قراءة مقارنة في مفهوم السلطة بين “ماكس فيبر” و”بيار بورديو”
عليّ شلهوب*
تعدّ السّلطة ظاهرةً اجتماعيّةً اهتمّ بها الإنسان منذ القدم من سقراط، وأفلاطون مرورًا بهويز، ولوك، وميشيل فوكو، و”ماكس فيبر”، و”بيير بورديو” وإلى عصرنا هذا، واختلف هذا الاهتمام من عصرٍ إلى آخر. والسلطة تعرف ضمن مفهوم، أو طابع واحد، وهو مفهوم التّسلّط لأشخاص على مجموعةٍ من الأفراد بحكم أنّهم أقوياء جسديًّا أو عقليًّا.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ هذا التّحوّل النوعيّ، الذي شهده التعامل والبحث في مفهوم السلطة، جاء نتيجة طبيعيّة لتضافر عوامل سوسيو اقتصاديّة، وسياسيّة، وثقافيّة، وحضاريّة عدّة، التي كان لها الدور الأساسيّ والأكبر في تطوّرِ الواقع الغربيّ المادّيّ المعيشيّ، والحضاريّ في جميعِ ميادين المجتمع الغربيّ، سواء تعلّق الأمر بالواقع الأمريكيّ، أو الأوروبيّ.
هذا التقدّم التاريخيّ والحضاريّ الهائل، الذي كان له التأثير الإيجابيّ الكبير، والعميق على المستوى الفكريّ، والفلسفيّ، والعلميّ، أدّى في أواخر القرن العشرين إلى ظهور مجموعة من الأبحاث، والكتابات المتمرّدة على الطرحِ التقليديّ الضيّق لمفهوم السلطة ومقاربته، وأسّست لنفسها أفقًا واسعًا.
تعدّدت الآراء واختلفت حول مفهوم السلطة، وكان من أبرز الآراء الّتي أغنت السوسيولوجيا بمجموعة من المصطلحات، والمفاهيم هي للمفكريّن، والفيلسوفَيْن ماكس فيبر، وبيير بورديو اللذين أسّسا لمفهوم “السلطة“، وعُرفا باجتهاداتهما المُهِمَّة في مجالِ الدراسات الاجتماعيّة، وعلم الاجتماع الانعكاسيّ. فما هي أهمّ تصوّراتهم حول مفهوم السلطة؟
أوّلًا: “ماكس فيبر” “Max Weber” (1873 – 1937)
ولد في مدينةِ “Erfurt” في ألمانيا، وقضى جزءًا من حياتِه في ضواحي برلين. كان والده سياسيّا نشطًا وعضوًا في البرلمان (الريشتاج)، وينتمي إلى الحزب القوميّ الليبراليّ. درس لمدّة سنتين في جامعة هايدليبج، وأكمل تعليمه في برلين، حيث حصل على درجة في القانون، والدكتوراه في الاقتصاد، وعيّن في جامعات عدّة. أُصيب بانهيار عصبيّ حادّ أقعده عن العملِ، فسافر أثناءها إلى أميركا عام 1904 في زيارة لتعرّف البحوث التي تجري فيها.
نُشِرَت له الكثير من الدراسات والمقالات في مجلّة (أرشيف العلوم الاجتماعيّة والسياسيّة)، وكان من أبرز ممثّلي الكتابات الألمانيّة في العلوم الاجتماعيّة، وسُجّلت له العديد من الكتب والمؤلَّفات.
يُعدّ علمُ الاجتماع بالنسبةِ إليه متميّزًا بطابعه الذاتيّ، على الرغم من تأكيده لعناصر العقليّة التي ينطوي عليها نشاط الإنسان عمومًا. (ماكس فيبر، 2011، ص 371)
تكلّم “فيبر” عن مفهوم السلطة، وبالتحديد الشكل الأمثل للسلطة قبيل الحرب العالميّة الثانية وبعدها، حيث كان هذا المفهوم حاضرًا في خطاباته ومحاضراته.
ظهرت تحليلات “فيبر” للسلطة كأيّ ظاهرةٍ نابعةٍ من بناءات اجتماعيّة، واقتصاديّة، ودينيّة، ومن خلال ربطها بالسياق المجتمعيّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* طالب دكتوراه، الجامعة اللبنانيّة، معهد العلوم الاجتماعيّة.
يرى “فيبر” إنّه “لا توجد أيّ تنظيمات اجتماعيّة لم تستخدم القوّة أو تمارس السلطة، بل تعدّه القوّة والسلطة من أهمّ مظاهر وجود الدولة، وإن كانت تختلف طبيعة ممارسة القوّة بين التنظيمات القديمة والحديثة لاختلاف طبيعة التيّارات اجتماعيّا واقتصاديًّ. كما تختلف أيضًا شرعيّة الاعتقاد، وللسلطة وسائلها المتعدّدة” (عبد الله عبد الرحمن، لا ت، ص 265) حتّى شرعيّة النظام تدور حول نوعين هما: “الموافقة أو الإرغام/ الإجبار”. (عبد الله عبد الرحمن، لا ت، ص 254)
* التعريف العمليّ للسلطة
هي الشرعيّة التي يحملها شخصٌ، أو جماعةٌ في وجه شخصٍ، أو جماعةٍ أخرى، ويعرّفها “فيبر”: “بأنّها نوعٌ من القيادةِ التي تعمل لإيجاد طاعةٍ، أو ائتمارٍ عند أشخاص معنيّين” (عبد الله محمّد عبد الرحمن، 2006، ص 378).
كما يقول “إنّها ضرورة إلزاميّة في التنسيقِ بين فئتين، بمعنى أنّ هناك مصدرًا معيّنًا يعطي أوامر محدّدة تُفرض على مجموعةٍ معيّنةٍ من الأشخاص طاعتها“. (عبد الله محمّد عبد الرحمن، 2006، ص 373)
- أصل المفهوم
يعدّ “ماكس فيبر” علم الاجتماع السياسيّ نقطة الانطلاق لدراسة السلطة/ القوّة والسياسة، فالبحث عن الشكلِ الأمثل للسلطة عنده، كان أمرًا ملحًّا قُبيل الحرب العالميّة الثانية، وصار أكثر إلحاحًا بعدها، وهذا ما تجلّى في اقتراحاتِه المتعلّقة بوضع نظامٍ جديد لألمانيا. (ماكس فيبر، 2011، ص 393)
السلطة بمفهوم “فيبر” هي أنّ الفرد، أو المجموعة لكي يكونوا بالسلطة عليهم الاعتقاد بأنّ أوامرهم ستنفّذ حتمًا. أمّا الأشخاص الذين ينفّذون هذه الأوامر إنّما يفعلون ذلك لاعتقادهم بمشروعيّة من يعطيها.
ويمكن رؤية مفهوم السلطة من خلال العلاقات داخل العائلات، بين البالغين والأطفال حيث يتّخذ رئيس الأسرة القرارات. وداخل المنظمات، ينظر إلى المديرين على أنّ لهم الحقّ في أعطاء الأوامر؛ وفي القوّات المسلّحة، يوجد نظام صارم للمرتبة والسلطان؛ وفي السياسة، حيث تَسنّ الحكومات القوانين التي يُنتظر أن تحصل على الطاعة.
عدّ “فيبر” أنّ أنظمة السلطة تتنوّع عبر المجتمعات، وكذلك عبر الزمن. فميّز بين ثلاثة نماذج للحكم المشروع (Weber, M. 1958, p11) من السلطة/ القوّة السلطان في التاريخ.
- التقليديّة Traditional
- الكاريزميّة Charismatique Authority
- العقلانيّة/ القانونيّة Rational Légal
هذه النماذج أو الأنماط الثلاثة مثاليّة، وتساعد الباحثين في التعاملِ مع ظواهر العالم الحقيقيّ. على الرغم من أنّ إطار “فيبر” يبدو مرئيًّا زمنيًّا من التقليديّ إلى الكاريزميّ إلى العقلانيّ/ القانونيّ. إنّ أيّ أنموذج من هذه الثلاثة يمكن أن يصبح هو المهيمن، والأكثر حضورًا عادةً، وبالإمكان وجود الاثنين أو الثلاثة في الوقت نفسه.
1ـ التقليديّة “Traditional“
هي السلطة/ القوّة التي تحقّق مشروعيتّها من خلالِ احترام أنماط ثقافيّة ثابتة وطويلة المدى، وقع نقلها عبر الأجيال. في هذا النظام يطيع الناس الأوامر استنادًا إلى المكانةِ التقليديّة للحكام. حيث ترتكز على الاعتقاد بشرعيّة التقاليد، إذ رأى “فيبر” أنّ في النفسِ البشريّة جزءًا من الإيمانِ جعلَها تقبل شرعيّة نظام معيّن منذ نشأة الوحدة الأولى للدولة، وأنّ الأجيال توارثت هذا الاعتقاد فأصبح عرفًا أو تقليدًا. وكما هو موجود أيضًا في النظامِ الحديث وفي نظرهِ أنّ درجة استقرار النظام السياسيّ تتوقّف على درجةِ الشرعيّة التي يكتسبها نتيجة العرف أو التقليد. (إبراهيم درويش، 1975، ص287).
يخضع الأفراد للسلطة لأنّهم يقدّسون التقاليد المتوارثة من الماضي التي تلزمهم بالطاعة، وهذه التقاليد قد تكون غير مبرّرة، ومع ذلك يتمّ الخضوع لها، وقد مرّت بمراحل، ففي البداية سادت فكرة أنّ الله مصدر السلطة، ثمّ تحوّلت إلى سلطة العائلة الواحدة الحاكمة، ثمّ رئيس القبيلة، والمالك، والأمير. إنّ مفهوم الوفاء هو الذي يفسّر سبب هذا الخضوع لسلطة الحاكم التقليديّ.
تأتي مشروعيّة السلطات التقليديّة من المعرفةِ والقَبول بهذه الطريقة التي وقع تنظيم الأشياء عليها في السابق. يعطي “فيبر” مثالًا عن ذلك: حكم الأسرة الوراثيّ للنبلاء في أوروبا في القرون الوسطى حيث يقدّم الناس ولاءهم لهذه الأسر “الأرستقراطيّة والملوكيّة” لا إلى القوانين التي تمّ وضعها. وهذا يعني أنّ الناس يطيعون الحكّام ويشعرون بأنّهم يدينون لهم بإخلاص شخصيّ.
2ـ الكاريزميّة “Charismatique Authority“*
يعدّ “فيبر” الكاريزما موهبة يتمتّع بها بعض الأشخاص الأمر الذي يؤهّلهم لتولّي مراكز قياديّة وهذه خاصّة بالأنبياء والأمراء والقادة العسكريّين، ومؤسّسي الديانات الوضعيّة. لذلك تعدّ الكاريزما واحدة من الصفات الملازمة للسيادة، أو السلطة. (ماكس فيبر، 2011، ص 395)
ميّز ماكس “فيبر” في تنميطه الشهير لأشكال السلطة بين الأنماط التقليديّة، والكاريزميّة، والرشيدة للسلطة. وينهض النمط الأوّل على قائدٍ ذي رسالةٍ تقليديّة، أو يشمل منصبًا له قداسة تقليديّة. على خلاف ذلك يعمل نمط السلطة الكاريزميّة على زعزعة التقاليد، ويقوم فقط على التأييد الذي يلقاه شخص القائد.
فالسلطة الكاريزميّة يقودها شخص غير عاديّ “خارق” يملك صفات حقيقيّة، أو وهميّة، ويعرّف “فيبر” الكاريزما بأنّها “خاصّيّية ما في شخصيّة الفرد يتميّز بمقتضاها عن سائر الرجال العاديّين، ويعامل على أساس إنّه قوى فوق طبيعيّة، أو فوق إنسانيّة، أو أنّه يتّسم على الأقل ببعض الخصائص، أو القوى غير العاديّة. وهذه الخصائص لا يتمتّع بها الأشخاص العاديّون، ولكنّها تعدّ ذات مصادر إلهيّة أو مثاليّة، واستنادًا إليها يعامل الشخص الحائز لها باعتباره قائدًا. (جوليان فروند، لا ت، ص 112)
وقد شاع استخدام مفهوم الكاريزما في علمي الاجتماع الدينيّ والسياسيّ، ومن هذه النماذج التقليديّة للشخصيّات الكاريزميّة السيّد المسيح وهتلر…
اتّسمت، ومن وجهة نظر “فيبر”، معظم المجتمعات الغابرة بسيادةِ بنى السلطة التقليديّة، التي كانت تخترق من فترة لأخرى بثوراتٍ كاريزميّة. وبالرغم من أنّ المقصود من المفهوم هو إلقاء الضوء على بعضِ جوانب العلاقة بين القائد والأتباع، فإنّه يشير أيضًا إلى وجودِ عنصر غير عقلانيّ في سلوكِ الأتباع، واستناداً إلى ذلك فقد خَضع المفهوم لبعضِ النّقد، لذا تعدّ الكاريزما نمطًا غير مألوف (خارج نطاق النظام والحياة اليوميّة) وتلقائيّة (بالمقارنة مع الأشكال الاجتماعيّة المستقرّة) ومنشئة لحركات وبنى جديدة. وقد عدّ “فيبر” القادة الكاريزميّين المُلهمين المقابل الرئيسس للصرامة البيروقراطيّة الموجودة في الديمقراطيّات الجماهيريّة، وعدّها مصدرًا لعدم الاستقرار والتجديد.
وتمثّل الكاريزما إحدى قوى التغيّر الاجتماعيّ، وعلى الرغم من أنّ القيادة الكاريزميّة تكون مخوّلة لأشخاص فعليّين بعينهم، فإنّها تضفي على حاملها خصائص القداسة، حيث يستجيب الأتباع لذلك بإقرارهم بأنّ من واجبهم خدمة القائد. كما أنّها نظامًا غريبًا على النظمِ المجتمعيّة المستقرّة. ويوضح “فيبر” ذلك بقوله: “من وجهةِ النظر الموضوعيّة، فإنّ كلّ سلطة كاريزميّة سوف تجد نفسها مضطرّة لأن تؤمن بالقول المأثور: إنّه أمر مكتوب… ولكنّي أقول إنّه مكتوب عليك…”.
وتميل السلطة الكاريزميّة إلى تشويش وبلبلة الأشكال التقليديّة، حيث كانت مصدر ابتكار وتغيير عبر التاريخ. كما تعتمد على الحبّ الشديد الذي يشعر به الخاضعون تجاه قائدٍ ما، بسبب صفاته الاستثنائيّة التي تلهمهم التفاني والإخلاص له.
وتتّسم هذه الظاهرة بأنّها مؤقّتة وغير ثابتة، فقد يغيّر القائد رأيه استجابة “لتأثّره بالروح الجماهيريّة”. أثبت مفهوم الكاريزما إنّه من الصعب تعرّف ماهيّته لأنّه من غيرِ الواضح إن كانت الكاريزما تعود إلى الخصال الخاصّة الموجودة فعليًّا في شخصيّة القائد، أو إلى إدراكِ الآخرين بأنّ القائد يملك تلك الخصال. وهناك الكثير من الأمثلة التاريخيّة كـ”أدولف هتلر والمهتاتما غاندي و…”.
أمّا على المدى الطويل، وبعد موت القائد فإنّ السلطة التي سوف تخلفه إمّا أن تكون بيروقراطيّة متّسمة بالطابع القانونيّ الرشيد، أو ترتدّ إلى البنى المؤسّسيّة للتقاليد التي يكون قد تمّ استيعاب الكاريزما في إطارها، وقد يتبع ذلك أزمة في الإيمان، والشرعيّة وعندما تتحوّل السلطة الكاريزميّة إلى روتينيّة، فإنّها تميل نحو التحوّل إلى أنظمة تقليديّة، أو قانونيّة.
- العقلانيّة / القانونية “Légal/ Rational“
مع ظهور الرأسماليّة رأى “فيبر” أنّ السلطة التقليديّة مهّدت لظهور السلطة القانونيّة العقلانيّة. هذه السلطة/ القوّة التي تأخذ مشروعيتها من خلال قوانين وتنظبمات سنّت شرعيا لتجمع بين الاعتقاد في القانون والعقلانيّة الرسميّة في اتّخاذ القرارات.
واللافت عند “فيبر” أنّه عدّ العقلانيّة مذهبًا وسيرورة، وهي طريقة غربيّة في التفكير وأنّ الغرب هو الحاضن، والمروّج لهذا المذهب، الذي ترقى مبادئه إلى “كنت” الذي جعل العقل حكمًا في كلّ الأمور، (ماكس فيبر، 2011، ص 394)، وهو يمثّل الوجود والعلم.
وعرّف “فيبر” العقلانيّة أنّها “مفهوم تاريخيّ يتضمّن عالمًا كاملاً من التناقضات. وعلينا أن نبحث عن الروح التي ولد منها هذا الشكل الملموس من الفكر ومن حياة العقلانيّين” (ماكس فيبر، لا ت، ص 41 – 42) ، فالتنظيمات الحديثة والأنظمة البيروقراطيّة، والديمقراطيّة للحكومات التي توجّه الحياة السياسيّة للمجتمع، تمكّن من ممارسة السلطة العقلانيّة القانونيّة عندما يقع التوصّل إلى القرارات والأوامر عبر عمليّة فانونيّة، وليس وفقًا للتقليد أو لرغبات الفرد.
إنّ البيروقرطيّة هي الشكل الأنموذجيّ للسلطة القانونيّة – العقلانيّة، وهذا النوع من السلطة يستمدّ شرعيّته من القانون، والطاعة، والخضوع للقانون.
أمّا الدول الحديثة الديمقراطيّة، فيمارسونها وفقًا للقانون الدستور. إذ تقوم على الاعتقاد العقلانيّ الرشيد، والعلم والتخصّص، ويمارس هذا النوع من السلطة وفقًا لمجموعة من القواعد والقوانين المعياريّة المحدودة (عبد الله عبد الرحمن، 2006، ص 37).
ويرى أنّ تجريد السلطة من طابعها الشخصيّ هو الذي نقل أوروبا من مرحلة النظام الإقطاعيّ إلى مرحلة الدولة الأمّة بشكلها الديمقراطيّ بعد أنّ مرّت الملكيّات المطلقة.
إنّ انتقال المجتمع من التقليديّ إلى المجتمع العقلانيّ هو شيء حتميّ، ولكن هذا الانتقال التاريخيّ لحركة المجتمع يجب أن يمرّ بالسلطة المُلهِمَة الكارزميّة.
وضع “فيبر” الأسس البيروقراطيّة، وبحث في كيفيّة تركيز السلطة الملازمة للمنصب، وبين السلطة المبنيّة على المعرفة والتقنيّة، أي السلطة البيروقراطيّة، وقال: “إنّهما يكوّنان الهيكلة الأساسيّة للتحليل المعاصر حول مفهوميّة السلطة السياسيّة” (رضوان السيّد، 1985، ص 14)
لقد وضع “فيبر” نظريّة مُهِمَّة في السلطة وتعريفها، وربط بين السلطة والقيم في الحياة الاجتماعيّة، وركّز على الدين والأخلاق البروتستانيّة.
ثانيًا: “بيير بورديو” “Pierre Bourdieu” (1930 – 2002)
يُعدّ أقوى علماء الاجتماع الفرنسيّين في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين تأثيرًا، ورُشّح ليكون مديرًا للدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة في باريس في بداية الثلاثينيّات من عمره. وُلد في مدينة تجاريّة صغيرة في مقاطعة بيرن الواقعة في جبال البرانس (على الحدود الفرنسيّة الإسبانيّة) حيث كان والده يعمل ساعيًا للبريد.
استكشف “بورديو” الديناميّات الثقافيّة وديناميّات القوّة لعددٍ كبير جددًّا من الميادين الاجتماعيّة المرتبطة ببعضها. وكان مهتمًّا اهتمامًّا متواصلًا بفضحِ الأساطير الأيديولوجيّة التي تضفي الشرعيّة على الأوضاعِ الاجتماعيّة الجائرة.
حاول “بيير بورديو” قراءة بنية المجتمع الغربيّ، والكشف عن آليات السيطرة والهيمنة المتعدّدة لتحديد مفهوم السلطة. تنطلق نظريّة “بورديو” من تقسيم العالم الاجتماعيّ إلى مجموعة حقول مستقلّة نسبيًّا، فيتحدّث عن بنية الحقل، وهي حالة من حالات علاقة السلطة بين الفاعلين، أو بين المؤسّسات المتصارعة، وفهم هذا العالم الاجتماعيّ، يتوقّف على البحث بعمق وبجدّيّة كبيرة، في كيفيّة اشتغال آليّات حقول ذلك العالم الاجتماعيّ، من أجلِ الكشف عن واقعِها وطبيعة منطقِها الداخليّ، في علاقتِه الجدليّة بمفهوم السلطة. يقول “بورديو” بهذا الصدد، في حوار أجرته معه مجلّة الفكر العربيّ المعاصر، (إن السلطة ليست شيئًا مُتموضعًا في مكانٍ ما، وإنّما هي عبارة عن نظامِ من العلاقات المتشابكة، ونجد أنّ كلّ بنية العالم الاجتماعيّ، ينبغي أن تؤخذ بالحسبان، من أجل فهم آليّات الهيمنة والسيطرة”. (مجلّة الفكر العربيّ،1985، ص 37).
إنّ السلطة إذًا، حسب “بورديو”، هي بمثابة نظام معقّد، يخترق كلّ العلاقات والترابطات، التي تشتغل داخليًّ، بواسطة آليّات دقيقة وفاعلة، تتحكّم في البنية العامّة لذلك النظام. وبعبارةٍ أخرى، تعدّ بنية الحقل حالة من حالات توزيع الرأسمال النوعيّ الذي يوجّه الاستراتيجيّات اللاحقة بما أنّه روكم أثناء الصراعات السابقة. إنّ هذه البنية التي تولّد الاستراتيجيّات الهادفة إلى تغيير تلك البنية نفسها، تدخل نفسها دومًا في اللعبة.
بالإضافة إلى أنّ هذا المنظور المنهجيّ في التحليل السوسيولوجيّ عند “بورديو“، حريص كلّ الحرص، على ربط مفهوم السلطة، كركن إجرائيّ جوهريّ في الفعل التحليليّ، بمفاهيم أخرى، لا تقلّ أهمّيّة وقيمة، من مفهوم السلطة ذاته، ونذكر من بينها، مفهوم النسق، والحقل، واللعب… الخ، وهي على كلّ حال، مفاهيم تستمدّ أهمّيّتها، من تصوّر “بورديو” للبحث المنهجيّ والأداة التحليليّة، المرتبط باستراتيجيّة كونيّة وشاملة، مؤسّسة على نظام مشروع فكريّ، لبناء آليّات وقوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعيّ ودراستها، كما أسلفنا، تحقيقًا لهدف رئيس، هو صياغة نظريّة عامّة لمفهوم السلطة الرمزيّة، من هنا يبدو أنّه من المستحيل الحديث عن مجتمعات إنسانية خالية من العنف، فهو ظاهرة أكيدة في المجتمعات البشريّة. فالعنف الرمزيّ يرتبط بالسلطة والحقل المجتمعيّ، بمعنى أنّ الدولة تمارس عبر مجموعة من المؤسّسات (الإعلام، والمدرسة، والفنّ، والدين…) عنفًا رمزيّا ضدّ الأفراد والجماعات.
يتحدّث “بورديو” في مؤلَّفاته عن احتكار العنف (السلطة/ القوّة النوعيّة) الذي يميّز الحقل المدروس.
العنف الرمزيّ* حيث بيّن “بورديو” بعض وسائله، ومدى فاعليته في تثبيت دعائم الدولة والسلطة السياسيّة الذي يعدّ عنفًا غير فيزيائيّ، يتمّ أساسًا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والأيديولوجيا، وهوشكل لطيف وغير محسوس من العنف، وهو غير مرئيّ بالنسبة إلى لضحاياهم أنفسهم، فهو يتمّ عبر وسائل عدّة (شوفالييه، س. وشوفيري، ك. 2013، ص 223 – 219)
فعند تعريف “بورديو” للدولة يعطي العنف الرمزيّ معنى “القوّة الخفيّة التي تمارسها الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ معهم” (Bourdieu, P. 1994, P 164). ويبرز هذا المعنى على نحو جليّ في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسيّ لناحية الاعتقاد ببديهيّات النظام السياسيّ، أو لناحية إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعيّة من وجهة نظر المهيمنين. “إنّ السلطة الرمزيّة، من حيث هي قدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات اللفظيّة، ومن حيث هي قدرة على الإبانة والإقناع، وإقرار رؤية عن العالم أو تحويلها، ومن ثمّة قدرة على تحويل التأثير في العالم، وبالتالي تحويل العالم ذاته، قدرة شبه سحريّ تمكّن من بلوغ ما يعادل ما تمكّن منه القوّة (الطبيعيّة أو الاقتصاديّة) بفضل قدرتها على التعبئة”. (بيير بورديو، 2007، ص 56)
نجد هذا النوع من العنف (السلطة/ القوة) في التربية وتلقين المعرفة والأيديولوجيا. فالمدرسة مثلاً تحت ظلّ ديمقراطيّة التعليم والمساواة، تحدّد الناجح وغير الناجح، والمتقدّم والمتأخّر، ولأنّ رأسمال الرمزيّ متفاوت بفعل تفاوت المستويات المجتمعيّة، فمجموع معارف الأغنياء يتناسب مع سواهم لأنّ المدرسة تحاكم الجميع وفقًا لرأسمال رمزيّ، لمجموعة واحدة هي عادة الطبقة الوسطى. فتصير هذه المؤسّسات أداة طبقيّة لـ”إعادة إنتاج” السلطة القائمة في المجتمع. طالما أنّ معايير التمايز هي وفقًا لطرف واحد وليس معيار كلّيّ.
وهذا النوع من العنف، شكله لطيف وغير محسوس، أيضًا هو غير مرئيّ بالنسبة إلى من تقع عليهم هذه السلطة. فنلاحظ، أنّ السلطة الرمزيّة، تستند عنده دومًا، إلى أسلوب التورية والاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقّق تأثيرها المفترض، وتنفيذها بشكل فاعل وإيجابيّ، إلاّ من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه، من طرف أغلبيّة الناس المعنيّين بها، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهميّة، ولا يعترفون بها. يقول “بورديو” بهذا الصدد “إنّ السلطة الرمزيّة هي سلطة لامرئيّة، ولا يمكن أن تمارَس، إلاّ بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنّهم يخضعون لها، بل ويمارسونها” (بيير بورديو، 2007، ص 52) إنّ هذه السلطة لا تعمل عملها إلاّ إذا اعترف بها، أي إذا لم يؤبه بها كقوة اعتباطيّة، وهذا يعني أنّ السلطة الرمزيّة لا تتجلّى في “المنظومات الرمزيّة، وإنّما في كونها تتحدّد بفضل علاقة معيّنة تربط من يمارس السلطة بمن يخضع لها، أي إنّها تتحدّد ببنية المجال التي يؤكّد فيها الاعتقاد ويعاد إنتاجه”. (بيير بورديو، 2007، ص 56)
فتأثير السلطة الرمزيّة يكون أعمق وأخطر، لسبب بسيط، يتمثّل في كونه يستهدف أساسًا البنية النفسيّة والذهنيّة للمتلقّين لها، وبالتالي فهي – أي السلطة الرمزيّة – تمارس فعلها العميق، وتخطّط من أجل فرض وتحقيق الأهداف المرسومة والمتوخّاة، وإنتاج الأدوات والآليّات، والمعايير المناسبة، والناجعة، لتثبيت واقع وضع إنسانيّ وخلقها مرغوب فيه ومخطّط له، وتمارس سلطة الرمز كلّ هذه الأعمال بطريقة منظّمة وبنائيّة، وتحت غطاء الخفاء والاختفاء، وراء حجاب أقنعة المألوف العاديّ، وأنظمة التقليد، والقانون، والخطابات الشائعة بين الناس. فهي تمارس على الفاعلين الاجنماعيّين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبًا لا يعترفون به كعنف، حيث إنّهم يستخدمونه كبديهيّات، أو مسلّمات من خلال وسائل التربية، والتنشئة الاجتماعيّة، وأشكال التواصل داخل المجتمع. ومن هذا الجانب يمكن وحسب “بورديو” فهم الأساس الحقيقيّ الذي تستند إليه السلطة السياسيّة في بسط سيطرتها وهيمنتها، فهي تستغلّ بذكاء التقنيّات والآليّات التي تمرّ من خلالها السلطة الرمزيّة، التي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقلّ تكلفة وبفاعليّة أكثر، خصوصًا أنّ هناك توافقًا بين البنيات الموضوعيّة السائدة على أارض الواقع، وبين البنيات الذهنيّة الحاصلة على مستوى الفكر.
- الحقل واللعب وعلاقتهما بالسلطة
إنّ اعتماد مفهوم الحقل، في التحليل السوسيولوجيّ عند “بورديو“، هو بمثابة تقنيّة إجرائيّة دقيقة وأساسيّة، للتفكير بصيغة العلاقات، أي التفكير على نحو علاقيّ وجدليّ، بدل التفكير بالطريقة البنيويّة الجاهزة والضيّقة الأفق، كما كانت سائدة ومهيمنة، في بداية انشغال “بورديو” بموضوع السلطة الرمزيّة (عصر انفجار الفكر البنيويّ في أوروبا)، لهذا كانت أبحاثه المعرفيّة والعلميّة عامّة، محاولة منه لتصحيح مسار فكريّ وفلسفيّ اقتنع به، ومارسه بنقد وهدم الفكر السائد، وتأسيس الفكر الفاعل والبديل.
يتشكّل الحقل، حسب “بورديو“، من جملة علاقات موضوعيّة، القائمة بين مجموعة من الأوضاع، التي تحدّد في وجودها بمحتلّيها، وهؤلاء المحتلّون لتلك الأوضاع، إمّا أن يكونوا فاعلين أو مؤسّسات، حسب موقعهم الحالي، أو المحتمل، في بنية توزيع أنواع السلطة (الرأسمال) المتعدّدة التي يتطلّب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصّة، وهي شرط أساسيّ ومهمّ لتحقيق لعب متوازٍ بين القوى الفاعلة في الحقل، وفي الآن ذاته، بواسطة علاقتهم الموضوعيّة بالأوضاع الأخرى (سيطرة، تبعيّة، تطابق… إلخ).
“إنّ حقل السلطة ليس حقلاً كسائر الحقول كلّها: إنّه مكان علاقات القوّة بين أنواع رأس المال المتعدّدة، أو بكلام أدقّ، بين الفاعلين المزوّدين كفاية بأحد أنواع الرأسمال المتنوّعة بما يجعلهم قادرين على السيطرة على الحقل المعني” (عادل العوا، 2000، ص 63). كما يرتبط مفهوم الحقل، بمفهوم الرأسمال ارتباطًا وثيقًا، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافيّة والاقتصاديّة، كقوّة لها سلطة فاعلة رمزيّة للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب، في الحقل المعني، الذي من الطبيعيّ أن يشهد بدوره، حركيّة داخليّة مُهِمَّة واشتغالاً ديناميًا محكمًا، سيؤدّي فيما بعد، إلى نشوء نزاعات وستتراكم وتختمر، لتنفجر في المرحلة الموالية، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب (سواء كان لعبًا طبيعيًّا، أو سياسيّا، أو اجتماعيّا، أو فكريًّا، أو دينيّا، أو ثقافيًّا، أو حضاريًّا… إلخ)، وذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة، والاحتفاظ بها قدر الإمكان، أو تحويل تشكّل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة، تتناسب ووضع اللعب الجديد.
“حتّى نفهم حقلاً ما، لا بدّ من معرفة وضعه فى مجال السلطة” يقوم الحقل على أوضاع يحتلّها أفراد ومؤسّسات، تتوزّع بينهم السلطة الرمزيّة، الساعية نحو تحقيق أهداف خاصّة. عبر تنظيم أوضاع السيطرة والتطابق في المصالح والتبعيّة. وتبقى القوّة الفاعلة داخل الحقل تقوم على الرأسمال الرمزيّ في توجيه (فضاء اللعب؛ الاجتماعيّ، والسياسيّ، والدينيّ، والثقافيّ، والأدبيّ) على حدّ تعبير “بورديو” سعيًا لحفاظ القوى المهيمنة على مكتسباتها بما تستطيعه من تكيّف مع الأوضاع الجديدة والمتغيّرة.
العلاقة بين الأفراد والمؤسّسات داخل الحقل، تبقى خاضعة لقواعد ثابتة، فلكلّ موقف تربويّ أم سياسيّ أم فنّيّ أم رياضيّ أم دينيّ، يقابله مجال إنتاج داخل الحقل. إنّه التواطؤ على المعاني، ذلك الذي يميّز مجال العلاقات، والإنتاج داخل الحقل. إنّه التناغم بين السيطرة والهيمنة والقوّة، وهي الممارسة المستمدّة من عملاء الحقل، تلك التي تبقى مشروطه، بمدى الانسجام، والتوافق الصادر عن الفاعل الاجتماعيّ بما تستند إليه رؤية العالم والحسّ المشترك لدى العملاء. العنصر الفاعل في إبراز مكامن السلطة، لا يقوم على صراع مباشر بين أطراف، بقدر ما يكون الاستناد إلى الموقع الذي يشغله الفاعل الاجتماعيّ داخل الحقل، بما يؤهّله للسيطرة والتوجيه على الرأسمال الرمزيّ، الذي يتمّ من خلاله نيل الحظوة بالمكانة المكرّسة داخل الحقل، عبر اعتراف المنافسين وباقي أفراد المجتمع. وهكذا تتمّ عمليّة ترصد الحقل، ومحاولة تحليله، وفهمه، وتفسيره، من خلال الوقوف على تحديد السلطة في داخله، حيث التركيز على تحليل مجال القوّة الذي يمتلكه الفاعلون والمؤسّسات على شكل رأسمال مادّيّ، ورمزيّ. وبالمقابل لا تفتر عزيمة العملاء الطامحين لولوج مجال الهيمنة والسلطة داخل الحقل، من الدخول في صراع مع مباشر مع العملاء المكرّسين، من خلال محاولة شرعنة أنساقهم، وخطاباتهم، ومقولاتهم، ورؤاهم على مجمل علاقات الحقل. فالتنافس، والصراع، وظيفتان أساسيّتان للمجتمع حيث يتشكّلان في حقول متعدّدة، تتمّيز هذه الحقول بوجود تفاوت طبقيّ اجتماعيّ.
ولكي تتّضح ملامح دلالة مفهوم الحقل، كما يتصوّره “بورديو“، ويعمل به في تحاليله الاجتماعيّة، يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة، وهو المثال الذي كثيرًا ما يتشهد به في كتاباته النظريّة تقريبًا لهذا المفهوم. فما المقصود بحقل السلطة عند “بورديو” وما هي مميّزاته؟
- إنّه حقل قوى محدّدة، في بنيته، بحالة علاقة القوّة بين أشكال من السلطة، أو أنواع متنوّعة من الرأسمال.
- هو حقل صراعات من أجل السلطة، والسيطرة، والهيمنة بين مالكي سلطات متباينة.
- إنّه فضاء للعب، يتواجه فيه فاعلون ومؤسّسات، يشتركون في امتلاك كمّ معيّن من الرأسمال الخاصّ (ثقافيّ، اقتصاديّ…)، والغاية من تلك المواجهة، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصّة، والعمل على تحريرها (الحقل الاقتصاديّ، وحقل الإدارة العليا للدولة، الحقل الأكاديميّ، الحقل الفكريّ)، كما تهدف تلك المواجهة، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوّة تلك، أو محاولة تحويلها.
- الهدف من صراع القوى السابق هو فرض مبدأ السيطرة (سيطرة المسيطر)، الذي يمكن أن يصل في أيّ لحظة إلى حالة من التوازن، ليتمكّن بالتالي من اقتسام السلطة فيما بينه وبين المتنازع الآخر، أي تقسيم عمل السيطرة.
- هو أيضًا صراع ونزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة (المشروعيّة)، أي إضفاء المشروعيّة والمصداقيّة، على وضعيّة السيطرة المنفذّة، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع، لأسس السيطرة المحقّقة. فالسلطة مع قوّة التاثير لا يمكن أن تبلغ هدفها إلاّ إذا اعترف بهاـ وشرط فاعليّتها هو مشروعيّتها، وأساس مشروعيّتها هو الاعتراف بها من قبل الخاضعين لها.
يتبيّن لنا، ممّا سبق ذكره، أنّ “بيير بورديو” من أهمّ علماء الاجتماع الملتزمين بنقد السياسة الرأسماليّة، والكشف عن الآليّات المتعدّدة التي يتخذّها هذا النظام في ممارسة العنف الرمزيّ، والمادّيّ، وبناء سلطته على القهر والخضوع والهيمنة.
مقارنة بين “ماكس فيبر” و”بيير بورديو” لمفهوم السلطة
بعد استعراض مفهوم السلطة عند كلّ من “فيبر” و“وبورديو”، خلصنا إلى أنّ هذا المفهوم يعدّ من أهمّ عناصر بناء أيّ نظريّة، وإنّ تناول أحد المفاهيم السوسيولوجيّة لغرض الدراسة والتحليل، هو لتحديده واستخدامه بشكل علميّ من أجل الإلمام بطبيعة الظاهرة قيد البحث. وتعدّ ظاهرة السلطة موضع اهتمام واسع من قبل المفكريّن والباحثين، كما يعدّ مفهومها ظاهرة متطوّرة باستمرار، وتأخذ أشكالاً متعدّدة، من العنف الناجم عن إرادة السيطرة على الآخر، إلى عمل إقناعيّ لزج المواطن في عمل جماعيّ مشترك. فضلاً عن أنّه ارتبطت بكلّ أوجه العلاقات الإنسانيّة.
عدّ “ماكس فيبر” علم الاجتماع السياسيّ – السوسيولوجيا السياسيّة نقطة الانطلاق لدراسة مفهوم السلطة، ويقصد به “علم السلطة، والحكومة، والولاية، والقيادة في كلّ المجتمعات“. (موريس دو فرجيه، 2001، ص 21) وهذا العلم يبتني عند ماكس على مجموعة من المفاهيم النظريّة، مثل العنف المادّيّ المبرّر.
في حين أنّ “بورديو” يعيد قراءة “ماكس فيبر” ويوازن بين العوامل الاقتصاديّة المادّيّة والعوامل الثقافيّة الرمزيّة في نشوء الدولة. فأعاد تعريف “ماكس فيبر” للدولة باحتكارها المشروع لممارسة العنف المادّيّ، مضيفًا إليه احتكار الدولة لكلّ من العنف المادّيّ، والعنف الرمزيّ، فالعنف الرمزيّ هو شرط تملّك ممارسة العنف المادّيّ. فذهب “بورديو” إلى أنّ وسائط الإقناع هي إحدى أدوات الدولة في إخضاعها للمجتمع، فمفهومه للدولة أوسع بكثير من مفهوم “ماكس فيبر” الذي جعله قائمًا على احتكار العنف المادّيّ، بينما “بورديو” يقفز عليه إلى أنّ النظام العموميّ أي الدولة يجب أن يستند إلى الرضى ضاربًا مثلًا، برضُوخِنا للنظام العامّ في العمل، فالعامل أو الموظف برضاه ينهض من نومه في ساعة محدّدة يفترض به أنّه قبلها طواعيّة.
هذا ويرى “ماكس” أنّ الفرد لا يحقّ له أن يُمارس العنف مهما كانت قيمته ووظيفته الاجتماعيّة، بينما الدولة هي الّتي يحقّ لها أن تُمارس العنف والقوّة باسم القانون والتشريع. ويكون العنف المبرّر هنا بالسجن، أو المراقبة، والمعاقبة. وهنا يكون “ماكس” مدافعًا عن عنف الدولة المبرّر والمشروع. والدولة هي عبارة عن سيادة الإنسان على الإنسان، بمعنى أنّ الدولة لا يُمكن أن توجد إلاّ بشرط خضوع الرجال المسودين للسلطة الّتي يُطالب بها الأسياد.
في المقابل برز رأي “بيير بورديو” حيال المجتمع، إذ يعدّ المجتمع مجموعة من الحقول فرضها تقسيم العمل، كالحقل الفنّيّ، والحقل الأدبيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ… ولكلّ حقل استقلاليّة معيّنة؛ ومن خصائص هذه الحقول التراتبيّة، والصراع من أجل الهيمنة، ومن أجل المصالح؛ وذلك كلّ حسب الرأسمال الّذي يملكه. فكلّ بنية مجتمع لها آليّاتها الخاصّة في الهيمنة والسيطرة.
فنظريّة “بورديو” تنطلق من تقسيم العالم الاجتماعيّ، إلى مجموعة حقول مستقلّة نسبيًّا، وفهم هذا العالم الاجتماعيّ، يتوقّف على البحث بعمق وبجدّيّة كبيرة، في كيفيّة اشتغال آليّات حقول ذلك العالم الاجتماعيّ، من أجل الكشف عن واقعها وطبيعة منطقها الداخليّ، في علاقته الجدليّة بمفهوم السلطة. ويعدّ أنّ السلطة هي نظامٌ معقّدٌ، يخترق كلّ العلاقات والترابطات، الّتي تشتغل داخليًّا، بواسطة آليّات دقيقة وفاعلة، تتحكّم في البنية العامّة لذلك النظام.
وكأساس لتعريف الدولة الحديثة تحدّث “ماكس” عن ثلاثة معايير: القدرة، السيطرة، التنظيم. ومع تشديده على أنّ الدولة هي التجمّع الوحيد الذي يحتكر ممارسة القوّة الشرعيّة، نجده يقيم تمييزًا بين القوّة والسيطرة، فرأى أنّ وجود القوّة هو جوهر العمل السياسيّ.
من جهة أخرى، نجد “بورديو” قد تحدّث عن مفهوم السلطة الرمزيّة، وهي “السلطة شبه السحريّة التي تسمح بالحصول على ما يعادل ما تمّ الحصول عليه بالقوّة (المادّيّة أو الاقتصاديّة)، بفضل الأثر المتميّز للتداول”، وتتبدّى عبر مجموعة من القرائن الصغيرة والمستترة جدًّا، غير إنّها كفيلة بإبراز الوضع السامي لشخص معيّن، ومن هذه القرائن مثلًا: مكتب واسع وفسيح مؤثّث بأجهزة هاتف متعدّدة، سيّارة فخمة بسائق خاصّ، شهادة ممهورة فوق بطاقة زيارة، الأساليب المعهودة في المسلكيّات البيروقراطيّة التي تجعل الضيوف ينتظرون طويلاً، أساليب التعبير بكيفيّة سلطويّة آمرة… فيكون بذلك “بورديو” قد حرص على ربط مفهوم السلطة، بمفاهيم أخرى، ومن بين هذه المفاهيم أيضًا مفهوم النسق، والحقل، واللّعب… الخ، تحقيقًا لهدف رئيس، هو صياغة نظريّة عامّة لمفهوم السلطة الرمزيّة.
وعدّ “بورديو” أنّ المجتمعات الإنسانيّة لا يُمكن أن تخلو من العنف، فهو ظاهرة منتشرة. فالعنف الرمزيّ يمارس على الفاعلين الاجتماعيّين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبًا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث إنّهم يستدمجونه كبديهيّات أو مسلّمات من خلال وسائل التربية، والتنشئة الاجتماعيّة، وأشكال التواصل داخل المجتمع.
فالسلطة السياسيّة بحسب “بورديو” تستند إلى بسط سيطرتها وهيمنتها؛ مستغلّة بذكاء التقنيّات الّتي يمرّ من خلالها العنف الرمزيّ، والّتي تُسهلْ عليْهَا تحقيق أهدافها بأقلّ تكلفة وبفاعليّة أكثر.
هذا وقد ميّز “ماكس فيبر” بين ثلاثة نماذج من السلطة في التاريخ، أو نماذج للهيمنة السياسيّة الّـتي تفرضها الدولة على مواطنيها، وهي:
- السلطة التقليديّة
- السلطة الكاريزميّة
- السلطة العقلانيّة – القانونيّة
في الختام، “بورديو” وسّع من تعريف “ماكس” للدولة الّتي تحتكر العنف المشروع بأن جعله احتكارًا للعنّف المادّيّ، والرمزيّ، ذلك أنّ العنف الرمزيّ هو شرط ممارسة العنف المادّيّ نفسه.
ويُمكننا القول إنّ هذه المقاربة لمفهوم السلطة من قِبل “ماكس” و“بورديو” قدّمت الكثير من الغِنى لمفهوم السلطة، وإن كانت المقاربة هي مقاربة اجتماعيّة بسبب تخصّصهم في هذا المجال.
فقدّم “ماكس فيبر” رؤيته ومفهومه للسلطة الّتي عدّها إنّها تسلّط الأشخاص على مجموعة الأفراد بحكم إنّهم أقوياء جسديًّا أو عقليًّا. وتبنّى وأيّد السلطة البيروقراطيّة الّتي تُشكّل أسس الإدارة الصناعيّة، أو التجاريّة لأيّ دولة.
وانطلق “بيير بورديو” بنظريّة سوسيولوجيّة للمجتمع، واستفاد من هذه النظريّة لنقد العالَم الليبراليّ القائم على الهيمنة والسيطرة وإخضاع الآخرين على أساس مؤسّسات الدولة الشرعيّة كالمدرسة والإعلام وغير ذلك، عبر ممارسة العنف الرمزيّ تجاه الآخرين. واستخدم “بورديو” مجموعة من المفاهيم، والمصطلحات السوسيولوجيّة مثل: الحقل، العنف الرمزيّ، السلطة الرمزيّة وغيرها.
هناك إشكاليّات عدّة تواجه مفهوم السلطة، منها المتعلّقة بمعانيها ودلالتها. ورغم اختلاف الفلاسفة والفقهاء حول الأسس التي ترتكز عليها السلطة، إلاّ إنّهم اتفقوا على إنّها ذات طابع (أخلاقيّ ومعنويّ (السلطة يجب أن تُطاع.
المصادر والمراجع
- إبراهيم درويش، علم السياسة. القاهرة، دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر والتوزيع، 1975.
- بيير بورديو، الرمز والسلطة. تر: عبد السلام بنعبد العالي، المغرب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 3، سنة 2007.
- بيير بورديو، العقلانيّة العمليّة – حول الأسباب العمليّة ونظريّتها. تر: د. عادل العوا، دمشق، دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع، 2000.
- جوليان فروند، سوسيولوجيّ ماكس فيبر. تر: جورج أبي صالح، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، لا.ت.
- رضوان السيّد، المجتمع والسلطة، إشكاليّة الاستمرار والوحدة. بيروت، مجلّة الفكر العربيّ، معهد الإنماء العربيّ، العدد (3433)، لاط، 1985.
- شوفالييه، س. وشوفيري، ك، معجم بورديو. تر: الزهرة إبراهيم، دمشق، دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2013.
- عبد الله عبد الرحمن، تطوّر الفكر الاجتماعيّ. مصر، دار المعرفة الجامعيّة، لاط، لا ت.
- عبد الله محمّد عبد الرحمن، النظريّة في علم الاجتماع. مصر، دار المعرفة الجامعيّة، ط1، 2006.
- ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة. تر: جورج كتورة، المنظّمة العربيّة للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط1، 2011.
- ماكس فيبر، روح البروتستانيّة. تر: محمّد عليّ مقلّد، لبنان، مركز الإنماء القوميّ، مراجعة جورج أبي صالح، لاط، لات.
- موريس دو فرجيه، علم اجتماع السياسة. تر: سليم حدّاد، لبنان، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات، ط2، 2001.
- مجلّة الفكر العربيّ المعاصر، ع 37، ديسمبر 1985 .
- Weber, M.1958. The three types of legitimate rule. Berkeley Publications in Society and Institutions, 4 (1): 1 – Translated by Hans Gerth.
- Bourdieu, P. 1994. Language and Symbolic Power, Oxford: Polity Press.
* تعني كلمة كاريزما “Charisme“ في اللغة الاغريقيّة (الرحمة الإلهيّة) وأول من استعملها “ارسنت ترولتش” ثمّ “ماكس فيبر”.
* العنف رمزيّالرمزيّ هو نوع من العنف الهادئ غير الظاهر؛ أي الكامن، أو الخفيّ، أو المقنّع. وقد ظهر هذا المفهوم في كتابات عالم الاجتماع الفرنسيّ “بيير بورديو”، وهو يعرّفه بكونه هذا القهر الذي لا ينشأ إلاّ عبر وساطة الانخراط الذي لا يتأخّر المسيطَر عليه عن منحه للمسيطِر.