ص 1، ع 1).
لم يرعوِ أصحاب “بيروت” جريدة “العروبة فوق الجميع” عن نشر مقال افتتاحيّ توجته بهذا العنوان ”هذه الجريدة ليست لنا إنّها وقف على طائفة أولادنا…” (عد 5206، 1937، ص 1، ع 1) في حين كانت “البشير” جريدة كل اللّبنانيّين، جريدة الوطن، كلّ الوطن تطالب باستقلال لبنان. كانت “جريدة بيروت” تعترف أنّها “وقف على طائفة واحدة”. وهذا ما كان يجعل “البشير، التي طالما جمعت تحت رايتها أقلامًا من كلّ الطوائف، تثور على مثل هذا التّعصب الذي تعدُّه “شر الآفات” وتسأل الله: “متى سيشفى الوطن من هذا الدّاء؟ هذا الدّاء الذي ما فتئ ينهش قلب الوطن. ومن بذور التفرقة، والشّقاق التي يبذرها ذاك الدّاء يسرة ويمنة ما جاء في تلك النشرات الذّميمه التي وزّعها بعضهم في بيروت، والتي كان لـ”البشير” ردّ عليها” (عد 5206، 1937، ص 1، ع 1). وما جاء في تلك النّشرات: “أيّها المسلمون قاطعوا المسيحيّين”. وما جاء في ردّ البشير: “إنّ هذه النّشرة هي ولا شكّ من صنع جهلة طائشين لا يدركون عواقب الأمور. ونحن على مثل اليقين من أنّ العقلاء من الطائفتين يزدرونها، ولا يأبهون لما تتضمّنه من الخبائث والسفاسف. على أنّ حادثًا من هذا النوع لا يحسن تركه يمضي من دون درس واستفادة. لقد رمى كاتبو النّشرة إلى إلحاق الضرر بهذه البلاد، فكم نحسن صنيعًا إذا ما قطعنا عليهم الطريق، وحوّلنا تلك السموم المميتة التي يبثّونها إلى ترياق شافٍ. فالنشرة هذه على الرّغم من تفاهة ما فيها، وضآلة قيمتها، وما تستحقّه من مقت ونبذ، تدلّ على أمر ذيّ بال واجب على كلّ منّا أن يهتمّ له، ويعمل على تلافيه. إنّها تدلّ على أنّ في هذه البلاد داء دويًّا قد يؤدّي بها إلى الموت الأحمر، إن لم تعمل على مداواته والنّجاة منه، وهو داء التّعصّب الذّميم آفة الشّرق وبليّته العظمى. فإلى أولياء الأمر والمسؤولين، وإلى عقلاء الأمّة في الوطن، من جميع الطوائف، نسوق الرّجاء بمداواة هذه العلّة التي نقدّم لهم الآن أثرًا محسوسًا من آثارها. لأنّ الأمّة المقطّعة الأوصال، لا يمكن أن تعيش تحت الشّمس، أو أن تصل إلى ما تصبو إليه من نيل المطامح والرّغائب” (عد 5213، 1037، ص 4، ع 2).
أُوقفت “البشير” عن الصّدور على إثر هذا المقال، لأنّ الحكومة عدَّته “مخلًّا بالأمن العامّ”. عندها عادت “البشير” لتحدّد أهدافها، ورسالتها بعد عودتها إلى الصدور في مقال جاء فيه: “ستبقى “البشير” لسان الحقّ القاطع، والمحامي الأمين عن استقلال لبنان. لا تداري، ولا تساير أحدًا. وسواء لديها الحاكم والمحكوم، الرّئيس والمرؤوس، فمتى كانت الحقيقة تتألّم تجدنا حاضرين للدفاع عنها، هازئين بما يمكن أن يصدر بحقّنا من أحكام إداريّة، لأنّنا نعتقد أنّ تلك الأحكام الإداريّة ربّما صدرت في ساعة غضب، أو أنانيّة، أو ترضية لفئة معروفة تطبيقًا للمراسلة 6 المكرّرة (!!!). ونحن نضحّي بالغضب، والأنانيّة في سبيل الهدف السّامي الذي نرمي إليه” (عد 5215، 1937، ص 6، عد 1).
مع ولادة كلّ مولود في هذا الكون تولد رسالة جديدة، وعلى كلّ إنسان أن يؤدّي قسطه في هذا الوجود. انطلاقًا من رسالة المؤرّخ، حاولنا نفض غبار الزّمن عن صفحات جريدة عاصرت قيام دولة لبنان الكبير، وكانت في زمنها بحقٍّ رسولة حقّ. وصفناها، أظهرنا مراحل تطوّرها، أوضحنا مبدأها، عدّدنا أقلامها ومحرّريها، حدّدنا سياستها ورسالتها، بيّنَا أسباب احتجاباتها القسريّة، استجلينا نهجها ورؤيتها، توقّفنا عند محاربتها للبدع، والإيديولوجيّات المناقضة لتعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة، كشفنا عن مدافعتها عن الأخلاق العامّة في وجه الانحدار الأخلاقيّ في زمنها، وكيف كانت صوت الّذين لا صوت لهم في مواجهة الجوع، والفقرّ، والاحتكار، والغلاء، والبطالة، وأوضحنا خطّها السّياسيّ الذي انتهجته، ولم تحدّ عنه طيلة سنوات صدورها. جاء عملنا في إطار الأبحاث التّاريخيّة التي نبغي من خلالها الكشف عن وثائق الماضي، ومصادره غير المنشورة، لتفسير الحاضر، وإنارة المستقبل، بهدف الإسهام في تعميم الثّقافة، وتسهيل الأبحاث في المصادر التّاريخيّة من جوارير الماضي، التي يصعب الوصول إليها بسهولة. نرجو أن يكون بحثنا التّاريخيّ في سنة مئويّة لبنان الكبير، الذي تناولنا فيه ميدان الصّحافة اللبنانيّة العريقة تأريخًا وتحليلًا، قد أسهم في إيصال الرّسائل التي توخّينا إرسالها إلى الحكّام، والصّحافيين، وأهل الفكر، والقلم.
المراجع
- أرسلان شكيب، 2020. النهضة العربيّة في العصر الحاضر، لندن: مؤسّسة هنداويّ.
- تويني غسان، 1985. “سر الصِّحافة “، مجلّة الفصول، عدد 15، ص 79.
- حقّي اسماعيل، 1993. لبنان مباحث علميّة واجتماعيّة، جزئين، بيروت: دار لحد خاطر.
- الحلواني، سعد، 1999. تأريخ التاريخ مدخل إلى علم التاريخ ومناهج البحث فيه، السعوديّة: [د. ن.].
- داغر أسعد، 1978. قاموس الصِّحافة اللّبنانيّة 1858 – 1974، بيروت: منشورات الجامعة اللّبنانيّة.
- دي طرازي فيليب، 1913. تاريخ الصِّحافة العربيّة، 4 أجزاء، بيروت: المطبعة الأدبيّة.
- الرفاعي شمس الدين، 2006. تاريخ الصِّحافة السوريّة من العهد العثماني حتى الإستقلال 1800 – 1947، باريس: منشورات أسمار.
- شيخو لويس، 1926. تاريخ الآداب العربيّة في الربع الأوّل من القرن العشرين، بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيّين.
- معلوف الياس، 2013. الآباء اليسوعيّون من الإيمان إلى المعرفة، بيروت: دار الفارابي.
- DUCRUET Jean, 1992. Un siècle de coopération franco – libanaise au service des professions de la santé. Beyrouth: Publications de l’Université Saint-Joseph.
[1] – ليون هنري شارل كايلا: هو أحد الحكّام الفرنسيين الذين تولّوا حكم لبنان خلال عهد الانتداب وكان تاريخ حكمه كانون الثاني 1925 إلى 26 أيار 1926.