مستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ تحديات ومعالجات

مستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ تحديات ومعالجات

أ. م. د. أياد كامل الزيباريّ

• م. د. أياد كامل الزيباريّ^([1])

الملخص

وفي إطار الاهتمام بموضوع مستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ تحديات ومعالجات تأتي هذه الدّراسة التي تهدف إلى بيان أبرز التحديات التي تواجه التّيار الإسلاميّ السياسيّ، وتعرُّف كيفية مواجهة تلك التحديات وسبل معالجتها بشكل علمي وأكاديمي، بعيدًا عن التعصب الحزبي، ثم عرض تصور حول مستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، والخيارات المتاحة أمامه، للحفاظ على كِيان التّيار وعودته بشكل أقوى مما سبق، وتبني منهج الوسطية والاعتدال في الفكر والسلوك والأفعال للحفاظ على الفطرة السليمة التي تنبع من الوحي الإلهي في الكتاب والسنة منطوقًا ومفهومًا، لأن من أهم أهداف المنهج الإسلاميّ التي يعد مصدرًا للتيارات الإسلاميّة قديمًا وحديثًا، هو إيجاد الفرد الصالح النافع لدينه ونفسه وبلده وأمته.

المقدمة

إن الإسلام هو دين الهدى والنور، الذي لا سعادة للبشرية، ولا أمن لها، ولا سعادة في الدنيا والآخرة، إلا عندما تهتدي بهداه، وتستضيء بنوره، مخلصة في عبوديتها لله الخالق، تأتمر بأمره، لأن الدين الإسلاميّ الحنيف تميز بالسّهولة، واليسر، والرّحمة، ومسايرة الفطرة السليمة، ليحفظ للنّاس دينهم، ويوفر كرامتهم، ويصون لهم حقوقهم وضروراتهم، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، كما تميز بالصلاحية لكل زمان ومكان، لمعالجة كل شؤون البشريّة؛ لأنه يمتلك منهجًا سويًّا.

لكن أصيبت الأمة الإسلاميّة بالوهن بعد ظهور تيارات فكرية متعدّدة، وذلك حينما بدأت بعض التّيارات الفكرية بتعكير صفو تلك المنهجيّة، من قبل بعض المنتمين إليه، من خلال التشدد المذموم، والتضييق في المفهوم، بدعوى الحرص على سلامة الدّين، والحفاظ عليه حفاظًا حرفيًّا، ولم يدركوا خطورة هذا التّوجه في تعكير صفوة المنهجيّة التي اتبعها، والميزات الرّبانيّة التي امتاز بها، فهو من وضع العليم الخبير بشؤون عباده، العالم بما يصلح نفوسهم، أفرادًا وجماعات. فالتّيارات الفكرية الإسلاميّة في كل حِقبة من الزّمن تترك الأثر المباشر على الناس، ويبقى أثرها جيلًا بعد جيل إلى أمد بعيد، سواء أكانت من النّاحية الفكريّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة.

عندما أنتجت بعض الثورات العربيّة ملامح التّحول الدّيمقراطي لشعوب المنطقة برز التّيار الإسلاميّ السياسيّ في المشهد السياسيّ، وأصبحت الأطروحات الإسلاميّة للديمقراطية على تماس مباشر مع الواقع ما سمح ببروز اتجاهات واجتهادات متعدّدة في تعاطي الإسلاميّين مع العملية الديمقراطية، وأصبح التّيار الإسلاميّ في عموم العالم الإسلاميّ جزءًا أصيلًا في الخارطة السياسيّة بعد أن أثبت حضوره القوي على الأصعدة كلها الثقافيّة والفكريّة والأدبيّة… إلى جانب الحضور السياسيّ. لكن لم يبقَ هذا الوضع طويلًا فهزيمة بعض الجماعات وتنظيمات التّيار الإسلاميّ سياسيًّا وعسكريًّا، لا تعني بالضرورة انتهاء ظاهرة التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، فالظاهرة تظل ما ظلت العوامل المنتجة لها بينما هناك تحدّيات جمّة واجهتهم وسوف تواجههم أيضًا في المستقبل، ومن أبرزهم الجدل حول مستقبل ظاهرة التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ كفكرة وحركة،  فالمرحلة الحاليّة بالنسبة إلى التّيار الإسلاميّ هي مرحلة بناء المشروع والمراجعات ودراسة العواقب الدّاخلية والخارجيّة وليس رفع الشّعار، فالدّخول في اللعبة السياسيّة وإدارة المجتمع والسّلطة لا يمكن أن يحصل بالشّعارات المجردة ، وإنّما بالخطط والمشاريع والخبرة المتراكمة وفهم لعبة السياسة التي تعالج مآزق الواقع وأزماته المتعددة.

أهمية الموضوع

1- تفيد هذه الدّراسة الباحثين والمهتمين في التعرف إلى ماهية ظاهرة التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ وتطورها.

2- تكمن أهمية هذه الدّراسة في كونها تعالج مستقبل التّيار الإسلاميّ السياسيّ وخِياراته المستقبليّة.

3- تلقي الضوء على التّداعيات السلبيّة والإيجابيّة على تيار الإسلام السياسيّ خصوصًا ما يسمى بالرّبيع العربيّ، وتوضيح الأسباب وراء فشل بعضهم في الحكم وإدارة الدّولة.

4- تقدم رؤية استشرافية لمستقبل ظاهرة التّيار الإسلام السياسيّ بشكل عام.

5- الموضوع هو تحدٍّ من التحدّيات التي تواجه التّيارات الإسلاميّة السياسيّة، لذا على التّيارات الإسلاميّة التي تعمل في مجال السياسة الدخول فيه، والبحث في وضع حلول ملائمة للتعامل مع مثل هذه التحديات التي تواجههم، ويجب الحفاظ على ثنائية العلاقة بين العمل الدّعوي والسياسيّ في حالة توازن يكون للدعوي فيها حقّ الصّدارة.

6- تعبير التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ تعبيرًا حياديًا في شكل لائق، فلا هو في نفسه تعبير انتقاص ولا هو تعبير إصدار حكم، وحين يكون التّيار الإسلاميّ مرتبط بالسياسة، يجتمع معًا عنصران هما من أكثر عناصر الاهتمام الإنسانيّ حيوية.

7- إن منهج الإسلام منهج شامل يركز على التوازن بين الجانب الدعوي والسياسيّ وكل الجوانب الأخرى، وبين المطلب الفردي والمطالب الاجتماعية والشعبية.

8- التركيز على تبني المنهج الوسطي للتيارات الإسلاميّة في فهم الإسلام وممارسته والدعوة إليه.

أسباب اختيار الموضوع

1- أنا على يقين أنّ الإسلام شريعة صالحة لكل زمان ومكان، وفيه حل لكل المعضلات والتحديات، لذا أردت أن أبيّن بشكل مختصر بعض تلك التحديات الآنية والمستقبلية لتجنبها.

2- موضوع الإسلام والسياسيّة هو تحدٍ من التحديات التي تواجه التّيارات الإسلاميّة، ويتطلب منها إيجاد مبررات وحلول منطقية لمفهوم الدّعوة والسياسة.

3- التعرف إلى دور التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ في مواجهة ظاهرة التّطرف الدّينيّ في الفكر والعمل والسياسيّة والتّصدي لها بشكل منهجي سليم وشامل.

4- دراسة الآراء والسّيناريوهات التي تنظر إلى مستقبل ظاهرة تيار الإسلام السياسيّ، وتتراوح بين منتقدين يُعدُّون أن الظاهرة في طريقها للتراجع، بل والاختفاء، وهناك خطاب آخر يشير إلى أن ما تعرض له تيار الإسلام السياسيّ في جميع أنحاء العالم هو محنة وابتلاء، ومؤامرة على الإسلام، وأنه سرعان ما سيعود التّيار أقوى مما سبق.

5- دراسة تراجع ظاهرة تيار الإسلام السياسيّ وفشله في تقديم مشروع بديل للأنظمة الحاكمة وخسر شعبيته.

6- مراجعة تيار الإسلام السياسيّ من الناحية الفكرية والدّعوية والسياسيّة إلى مشرحة التّحليل الدّقيق والواقعيّ، وأنماط علاقته التّفاعلية، وتجتهد بشكل موضعيّ في بحث جميع العمليات التي تمرّ منها هذه التّحولات في المنطقة.

7- تراجع بعض التّيارات الإسلاميّة في المجال السياسيّ عن جزء من مطالبها الأساسية، مثلًا الدولة الإسلاميّة أو إعادة الخلافة الإسلاميّة إلى نقطة ضعف، وذلك بسبب أن توازنات اللعبة السياسيّة لم تعد تتحمل هذا القدر من الصراحة والوضوح في الخطاب الإسلاميّ، وقد اضطرت التّيارات السياسيّة الإسلاميّة مع التزامها بقواعد الديمقراطية أن تتجاوز بعض ثوابتها الدّينيّة على أعتاب المراحل السياسيّة التي تريد اجتيازها.

8- أغلب التّيارات الإسلاميّة تأسست من أجل إقامة الإسلام، وتحكيم الشّريعة، وهذا الهدف المنشود لا ينبغي الخجل منه، أو الرضا بتحويله إلى نقطة ضعف ومصدر انتقاد، وعندما تتخلى التّيارات الإسلاميّة عن هدفها الرئيس وتتوارى منه، فإن زوالها يصبح خيرًا من بقائها.

9- محاولات جادة لدى أغلب الأنظمة العالميّة لإجهاض العمل السياسيّ الإسلاميّ وقد بلغت حدًا غير مسبوق، وصارت من ثوابت الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلاميّة.

10- أغلب التّيارات الإسلاميّة لم تنشأ في البداية بوصفها تيارات سياسية، وإنما بوصفها جماعات دعوية تتبنى العمل لإعادة المنهج الإسلاميّ إلى واقع الحياة، ومن ثَمَّ كانت المشاركات السياسيّة تخريجًا تاليًا على هذه الحقيقة.

منهجية الدّراسة

تعتمد هذه الدّراسة على المنهج التاريخي، وذلك من خلال استعراض السّياق التاريخيّ في نشأة التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، والمنهج الوصفيّ التّحليليّ ومن أجل تحليل مواقف وآراء وسلوكيات التّيار الإسلاميّ، وأعتمد على منهج الحالة بوصف الدّراسة تتناول مستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، والتركيز على العقبات التي تقف أمامها، والمنهج المقارن، للخروج من الحالة التي وقعت فيها، وذلك لأن ضرورات البحث تستلزم استخدام مثل هذه المناهج نظرًا إلى ما تعرضت له التّيارات الإسلاميّة السياسيّة من تطورات وتحولات صعودًا ونزولًا وقد اقتضت طبيعة البحث أن يشتمل على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، وقد أشرت في المقدمة إلى أهمية الموضوع وسبب اختياري له والمنهج الذي سلكته.

أما المبحث الأول: فيعدّ مدخلًا لدراسة مفردات البحث ببيان مدلولاتها، التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ المفهوم، والنشأة، والتطور.

المبحث الثاني: تحدّيات أمام التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ وسبل معالجتها.

المبحث الثالث: مستقبل تيار الإسلام السياسيّ وخِيارته.

ثم الخاتمة: ختمت البحث بأهم النتائج وأبرزها التي توصّلت إليها أثناء كتابة البحث.

المبحث الأول: يُعدّ مدخلًا لدراسة مفردات البحث ببيان مدلولاتها (التّيار الإسلاميّ المفهوم والنشأة والتطوّر).

المطلب الأول: مفهوم التّيار الإسلاميّ

إن التّيار الإسلاميّ السياسيّ كمفهوم يتمثل في التعبير عن الحركات والقوى التي تصبو إلى تطبيق الشّريعة الإسلاميّة منهجًا حياتيًّا، مستخدمة بذلك منهجيّة العمل السياسيّ الحديث القائم على المشاركة السياسيّة في السلطة، فكل حركة سياسيّة إسلاميّة تعدُّ المشاركة السياسيّة منهجًا يدخل ضمن هذا التّعريف، وبالتالي فإنّ كلمة سياسي في مصطلح الإسلام السياسيّ، ليست توصيفًا للإسلام بمقدار ما هي توصيف التّيارات التي تقبل بمفهوم المشاركة السياسيّة وتعريفها، وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، حيث إنّ هناك العديد من الحركات والأحزاب الإسلاميّة ترفض هذه القاعدة، وهناك العديد من الذين يقبلون بها⁽¹⁾.

وتوسع تعريف مصطلح التّيار الإسلاميّ خصوصًا في المجال السياسيّ – الإسلام السياسيّ – وتزايد الاهتمام به في الشّرق والغرب، حتى أصبح ظاهرة استدعت اهتمام مراكز الأبحاث الدّوليّة والعالميّة، والعديد من الباحثين المتخصّصين بحقول الاستشراف والدراسات الإسلاميّة، ومن هنا انبثق مفهوم التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، الذي نظر إليه البعض من هذه الزاوية التي يسعى من خلالها، إلى ممارسة السلطة وإقامة النّظام السياسيّ الإسلاميّ، الذي يرجع في أصوله إلى المجتمع الذي أقامه النبي^(ص) في المدينة المنورة وإحياء الخلافة الإسلاميّة، ولكن من خلال حزب سياسي إسلامي له الحق في استخدام كل الوسائل المباحة والجائزة في الصراع السياسيّ⁽²⁾.

المطلب الثاني: نشأة وتطور التّيار الإسلاميّ

على الرّغم من الانتقادات والحملات الأمنيّة ضد الحركات الإسلاميّة، ومن التّحول الذي تحدثه بوصفها قوة سياسيّة معارضة في بعض الدول، حيث باتت في بعض الدّول الأخرى من الأمثلة المهمة لمشروع التّيار الإسلاميّ.

ترجع جذور حركة التيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، بمفهومه الحديث إلى انهيار الدّولة العثمانيّة عقب الحرب العالمية الأولى، وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط الأوروبيّ، وإلغاء لمفهوم الخلافة الإسلاميّة يوم 3 مارس سنة 1924 وعدم الاعتماد على الشّريعة الإسلاميّة من المؤسسة التّشريعيّة، كما قام بحملة ضد كثير من رموز الدين والمحافظين، وبدأت الأفكار التي مفادها أن تطبيق الشّريعة الإسلاميّة في تراجع وأن هناك نكسة في العالم الإسلاميّ بالانتشار، خصوصًا بعد وقوع العديد من الدّول الإسلاميّة تحت انتداب الدّول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، حيث أرجع الغربيون بروز ظاهرة الإسلام السياسيّ إلى العام 1979 مع نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران، ولكن لم يُنظر إلى الثورة على أنها نصر لشعب مستضعف، وإنّما كمصدر يهدد المصالح الغربيّة والأمريكية، ثم زاد الاهتمام بالظاهرة إبّان الانتفاضية الفلسطينية 1987-1991، حيث كان للدّعاية الصهيونية دور واضح في تغذية المخاوف الغربيّة من الحركة الإسلاميّة، وتصوير المقاومة على أنّها إرهاب إسلاميّ يستهدف القيم الغربية، إذ مع بداية عقد التسعينيّات من القرن الماضي حدث تغيّر جوهري في هيكل النظام الدّولي، بزوال الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالقيادة فتغير معه العدو، من الخطر الشّيوعي الأحمر إلى الخطر الإسلاميّ الأخضر، وهكذا أصبح التّيار الإسلاميّ مصدر الخطر الأكبر، وتعددت الكتابات والتحريات في وسائل الإعلام والدّوريات الأكاديمية، التي تشير إلى خطورة الإسلام السياسيّ ليس على الولايات المتحدة الأمريكية ونخبتها فقط وإنما على غرب أوروبا، والحلف الأطلسي، ثم روسيا. إضافة إلى كل هذه المعطيات فإنّ أحداث 11 سبتمبر 2001 أحدثت تحولات في ما يخص تناول الظاهرة وكيفية مواجهتها، إذ تزعّم الاتجاه المسيطر الذي يربط بين الأصولية والحركة الإسلاميّة وسائل الإعلام ومراكز البحث الداّعمة لصناعة الاستراتيجيات، وسعى إلى صياغة سياسات جديدة للمواجهة مع الحركة الإسلاميّة⁽³⁾. ويمكن القول إن الحركات السياسيّة الإسلاميّة ترجع جذورها إلى ما يأتي:

1- سقوط الدّولة العثمانية العام 1924.

2- الدّافع الكامن في الدّين الإسلاميّ نفسه، لأنّ القيم التي يحملها الدّين الإسلاميّ هي التي مكّنته من الوصول أو فرض مبادئه على الساحة السياسيّة.

3- فشل التّيارات القومية العربية خصوصًا في تعاملها مع القضية الفلسطينيّة.

4- الأوضاع الاجتماعية، وبالتحديد الحرمان المادّيّ والمعنويّ، فلم تعد المجتمعات قادرة على استيعاب شبابها وتأطيرهم في الحياة العامة، لذلك يقود التهميش إلى انخراط هذا النوع من الفئات في الحركات الإسلاميّة.

5- إخفاق الإيديولوجيّة القوميّة العربيّة.

ختامًا ولهذا المطلب نستطيع القول إنّ نشأة الحركات الإسلاميّة كانت نتيجة معالجة الفجوة بين العلمانيّة الواقعية والإسلاميّة النّظرية، أو ما يصطلح عليه بجدليّة الخطاب الإسلاميّ بين التبرير والتدبير لدى الحكومات والأنظمة في العالم الإسلاميّ والعربيّ.

المطلب الثالث: العوامل التي أدت إلى انتشار الحركات الإسلاميّة (السياسيّة)

هناك عوامل وأسباب ساهمت بشكل أو بآخر في بلورة مصطلح تّيار الإسلام السياسيّ، سواء من الناحية العلمية أو العملية، ومن أهمها ما يأتي:

أولًا: العوامل الاجتماعية

أ- انسجام خطاب التّيار الإسلاميّ مع البيئة الاجتماعيّة: وذلك لأنّ البيئة التي نشأت منها الحركات الإسلاميّة هي بيئات إسلاميّة في الأساس، وبما أن الدين يمثل عاملًا محوريًّا ومؤثرًا في المجتمعات الإسلاميّة ـ فسعت الحركات الإسلاميّة منذ نشوئها إلى توظيف الدّين لخدمة تطلعاتهم المشروعة الموافقة لروح الشّريعة الإسلاميّة من دون شك.

ب- الارتكاز على أرضيّة الدّين والعمل التّطوعي الإنسانيّ: وذلك لأنّ السّمة الأساسية للمجتمعات الإسلاميّة هي التّديُّن، وأنّ الدّين كان ولا يزال يمثل عاملًا أساسيًّا ومؤثرًا في الناس حيث إنّ الحركات الإسلاميّة هي انعكاس وتجسيد للشريعة الإسلاميّة⁽⁴⁾.

ثانيًا: العوامل الاقتصادية

أ- انتفاضات الجوع: ساعدت على أنّ الحل في الإسلام وفي التكافل والاقتصاد الإسلاميّ، ما دفع بعض الجماعات الإسلاميّة إلى إنشاء شركات ومنظمات خيرية، ودعم إنشاء البنوك الإسلاميّة في أنحاء متفرقة من العالم الإسلاميّ.

ب- البترول: إن ظهور البترول في الدول الإسلاميّة، وانتشار الأثر الاستهلاكيّ بعد العام 1974، أوحى إلى العامة بأن الثروة تهبط من السّماء، حيث الدولة الإسلاميّة متمثلة ببعض دول الخليج، من أسباب انتشار التّيار الإسلاميّ⁽⁵⁾.

ثالثًا: العوامل السياسيّة

أ- إنّ عملية توسيع النفوذ للتيار الإسلاميّ لم يأت فجأة، وإنما هو نتاج عمل تراكمي سابق.

ب- مناهضتها للاستبداد الدّاخلي والاحتلال الخارجي: لقد قاومت الحركات الإسلاميّة الأنظمة المستبدة الحاكمة ودفعت الثمن المقابل لهذه المقاومة المتمثل في اعتقال أفرادها وتعذيبهم ونَفيهم، ولم تكتف بمقاومة الاستبداد الحالي، فهي كانت على الدوام تقاوم كل أشكال الاحتلال والاستعمار والوصاية الخارجية، ما جعلها مظلة للدّفاع عن الأمّة وكرامتها ورافعة أساسيّة لنيل حقوقها وحريتها.

المبحث الثاني: تحديات أمام التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ وسبل معالجتها

المطلب الأول: تحديات أمام التّيار الإسلاميّ

هناك مجموعة من التحديات والمعوقات الدّاخليّة والخارجيّة أمام تيّار الإسلام السياسيّ، نستطيع أن نجملها بما يأتي⁽⁶⁾:

أولًا: وجود خلل عند بعض التّيارات الإسلاميّة في فهم وتلقي المنهج الرّباني والنبوي: وهؤلاء عندهم الفهم السّطحي للشّريعة الإسلاميّة، مثلًا الحرص على تطبيق الشّريعة جملة واحدة، من دون مراعاة مبدأ التّدرج والمرحليّة في التطبيق، أو الاهتمام بالمظاهر والأشكال أو بالقضايا الفرعية والجزئية من دون الاهتمام بالقضايا الجوهرية والأساسية، ويدّعون أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، والغريب عند هؤلاء أنّهم قد يستدلون ببعض النصوص سواءً من القرآن الكريم أو السُنة النبوية من غير نظر سديد إلى مناسباتها، واختلاف اللغويين في معانيها وفهمها، ومراعاة مقاصد الشّريعة، وهناك الكثير من المسائل خصوصًا الأخلافية التي لا يمكن الوصول إلى حقيقتها إلا بجمع الآيات والأحاديث المتعلقة بالموضوع، ثم دراستها في ضوء القواعد الكلية العامة، ثم استخلاص مقاصدها.

ثانيًا: الخلط بين العمل الدّعوي والعمل السياسيّ: لا شكّ في أنّ السياسة الشّرعيّة جزء من الإسلام، ولكن كثير من التّيارات الإسلاميّة تخلط بين الدّعوة والسياسة سواء في الخطاب أو الممارسة، وتقع في محن مستمرة، وقد ينتهي بها الأمر إلى التفتيت والتفرقة والصراع في ما بينها، لأنّ السياسة علم وفن ومهارة وكذلك الدّعوة والتربية، مثلًا من الأخطاء الكبيرة من وجهة نظري أن يقحم الرجل الدّاعي معترك السياسة الذي لا يجيدها ولا يفهم اللعبة جيدًا، ما يتسبب لتياره السياسيّ بمشاكل وكوارث لا تحمد عقباها.

ثالثًا: التّحديّ الأمني: لجأت كثير من الحكومات إلى التصدي للحركات الإسلاميّة وافتعال القضايا ضد بعض هذه الأحزاب وقياداتها، واعتقال بعضهم، ومصادرة حريات البعض الآخر، وملاحقة بعض منتسبيها، وربما قد يكون هناك ضغوطات خارجيّة على النّظام السياسيّ بشأن مواجهة الحركات الإسلاميّة وخصوصًا العاملين في سلك السياسة.

رابعًا: التحدي المالي: أغلب التّيارات الإسلاميّة السياسيّة مصادرها المالية محددة، وتعتمد على الاكتفاء الذّاتيّ، وليس عندها مصادر أخرى، لذلك التحدي الذي يقف أمام أغلب التّيارات الإسلاميّة ويمنعها من النمو والتقدم وتطوير نشاطاتها، ولا ننسى الدّعم الدّولي للأنظمة السياسيّة التسلطيّة في العالم الإسلاميّ في معركتها مع التّيارات الإسلاميّة السياسيّة بأشكالها كافة.

خامسًا: شبه غياب أو محدودية وجود المؤسسات مراكز الأبحاث السياسيّة، ومؤسسات العلاقات العامة ومؤسسات معنية بالشؤون الدولية (السياسيّة والاقتصادية والإعلامية)، بنوك معلومات، الإعلام الدّولي، ولكن في السنوات الأخيرة برز الاهتمام بهذه الظاهرة ببناء بعض هذه المؤسسات لدى بعض التّيارات الإسلاميّة السياسيّة، وإن كانت لا تزال محدودة الفاعلية والدّور، وهو ما يعكس شعور الحركات الإسلاميّة بالحاجة إلى هذه الأدوات في ضوء حضور الحركات وإقحامها، خصوصًا في الحراك الدّولي وازدياد تأثير السياسة الدّولية عليها.

سادسًا: محدوديّة آليات وقنوات احتكاك الحركات الإسلاميّة السياسيّة مقارنة مع الآخر، أي محدودية القنوات والآليات (الرسمية وغير الرسمية) لفهم الطرف الآخر الخصم والبيئة الدّوليّة لظاهرة الإسلام السياسيّ والعلاقات الدّوليّة.

سابعًا: الإرث التّاريخيّ من الخوف والعداء الدّولي (الغربي والشّرقي) لظاهرة الإسلام السياسيّ، إن هناك تاريخ وإرث من العداء بين الظاهرة والقوى الدّوليّة المهيمنة، إن الغرب عمومًا يخشى من القدرة الكامنة للإسلاميين على تقويض عملية السلام واستقرار أنظمة الحكم الموالية للغرب، وعرقلة سبيل وصول الغرب إلى منابع البترول في الخليج ، وامتلاك أسلحة غير تقليدية، وممارسة أعمال إرهابيّة، و لربما تؤثر الاعتبارات الثقافية. وما لا شك فيه أن أحداث أزمة الخليج العام 1990/ 1991 وأحداث سبتمبر 2001 وأحداث الخليج الثانية 2003 عززت من الفجوة بين الإسلاميّين والغرب، أو زادت أزمة الثقة بين الطرفين. رورو

ثامنًا: التعصب المذهبي والطائفي: هذان تحديان خطيران أمام التّيارات الإسلاميّة، إذ إن كلًا منهما يريد أن يؤسس مجتمعه على مسلكه في الحياة، ويقضي الآخر على كل المستويات، وهذا يؤدي إلى خلل كبير وخرق واسع لقلعة وحدة الأمة الواحدة حتى في داخل البلد الواحد، فالمذهب الواحد يضيق الدّائرة الواسعة المرنة للشريعة الإسلاميّة، وهو من ناحية أخرى لا يكفي لسد حاجة العصر، ومن جهة ثالثة ينتهي إلى الأحقاد والاضطراب وسفك الدماء كما يحصل اليوم في عدد من البلاد الإسلاميّة.

تاسعًا: الانقلابات العسكرية: حكم العسكر على رقاب النّاس والمدنيين وخاصة على التّيارات الإسلاميّة السياسيّة كارثة كبيرة في كل بلاد وقعت فيها،لأنّها أخرجت ذلك البلد من التطور المدنيّ التدريجيّ الطبيعيّ إلى خط الفوضى والدّماء، وضياع الثروات، لأنّها تصطدم مع قانون الكون الذي بناه خالقه على التدرج وليس الطفرات، وأيضًا أن الذين يقومون بتلك الانقلابات لم يهيئوا فكريًّا وقانونيًّا وعمليًّا لقيادة الإدارة والسياسة، لذلك فإنّ حكم العسكر مدمر للبلاد والعباد وثروات الأمة، واغتصاب كرامة أبنائها.

عاشرًا: عدم الاتفاق على التغيير: التّيارات الإسلاميّة في المجال السياسيّ كلها متفقة على التغيير، ولكن المشكلة الكبرى أمامها في كيفية التغيير وفلسفتها ومنهجها وخطواتها، وستبقى آمالها كما كان، ولن يتحقق إن لم تتفق وتتفاهم على الحدّ الأدنى من فلسفة التغيير. وأيضًا هناك هشاشة في وضع التّيارات الإسلاميّة ورثاثته، إذا يغلب على كل التّيارات الإسلاميّة السياسيّة الغبش في الأفكار والتصورات والمفاهيم والمناهج، مع ضعف ظاهرٍ في العلوم الشّرعيّة ، وفقر شديد في فقه الواقع، وعدم الجديّة في الأخذ بأسباب خوض الصّراع الحضاريّ مع أعداء الإسلام، مع اختلاف وفُرقة وتنابز وتدابر، فضلًا عما تتعرض له من تضييق وتجفيف للمنابع وإذلال وأغلال، ما أدى بها إلى الانخراط في سبل شتى، كثيرة الحفر، شديدة الالتواءات، فهي إما في ورطة أو تورط أو توريط⁽⁷⁾.

حادي عشر:عدم الاندماج بالعصر بشموليّة متكاملة: إنّ هذا يعد تحديًّا كبيرًا أمام التّيارات الإسلاميّة السياسيّة، لأنّ معظمها متقوقع داخل العلوم الإسلاميّة أو الفكر الإسلاميّ أو الثقافة الإسلاميّة أو الدّعوة الإسلاميّة ، بينما أصحاب هذه التّيارات يحتاجون إلى التغلغل في الثقافات الأخرى غربية أو غير غربية للاطلاع عليها، واكتشاف ما فيها من غير ذوبان، وعقد مقارنة بين الثقافات الإسلاميّة وتلك الثقافات للخروج بالحقائق التي تفيد دينهم.

ثاني عشر: الإعلام الدّاخليّ والعالميّ: ترسانة الإعلام بشكل عام الدّاخلي والخارجيّ معروفة بالعداء الشديد للإسلام وتياراته السياسيّة، وخاصة في عصرنا الحالي، لأنّ الإعلام أصبح السلطة الأساسية، ولا يخفى على أحد كم كان تأثير الإعلام كبيرًا وبشكل مباشر على تشويه التّيارات الإسلاميّة السياسيّة.

ثالث عشر: التكتلات: يعج العالم اليوم بمختلف أنواع التكتلات في المجالات كافة، لكن ما يهمنا منها ما هو موجه ضد التّيارات الإسلاميّة السياسيّة، أو ما يمكن توظيفه لمحاربة التّيارات الإسلاميّة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بشكل ظاهر أو خفي، ومنها: التكتلات الاقتصاديّة والعسكرية والأمميّة ومؤسسات العولمة، وتوجد تكتلات أخرى ذات توجهات منوعة تغطي كثيرًا من جوانب الأنشطة العلمانيّة، والتي توجه سهامها المسمومة للتيار الإسلاميّ⁽⁸⁾.

المطلب الثاني: سبل معالجات التحديات

إنّ التحديات والمخاطر التي تواجه التّيارات الإسلاميّة في المجال السياسيّ كبيرة وخطيرة، ولهذا فإن سبل مواجهتها يجب أن تكون بحجم تلك التحديات ومكافئة لها فالاستجابة تكون على قدر التحدي، وإنّ إسقاطات التحديات المعاصرة ليست واحدة على جميع التّيارات الإسلاميّة السياسيّة، بل هي متفاوتة كل بحسبها، كما أن زاوية نظر التّيارات لهذه التحديات ليست واحدة، بل هي متفاوتة بحسب موقعها، ولذلك فإنّ سبل مواجهتها تأتي على أسس متنوعة كما يأتي⁽⁹⁾:

أولًا: الإمكانات واستعمالها: إنّ مواجهة التحديات المعاصرة يعتمد في وجه من وجوهه، على الإمكانات وطرق استعمالها وتوظيفها والاستفادة منها، وهي إمكانات متاحة، أيّ تحت اليد، وإمكانات مأمولة، أيّ ينبغي أن يُخططَّ لإيجادها، ولا بد من تنزيل هذين النوعين على المناهج والبرامج والمشاريع لمواجهة التحديات.

ثانيًا: الفهم الصحيح للإسلام: إنّ هناك اتجاهات تُفسِّر الإسلام على هواها، وتريد أن تشده ناحية اليمين أو ناحية اليسار بتفسيرات خاطئة تجعل منه إمّا دينًا جامدًا منغلقًا متقوقعًا لا يقوى على مسايرة الزمن، ولا يراعي متغيرات الحياة، وبذلك تشدّه إلى فهمها السقيم وتضيّق رحمة الله الواسعة، وإمّا أن يجعل منه فريق آخر دينًا دمويًّا عدوانيًّا متعطشًا لسفك الدماء. وكلا الاتجاهين لا مكان له من الحقيقة، ولا يعبر إلا عن الرؤى المريضة لمن يتحدّث بها.

فالإسلام إذ يرفض الجمود والانغلاق والتقوقع، فإنّه من ناحية أخرى يرفض رفضًا قاطعًا كل شكل من أشكال العنف والعدوان أو القتل والتخريب، ويُسمِّي القرآن ذلك أنّه إفساد في الأرض يعاقب مرتكبوه بأشدّ العقاب في الدنيا والآخرة: وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾⁽¹⁰⁾. فالفهم الخاطئ للإسلام يرجع إمّا إلى جهل أصحابه بجوهر تعاليم الدين، كما هو الحال لدى الفريق الأوّل. أو خداع الجماهير برفع شعارات دينية لتحقيق أغراض دنيوية، كما هو الحال لدى الفريق الثاني. يحتاج الأمر إلى كشف يزيف التفسيرات الباطلة في كلتا الحالتين، وإبراز قيم الإسلام السمحة التي تحض على الرّحمة والتراحم والتسامح والعدل حتى مع الأعداء. إذ لا بدّ للتيارات الإسلاميّة التخلص من هذا المرض المزدوج وذلك عن طريق الفهم المستنير للإسلام وتعاليمه، والكشف عن الوجه الحضاري لهذا الدين الذي تتوافق تعاليمه مع كل زمان ومكان، وتثبت قدرته على التطور ومواجهة متغيرات الحياة، وقدرته الذاتية على الصمود أمام التحديات.

وإذا اتضح لجماهير المسلمين أنّ الإسلام بريء من جهل أصدقائه ومن شذوذ مَن يدعون أنهم يقتلون دفاعًا عنه، فإنّ ذلك من شأنه أن يُمهِّد السبيل للتغلب على الصعاب والتحديات الأخرى الخارجية والتي تتخذ من الفهم الخاطئ للإسلام من جانب هذين الفريقين ذريعة لوصم الإسلام بكل الرذائل.

ثالثًا: التفريق بين العمل الدّعَوي والسياسيّ : في الدّعوة لا بد أن تعرض الإسلام بشموليته الكاملة في إطار أصوله وقواعده ومقاصده، مراعيًا تغير أسلوب العصر عبر الزّمان والمكان، وراسخًا في كيفية تحريك النّصوص القطعيّة والظنيّة،لا بعقليّة حفظة النّصوص، وإنما برسوخ عقلية المجتهدين الذين ينزلون النصوص على حوادث الحياة المتنوعة، من دون إيقاف التنمية الاجتماعيّة والحضاريّة. أما الحزب السياسيّ فينطق دائمًا من البلاغ المبين (النصوص)، تحتيًّا إلى السياسة المتحركة فوقيًّا.

وعليه يجب فصل الدّعوة عن السياسة، وتحرر قيادات العاملين في جانب السياسة من أسرى القيادات الدّعوة. يجب على تيار الإسلام السياسيّ اعتماد التخصص في العمل العام وخاصة المجال (الدّعوي و السياسيّ) وبناء آلية للتكامل بين التخصصات المختلفة وفق رؤية استراتيجيّة مرنة حيّة تخضع للمراجعة والتطوير المستمر.

رابعًا: سرعة تطوير العمل السياسيّ: فالعصر عصر السّرعة، والإخفاقات السياسيّة المتتالية للتيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ تشكل حافزًا إضافيًا لتطوير الأداء السياسيّ، كما أن التحديات التي تصل إلى تهديد الوجود من الأساس تلزم الجادين من أبناء التّيار الإسلاميّ بسرعة العمل لحل المشكلات وتطوير الأداء والتخلص من الخطأ المتكرر في تضييع الفرص، فالفرص نادرة وشحيحة وتضييعها تكاسلًا أو إهمالًا أو غفلةً جريمة يجب أن يتصدى الأحرار والنجباء والمخلصين لمنعها.

خامسًا: بناء الكوادر المتخصصة ذات الكفاءة العالية: يعتمد التّيار الإسلام السياسيّ على الشّهرة والخبرة في اختيار قياداته ومتحدثيه ويعطي للخبرة أعلى قيمة نسبية بين مؤهلات الشّخصيات الممثلة له، حتى ولو كانت الخبرة في غير مجال التمثيل! فأكثر ما يعتد به أهمّيّة داخل التّيار الإسلاميّ هو طول مدّة الانشغال بالعمل الإسلاميّ، إذ لا يزال التمسك بثقافة “كنا ندعو إلى الله وأنت ما تزال في اللفة” قائمًا مع قلة الالتفات لغيرها من المؤهلات والمهارات

التي يتطلبها النجاح في المهام المختلفة. وليس أمام التّيار الإسلاميّ من سبيل لتجاوز هذا التّحدي إلا اعتماد آليات (مراكز تدريب – منح – بعثات – دراسات – تثقيف…) بناء كوادر العمل العام وشحذ همتها ورفع كفاءتها وتفعيل التنافس الرّشيد بينها. فهذا العصر هو عصر الكفاءات المتخصصة القادرة على عمل جماعي سريع الأداء عالي الإنجاز والتّيار الإسلاميّ أحوج ما يكون لهذه الآليات على مستوى العمل الدّاخلي وعلى مستوى العمل العام.

سادسًا: على التّيار الإسلاميّ تربية أفراده على مبدأ الانفتاح الواعي والتفكير الناقد: وهذا لا يتأتى إلا بالثقافة الإسلاميّة الشّاملة مع عدم التبعية لثقافة الآخرين، ولا يصير إلا بالحفاظ على التّربية وعلى المدرسة من الانغلاق على الذّات فالحكمة ضالة المؤمن، ولكن بالانفتاح الواعي المتوازن على كل ما لا يتعارض مع الأصول ومع التخيير والانتقاء، وذلك من خلال تنمية مهارات التفكير الناقد والهدف منها هو إعداد مواطن يقظ وواعٍ لا يتقبل كل ما يسمع ويقرأ بل يتأمل ويناقش ويفهم، حتى يستطيع التّيار الإسلاميّ إنتاج نماذج المثل الأعلى التي تبرهن على خلود قيم التربية الإسلاميّة الصالحة لكل زمان ومكان، والقادرة على تشكيل الإرادات واكتشاف الطاقات.

سابعًا: إصلاح الخطاب الإسلاميّ والدعوي وتجديده بصورة عامة والتركيز على وسطية الإسلام، وذلك بإعادة التوازن بين النقل والعقل وتطهير الثقافة الإسلاميّة المعاصرة من الأفكار والمواضيع التي لا تنسجم مع حقيقة الوسطية الإسلاميّة وروح العصر وحاجة المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة.

ثامنًا: مراجعة التراث الإسلاميّ الفكريّ والفقهيّ من رواسب عهود الانحطاط والجمود ورفض القراءة التقليديّة للتاريخ الإسلاميّ خاصة في جانبيه السياسيّ والعسكري، ومن القراءة غير الصحيحة التي تُعدُّ التاريخ والتراث جزءًا من الدين. ويجب تقسيم التراث الإسلاميّ بصورة عامة إلى ثلاثة أقسام على حد قول د. أحمد الريسوني: قسم مفيد لزمانه ومفيد لزماننا، وقسم مفيد لزمانه غير مفيد لزماننا، وقسم آخر غير مفيد لزمانه وغير مفيد لزماننا. كذلك  يجب محاربة الطائفية المقيته بكل قوة لأنّها أخطر بكثير من التعصب المذهبية،لأن الطوائف قد لا تبنى على أصول واحدة، والخطر يكمن إذا بنيت الدولة على المبادئ الطائفية، فإنّ خطرها يزداد أكثر على التّيار الإسلاميّ السياسيّ، وتنتهي إلى اضطهاد الآخرين وليس فقط في المسائل العقائدية والفقهية، وإنما تتجاوز إلى المناصب السياسيّة والاقتصاديّة والقضائيّة والتربية والتعليم والعسكريّة وغيرها.

تاسعًا: الارتباط بالمجتمع ومشاكله: كثيرًا ما تُشغل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ بمشاكلها الداخلية لدرجة يضعف معها الشعور بمشاكل الناس الأمر الذي يجعل قطاعات عريضة من الرأي العام تشعر أن هذه التّيارات والجماعات الإسلاميّة بعيدة منها ولا تمثلها، بل لا تنفعل بقضاياها، ولا تستجيب لاحتياجاتها، ولا يمكن للتيارات الإسلاميّة الإصلاح أو التغيير على نطاق واسع من دون ارتباط وثيق بعامة الناس.

عاشرًا: وضوح الرؤية والتّصور للتيار الإسلاميّ السياسيّ : تعاني الكثير من التّيارات الإسلاميّة من مأزق ضبابيّة الرؤية المفصلة، والتّصور الدّقيق لأولويات العمل وذلك بسبب بعض قياداتهم، وغياب الشّورى، وآليات اتخاذ القرار داخل الجماعة ما أفرز قيادات معزولة عن القواعد، وكذلك الجمود على قوالب عمل متوارثة ثبتت قلة فاعليتها في عالم اليوم، وعدم حسم القضايا الشّائكة التي استجدت في واقع الناس مثل: المواطنة، العولمة، المرأة، وتناقض الرؤى داخل التّيار الإسلاميّ الواحد، ليس في القضايا الاجتهاديّة فحسب، بل حتى في الأهداف والوسائل والأساليب ، كل هذه القضايا تتطلب مراجعة شاملة تعمل على تنزيل النصوص على أرض الواقع، وتفصيل التصور الكليّ لتصورات جزئية دقيقة تراعي الأولويات، وتتقن فهم سنن الله تعالى في النفس والمجتمع لتستعين بها في إحداث التغيير المنشود.

حادي عشر: يجب التصدي للتحديات من خلال الإصلاح، من دون الإخلال بالنظام العام.

ثاني عشر: ضرورة صياغة أوضاع دعوية تضطلع بمهمة نشر الإسلام على المستوى الدّاخلي والخارجي، بما يتضمنه ذلك من التصديّ السلميّ للمعوقات والتحديات على المستويات كافة.

المبحث الثالث: مستقبل تيار الإسلام السياسيّ وخِيارته

المطلب الأول: مستقبل التّيار الإسلام السياسيّ

تتعدد الآراء والسيناريوهات التي تنظر لمستقبل التّيار الإسلام السياسيّ، وتتراوح بين منتقدين يعدُّون أن الظاهرة في طريقها للتراجع بل والاختفاء وبانتهاء مشروعها، وهناك خطاب أخر للتيار الإسلاميّ يؤكد أن ما يتعرض له التّيار في العالم هو محنة وابتلاء، ومؤامرة على الإسلام، وبداية الخسوف لظاهرة الإسلام السياسيّ، وأن هذا لا يعني بالضرورة انتهاء دور الإسلام السياسيّ في الحياة العامة للمسلمين، أو انتهاء تأثيره في المجتمعات التي يعيشون فيها، وأنه سرعان ما سيعود أقوى مما سبق، لذلك فإنّ تيار الإسلام السياسيّ يواجه اليوم مسألة واحدة وهي هل سيكون قادر على الارتفاع إلى مستوى التحديات التي تواجه، ولا شك أن الإسلاميّين بارعون في تحديد المظالم والإسهاب فيها، ولكن يجب عليهم لكي ينجحوا أن يتحركوا إلى ما وراء أدوارهم الحالية إذا كانوا يرغبون في البقاء على صلة بحاجات المجتمعات. ويجب على التّيارات الإسلاميّة في المجال السياسيّة أن يطوروا جدول أعمالهم وأن يكون واضحًا، وإيجابيًّا، ومحددًا، وبناءً من أجل المجتمع والدولة،لأن أحد الوظائف الرئيسة للدين هي أن يبث الإلهام والبهجة، والمعنى في رؤية الإنسان للحياة، وفي ذلك يستطيع التّيار الإسلاميّ أن يقاوم التّيار المعادي للإسلام وأن يتبنى مناهج بديلة قابلة للحياة. وبناء المجتمعات أولًا ثم بناء الدولة، ومفهوم المخالفة هنا ليس بناء الدولة أولًا، وخاصة إذا كانت مجتمعات الدول الإسلاميّة منهارة عقديًّا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًّا وعسكريًّا وسياديًّا، والمجتمعات في حالة تخلف ورجوع خطوات إلى الوراء، مقارنة مع المجتمعات الأخرى، ورحم الله من قال: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم)⁽¹¹⁾. وعلى تيار الإسلام السياسيّ أن يتخلى عن التقليد والماضي وأن لا يتحكم في مستقبلهم وأن يسيروا نحو التغيير المنشود، وكما يقال الماضي لا يجوز أن يتحكم في المستقبل، هذه المقولة إلى حد كبير صحيحة،لأن ظروف الأزمنة تتغير تبعًا لعوامل كثيرة متنوعة متجددة، ولذلك قالوا لكل زمان دولة ورجال، فالأزمان الماضية لها اختياراتها، وكل زمان يختلف عن الزمن الأمضى منه. وعليه يجب على تيار الإسلام السياسيّ أن يقف أمام التطور والتقدم إلى الإمام بعكس زمن آخر، قوي الهمة، متجدد النشاط، يفتح المجال أمام العقول المفكرة الجديدة لتملأ المجتمع بالحركة الناهضة، وبذلك يستطيع تيار الإسلام السياسيّ أن ينقل بالمجتمعات من حال التخلف إلى حال التقدم ⁽¹²⁾، وقد تحدث النبي^(ص) في هذه السنة الاجتماعية حين قال: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)⁽¹³⁾. يرتبط أيضًا مستقبل تيار الإسلام السياسيّ بالاتفاقات والعمل مع القوميين والوطنيين والعلمانيين على الساحة، وان يبتعد من الصراع والصدام مع المجتمعات، وهذا لا يعني التخلي عن القيم الكبرى للشريعة الإسلاميّة، بقدر ما هو العمل المشترك معها في بعض القضايا المهمة الجوهرية بالنسبة إلى المجتمع الذين يعيشون فيه، والصراع والصدام يلحق الأضرار الفادحة والنكسات بالتّيارات الإسلاميّة السياسيّة، ويرجعهم إلى الخلف، ويبطئ المشروع الإسلاميّ المنشود للمجتمع، ولا شك أن علاقات التّيارات الإسلاميّة السياسيّة مع التّيارات الفكرية الأخرى في المجتمعات إذا تقاربوا، فإن ذلك سوف يضيّق كثيرًا من دائرة الخلافات في ما بينهم من أجل وحدة ومصالح المجتمعات.

أما بالنسبة إلى تيار الإسلام السياسيّ حول الوصول إلى الحكم، يجب أن يصارع التّيار سلميًّا للوصول إلى الحكم ،بأن يعتمد مبدأ نبذ العنف بكل أشكاله للوصول إلى السلطة، وكذلك التمسك بها، والاجتهاد في الوصول إلى الحكم، وحقّ المعارضة ضمن حدود المحافظة على الدولة، والإيمان بالعيش المشترك وممارسته، فلا مستقبل للتيار الإسلاميّ إلا بإشراك باقي التّيارات أو المشاركة الحقيقية معهم.

تشير كل التوقعات والتكهنات إلى تراجع التّيارات الإسلاميّة السياسيّة على الساحة، وأسوأ مما كانت عليه قبل أعوام قليلة، وذلك بسبب إرهاب وعنف بعض الجماعات الإسلاميّة وباسم الدين. لم تسلم حتى بعض التّيارات الإسلاميّة السياسيّة عن بعض هؤلاء الأشخاص المتشددين المحسوبين على التّيار الإسلاميّ، ويسيئون بشكل أو بآخر إلى جماعاتهم، سواءً بتصرفاتهم القوليّة أو الفعليّة. لذلك حسب وجهة نظري يجب على تيار الإسلام السياسيّ إخراج هؤلاء المتشددين من المعادلة السياسيّة، وأن يقدمالإسلام إلى مجتمعهم بلا طائفية ولا مذهبية، ولا تشدد ولا تعسر ولا تنطح، وكذلك أن يبنيّن لغير المسلمين عمليًا أن الإسلام لا يعرف التطرف والعنف ضد المسالمين، وأن يشرح لهم أن الإسلام دين السلام والمحبة والأخوة الإنسانية، وأنّ قانونه الأساسي في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾⁽¹⁴⁾، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾⁽¹⁵⁾، وإنّ المسؤوليّة والحساب سيكون في الآخرة وليس في الدّنيا، وأنّ الشّريعة الإسلاميّة ، مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، ليست من الشّريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل⁽¹⁶⁾.

إنّ قضية الإرهاب والتكفير والتطرف في داخل المجتمع الإسلاميّ وخارجه، غدت مشكلة كبيرة، ألحقت بالإسلام وتياراته المتنوعة خسارة بالغة في أنحاء العالم كله، وانتهت إلى إجراءات متنوعة صارمة ضد التّيارات الإسلاميّة السياسيّة ونشاطاتهم، وقطع سبل الخير والإغاثة، وتقييد حركة قادتهم. من النقاط البارزة لتيار الإسلام السياسيّ فرض السيطرة الكاملة على التّيار من قبل بعض القيادات العليا،وهذا يؤدي إلى الحيلولة دون أي حوار أو انفتاح مع التّيارات الأخرى الفاعلة على السّاحة السياسيّة، لذا فقد يسير التّيار الإسلاميّ على برنامجه القديمة يجعل بناء التحالفات أمرًا غير ضروري. ربما قد يكون الأمر بالعكس، إذ يحاول بعض القيادات فرض السيطرة على التّيار لغرض فرض مصالحهم الشّخصية من مناصب سواء في الحكومة أو خارجها. وكل هذا ما نحسه بوضوح على تيار الإسلام السياسيّ، وفي النهاية يودي بالتّيار إلى نفق مظلم ومجهول لا يحمد عقباه. بناء لما تقدّم يمكن القول إنّ مستقبل تيار الإسلام السياسيّ في المنطقة ليس مشرقًا أو مبشرًا، كما هو الحال في جميع بلدان عربية وإسلامية أخرى، وهذا يعود إلى التفارق المتزايد بين هموم قيادات التّيار بالمناصب والمصالح الشّخصية وقاعدته، وانشغالات الجمهور وتوقعاته، وكذلك فإنّ أتباع تيار الإسلام السياسيّ في المنطقة لا يعدُّون – في نظر الجمهور – نقيضًا أيديولوجيًّا أو سياسيًّا، أو بديلًا موضوعيًّا عن النخبة الحاكمة، فقد كانوا جزءًا منها، وبرزوا في ظلها، وعلى الرّغم من تدهور العلاقة بين تيار الإسلام السياسيّ والأحزاب الحاكمة في بعض السنوات، لم يتغير خطاب التّيار بشكل ملحوظ، ولم تدخل ضمن أدبيات العدالة الاجتماعيّة والتنمية السياسيّة البديلة التي تعدُّ مؤشرًا على تفارق بينها وبين السلطة الحاكمة. إنّ مراعاة التّيار الإسلاميّ في بعض الأحيان للسلطة حفاظًا وتجنبًا الصراع معها، والحفاظ على أمن أفراده ومقراته الحزبية عمل جيد، ولكن ليس على حساب مصالح الشّعب، لأن ذلك يودي به إلى تراجع شعبيته كما هو واضح، ويندرج الآن في نظر غالبية الشعب أنه لا يملك رؤية صحيحة وبرامج عملية قابلة للتنفيذ، ولم يحوّل وعوده وشعاراته إلى إنجازات ووقائع عملية.

المطلب الثاني: خِيارات التّيار الإسلام السياسيّ

أغلب الباحثين يرون أن التّيار الإسلاميّ وخاصة بعد السقوط السّريع لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس أمام الخِيارات الآتية⁽¹⁷⁾:

الأول : خِيار المراجعة النقدية: ما يعني تبني التّيار الإسلاميّ السياسيّ مراجعة فكرية، والإقرار بالأخطاء، وتقديم تصور جديد يؤلف بينه وبين فكرة الوطنية، ويظهر إيمانه بالتعددية السياسيّة والفكرية وتداول السلطة، وكذلك إعادة ترتيب صفوف التّيار بما يقود إلى تنحية بعض القادة المخضرمين، واستبدالهم ببعض القيادات الشّبابيّة، وفي هذه الحالة يمكن للسلطة أن تعيد بشكل طوعي دمج الإسلاميّين، فكرًا وتنظيمًا، ولن يبقى سوى وضع هذا التّيار تحت سلطان الدولة، مراقبة ومحاسبة، وليس إبقائه على صيغته السابقة، وكأنه دولة داخل الدولة.

الثاني: خِيار المواجهة: وهو دخول التّيار الإسلاميّ في مواجهة عنيفة وأعمال عدائية وإرهابيّة ضد المجتمعات ومؤسسات الدولة، وفي مطلعها القوات المسلحة، انتقامًا من تهميش بعض التّيارات الإسلاميّة وإسقاطها،  خاصة سلطة الإخوان المسلمين في مصر، ورغبة في إفشال السلطة التي حلت محلهم، وإرهاق الدولة وإنهاك قواها، وإجبار النّظام الحاكم على تقديم تنازلات جذرية أو فارقة. ويرى بعض الباحثين أنّ هذا الخيار ببساطة أقرب لمفهوم الانتحار، لأنّه لا يمكن لتنظيم أو تيار أن ينتصر على شعب، أو يهز أركان دولة راسخة ، لديها تجربة في التعامل مع الإرهاب.

ثالثًا: خِيار التكيف المؤقت: يعني حدوث تغيير في هيكل القيادة الخاص في التّيار، من دون تغيير في أسسه المعرفية، يؤدي إلى الاعتراف بشرعية الوضع القائم، مصحوب بالإعلان عن وقف الصراع مع المجتمع، والالتزام بقواعد اللعبة السياسيّة، ما يعني أن التّيار سوف يدخل في مرحلة تكيف مؤقت مع المجتمع الذي يعيش معه، ومعنى هذا أن يظل التنظيم قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

رابعًا: خِيار العائل البديل :وفيه يحاول التّيار الإسلاميّ السياسيّ أن ينسحب من العملية السياسيّة ظاهريًا، والعودة إلى العمل السياسيّ من خلال دفع بعض أفراده للتنسيق مع بعض الكتل السياسيّة الأخرى غير الإسلاميّين، أو العودة في صورة نواب مستقلين  أو تحت أيّ مسمى أخر.

خامسًا: خِيار توزيع الأدوا:  وفيه ينقسم أعضاء التّيار الإسلاميّ إلى قسمين رئيسين يتبادلا توزيع الأدوار القسم الأول  يُظهر وجه معتدل نسبيا، ويدعو إلى عودة التّيار الإسلاميّ إلى ممارسة العمل الدعوي الصريح، والتصالح مع المجتمع، ويتشكل من الكوادر المهنية المنتمين للطبقة الوسطى، بينما القسم الثاني من أعضاء التنظيم الخاص في التّيار وكل القطبيين، وستكون هذه الجماعة سرية يعمل في الخفاء.

سادسًا: خِيار تجميد العمل السياسيّ برمته لمدّة لا تقل عن دورة انتخابية مدتها أربع سنوات على الأقل: بمعنى عدم الدّخول في اللعبة السياسيّة نهائيًّا، وعدم تأييد أو دعم أي من الأحزاب السياسيّة الأخرى في الانتخابات القادمة، والعمل فقط على تقوية تنظيمه، من خلال مراجعات على المستويات كافة، والاعتراف بالأخطاء التي وقع فيها بجرأة، ونقد بناء من دون مجاملات، ووضع خطط وبرامج وآليات واقعية تنسجم مع العصر ومع محيطه وساحته السياسيّة. بناء لما تقدّم، يرى الباحث أن هذا الخِيار هو الأفضل والأحسن حفاظًا على مكانتها وأفرادها، وخاصة في هذه المرحلة الحساسة، ولاسيما بعد التدخلات الخارجية وصراع الأقوياء على المصالح . ويجب على التّيار الإسلاميّ السياسيّ أن لا ينسى الهدف الذي تأسس من أجله ألا وهو إقامة الإسلام، وتحكيم الشّريعة، وهذا الهدف المنشود لا ينبغي الخجل منه، أو الرضا بتحويله إلى نقطة ضعف ومصدر انتقاد، وعندما يتخلى التّيار الإسلاميّ عن هدفه الرئيس ويتوارى منه، فإن زواله يصبح خيرًا من بقائه. وعليه أن يعترف بكل جرأة وصراحة أمام قاعدته ومؤيده أنه أخطأ في كثير من المجالات السياسيّة ولا يملك مشروعًا سياسيًّا واضحًا، أو كوادر وأعضاء سياسية قادرين على إدارة الأزمات. وإذا حاول التّيار الإسلاميّ أن يغير منهجه في كل الميادين التي أشرتُ إليها خلال هذا البحث، فسوف يكون له حضور ومستقبل أكثر في المجتمع وحتى في السلطة، وذلك من خلال مراجعة وتأسيس التّيار مرة أخرى على الفكرة الواضحة،لأنّ التنظيمات التّيار الإسلاميّ السياسيّ لحد هذه اللحظ متماسكة، على الرّغم من أفتقاره إلى القيادات الكارزماتية.

تبين لي في نهاية هذا البحث أن التّيارات الإسلاميّة السياسيّة الحالية في موقف ضعيف، ولا شكّ في أن النتيجة العامة التي توصلت إليها غير سارة، لكن الطبيب لا يجوز له أن يغالط نفسه عندما يشخص المرض، فعليه أن يتقبل نتيجة التّشخيص بقلب ثابت ليتمكن من بَدء مرحلة العلاج بشكل موضوعي وصحيح، وأود ذكر أهم ما هو مطلوب، وذلك بشكل عناوين وهي كالآتي⁽¹⁸⁾:

1- المحافظة على إشراقة الأمل بأن الله تعالى سيغيّر حال الأمة لتوافي قَدَره بنصرها.

2- الوعيّ الشّمولي.

3- العلماء الرّبانيون والدعاة المخلصون والمتخصصون المتقنون.

4- إصلاح الذات (العودة إلى الله والتقوى بمفهومها الشامل).

5- الحوار البناء والهادف بين الإسلاميّين بشكل عام والتّيارات الإسلاميّة السياسيّة بشكل خاص.

6- مواجهة التحديات بمنهاج عمل واقعي (المؤسسات من أبرزها).

7- تحرير المفاهيم الأساسية في العقيدة والحركة.

الخاتمة

توصلت في هذا البحث إلى استنتاجات منها:

1- إنّ التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ كمفهوم يتمثل في تعبير عن الحركات والقوى التي تصبو إلى تطبيق الشّريعة الإسلاميّة منهجا حياتيا، مستخدمة بذلك منهجية العمل السياسيّ الحديث القائم على المشاركة السياسيّة في السلطة، ويصنف عملها في تجارب بشرية لا تأخذ قدسيتها من قدسية الإسلام كدين، بل منطلقات تسترشد بمرجعية الإسلام، وتتخذه نهجا تؤسس عليه حراكا إنسانيا يعتريه ما يعتري الطبيعة البشرية القائمة على أساس الخطأ والصواب.

2- إن نشأة التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ في الواقع هي ليست وليدة الصدفة أو نتيجة للمآل الذي آلت إليه الأمة الإسلاميّة، بالقدر ما هي إلا تعبير ناتج عن مجموعة مسببات وعوامل منها السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وان البيئات التي تولت منها التّيارات الإسلاميّة هي بيئات إسلامية في الأساس ويمثل الدين عاملًا محوريًّا مُهمًّا فيها.

3- هناك تحديات كثيرة تواجه التّيار الإسلاميّ منها وجود خلل عند بعض التّيارات الإسلاميّة في فهم وتلقي المنهج الرباني والنبوي فهمًا سطحيًا دون مراعاة التدرج والوسطية، وان الفهم والتلقي والوسطية يجب أن تنبع من الوحي الإلهي في الكتاب والسنة منطوقًا ومفهومًا.

4- الخلط بين العمل الدعوي والعمل السياسيّ: لا شك أن السياسة الشرعية جزء من الإسلام ،ولكن كثير من التّيارات الإسلاميّة يخلطون بين الدعوة والسياسة سواء في الخطاب أو الممارسة ،ويقعون في محن مستمرة، وقد ينتهي بهم إلى تفتيت وتفرقة وصراعات فيما بينهم، لذلك يجب الحفاظ على ثنائية العلاقة بين العمل الدعوي والسياسيّ وفي حالة توازن يكون للدعوي فيها حق الصدارة ،بمعنى أن السياسيّ يجب أن يوظف لخدمة الدعوي وليس العكس.

5- في بعض الأحيان قد تفتح السلطة الحاكمة أمام التّيار الإسلاميّ السياسيّ مسارات تقربهم من السلطة ،بشرط التخلي عن ثوابتهم الدينية ووقوعهم في الفخ.

6- هشاشة وضع التّيارات الإسلاميّة ورثاثته ،إذا يغلب على كل التّيارات الإسلاميّة السياسيّة الغبش في الأفكار والتصورات والمفاهيم والمناهج ، مع ضعف ظاهرٍ في العلوم الشرعية.

7- شبه غياب أو محدودية وجود المؤسسات مراكز الأبحاث السياسيّة ومؤسسات العلاقات العامة ومؤسسات معنية بالشؤون الدولية.

8- إن التحديات والمخاطر التي تواجه التّيارات الإسلاميّة السياسيّة كبيرة وخطيرة، ولهذا فإن سبل مواجهتها يجب أن تكون بحجم تلك التحديات ومكافئة لها فالاستجابة تكون على قدر التحدي، وإن مواجهة التحديات المعاصرة يعتمد في وجه من وجوهه، على الإمكانات وطرق استعمالها وتوظيفها والاستفادة منها، وهي إمكانات متاحة، أي تحت اليد، وإمكانات مأمولة.

9- إصلاح وتجديد الخطاب الإسلاميّ والدعوي بصورة عامة والتركيز على وسطية الإسلام، وذلك بإعادة التوازن بين النقل والعقل وتطهير الثقافة الإسلاميّة المعاصرة من الأفكار والمواضيع التي لا تنسجم مع حقيقة الوسطية الإسلاميّة وروح العصر وحاجة المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة.

10- تتعدد الآراء والسيناريوهات التي تنظر لمستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ، وتتراوح بين منتقدين يعتبرون أن الظاهرة في طريقها للتراجع بل والاختفاء وبانتهاء مشروعها، وهناك خطاب أخر للتيار الإسلاميّ يؤكدون أن ما تتعرض له التّيار في العالم هو محنة وابتلاء، ومؤامرة على الإسلام،وبداية الخسوف لظاهرة الإسلام السياسيّ، وأن هذا لا يعني بالضرورة انتهاء دور الإسلام السياسيّ في الحياة العامة للمسلمين، أو انتهاء تأثيره في المجامعات التي يعيشون فيها، وأنه سرعان ما ستعود أقوى مما سبق.

11- مستقبل التّيار الإسلاميّ في المجال السياسيّ ليس مشرقًا أو مبشرًا، في جميع بلدان عربية وإسلامية، وهذا يعود إلى التفارق المتزايد بين هموم قيادات التّيار بالمناصب والمصالح الشخصية وقاعدته ،وانشغالات الجمهور وتوقعاته ،وكذلك فإن التّيار الإسلاميّ السياسيّ لا يعتبرون – في نظر الجمهور – نقيضًا أيديولوجيًا أو سياسيًا، أو بديلًا موضوعيًا عن النخبة الحاكمة.

12- أغلب الباحثين يرون أن التّيار الإسلاميّ وخاصة بعد السقوط السريع لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس أمام مجموع من الخيارات وأن أفضل الخيارات هي تجميد العمل السياسيّ برمته لفترة لا يقل عن دورة انتخابية مدتها أربع سنوات على الأقل ،و عدم الدخول في اللعبة السياسيّة نهائيًا ،وعدم تأييد أو دعم أي من الأحزاب السياسيّة الأخرى في الانتخابات القادمة، والعمل فقط على تقوية تنظيمه، من خلال مراجعات على كافة المستويات ،والاعتراف بالأخطاء التي وقعت فيها بجرأة ، ونقد بناء دون مجاملات،ووضع خطط وبرامج وآليات واقعية ينسجم مع العصر ومع محيطه وساحتيه السياسيّة.

الهوامش:

([1]) أساليب التغيير السياسيّ لدى حركات الإسلام السياسيّ بين الفكر والممارسة: الإخوان المسلمين في مصر نموذجًا، ص11.

(2) موسوعة علم السياسة، ناظم محمد الجاسور، ص60.

(3) ينظر: الوجيز في تاريخ الإسلام والمسلمين، أمثر عبد العزيز، ص897؛ والانعكاسات الدولية والإقليمية لأحداث11 سبتمبر، حسين بوقارة وآخرون، ص1.

(4) صعود الإسلام السياسيّ، محمد الشيوخ، بوابة الدين، ص18.

(5) ما هي أسباب بروز – الإسلام السياسيّ – بهذه القوة، شاكر النابلسي، العدد 2564.

(6) ينظر: التعددية السياسيّة في المملكة الأردنية، عبد الحليم العدوان، ج2، ص366-367؛ وأميركا والإسلام السياسيّ، فواز جرجس، ص38؛ والبدائل المشروعة وأهميتها في نجاح الدعوة، د. سالم محمد أبو الفتح البيانوني، ص55؛ والمشروع الإسلاميّ المعاصر أمام التحديات، د. محسن عبد الحميد، ص76-83.

(7) ينظر: الإسلاميّون والتحديات المعاصرة، د. سامي محمد صالح الدلال، ص13.

(8) ينظر: الإسلاميّون والتحديات المعاصرة، د. سامي محمد صالح الدلال،  ص11-12.

(9) ينظر: التحديات التي تواجه الإسلام في العصر المعاصر. الموقع www.hajij.com؛ وتحديات لتطوير العمل السياسيّ للتيار الإسلاميّ، علاء الروبي، www.sasapost.com ، تحدي داعش ومسؤولية التّيار الإسلاميّ المعتدل، د. هادي علي، www.aljazeera.net؛ والعمل الإسلاميّ والتحديات المعاصرة، نزار محمد عثمان،صيد الفوائد www.saaid.ne؛ والمشروع الإسلاميّ المعاصر أمام التحديات، د. محسن عبد الحميد، ص76-83؛ والإسلاميّون والتحديات المعاصرة، د. سامي محمد صالح الدلال، ص19.

(10) سورة المائدة: الآية (33).

(11) تفريغ سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني، ج 670، ص28.

(12) المشروع الإسلاميّ المعاصر، د. محسن عبد الحميد، ص157.

(13) المستدرك على الصحيحين، النيسابوري ، كتاب الفتن والملاحم، رقم الحديث (8593).

(14) سورة البقرة: الآية (256).

(15) سورة الكهف: الآية (29) .

(16) سورة الكهف: الآية (29) .

(17) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم الجوزية، ج3، ص11.

(18) ينظر: الإسلاميّون والتحديات المعاصرة، د. سامي محمد صالح الدلال، ص34.

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1. أساليب التغيير السياسيّ لدى حركات الإسلام السياسيّ بين الفكر والممارسة: الإخوان المسلمين في مصر نموذجًا، مذكرة ماجستير جامعة النجاح الوطنية بنابلس – فلسطين، كلية الدراسات العليا، 2012م.
2. الإسلاميّون والتحديات المعاصرة، د. سامي محمد صالح الدلال، المركز العربي للدراسات الإنسانية – القاهرة، ط1، 1429هـ-2008م.
3. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية – ييروت، ط1، 1411هـ-1991م.
4. أميركا والإسلام السياسيّ، فواز جرجس، مطبعة جامعة كمبردج – بريطانيا، ط1، 1991م.
5. الانعكاسات الدولية والإقليمية لأحداث 11 سبتمبر 2001، حسين بوقارة وآخرون، شركت بانيت، 2002م.
6. البدائل المشروعة وأهميتها في نجاح الدعوة الإسلاميّة، د. سالم محمد أبو الفتح البيانوني، دار أقرأ – الكويت، ط2، 1428هـ-2008م.
7. تحدي داعش ومسؤولية التّيار الإسلاميّ المعتدل، د. هادي عليّ aljazeera.net
8. التحديات التي تواجه الإسلام في العصر المعاصر. الموقع hajij.com
9. تحديات لتطوير العمل السياسيّ للتيار الإسلاميّ، علاء الروبي sasapost.com
10. التعددية السياسيّة في المملكة الأردنية الهاشمية، عبد الحليم العدوان.
11. تفريغ سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني، موقع الألباني alalbany.net
12. صعود الإسلام السياسيّ، محمد الشيوخ، بوابة الدين الموقع الالكتروني لميديل ايست اونلاين، 18-4-2001 com
13. العمل الإسلاميّ والتحديات المعاصرة، نزار محمد عثمان، صيد الفوائد saaid.ne
14. ما هي أسباب بروز – الإسلام السياسيّ – بهذه القوة، شاكر النابلسي، موقع الحوار المتمدن، العدد 2564.ahewar.org
15. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1411هـ-1990م.
16. المشروع الإسلاميّ المعاصر أمام التحديات، د. محسن عبد الحميد، دار الفتح – الأردن، ط1، 1436هـ-2015م.
17. موسوعة علم السياسة، ناظم محمد الجاسور، دار مجداوي – عمان، ط1، 2004م.
18. الوجيز في تاريخ الإسلام والمسلمين، أمثر عبد العزيز، دار ابن حزم – بيروت، ط1، 2003م.

 

 

 

 

[1] – أستاذ مساعد في جامعة زاخو، فاكولتي الآداب والعلوم الإنسانيّة  كردستان، العراق، قسم الدراسات الإسلاميّة.