قراءة في رواية “ألقيت السلاح” لريجينا صنيفر
الأستاذة ماجدة ريا([1])
كلمة ألقيت في ندوة افتراضيّة نقاشت الرواية
يروي كتاب “ألقيت السلاح” أحداثًا مرّت بلبنان أثناء الحرب الأهليّة، على لسان امرأة عايشت تلك المدة عن كثب، وشاركت في الكثير من أحداثها كمسؤولة إعلاميّة في القوّات اللبنانيّة في حينها، كما لو أنّها تروي سيرتها الذّاتيّة في حينها؛ وينتهي تأثيرها الفعليّ في الأحداث عند مغادرتها لبنان إلى فرنسا، ويتحوّل الفصل الأخير من الكتاب إلى تنظير خارج عن سياق السّرد الفعليّ لأحداث الحرب الأهليّة.
لإجراء مقاربة فكرية حول كتاب “ألقيت السلاح” لا بدّ من الوقوف عند المفاصل الآتية:
عنوان الكتاب، صاحب الكتاب، تاريخ النشر، مكان النشر.
1 _ عنوان الكتاب: “ألقيت السلاح” هو جملة فعليّة خبريّة مؤلّفة من فعل وفاعل ومفعول به.
تاء الضمير بفعل “ألقيتُ” تعود إلى المتكلّم – أيّ الكاتبة – التي تخبرنا من خلال العنوان أنّها ألقتْ السّلاح. وهنا إشارة إلى أنّها هي من سيقوم بدور الرّاوي أثناء سرد الأحداث.
يثير العنوان الكثير من التساؤلات، هل ألقت السلاح لأنّها ربحت المعركة؟ أم لأنّها استسلمت؟ أم لأسباب أخرى؟ ما الذي يجعلها تلقي سلاحها؟ وهل كانت تحمل سلاحًا فعليًّا؟ أم أنّ كلمة سلاح جاءت لتشير إلى كلّ ما يمكن أن يُستعمل في الحرب، كالكلمة والمواقف والتحركات…
هل كانت مقاتلة؟ وأيّ نوع من القتال تمرّست به خلال الحرب التي أشارت إليها من خلال عنوانها الفرعيّ “امرأة في خضمّ الحرب اللبنانيّة” الذي أتى تكملة للمعنى، فحدّدت هُويّة الحرب، واستثارت رغبةَ القارئ في التعرّف على الأحداث التي حصلت في هذه الحرب، خصوصًا عندما تكون المقاتلة هي امرأة. وتكون بذلك قد وفّقت في اختيار عنوان مناسب استوفى الوظائف المُهِمَّة المطلوبة منه بحسب جيرار جنيت Gérard Genette (ناقد ومنظّر أدبيّ فرنسيّ) وهي: وظيفة التّحديد، والوظيفة الوصفيّة، والوظيفة الإيحائيّة، والوظيفة الإثاريّة – الإغرائيّة.
لا شك في أنّ العنوان مغر للتعرّف على تجربة هذه المرأة، وما حدث خلال تلك الحرب التي لا يزال ذكرها يرهب كلّ من عايشها.
2 _ صاحبة الكتاب: الكاتبة ريجينا صنيفر
“ولدت ريجينا صنيفر في بيروت، وهي تعيش في فرنسا منذ العام 1987. درست الإعلام والتوثيق في لبنان، ونالت في باريس دبلومًا في الجغرافيا. في العام 1994، نشرت كتابها الأوّل بعنوان حروب مارونيّة (guerres maronites). تحمل شهادة ماجستير من معهد الدّروس العليا في التّجارة والتّسويق، وهي الآن تعمل في مجال التأهيل”. حيث إنّها درست الإعلام والتوثيق عدُّ “هذا الكتاب وثيقة نادرة في زمن تعود فيه جَلَبَة السلاح لتهدّد لبنان من جديد، فتُدميه”. بحسب ما جاء في الصفحة الأخيرة من الكتاب.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العمل التّوثيقيّ لا بدّ من أن يكون موضوعيًّا، ومن شخص محايد، أمّا هذا الكتاب فقد جاء على لسان امرأة أدّت دورًا مُهمًّا في إحدى الميليشيّات التي شاركت في الحرب، فهي صحيح سردت أحداثًا فعليّة، وبأسماء حقيقية لشخصيّاتها، إلاّ أنّها كانت تروي تجربتها الخاصّة من خلال ما عايشته من أحداث، كأنّها تستعيد شريطًا من الذكريات بكل ما يحمل من مشاعر سلبيّة تجاه الآخر المجهول بالنسبة إليها نتيجة التنشئة التي تلقتها على يدي الرّاهبات إذ تقول: “لم تكن الرّاهبات، ولا المدرسات تساعدننا على فهم هذه الدّيانة (الإسلاميّة) التي كنت أجهلها. ممّا لا شكّ فيه أنّنا كنا نتلقّى المعارف العديدة والمتينة، ولكن تلك المدرسات نسين تعليمنا التّعايش والتّحاور مع من اختلفوا عنّا، أي الطوائف السّبع عشرة التي كانت تتشارك الأراضي اللبنانية.” (ص 47)
“لعلّهن أي (الراهبات) كنّ يفتقرن للحبّ والرّعاية، فلقد كنّ عاجزات عن الإتيان بأيّ كلمة، أو إشارة تفصح عن محبّتهِن لنا…” (ص 48) كانت تتحدّث من خلال رؤيتها ونظرتها إلى الأحداث، أي من زاوية رؤية واحدة، خصوصًا أنّ مشاعر العدائيّة كانت واضحة تجاه الفريق الآخر.
فالمجتمع اللبنانيّ في ذلك الوقت كان منغلقًا على نفسه، خصوصًا عندما يكون سكّان المنطقة منتمين إلى ديانة واحدة كما أشارت الكاتبة “يقع منزل العائلة في الحدث، وهي بلدة يقطنها المسيحيّون الموارنة بشكل خاصّ.” (ص 51)، ولم تكن وسائل التّواصل متاحة بين النّاس كما هي الحال الآن، وليس هنالك تنشئة وطنيّة موحّدة، والإنسان عدوُّ ما يجهل.
3 – تاريخ النشر: صدر الكتاب العام 2006 باللغة الفرنسيّة، بعدها عرّبته الدكتورة رلى ذبيان حيث صدرت الطبعة الأولى منه العام 2008.
أشارت الكاتبة إلى أنّها نشرت كتابها بعد موت جارتها التي بقيت تنتظر ابنها المفقود لسنوات طويلة، وماتت من دون أن تراه لأنّه كان في عداد من أُلقوا في البحر للتخلّص منهم من قبل رفاقهم في السّلاح في ذلك الحين، لكنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو عن مصادفة صدور الكتاب بعد حرب تمّوز 2006 مباشرة.
فعام 2006 التّاريخ الأصليّ لصدور الكتاب هو تاريخ لا يُنسى بالنسبة إلى اللبنانيّين، ولا سيّما أنّ الكاتبة تحدّثت عن حرب تمّوز على أنّها حرب بين عدوّين تدّعي عدم انحيازها لأيّ منهما هما إسرائيل وحزب الله، بينما إسرائيل هي عدوّ لكلّ لبنان باستثناء الفئة الحزبيّة التي كانت تنتمي إليها الكاتبة في ذلك الحين، وهذا يظهر جليًّا من خلال سردها للوقائع، وبدا الفصل الأخير من الكتاب المعنون “… وبعد” غير منسجم مع الكتاب ككلّ. ففي حين أن مجمل الكتاب يتحدّث عن الحرب الأهليّة، بين الميليشيّات اللبنانيّة، وذكرت فيه الكاتبة الكثير من الأحداث بتفصيل شيّق، حتّى غادرت لبنان العام 1987 إلى فرنسا لتستقرّ هناك لأنّها لم تستطع تقبّل اقتتال أبناء الصفّ الواحد في ما بينهم من أجل السّيطرة والسّلطة، وبعد أن شهدت سَجْن بعض رفاق الدّرب، ومن ثَمَّ التخلّص منهم بطريقة مأسويّة، قرّرت الابتعاد من لبنان، لكنّها عادت العام 2006 لتشهد بدايات حرب تمّوز فغادرت مجدّدًا مع بداية هذه الحرب إلى فرنسا.
هذا الفصل فضلًا عن أنّه خارج عن سياق الحرب الأهليّة، جاء هجوميًّا، ومباشرًا تجاه فئة تشكّل مكوّنًا أساسيًا في الوطن تُظهر أنّها لا تزال في هذا الكتاب تقبع في المربع الأوّل من جهلها بالآخر، وأنّ تنشئتها لا تزال تحفر في نفسها عميقًا في تحديد البوصلة. فهي تتحدّث عن المقاومة كما لو أنّها كانت هي من تفرض الحرب وتستمرّ فيها، وتتجاهل كون المقاومة في حالة دفاع عن الأرض والعرض، في حين أنّها تختار لإسرائيل عبارات منمّقة أثناء عرضها ما جاء على لسان رئيس مجلس وزراء الدّولة العبريّة حينها إيهود أولمرت عندما قال: “إذا أُطلقت الصّواريخ ضدّ مواطنينا ومدننا، فسيكون جوابنا الحرب بكلّ القوّة والعزم والشّجاعة، وروح التّضحية، والبذل المعطاء الذين امتازت بهم هذه الأمة”. (ص 224).
ولو أنّها بقيت على الحياد كما عبّرت بأنّها لن تنحاز إلى أيّ فريق، لكان الأمر أفضل لما تتحدّث عن إلقاء السلاح، لكن الانحياز باتّجاه العدوّ الصّهيونيّ في هذا الكتاب جاء واضحًا وصريحًا.
4 – مكان النشر: صدر في فرنسا باللغة الفرنسيّة، وبعد تعريبه صدر عن دار الفارابيّ – بيروت – لبنان.
الرؤية الفرنسيّة واضحة لدى الكاتبة في سياق السّرد، الانتماء إلى الغرب والإحساس بالعداء تجاه الفلسطنيّين، والسّوريّين، والمسلمين بشكل عامّ بَدا جليًّا في سياق الأحداث، وكذلك تعدّ أنّ الغرب ومعه إسرائيل ضمنًا هو المخلّص والمنقذ للمسيحيّين – بحسب رأيها – من هيمنة المسلمين. ويصبح هذا الأمر أكثر وضوحًا في الفصل الأخير. فهي تقول: “تتحدّثون عن انتصار عسكريّ، عن تاريخ سيحمل عارًا. “شهداؤكم ضحايا. إنّ ما تجدون فيه “قتالًا مشروعًا” ليس إلا حربًا تهديميّة تدميريّة، و”الإرادة الإلهيّة” ليست إلاّ انعكاسًا لخوفكم اللامحدود الذي لا سيطرة لكم عليه. إنّ من تطلقون عليه اسم “العدوّ” ليس، وبكلّ بساطة إلاّ مِرآةً لكم.” (ص 227) فنبرة الحقد العميق والرؤية الغربيّة للأمور – وعدم عدّ إسرائيل هي العدوّ – لا تزال واضحة بين السطور. ربما كان من الأجدى أن تنهي الكاتبة الكتاب بانتهاء الحرب الأهليّة لأنّها رفضت اقتتال الأخوة في ما بينهم، وأظهرت تفهّمًا للآخر المختلف من خلال تعاطيها مع جمال المواطن المسلم، والأسير الفلسطينيّ المسلم الذي أثّر فيها حين أنشد موّالاً حزينًا لافتقاده أمَّه وهو في السّجن، وجعلها تشعر بالانتماء الإنسانيّ إلى كلّ البشر (خلال الحرب الأهليّة). عندها، رسالتُها بترك السّلاح كانت ستكون أفضل بعيدًا من العنصريّة والحقد اللذين برزا في الفصل الأخير من الكتاب.
ملاحظة: حضرت صاحبة الكتاب ريجينا صنيفر الندوة، وأوضحت أنّها في مرحلة تأليف الكتاب كانت في مسار تطوّر فكريّ أدّى بها إلى تغيير نظرتها إلى “سلاح الحقّ”، وأنّها باتت تفرّق بين القوّة والعنف، وهي اليوم مع سلاح الحقّ الموجود بين أيادٍ أمينة على الوطن ولديهم أخلاق، وهي ضدّ عودة الحرب الأهليّة، وكلّ من يسعى إليها.