الموازنةُ بين ثربانتِس وسيدي حامد البِنِنْغَلِي: من هو مؤلفُ قصّةِ دون كيشوت دي لا مَنتشا؟
حسين حيدر([1])
من هو مؤلِّفُ قصّةِ “دون كيشوت دي لا منتشا”؟ أهو ميغيل ثِربانتس؟ أم العربيُّ المُورسكيّ سِيدي حامد البِنِنْغَلِي([2])؟ يبدو هذا السؤالُ للوهلةِ الأولى مًستَهْجَنًا لجمهورِ القرّاءِ، أو أغلبِه، الذي لم يعرِف غيرَ ثربانتس مؤلِّفاً للعمل([3])، لكن تبرزُ، في المقابل، أمامَ القارئ المتفكّرِ أسئلةٌ كثيرةٌ، وشائكة، أحدُها عن الغايةِ التي دفعتْ ثربانتس (1547-1615) إلى التصريحِ بأنّ “المؤرّخَ المُورسكيَّ”، ويعني به البِنِنْغَلِي، هو صاحبُ المخطوطِ الأصليِّ للكتابِ، الذي كان ضائِعًا قبل أن يجدَه مع أحدِ الصبيةِ المُورسكيِّين في سوق طليطلة (Toledo)، ويظفرَ به ثربانتِس بعدَ أن اشتراه من هذا الصبيّ، واستأجرَ لأجلِ ترجمتِه إلى الإسبانية شخصًا مُورسكيًّا يعرِفُ “العربيةَ”، على ما يقولُ ثربانتس نفسُه، في مقدمة الفصل التاسع من القسم الأوّل للكتاب. فهل هي الأمانةُ العلميّة التي اقتضت من ثربانتس نسبة العمل إلى مؤلفه الحقيقيّ؟ أم أنّه كانت لديه مآرب أخرى، تتصلُ بتعمِّدِه إشاعةَ الغموضِ بشأنِ هويّة البِنِنْغَلِي ودوره وحضوره في النصّ، وبسعيِه لابتكار أسلوبٍ سرديٍّ جديدٍ لم تعهده الأندلسُ من قبل، تلاعبَ من خلاله بالقارئ، فنزعَ عن البِنِنْغَلِي صفةَ المؤلفِ المبتكرِ للنصّ الأصل من جهة، ووظّفَ الغموضَ في سبيل زيادة جاذبيّةِ السّردِ من جهة أخرى؟ يلاحظُ، في هذا السياق، أنّه بِقدْرِ ما يبدو ثربانتس صريحًا و”نبيلًا” في إقراره بأنّه ليس المؤلّف الأوّل لقصّة “دون كيشوت”، بقدْرِ ما يبدو هذا الإقرار مشوِّشَا ومربِكًا إلى حدٍّ كبير، ليس للقارئ الفضوليّ فحسب، بل للأوساط الأدبيّةِ العلميّةِ المرموقةِ أيضًا، كجيرار جينيت، روث الصفّار، جون ألان، جيمس بار، هيلينا بونستي وغيرهم كثير، ممَّن انكبّوا على هذا المبحثِ فحصًا وتمحيصًا، فنشروا عشرات الكتبِ والمقالاتِ والأبحاثِ النقديّةِ، في محاولةٍ منهم لفك شفرة هذا اللّغز الكبير، المحيّرِ بالفِعل. يمكنُ، ههنا، لعربيٍّ غيورٍ، أن يجزمَ بأنّ البِنِنْغَلِي هو مؤلفُ كتابِ “دون كيشوت” طالما أنَّ ثربانتس هو من أقرَّ، من حيث المبدأ، بذلك. وإذا سألنَا هذا العربيَّ عن مبرّراتِه التي استندَ إليها في موقفِه، ساقَ شواهدَ، فيها من الواقعيّة، والصدقيّة، ما يؤكّدُ أنّ سرقاتٍ أدبيّةً حَصَلَتْ، أبطالُها أدباءُ أوروبيّون، من طُرُزٍ رفيعة، جاءت أعمالُهُم مُطابِقة للأصل العربيّ “تطابقَ الحافرِ على الحافر”؛ ولأضاف، هاكم “جيوفانّي بوكاتشيو” (1313 – 1375)، صاحب الكتابِ القصصيّ الإيطاليّ الأشهر في العصورِ الوسطى، الموسومِ بعنوان “الديكاميرون”، “يسطو” على اثنتين وثلاثين قصّةً من القِصصِ الشّعبيِّ العربيِّ القديم، من إجمالي مائة قصّة تضمّنها ذلك “الكتاب”([4])، من دونِ أيِّ تعديل يُذكَر([5]). انطلاقًا من هذه المُقدِّمَة، التي أوردنا فيها إشكاليّة البحث، يمكن لي أن أضعَ عدّة فرضيّات، سأحاولُ أن أرجّحَ إحدَاها، بالاستناد إلى بعضِ ما جَمعتُ من آراء، يرى أصحابُها أنَّ “فلانًا”، من بين زيد وعمرو، هو المؤلِّفُ الحقيقيُّ لهذا الكتاب، ومنها:
- أنّ مصدرَ الكتابِ مخطوطٌ وَضَعَه سيدي حامد البِنِنْغَلِي وتخلّص منه خوفًا، وقام ثربانتس، بعد أن وجده، بإتمامِه ونشرِه معدّلًا.
- أن يكونَ ثربانتس هو مؤلِّفُ كتاب “دون كيشوت”، كما حاولَ أن يثبتَ باحثون ونقّاد، غربيّون في الغالب، ركّزت نظريّاتهم على السياق التاريخيّ لمرحلة التأليف، وعلى نماذج مشابهة لعمل ثربانتس، وعلى أسلوبِ السّرد الجديد، الذي اتبعه الأخير واستوقفهم مليًّا.
- أن يكون المورسكيّ العربيُّ سيدي حامد البِنِنْغَلِي هو مؤلف الكتاب، وهو ما يذهب إليه بعضُ النقّاد الغربيين والعرب، ممّن ركّزوا على المؤثرات العربيّة في الأدبِ الغربيّ، مستشهدين بأعمال غربيّة خلّدَها التاريخ، استلهَمَت نصوصًا عربيّة قديمة. وقبلَ الولوجِ في توسعةِ البحث، سأعرّجُ على المدوّنة، أعرّف بها، وبكل من ثربانتس والبِنِنْغَلِي بشكل مختصر، ثم أتوسّعُ قليلاً في عرضِ الآراء المختلفة، التي حاول أصحابُها إثباتَ وجهةَ نظرهم من هذا الاحتمالِ أو ذاك، على أن أختتمَ البحثَ بخلاصة تجملُ أبرز ما وصلتُ إليه من نتائج.
أولاً: التعريف بقصّةِ “دون كيشوت دي لا منتشا” (Don Quixote de la Mancha)
نشر ثربانتس الجزءَ الأولَ من الكتاب تحت عنوان ” النبيل العبقري دون كيخوته دي لا منتشا” (El ingenioso hidalgo don quijote de la mancha) في مدريد سنة 1605([6]). والكتابُ، بنسخته الراهنة، يتكوّن من جزأين، يقسم الجزءُ الأوّلُ بدوره إلى اثنين وخمسين فصلاً، أمّا الجزء الثاني فيتألف من أربعةٍ وسبعين فصلاً. يقصُّ ثِربانتس، أو البِنِنْغَلِي، وربّما كليهما معًا، مغامراتِ دون كيشوت مع: الطواحين، اليشكونشي، الينجواسيين الأشرار، قطيع الأغنام، جثة الميّت، خوذة ممبرينو، المحكوم عليهم بالإعدام، مقامه في جبل الشارات (كهف كردينيو وجبل سيرّا مورينا)، وقصة المستطلِع الأخرق، معركته مع قِرَبِ النبيذ الأحمر، قصة وليّة العهد ميكوميكونا، حياة الأسير، الذي يُعتقَدُ بأنه ثرفانتس نفسه، وما وقع من غرائب الحوادث في أحد الفنادق، ومع جنود الأخوة المقدسة، وكيف سُحِرَ دونكيشوت، ونزاعه مع المعّاز، وقصص كثيرة أخرى، قبل أن تختتم هذه المغامرات بالعودة المأساوية لدون كيشوت صحبةَ سانشو إلى بلدتهما لا منتشا([7]) حيث مات “الدون”. هاجم ثربانتس في “دون كيشوت” أدبَ الفروسيّة، فهو برأيِه أدبٌ كاذبٌ وزائف. يصفُ ثربانتس، بلسان شمّاس طليطلة، كتبَ الفروسيّة بأنّها شديدةُ الضّررِ على المجتمع، يشبه بعضُها بعضًا، وهي أقرب إلى الخرافات ووجدها” خلوًا من الفائدة، بل والمتعة”(1،32،316)، ويوضح عبد الرّحمن بدوي، في مقدمة النسخة العربية للكتاب، الذي قام بترجمته، أن ثربانتس وقف من الأدبِ الجامح القائم على الخيال موقفًا سلبيًّا، وهو يشترطُ أن يكون الأدب صادقًا معقولًا، بعيدًا من الخوارق، واقعيًّا قدر الإمكان، يحسب حسابًا للطبيعة الإنسانيّة بعيوبها ونقائصها ومحدود قدرتِها([8]).
ميغيل ثربانتس سابدرا Miguel De Cervantes Saavedra
وُلِدَ “ميغيل دي ثربانتس سابدرا” في إسبانيا سنة 1547 ميلادي([9]). أمضى طفولَته في مدينة بلد الوليد، وسافر في شبابه إلى إيطاليا حيث عمل في حاشية الكاردينال جولو أكوافيفا. درس اللّغة الإيطالية، وقرأَ على كبار الكتّاب الإيطاليين، فتأثر بلودوفيكو أريوستو (1474-1533) وملحمَتِه “أورلندو الهائج”، كما تأثر بروائع الفن والأدب اليونانيّين اللذين كانا منتشرين في إيطاليا. انخرط في الجندية سنة 1568، ثم ما لبث أن أُسِرَ على يد الأتراك وسيقَ إلى مدينة الجزائر، حيث أمضى في سجونها خمس سنوات، قبل أن يطلق سراحه سنة 1580 مقابل فدية مالية. يقول عبد الرحمن بدوي (1917-2002) إن مدّة الأسر هذه كان لها أعمق الأثر في نفسِ ثربانتس وفي إنتاجه الأدبيّ، وقصّة “دون كيشوت” هي خير شاهد على هذا التأثّر البالغ. ويعتقد بدوي، وكثيرون غيره، أنّ ثربانتس “جمع خلال سنوات الأسرِ مادةَ قصّتِه وصاغَ شخصياتها([10])، واتخذ من تجربته في الأسر “إطارًا لأحداث جميلة قصّها في الكتاب”([11]) أيضًا. كتب ثربانتس عددًا من المسرحيّات أهمّها: “نوماثيا”، “حمامات الجزائر”، الجلف السعيد”، “أوردمالس”، كما كتب قصصًا قصيرة وأخرى مطوّلة، وأشهر قصصه إضافة إلى دون كيشوت هي “غالاطية” Galatea التي نشرها في 1585([12])، “الغجرية”، “حوار الكلاب”، “العاشق المتحرر”. أمّا شعره فليس في مرتبة عالية، بل هو أضعف جوانبه. تعتبر قصيدته “رحلة إلى جبل بارناسوس” التي نشرها قبل وفاته العام 1614 أشهر أعماله الشعرية، وأطولها([13]). يعزو إدوارد روزشتاين سبب شقاء ثربانتس إلى كونه ينتمي إلى عائلة من المتحوّلين، أيّ المورسكيِّين، وهذا يفسّر سبب عدم تمكنّه من الحصول على الوظائف التي كان يحلم بها في سلك الدولة([14]). ولهذا فقد كان دائم الشقاء، ولم يجد خيرًا من السّخرية والتّهكّم يستعين بهما على احتمال الحياة، فحفلت أعماله بسخرية لاذعة وتهكم قاتل، فهاجم البلديات وعقليتها الضيقة، وهاجم الأديرة وأنظمتها، وهاجم محاكم التفتيش، وسخِر من أدعياء الشّجاعة، وأدعياء الحكمة، وأدعياء التقوى، وتهكَّم على النقابات بسلوكها النفعيّ، وسخر من الجماعات الأدبية وما يَسُودُها من حسدٍ ووضاعة، وما يصدر عن الشعراء والكتاب الوضعاء من مهازلَ أدبيةٍ وتملّق ورياء وما يلجأون إليه من كسبٍ وضيع، وانتقد رجال الدولة، ورجال الدين ونبلاء الأقاليم([15]).
سيدي حامد البِنِنْغَلِي ( (Cide Hamete Benengeli
لا يُعرف عن البِنِنْغَلِي أكثرَ ما أورده ثربانتس في الدّون كيشوت. فهو “سيدي حامد البننغلي”، و”المُورسكي العربيّ”، و”المؤرّخ العربي المنتشاوي” (قسم1، فصل22)، و”المؤلف”، و”الأب Padre”، أي إنه أبو الكتاب. يذكر ثربانتس اسم البِنِنْغَلِي في العمل أربعين مرة، ويذكره بالاسم والإشارة حوالى المائة مرّة([16])، أمّا عبّاس باحوس فيقول إن العمل يشير إلى البننغلي بحدود اثنتين وسبعين مرة([17]). وحقيقة كون البننغلي منتشاويًّا، كما يصرّح ثربانتس، يعني أنّه كـ دون كيشوت، ينتمي إلى منطقة لا منتشا” (La Mancha)، ولكي يتمكّن البِنِنْغَلِي من سردِ كلِّ هذه الأحداث والتفاصيل في حياة “دون كيشوت” فهذا يعني أنّه يمكن أن يكون معاصرًا له، أو عاش قريبًا من زمنه، علمًا أنّ في القصّة إشارات إلى كون البِنِنْغَلِي قد لازم دون كيشوت وصاحِبَه سانشو في كل مغامراته، أو في بعضِها على الأقل. يقصّ ثربانتِس أنّ سانشو بعدَ أن تعشّى بصحبةِ الطبيب رثيو “خرج ليقوم بجولة تفتيشيّة، مصحوبًا بناظِر القصر، والسكرتير، ورئيس الطهاة، والمؤرخ المكلّف بتسجيل أفعاله وأعماله (247،49،2)، كما نجدُ البننغلي يرافق “الفارسَين” بعد عودتهما من مغامرة قتل التسيدورا. يقول ثربانتس: “استغل سيدي حامد. مؤلف هذا التاريخ العظيم، نومَهما ليروي كيف رتب الدّوق الأمور وصنع المغامرة التي أتينا على وصفها”(2،70،613). يتوافق كثير من المؤرّخين، من بينهم جيمس بار James Parr، على أنّ سيدي حامد البِنِنْغَلِي “لم يكن شرقَ أوسطيًّا، ولا شمال أفريقيًّا، بل مُورسكيًّا مَنتشاويًّا”. ويقول كارول جونسون في هذا الشأن: “إنّ لاحتمال كونِ البننغلي مُورسكيًّا منتشاويًا تأثيرًا على نوع المخطوط الذي يمكن أن يكون قادرًا على إنتاجه، وهذا يعني أنّ مخطوط سيدي حامد لم يُكتب على الأرجح باللّغة العربية، كما يعتقد أغلب الباحثين، فلكي يكون المخطوطُ الأصلُ مكتوبًا بالعربيّة في “لا منتشا”، فإنّه كان ينبغي للبِننغلي أن يكونَ جزءًا من الثقافة الإسلامية في الأندلس، لكنّ هذه الثقافة أخمدت سنة 1492، وحُوصِرت حتى اندثرت العام 1499 عندما نقض فرناندو الكاثوليكي عهده الذي كان أعطاه للمسلمين، ومنعَ المُورسكيون من التحدّثِ باللّغة العربيّة بموجب قانون سنة 1567، الذي تزامن إعلانه مع اندلاع ثورة “البوخارا” (Alpujarra)، علمًا أنّ المورسك كانوا، بحسب كارول جونسون، قد فقدوا صلتهم بالعربية قبل ذلك بنصف قرن ربّما”([18]).
تُجمِع المصادر، كما يقول جونسون، على أن المُورسكيين كانوا بحلول العام 1600 يجهلون اللّغة العربية عمومًا، مع وجود استثناءات في مناطق أراغون الريفيّة، وفي مناطق في مدينة فلنسيا وغرناطة، وهذا يقود إلى نتيجة مؤدّاها أنّ المخطوط الذي وقع عليه المؤلِّفُ الثاني، أي ثربانتس، لم يكن مكتوبًا بالعربية لكن باللغة “الألخاميّة”، وهذه لهجة إسبانية يتكلّم بها المجتمع المُوريسكي وتُكتب بالحرف العربيّ، علمًا أنّه لمْ يرِدْ في نصِّ ثربانتس أي إشارة إلى اللّغة التي كتب بها البِنِنْغَلِي مخطوطَه، أو ما إذا كان كتبه باللّغة العربيّة، كما يقول جونسون الذي يستشهد بقول ثربانتس عن المخطوط: “فوجدتُها مكتوبةً بحروفٍ عربيّة، ولمّا كنتُ لا أعرف (لا أستطيع) قراءتها وإن استطعت تمييز ما هيَ، ففكرت فيما إذا كنت أستطيع العثور على عربي متنصّر، يمكن أنْ يقرأها لي (…) وأخيرًا ساق لي القدر مترجمًا” (1،9،94)، هذا يظهر أنّ ثربانتس لم يستطع قراءة النصّ المكتوب بالحرف العربيّ، على الرغم من أنّه عرفَ اللّغة العربية أثناء أسرِه في الجزائر([19]).
ننتقل الآن إلى مناقشة الفرضيات التي عرضناها في المقدمة
الفرضيّة الأولى: واحتمال أن يكون مصدر الكتاب مخطوطٌ وَضَعَه سيدي حامد البِنِنْغَلِي، وقام ثربانتس بإتمامِه ونشرِه معدّلاً. يمكنُ النظر بصحّة هذه الفرضية بشكل أوليّ بالاستناد إلى تصريح ثربانتس في الفصل التاسع من القسم الأوّل[20] الذي يقول فيه: “كنت ذات يوم في درب القناة في طليطلة فشاهدت صبيًّا أتى تاجر أقمشة حريرية ليبيعه كراسات قديمة وأنا شديد الولع بالقراءة.. فدفعني هذا الميل الطبيعيّ إلى تناول إحدى الكراسات، فوجدتها مكتوبة بحروف عربية، ولما كنت لا أعرف (لا أستطيع) قراءتها وإن استطعت تمييز ما هي، ففكرت فيما إذا كنت أستطيع العثور على عربي متنصر، يمكن أنْ يقرأها لي (…) وأخيرًا ساق لي القدر مترجمًا (…) فقام هذا العربيّ المتنصر يترجم من العربية إلى الإسبانية قائلًا: إنَّ العنوان معناه (نصه) هذا: تأريخ دون كيخوته دي لا منتشا، تأليف سيدي حامد بن الأيل المؤرخ العربي (…) وسرعان ما ابتعدت ومعي العربي المتنصر واقتدته إلى رواق الكاتدرائية ودعوته إلى أنْ يترجم هذه الكراسات كلها إلى الإسبانية، أو على الأقل ما يتعلق فيها بدون كيخوته (…) لكن لهفتي (…) وحرصي جعلتاني أقتاد هذا العربي المتنصر إلى بيتي فأتم ترجمة هذا التأريخ كلّه الذي أوردناه هنا واستغرق في الترجمة ستة أسابيع أو يزيد قليلاً“.
هذا التصريح الذي يقوله ثربانتس هو ما يعتمد عليه أنصار نظريّة أنّ البِنِنْغَلِي هو المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب، خصوصًا أنّ ثربانتس اتّبع في ما قاله تقليدًا أدبيًّا كان سائدًا في الأندلس، ينسب فيه المؤلفون أعمالهم، وخصوصًا مؤلفو الأعمال الشّعبية وكتب الفروسيّة، إلى مخطوطات أصليّة كتبها مؤلفون آخرون، كثير منهم من العرب المورسكيّين، وليس من قبيل الصدفة أن يكون عنوان أول وأكثر ملحمة وطنية إسبانيّة أهمّية هي “قصيدة السيّد” (Poema de mio Cid) عربيًّا([21]). تعدُّ قصيدة السيّد أعظم نصٍّ أدبي كتب باللّغة القشتالية سنة 1140، وهي من ملحمة شعبيّة تتحدّث عن البطولة وتدور حولها، والتي ينقل الطاهر مكّي في كتابه ” ملحمة السيّد”، عن رينهارت دوزي Reinhart Dozyأنّ القصيدة منسوبة إلى بدرو أباد Petro Abbat، لكن الأخير نسخها عن مخطوط سابق([22])، وهو ما فعله ثربانتس تمامًا في كتاب “دون كيشوت”.
الفرضية الثانية: وتقول إنّ “ثربانتس، لا البِنِنْغَلِي، هو مؤلِّفُ الـ دون كيشوت”. هذه فرضيّة تبناها عددٌ غير قليل من الباحثين، وكان لكلٍّ منهم منهجُه في إثباتِ وجهة نظره. من هؤلاء هوارد مانسنغ”([23]) الذي لجأ في كتابه الذي ألّفه لهذا الغرض، والموسوم بعنوان “سيدي حامد وميغيل سرفانتس: ما وراء السّرد في قصّة دون كيشوت”([24])، إلى دراسة التقنيات السّردية والأسلوبيّة للعمل، ومحاولة إثبات أنّ ثربانتس تعمّد إبراز أصوات الكثير من الساردن للقصّة، وفي مستويات سردية متعدّدة، للإيحاء بصدق ما يسرُد، وتاريخيّته، على الرّغم من تهكّمه في أكثر من موقف على أبرز هؤلاء، ألا وهو البِنِنْغَلي، مباشرة حينًا، ومواربةً حينًا آخر، موحيًا، في أكثر من موقف، أنّ الأخير ليس غير شخصيّة من شخصيّات القصّة خلقها هو، ووظّفها في خدمة مشروعه القصصيّ.
يرى مانسنغ أنّ أساليب السّرد في دون كيشوت يمكن أن تحدّدَ بدقّة طبيعةَ شخصيّةِ سيدي حامد البِنِنْغَلِي، ودروه في سياق الأحداث. يورد في هذا الإطار عددًا كبيرًا من الأمثلة على المنهجيّة التي اتبعها ثربانتس لهذا الغرض، وتمثّلت بتعدّد طبقات أو مستويات السرد وتنويع أساليبه و”خلطها”، مع حرصه على بقائه ساردًا مهيمنًا، وخلقِ الانطباع لدى القارئ بأنّه هو صاحبُ العملِ لا البِنِنْغَلِي. وبالفعل، وعلى الرّغم من أنّ مستويات السّرد قد تجاوزت الأربعة أو الخمسة، إلا أنّ صوت ثربانتس بقي فيها مهيمِنًا، مخترقًا كلّ طبقات السّرد، مصادرًا الأصوات الأخرى، من خلال تعليقاته ومواقفه التي أدلى بها هنا وهناك. يلاحظ مانسنغ انطلاقًا من ذلك، أنّ بنية السّرد في المقدمة، وكذلك في القسم الأول من العمل بسيطةٌ وسهلة، إذ يبرزُ ثربانتس ساردًا وحيدًا في هذا القسم، وهو سارد من المستوى الأوّل. ويعدُّ المُترجمُ المُورسكي، ساردًا من المستوى الثاني، بل ساردًا مهيمنًا في هذا المستوى أيضًا. ومن الأمثلة على هيمنة هذا الأخير وتصرّفه في المخطوط، مصادرًا حقّ مؤلِّفه الأول، ذِكْره أنّه تعمّد حذف الوصف الطويل الذي أورده البِنِنْغَلِي في مخطوطه لبيت دون دييغو دي ميراندا باعتباره “استطرادًا طويلًا غير مفيد” (18،2).
ينتقلُ السّرد بدءًا من الفصل التاسع في هذا القسم، إلى البِنِنْغَلِي بوصفه ساردًا من المستوى الثالث، نظرًا لكونِه صاحب المخطوطِ الذي اشتراه ثربانتس. مع ذلك، لا يترك ثربانتس، مناسبة إلا ويتدخّل فيها معلّقًا على مدى موثوقيّة ما يقصّ البِنِنْغَلِي، ومعلّقًا في كثير من الأوقات ما وجده هِنَات أو أخطاء ارتكبها الأخير، بل إنّه يتبرأ من ذكر بعض الأحداث التي أوردها البِنِنْغَلِي. يقول ثربانتس: “وألاحظ أنه يقصّ هذه المغامرة (مغامرة كهف مونتسينوس) بأدق التفاصيل، ولم يكن من الممكن أن يكون قد ألف في هذا الوقت القليل خرافة بهذا التعقيد، فإن بدت كاذبة منحولة، فلا أملك في هذا شيئًا، وليس الخطأ خطأي، وأنا أوردها من غير أن أؤكّد أنّها صحيحة أو كاذبة وأنت أيّها القارئ احكم عليها كما يحلو لك، فلا أملك في الأمر شيئًا، وهم يؤكدون مع ذلك أن دون كيخوته، عند احتضاره، تنصل من هذه المغامرة، وقال إنه تخيّلها لأنها بدت له تتناسب تمامًا مع كل التي قرأ عنها” (327،24،2). وكم من مرّة عمد ثربانتس إلى امتداح البِنِنْغَلي فنعته “بالفضولي كثيرًا والدّقيق للغاية” (1، 16، 158)، و”الحكيم واليقظ” (1،27، 279)، كما امتدح مخطوطه بشكل متكرّر لـ”صدقه وعنايته بالتفاصيل”، علمًا أن ثربانتس كان سبق ذلك إلى السّخرية منه والحطّ من قدره، عندما عبّر عن حزنِه لكون صاحبِ المخطوطِ مورسكيّ عربيّ، لأنّ من “عادة هذه الأمّة الكذب” (1،9،102)، ثمّ يعود للغَمز من جهة أمانة البِنِنْغَلي في نقل الأحداث، ويذكر كيف يستنكر الأخير أحداثًا جرت مع دون كيشوت وذكرها في مخطوطه. يقول ثربانتس، نقلاً عن المترجم، الذي يبدو أنه يتواطأ مع ثربانتس، إنّ: “من ترجم هذا التّاريخ الكبير عن الأصلِ الذي ألَفه مؤلفه الأوّل سيدي حامد بن البِنِنْغَلي، يقول إنّه حين وصل إلى الفصل الخاصّ بمغامرة كهف مونتسينوس، وجد على هامش المخطوط التأملات التالية، مكتوبة بخط حامد نفسه يقول فيها: “لا أستطيع أن أتصوّر ولا أن أقنع أن المغامرات الموصوفة في الفصل السابق قد وقعت فعلاً للشجاع دون كيشوت، لأنه حتى الآن كانت كل مغامراته محتملة وممكنة، أما مغامرة الكهف فلا سبيل إلى عدّها صحيحة لأنّها تتجاوز حدود العقل“”. ثمّ لا يلبث ثربانتس أن يتبرأ من هذه القصّة، ويترك للقارئ الفطن أن يحكم عليها بنفسه. كما ينقل ثربانتس أنّ البِنِنْغَلي فضل عدم سردِ تصرفات دون كيشوت “المجنونة” عندما التقى الفتاة التي يدعوها سانشو دولثينيا (2، 10، 642)، وهذا يدل على عدم أمانته في النقل، خصوصاً أنّ البِنِنْغَلي، بحسب ما يذكر ثربانتس، قد حذف فصولاً تتحدّث عن الصداقة بين حصان دون كيشوت روثينانته وحمار سانشو، يقول ثربانتس: “حتّى أنّ نقلاً متوارثاً من الأب إلى الإبن يروي أنّ مؤلف هذا التاريخ الحقيقي خصّص لها فصولاً، لكن من أجل الاحتفاظ بالتزويق المناسب لتاريخ بطوليّ، لم يولجها فيه” (248،12،2)، قبل أن ينقل عن البِنِنْغَلي وعده للقارئ بأنّه سيعود إلى “ذكر الأحداث التي لا يذكرها الآن في فصل لاحق” (1، 47، 937)[25]، هذه النماذج من تدخّل البِنِنْغَلي مربكة بالفعل، لأنّ القارئ يمكن أن يستنتج أنّ من يفعل هذه الأمور هو ثربانتس، لا البِنِنْغَلي. ثمّةَ مؤشرات كثيرة على وجودِ مستوى رابع من السّرد، وهو ما ذهب إليه، لوك F. Locke الذي يعتقد أنه قد يكون “ثمّة مصادر للقصة سبقت مخطوط البِنِنْغَلي نفسه” ويستدل على هذا بذكر البِنِنْغَلي أنّه أخذ المخطوط عن مؤلفين سبقوه، يقول البِنِنْغَلي في وصف أولى مغامرات دون كيشوت: “على أنّ من المؤلفين من يذكر أنّ أولى مغامراته كانت ميناء ليثه، وآخرون يقولون إنها كانت مغامرة طواحين الهواء، ولكن تحقيقي لهذا الموضوع وما وجدته مسجلاً في أخبار المنتشا دلًّا على أنّه…” (قسم1، فصل2، ص 40).
كما أنّ هناك ساردين يقعون في مستوى وسط بين ثربانتس والمترجم والبننغلي، يقول ثربانتس” ثمّ إنّ هذه الصداقة بين هذين الحيوانين كانت كبيرة، فريدة، حتّى أنّ نقلاً متوارثًا من الأب إلى الإبن يروي أنّ مؤلف هذا التاريخ الحقيقي خصّص لها فصولاً، لكن من أجل الاحتفاظ بالتزويق المناسب لتاريخ بطوليّ، لم يولجها فيه” (248،12،2). كما يمكن عدّ دون كيشوت ساردًا من مستوى رابع يقول ثربانتس: “وعلى هذا النحو تقدّم وانسحب كل أشخاص المجموعتين، رقصوا وأنشدوا أشعارًا، بعضها جيّد والبعض الآخر مضحك، ودون كيشوت، على الرّغم من قوة ذاكرته، لم يحفظ غير التي رويناها” (302،20،2)، كما أنّه هو من يقرر، بوصفّه قاصًّا، أن تفاصيل قصة السائس “تحتاج فصلًا مستقلًا” (372،32،2).
هكذا برأي أصحاب هذا المنهج، نجح ثربانتس من خلال التفنن في أساليب القصّ، وغايته أن يجعل من البننغلي شخصيّة من شخصيّات القصّة التي خلقها هو، حاله كحال المترجم، ودون كيشوت، والشخصيّات الأخرى الكثيرة، بما يؤكّد أن كلّ ما ذكر بشأن سيدي حميد، يدخل في باب التفنّن القصصي، الذي برزَ من خلاله ثربانتس قاصًّا وحيدًا مهيمنًا.
الفرضية الثالثة: وتنص على أنّ المُورسكيَّ العربيَّ سيدي حامد البِنِنْغَلِي هو مؤلف الكتاب.
بحسب الناقد الأمريكي كارول جونسون تمثّل قصّة “دون كيشوت” أحد أبرز الأمثلة على الحضور المتزامن لكلٍّ من النص السردي Fiction(قصّة دون كيشوت وسانشو ومغامراتهما) وللميتاسرد Metafiction (قصّة الكتاب نفسه، كيف ظهر إلى الوجود، وأبرز خصائصه). ويضيف أنّ قصصَ الفروسيّة تتصف بكونها تتبع تمامًا هذا التقليد الميتاسردي، حيث تذكرُ كل كتب الفروسيّة، نظريًّا، قصّة الأصلِ الذي جاءت منه، وما هو المسار الذي سلكَه هذا الأصل حتى وصل بين يدي القارئ. ويؤكّد جونسون أنّ معظم قصص الفروسية تتحدّث عن كونها نتاجًا لمؤرخ موثوق وجد مخطوطًا كتب بلغة أجنبية، ويتضمن قصّة خيالية، قام هو بترجمتها بنفسه أو طلب من مترجم آخر القيام بتلك الترجمة، لكي يقدمها إلى القارئ بلغته([26]).
ويرى جونسون أنّنا دخلنا مع قصّة “أماديس دي غولا” Amadis de Gaula (1508) مدار الشّعبيّة الهائلة للرومانسيّة القشتاليّة. في هذا الكتاب قدّم “غارثي رودريغيز مونتالفو” نفسَه مؤلفًا للكتبِ الثلاث الأولى من العمل، ومترجمًا للكتاب الرابع، علمًا أنه يمكن، بحسب جونسون، من خلال قراءة الكتب الثلاث الأولى التمييز بين كون مونتالفو مؤلفًا لكتاب موجود أصلًا، وبين كونه مترجمًا للكتاب الرابع الذي يقدمه كنص آتٍ من نصٍّ سابق. وبحسب مونتالفو، فإنّ مخطوط الكتاب كان مدفونًا في تابوت حجري أسفل دير، قريبًا من مدينة القسطنطينية، وأن المخطوط كان مكتوبًا باللغة اليونانية، وأنّه أحضر إلى إسبانيا بواسطة أحد التجار الهنغاريين. ومؤلف هذا الكتاب هو مايسترو إليصابات Maestro Elisabatوهو شخصيّة من شخصيّات الكتاب الأصل، الذي يزعم أنه شهد “المغامرات” التي قام بتدوينها([27]). وكما هي العادة دائمًا، وفي ما يتعلق بالنصوص، فإنّه لا يوجد أي دليل داخلي في النص الذي نقرأ يسمح لنا بتحديد وتمييز العمل الحقيقي من العمل الأصلي الخفيّ Phantom pre-text. ومع وجود استثنائات قليلة لكن معتبرة، يتجاوز التقليد الأدبي هذا السؤال ويفضل التعامل مع المخطوط المكتشف، لغته الأصلية ومؤلفه، كمظاهر لنوع أدبيّ، وأحد الأوجه التعريفية لأدب الفروسية الرومنسيّ([28]).
لكن.. في كثير من الحالات تبدو قصّة وجود مخطوط أول صحيحة. فبدايات عصر النهضة، عندما اكتُشف المخطوط الخفيّ لنسخ من “أماديس إسبلانديان” واكتشاف الباقي بوصفها نصوصًا، فقد شهد اكتشاف مخطوطات أصلية وحقيقة لكتاب السياسة لأرسطو. ولهذا، ونظريًّا، فإنّ القسم الأعمّ من قصصِ الفروسية يعتمد، أو هكذا يفترض، على تعديلات أو ترجمات ما يسمّيه الكاتب ” النصوص الشبحيّة” أو الخفيّة. وأن دراسة هذه الأعمال هي بشكل طبيعي دراسة للنسخ الموجودة بين يدي القارئ والتي يسميها ” النص الذي نقرأ” لكونه النص الوحيد المتوفّر لدينا للقراءة أو الدّراسة. وينقل الباحث اهتمامه إلى ما يسميه النص الخفيّ السابق للنص الراهن. ويرى أنّه في بعض الحالات، وبالتحديد في حالة دون كيشوت، فإن التخييل الذي نجده في النص الذي نقرأ يدعونا إلى أخذ النص الأصل على نفس المستوى من الجدية التي نتعامل بها مع الوجود المتخيّل للبطل ومغامراته. ولهذا فإنا علينا مقاربة كلا النصين، الراهن text والأصل Pre-text بنفس مستوى الاحترام([29]). في دراسة تأمليّة أعدّها فرنسوا ديلبيك Francios Delpech عن اكتشاف مخطوط سيدي حامد البننغلي التي أوردها ثربانتس في الفصل التاسع من القسم الأوّل للقصّة، يضع ديلبيك النصّ الراهن والنص المخطوط في سياق علاقة يعبّر عنها بمصطلح “حافزية الكتاب المخبّأ والمكتشف”، والهدف برأيه منح الموثوقية والهيبة للكتاب الذي يقدم إلى القارئ. ويجادل ديلبيك بأنّه من غير المنطقيّ أو المناسب طرح السؤال عما إذا كان النصّ الخفيّ موجودًا، لأنّ ما هو مهم هو: مدى التناصّ intertextuality الحقيقي أو المتخيّل الذي انفتح، التأثيرات الإدراكية والمسافة التي يتخذها المؤلّفُ من نصّه، والتلاعب بالقارئ لناحية مرجعيّة النصّ. ويخلص دلبيك إلى أنّ لحضور النصّ الأصل تأثيرًا قويًّا على علاقة القارئ بالنص الراهن الذي يقرأه([30]). طرد المورسكيون من إسبانيا بين 1609م و1614م، وكانت إحدى عواقب هذا المرسوم حصول ثورة البوخارا Alpujara وارتداداتها التي ظهرت في عدد من النصوص الأدبية وغير الأدبية، التي كان موضوعها الوجود العربيّ-الإسلاميّ في شبه الجزيرة الأيبيرية. وأول هذه النصوص كانت “رياش الجبل المقدس” (Libros plumbeos del Sacro Monte) و”مخطوطات برج توربيانا”pergaminos de la torre Torpiana) ) في 1588 و1590 التي وجدت ضمن آثار ما كان يومًا مسجدًا في غرناطة، ثم جاء العمل التأريخي الموسوم بعنوان “التاريخ الحقيقي للملك دون رودريغو” (Historia verdadera del rey don Rodrigo) الذي كتبه المورسكي ميغيل دي لونا، ونشر سنة 1592، وأخيرًا قام خينيس بيريز دي إيتا بتحويل مخطوط “الأيام الأخيرة للمملكة الناصرية في غرناطة” إلى قصّة خياليّة.
تنطلق نظرية جونسون من حقيقة أنّ ثربانتس كان واعيًا ومدركًا لهذه الحقائق الاجتماعيّة – السياسيّة، وللأهمية المفاجئة التي حظي بها التراث النصّي الذي استقيت منه، وهو ما حفّزه بالتالي على مَرْسَكَةِ([31]) من مورسكي نصّه الخاصّ، من أجل أن يكون أكثر قدرة على البروز في ذلك العصر الإشكالي والضاغط اجتماعيًّا. ويرى جونسون أنّ كلّاً من مخطوطي “الحرب المدنية في غرناطة” والنسخة المنقحة لـ”التاريخ الحقيقي للملك دون رودريغو” قد كتبا باللغة العربية من قبل مؤرخين عرب، وتمّت ترجمتهما إلى القشتالية لاحقًا، وأنّ كِلا العملين قد خلبا لب ثربانتس، وأنّ من المؤكد أن كتاب “التاريخ الحقيقي للملك دون رودريغو” قد تسلل داخل كتاب دون كيشوت. ويؤكّد جونسون أنّه على الرّغم من التعارض في أكثر من طريقة، إلا أن كتاب قربانتس ما كان ليكون لولا كتاب التاريخ الحقيقي([32]). يعود جونسون إلى ميغيل دي لونا، الذي كان أحدُ مُورسكِيَّين قد استئجارهما لترجمة كتابي “مخطوطات برج توربيانا” و”كتب الرياش للجبل المقدس”، علمًا أن الخبراء بشكل عام يعتقدون، بحسب جونسون، أنّ هناك احتمالاً بكونه هو وزميله ألونسو ديل كاستيلو كانا معًا بالفعل مؤلفي كلا العملين([33]).
يخلص جونسون إلى القول إنّ نص حامد هو إذًا نص وهمي، بمعنى أنه نص موجود في الترجمة. إنّه عمل أحد أعضاء أقلية اضطهدت ثقافيًّا واجتماعيًّا، وأخضعت سياسيًّا، عمل خُنق وطُمس بوساطة النصّ الحقيقي، أي النصّ الذي ترجم إلى القشتالية الذي قدّمه المؤلف الثاني، وهو ما يعبّر عنه جان بودريار Jean Baudrillard بعبارة “تصفية الحقيقي والمرجعي”، و”القضاء على الأخر بواسطة الافتراضي”، ويستخدم بوديارد عبارة “التطهير العرقي” لوصف انكساف النصّ الحقيقي والمرجعي لصالح النصّ الافتراضي.
يعتقد جونسون أن نسختي قصة دون كيشوت، أي نسخة حامد البننغلي، ونسخة المؤلف الثاني، تتفقان مع ما ذهب إليه أفلاطون من أن النصّ الموجود، والملموس، ليس هو النص الحقيقي، لكنّه تمثيل ومحاكاة، ثم لا يبلث النص المُحاكِي، أي نص المؤلف الثاني، أن يحلَّ محلَّ النص الأول ويطمسه، ولا يعود بالإمكان ولوجه إلا من خلال مخيلة قويّة وحسّاسة، بخلاف ذلك فإنّ هذا النصّ يحضر بشكل متكرر أمام القارئ من خلال تعليقات المؤلف الثاني الساخرة والمتكررة. فإذا بالنص المفترض أن يختفي، لا يختفي، والفضل في ذلك يعود إلى محاولات المؤلف الثاني لازدرائه([34]).
من جهته، يشير عبد الرحمن بدوي إلى أنّ هناك اعتقاد بأنّ كتاب دون كيشوت ” تداولته المحافل الأدبية في القصر الملكي وهو مخطوط قبل أن يُطبَع، وينقل عن منندث Ramon Menendez Pidal أن الفصول الأولى من دون كيشوت متأثرة بمسرحية قصيرة صاحبها مجهول، والدليل على ذلك أنّ البطل يرى نفسه في أبطال الأغاني الملحمية الشعبية، بينما في سائر الكتاب لا يفقد الشعور بشخصيته([35]). أمّا الناقد العراقيّ شكيب كاظم فذهب إلى أنّ ثربانتس لم يكتب القصّة كلّها، بل كتب القسم الأوّل منها، في حين كان القسم الثاني من حصة العربيَ الأندلسيّ “سيدي حامد بن الجيلي”، ويرى كاظم أنّ كثرة الأغلاط، وفشو السهو والقصص خارج السياق منتشرة في ثنيات الكتاب، ما يؤكد أنَّ هناك أكثر من شخص تعاور على كتابته والإضافة إليه، فضلا على اختلافات كبيرة وكثيرة حتى في الأفكار والتوجهات بين قسمي الرواية، وهذا ما يعزز ما ذهبت إليه من أنَّ القسم الثاني من الرواية لم يكتبه ثربانتس بل سيدي حامد بن الجيلي. فلو كان العمل لمؤلف واحد، لما ظهرت هذه الفروقات، بل إنّ قسمي الكتاب مستقلين، ولا مجال للجدال في تفوق القسم الأوّل على الثاني، والدلائل تعزز القناعات بأنَّ العمل بقسميه لا يعود لكاتب واحد، وإلا ما تفوق قسم على قسم، لو كانا صادرًا عن قلم واحدٍ وقريحة واحدة.
وفي الختام يمكنني أن أسأل: هل عاصر المترجم سيدي حامد البننغلي؟ والذي عاصر بدوره سرفانتس؟ وهو ما يطرح بدوره السؤال هل خاف البننغلي ونشر سرفانتس العمل، كما حصل مع مؤلف قصيدة السيّد؟ فبادر سرفانتس إلى تخييل البننغلي، كما خيّل نفسه، حماية لصديقه المورسكي من الملاحقة والقتل؟ لعبة موزازنة يجمي نفسه بنسبة العمل إلى البننغلي، ويحمي البننغلي بتخييله! أم أن سرفانتس نجح في إشغال القرّاء منذ أربعة قرون؟
المصادر العربية
- سرفانتس، دون كيخوته، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار المدى للثقافة والنشر، أبو ظبي، طبعة أولى، 1998.
المراجع العربية
- ملحمة السيّد، ترجمة الطاهر مكي، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2005.
- “ألف ليلة وليلة والديكاميرون: دراسة بنيوية مقارنة”، حسين حيدر، رسالة ماستر، الجامعة اللبنانية، 2015.
- كاظم، شكيب، دون كيخوته” هل كتبها ثربانتس ام العربي الاندلسي سيدي حامد بن الجيلي؟ جريدة رأي اليوم الالكترونية، 4 أيار 2020، تاريخ الزيارة 25 ايار 2021.
المراجع الأجنبية
- Collingwood, A.C, The Decameron: Its sources and analogues, London: Nutt 1909.
- orgت. ز 20/5/2021
- Edward Rothstein, nytimes.com arts/ regarding-cervantes-multicultural-dreamer. June 13, 2005,ت. ز 25/5/2021
- Ruth, El Saffar.” Distance and Control, University of North Carolina Press, University of North Carolina at Chapel Hill for its Department of Romance Studies, 1975
- Abbes, Bahous, The Novel and Moorish Culture: Cide Hamete “Author“ of Don Quixote (Doctoral Thesis), University of Essex, 1990.
- Don Quijote prepared by Martín de Riquer (Barcelona: Planeta, 1962)
- Howard, Mancing, Cide Hamete Benengeli vs Miguel de Cervantis: The Metaficional Dialectic of Don Quijote, Cervantis: Bulletin of the Cervantes Society of America (1981).
- Carroll Johnson, Phantom Pre-texts and Fictional Authors: Sidi Hamid Benengeli, Don Quijote andthe Metafictional Conventionsof Chivalric Romances), Bulletin of the Cervantes Society of America (2009).
1– طالب في المعهد العالي للدكتوراه الجامعة اللبنانيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم اللغة العربيّة.
[2]– اعتمدنا اللفظ كما هو منطوق بالاسبانية Benengeli علماً أنّ ثمة عدّة أسماء شهرة لسيدي حامد منها: “بنجيلي، بن الأيّل، بن علي… إلخ”.
[3]– هناك من يعرّب كلمة Quixote الإسبانية إلى كيهوت، أو كيخوت، كيخوته، وقد اخترنا أكثرها تداولاً في اللسان العربي، أي “كيشوت”.
[4]– يمكن الرجوع إلى ملاحق رسالة الماجستير التي أعددناها، وكانت تحت عنوان “ألف ليلة وليلة والديكاميرون: دراسة بنيوية مقارنة”، الجامعة اللبنانية، 2015. ويراجع كتاب آي. كولينغوود المذكور في الهامش التالي.
[5]– Collingwood, A.C, The Decameron: Its sources and analogues, London: Nutt 1909.
[6]– انظر بدوي، ص19.
[7]– انظر بدوي، ص18.
[8]– انظر بدوي، ص 10.
[9]– انظر بدوي، ص 5 و6.
[10] –https://www.donquijote.org/spanish-language/spanish-writers/miguel-de-cervantes/ ت. ز 20/5/2021
[11]– انظر بدوي، ص7.
[12]– بدوي ص 9.
[13]– انظر بدوي، ص8.
[14]– Edward Rothstein, https://www.nytimes.com/2005/06/13/arts/regarding-cervantes-multicultural-dreamer.html June 13, 2005, ت.ز 25/5/2021
[15]– انظر بدوي، ص16.
[16]– El Saffar estimates that he “appears at least a hundred times” in Part II and that this increased presence is due to “the need for distancing and clarification.” Distance and Control, p. 83.
[17]– Abbes, Bahous, The Novel and Moorish Culture: Cide Hamete “Author “ of Don Quixote (Doctoral Thesis), University of Essex, 1990), pp.4.
[18]– جونسون 190.
[19] – جونسون 192.
[20] – سنشير من الآن فصاعداً إلى صاحب المصدر، ونكتب إلى جانب الاقتباس (القسم، الفصل، الصفحة) على التوالي.
[21]– Abbes, Bahous, The Novel and Moorish Culture: Cide Hamete “Author “ of Don Quixote (Doctoral Thesis), University of Essex, 1990), pp.4.
[22]– انظر ملحمة السيّد، ترجمة الطاهر مكي، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2005، ص 66.
[23]– Don Quijote prepared by Martín de Riquer (Barcelona: Planeta, 1962)
[24] -Howard, Mancing, Cide Hamete Benengeli vs Miguel de Cervantis: The Metaficional Dialectic of Don Quijote, Cervantis: Bulletin of the Cervabtes Society of America (1981).
[25] – مانسنغ، ص 68.
[27]– جونسون، ص 180.
[28] – جونسون، ص 181.
[29] – جونسون 181.
[30] – جونسون 182.
[31] – moriscicize.
[32] – جونسون 189.
[33] – جونسون 192.
[34] – جونسون 192.
[35] – سرفانتس، دون كيخوته، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار المدى للثقافة والنشر، أبو ظبي، طبعة أولى، 1998، ص10.