الأسطورة بين المزاج والمَجاز في الفنّ التشكيليّ المعاصر
ريما الوليد التركمانيّ([1])
في كلّ زمان هناك أسطورة، وهناك بطل، قد يرقى إلى مستوى الخرافة منطلقًا من واقع اجتماعيّ معيّن، وهذه الحكايا تتكرّر دائمًا، تنتقل من جيلٍ إلى آخر ومن حضارةٍ إلى أخرى، وفي مكان آخر هي حكمة وموعظة، هي مثال وهدف يُرجى من خلاله خلق حسّ إنسانيّ يتّصف بالنبل والقوّة في آن معًا. “وتعدّ الأسطورة المغامرة الإبداعيّة الأولى التي ابتكرتها المخيّلة البشريّة في ما ابتكرته من المغامرات التي كانت صدى للواقع المعرفيّ والجماليّ والتطوّر الإدراكيّ للإنسان”([2]). تؤدي الأسطورة دورًا إرشاديًّا مهمًّا للتمييز بين الخير والشرّ، كما أنّ القدرات التي يمتلكها البطل الأسطوريّ عليها أن تكون في خدمة الإنسان ورفعته من الغرائز والتشوّهات الطفيفة والمؤذية، وأن تنزله منزلة الآلهة، كما في بلاد ما بين النهرين واليونان.
كانت الأسطورة ولا تزال محورًا مهمًّا من محاور الحياة البشريّة، فهي حكاية أو قصّة أو مجموعة من القصص تعود إلى أزمنةٍ غابرة، قد لا تكون دائمًا قصصًا مستمدّة من الواقع، إلّا أنّها كانت دروسًا للواقع الاجتماعيّ، ومن الجدير ذكره أنّها تكون متعلّقة بأحداث محدّدة، أو بأشخاص معيّنين، أو بأماكن معيّنة، وتشبه الأساطير الحكايات الشّعبيّة من ناحية المحتوى، ففيها أشخاص خارقين، وتفسيرات لظواهر طبيعيّة مختلفة عن الواقع، وتنتقل من جيل إلى آخر، فيختلف سردها، فمنها ما يحصل من خلال الشعر أو من خلال الروايات المرويّة شفهيًّا أو المدوّنة، وتهدف في معظمها إلى تقديم درس معيّن، أوهي تقدّم تسلية للمستمعين أو للقرّاء. ظهر الفنّ التشكيليّ من خلال الأسطورة، فكان وسيلة لتجسيدها، فهو ذاك النوع الذي يُعبّر من خلاله الفنّان عن أفكاره ومشاعره، إذ يسعى إلى تحويل المواد الأوليّة إلى أشكال جميلة، كالزخرفة، والنحت. ويُدرك هذا النوع من الفنون من خلال حاسّة البصر، لذلك يسمّى بالفنّ البصريّ أو المرئيّ. فهل استطاعت الأسطورة كمصدر قصصيّ تاريخيّ ومعرفيّ مصوّر بما تمتلك من مقوّمات فكريّة وفنّيّة أن تساهم في إبراز العمل الفنّيّ؟ هل لا تزال الأسطورة حاضرة بواقعها المعاصر وبالتحديد في الفنّ التشكيليّ؟ وهل استطاع الفنّان توظيف الأسطورة كحركة إبداعيّة يتجاوز بها الطبيعة ويفتح مجالًا آخر للتعبير عن واقعه، أم أنّه قد وقع تغييبها في فنّ تشكيليّ معاصر طغت عليه التكنولوجيّات الجديدة بتقنيّاتها الحديثة؟
لطالما شعر الإنسان أنّه في حاجة ملحّة لتأسيس عالم خياليّ للهروب من الواقع الذي يعيشه. فقد ابتدع الأسطورة، حيث يتمازج حلمه مع الحقيقة والواقع والخيال. إلّا أنّ هذه التخيّلات الخارقة والخواطر الغريبة لايمكن أن تتحوّل وتتبلور إلّا في رحاب الفنّ وعالمه. هكذا فتح الفنّ مصراعيه أمام الأساطير والخرافات والافتراضات السّاذجة حول الكون، وبما أنّ الفنّ كان منذ البداية انعكاس العلاقة الأسطوريّة القائمة بين الإنسان وواقعه، ذلك أنّ الأسطورة عُدّت منذ البداية حركة العقل البشريّ الأوّليّ حيث فتحت له آفاقًا واسعة من الخيال والإبداع، للتعبير عن مكنوناته وخباياه العاطفيّة وهواجسه. فكانت عالمه الخياليّ الذي لجأ اليه الإنسان البدائيّ الأوّل، لتغطية النقص الكامن في أدوات العمل التي أعوزته الطبيعة القاسية من أجل التحكّم والاستمرار في متابعة الحياة، ليجد نفسه في حاجة ملحّة إلى أسطورة تمكّنه من السيطرة على الكون، فخلق عالمًا جديدًا وآخر له. لم يكن ذلك العالم المخلوق وهمًا وأنّما كان هدفًا عجزت أدوات الإنسان وخبرته العلميّة عن خلقه، فكانت الأسطورة هي الأداة الفذّة في يده كما وأنّه كان لها دور نفسيّ للإنسان إذ ساعدته على إفراز مكبوتاته، وإخراج الضغوطات النفسيّة التي كان يتعرّض لها من جرّاء تجاربه اليوميّة والحياتيّة الصعبة التي كان يعيشها ويتأثّر بها.
مفهوم الأسطورة
هناك العديد من الانثروبولوجييّن والفلاسفة والمؤرّخين، الذين أعطوا تعريفات كثيرة ووافية عن ماهية الأسطورة. وبعيدًا من تعريف مفهوم الأسطورة وتحديده، والبعد كلّ البعد من “تفسيرها فهذه مهمّة الأنثربولوجييّن وعلماء النفس والاجتماع، فإنّنا نختصر القول: إنّ الأسطورة هي القصّة المقدّسة التي كان أصحاب الحضارات السابقة يؤمنون بها كونها في كتبهم المقدسة التي تمتلك قوّة الاعتقاد والإيمان الملزم للمجتمع قبل ظهور الأديان، وتصدر عن تأمّلات وانفعالات وخيالات جماعيّة لا فرديّة وهي خطاب في معتقدات الشّعوب، أيّ أنّها ذاكرة شعب وليست ذاكرة فرديّة. تتناول موضوعات إنسانيّة شاملة تخصّ جدل الإنسان مع نفسه ومع الوجود، وهي ظاهرة إنسانيّة ارتبطت بالوجود الإنسانيّ معبّرة عن معتقداته وفكره الدينيّ والإنسانيّ ومراحل نضجه وتطوّره من مرحلة إلى أخرى([3])“. بمعنى أنّ الأسطورة قصّة رمزيّة، تعبّر عن فلسفة كاملة لعصرها، لذلك يجب دراسة العصور نفسها لفكّ رموز الأسطورة، وأحيانًا يشكّل المنهج العقليّ الذي يذهب إلى نشوء الأسطورة نتيجة سوء فهم ارتكبه أفراد في تفسيرهم، أو قراءاتهم أو سردهم لرواية أو حادث، والتحليل النفسيّ الذي يحتسب الأسطورة رموزًا لرغبات غريزيّة وانفعالات نفسيّة. وإنّ علم الأساطير، حتى الآن، لم يصل إلى مرحلة النضج التي تؤهّل مدارسه المتنافرة، المتعارضة من الاندماج.”تساءل أحد الأدباء شعرًا: (ما الذي سيبقى حين أنزع عنك الأساطير؟) وفي طبّه أن يعرّيني: (وما في طبّه أنّي جواد تعوّد أن يغبّر في السرايا ويدخل من قتام في قتام – المتنبي). نعم يا سيّدي… إن نزعت الأساطير عنّي لن أكون «عريانًا»؛ ولا «حيوانًا»، فللحيوانات «أحلام» أيضًا! أنت تنزع إنسانيّتي؛ أيّ حياتي أوهل الحبّ هو أسطورة وفنّ في آن، فهل توجد الحياة من دون حبّ؟ يعدُّ فصل الأسطورة والفنّ عن الوعي هو الموت بعينه، ولكن لا وجود للوعي من دون المجتمع، فهل للمجتمعات أحلام؟ نعم توجد للمجتمعات والأمم أحلام؛ بل تندثر الشعوب من دون أحلام. فالتوق نحو التنمية والتقدم والازدهار هو حلم لا يحيا مجتمع من دونه. وإن شئت أن تقتل فردًا أو مجتمعًا أو أمّةً من دون سلاح، صادر أحلامه، فسيموت. ما يميزّك عن الحيوان والكائنات كلها هو الوعي، ولكن الوعيّ الفرديّ والاجتماعيّ ليس ثابتًا، فهو ينمو بتواصل الفرد مع الآخر، وبتفاعل المجتمع مع المجتمعات الأخرى”([4]). ما كانت المجموعات الأولى للمجتمع البشريّ لتحيا وتتطوّر وتسيطر على الطبيعة وتنشئ حضارات من دون الأسطورة! فالنشاط الإنسانيّ مرهون بالتغيير، والتغيير لا يمكن حدوثه من دون تجريب، والتجريب يحتاج إلى فكر أسطوريّ، وممارسة إبداعيّة. لا شكّ أنّ التجارب الإنسانيّة، المبنيّة على الأحلام الأسطوريّة والممارسات الإبداعيّة لكلّ المجتمعات، قد أدت إلى تقدّم اجتماعيّ لافت ومستمرّ، فالمجتمع يتكامل بأفراده كافّة، وإلابداع يكون بما يستطيع الإنسان أن يؤدّيه بما لديه من ثقافة وتجربة، والأسطورة كانت ولاتزال وسيلة من وسائل تثقيف المجتمعات لتفسير الظواهر ودعم المجهود الفرديّ والجماعي للإنسان عبر الحكايا البطوليّة الخارقة.
الأسطورة في أعمالٍ خالدة
أدّت الأساطير دورًا مهمًّا في تاريخ الفنّ الإغريقيّ على وجه الخصوص وفي الحضارة الإنسانيّة برمّتها ولا تزال مظاهرها وأشكالها تتردّد حتى اليوم في أرجاء الحياة الثقافيّة والفكريّة. هناك من يرى الأسطورة بأنّها حكاية ذات صياغة أدبيّة وأحداث عجيبة خارقة للعادة تناقلت مشافهة جيلًا بعد جيل، وتعبّر عن ذاكرة جماعيّة تخدم تاريخ الشعوب، ومن ناحية أخرى ترتبط بالوجود الإنسانيّ وجدليّته مع نفسه ومحيطه ونشوء الكون والخلود، ومرتبطة بالآلهة وأنصاف الآلهة، وتأتي في أنواع عدّة بين أسطورة طقسيّة وأسطورة التكوين والتعليلة والرّمزية، وتختلف عنها الحكاية الشعبيّة في كونها تناقش قضايا شعبيّة باللغة المحكيّة وقضاياها من الحياة اليومية وأطرافها شخصيّات أنسيّة ومن الجنّ.
صورة 1. ليونارد دافنشي، ليدا وطائر البجع. |
“ويعرّف بارتيه الأسطورة في كتابه «علم الأساطير» أنها أقدم لغة وطريقة للاتصال، من حيث كونها قول تَلقائيّ بلغة سائغة بين عناصر اجتماعيّة معيّنة، ولهذا فإنّها مجهولة الهُويّة، والأصل، غامضة التاريخ والمكان”([5]).
عالم الأساطير بالنسبة إلى الفنان أشبه بالسحر الذي يشحذ مخيّلته وينقله إلى عوالم يستغرق فيها كالأطفال بعيدًا من الواقع. وازدهر هذا الفنّ بداية في العهد الفيكتوريّ وفي بريطانيا تحديدًا، وقد ارتبط بالأدب والمسرح والحركة الرومانسيّة. كما ساهمت الثورة الصناعيّة في ازدهار هذا الفنّ وسرعة تحوّل التقاليد وتطوّر العلوم والتكنولوجيا التي أدّت إلى إشعار شريحة واسعة من الناس بالقلق والحيرة، ما دفعهم إلى التمسّك بعوالم الأساطير سواء في الأدب أو الفنون البصريّة هربًا من أعباء الحياة، والتي وجدوا فيها كما في كلّ الأزمان والعصور مساحة من الهدوء والراحة التي يمنحها الخيال.
أما أوّل فنّان ارتبط اسمه برسم الأساطير والحكايات الخرافيّة، فهو الإنجليزيّ “Richard Dad” ريتشارد داد (1 أغسطس 1817 – 8 يناير 1886 رسام إنجليزي قتل والده في العام 1843 وأمضى بقية حياته في ملاجئ بيدلام وبرودمور. قبل انهياره العقلي كان يعدُّ واحدًا من الفنانين الواعدين من جيله، صديقه فريث وصفه بأنه “رجل عبقري من شأنه أن يضعه بالتأكيد بمكانة عالية وفي الرتبة الأولى من الرسامين” وبعد سجنه شُجع على مواصلة الرسم. على الرغم من أن معظم أعماله قبل جريمة القتل كانت تقليدية إلى حد ما، إلا أنه بدأ يرسم مواضيع خرافية وخيالية وفي الملاجئ طورها على أسس خيالية للغاية: ربما يكون فيلم “Master-Stroke” للجنّيّة (1855 – 1864، تيت، لندن) هو الأكثر شهرة).
صورة 2. ريتشارد داد، مائية، 1851، 25.9-35.8 سم |
الذي ألهمت أعماله أجيالًا من الفنّانين من بعده. وأنتج داد روائع أعماله بعد إيداعه في مستشفى للأمراض النفسيّة التي بقي فيها حتّى وفاته. وابتداءً من العام 1970م أعيد إحياء هذا الفنّ بأسلوب العصر الفيكتوريّ، الذي يُعنى بدقّة التفاصيل، ليبدع الفنّانون روائع أعمالهم، وليتخصّص عدد كبير
منهم في هذا الفنّ الذي يحظى بشعبيّة واسعة لدى فئات المجتمع كافة.
كان لتوظيف الأسطورة في الفنّ أهميّة كبرى، فما من فنّان، منذ عصر النهضة الإيطاليّة وحتّى بدايات القرن العشرين، إلّا وتجلّت الأسطورة في أعماله. حيث إنّها تشكّل مادّة كبيرة وواسعة، نظرًا إلى كثافة الأساطير وتنوّعها. وقد حضرت الأسطورة في أعمال العديد من الفنّانين من عصر النهضة مثل ليوناردو دافينشي، ومايكل أنجلو، وروفائيل، وتيتنان، وبوتيشيلّي، وغويا وغيرهم، وبعض أعمال الفنّانين الإيطالييّن البارزين في عصر النهضة، ليوناردو دافنشي (تمثال نصفيّ للإلهة فلورا)، ساندرو بوتيتشيلّي (لوحات “ولادة فينوس”، “ربيع”)، تيتيان (رسم “فينوس أمام مرآة”) وأخرى مكرّسة لتصوير الموضوعات الأسطوريّة والآلهة. كما أخذ
صورة 3. ساندرو بوتيشيللي، ولادة فينوس، 1845 صورة4. بنفينيتو سلليني، تمثال بالحجم الطبيعي، الغول مع رأس ميدوسا، 1554
النحّات الإيطاليّ المتميّز Benvenuto Cellini هذا الموضوع لتمثاله الرائع لـ Perseus من صور الأساطير اليونانيّة القديمة.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، انتشرت استعارة المؤامرات من الأساطير اليونانيّة القديمة بواسطة شخصيّات الفنّ الأوروبيّ، فقد رسم فنّانون بارزون فلمنكيّون، وفرنسيّون، وهولنديّون صورًا مأخوذة من الأساطير اليونانيّة القديمة: Rubens روبنز (فرساوس وأندروميدا، فينوس وأدونيس)، Van Dyck فان ديك (المريخ والزهرة)، Rembrandt رامبرانت (داناThe Head of Pallas Athena ، (بوسان (Echo and Poussin Narcissus ، “Nymph and Satyr“، المناظر الطبيعيّة معPolyphemus ، المناظر الطبيعيّة معHercules ،Boucher (Apollo) وغيرهم الكثير.
صورة 5. فرنسوا بوشيه، ديانا تخرج من الحمام، زيت على قماش، 56-73 سم، 1742
طرحت الرومانسيّة (وقبلها – قبل الرومانسيّون) شعارات للانتقال من العقل إلى الأسطورة ومن الأساطير العقلانيّة للعصور اليونانيّة الرومانيّة القديمة إلى الأساطير القوميّة الوثنيّة والمسيحيّة. “ديسكفري” في منتصف القرن الثامن عشر. للقارئ الأوروبيّ للأساطير الإسكندنافيّة، فولكلوري هيردر، الاهتمام بالأساطير الشرقيّة، والأساطير السّلافيّة في روسيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أوائل القرن التاسع عشر التي أدّت إلى ظهور التجارب الأولى للنهج العلميّ لهذه المشكلة، مهّدت الطريق لغزو فنّ الرومانسيّة من خلال صور الأساطير الوطنيّة.
ساهمت الآراء الفلسفيّة الطبيعيّة للرومانسيّين في الدعوة إلى خفض الميثولوجيا، إلى فئات متعدّدة من الأرواح الطبيعيّة للأرض، والهواء، والماء، والغابات، والجبال، وما إلى ذلك. وأُكِد على اللعب الحرّ، والمثير للسخرية أحيانًا مع صور الأساطير التقليديّة، والجمع بين عناصر من الأساطير المتعدّدة وخصوصًا التجارب الخاصّة بهم مثل الأساطير الأدبيّة.
في بداية القرن التاسع عشر، هناك زيادة في دور الأساطير المسيحيّة في البِنية العامّة للفنّ الرومانسيّ. في الوقت نفسه، أصبحت المشاعر اللاذعة، التي عُبِّر عنها في إنشاء الأساطير الشيطانيّة للرومانسيّة، لكنّها اكتسبت أيضًا ميزات الأساطير الحقيقيّة التي أثّرت بنشاط على وعي جيل كامل، وخلقت شرائع ذات طقوس عالية للسلوك الرومانسيّ، وأدّت إلى ظهور عدد كبير من النصوص المتشابهة المتبادلة.
الأسطورة بين الموضوعيةّ والذاتيّة
الإبداع حالة متطوّرة ونسبيّة عند كلّ إنسان، فالفنّان المبدع هو الذي يوظّف كلّ ما لديه من طاقات فكريّة، وثقافيّة، وتقنيّة حتى يصل إلى مرحلة إرضاء الذات، ويتحقّق تعبيره الإبداعيّ عن نفسه من خلال إنشاء أشكال ثقافيّة متنوّعة واستخدامها، كلّ شكل من هذه الأشكال له دلالاته ورمزيّته. “وربّما لهذا أيضًا، تعدّ الأسطورة جزءًا من الواقع الذي تعمل فيه، وعلى الرغم من البعد اللاتاريخيّ للأسطورة، فإنّها أيضًا مؤشّر في التاريخ، إن لم تكن هي في حدّ ذاتها تاريخًا حيًّا يمتدّ من الماضي إلى الحاضر. ارتبطت نشأتها وتطوّرها بتطوّر الفكر الإنسانيّ وانتقاله عبر مرحلتين تاريخيّتين، الأولى اهتمام الإنسان بالظواهر الكونيّة: أساطير التكوين والأساطير الطقوسيّة، والثانية اهتمام الإنسان بوجوده الاجتماعيّ وتكوين النظرة الفلسفيّة الجماليّة، وظهور الأساطير الرمزيّة والمجازيّة خلالها، إلى جانب أسطورة البطل الإله والأسطورة السياسية”([6]).
قبل التوغّل في الإجابة عن تساؤلاتي التي طرحتها سابقًا، سأبحث في تاريخ الأسطورة فنّيًّا علّني بذلك أتجاوز مفهومها الضيّق والمتناول وكونها خرافة الأجداد. فالأسطورة هي “عالم التجأ إليه الإنسان البدائيّ لتغطية نقصه في أدوات العمل التي أعوزته عن التحكّم بالطبيعة، ليجد نفسه في حاجة ملحّة لأسطورة تمكّنه من السيطرة على الكون، فخلق بها عالمًا جديدًا. ولم يكن ذلك العالم المخلوق وهمًا وإنّما كان هدفًا عجزت أدوات الإنسان وخبرته العلميّة عن خلقه، وكانت تلك الأداة الفذّة في يد الإنسان البدائيّ هي الأسطورة ([7]).”
أمّا في التحليل النفسيّ، فأجد أنّ الأسطورة هي تعبير ثقافيّ يساعد على النموّ النفسيّ، وللأسطورة دور ثقافيّ بحيث يساعد الفرد على إفراز مكنوناته، وإخراج الضغوط النفسيّة التي يتعرّض لهـــا جرّاء تجارب يعيشها في حياته ويتأثّر بها. تعدّ الأسطورة إحدى محفّزات الفنّ عبر العصور، لما تتشبّع بما يكفي من التفاصيل والشخصيّات لتثير مخيّلة الكاتب وريشة الفنّان في الشرق والغرب على حدّ سواء، ونلمس ذلك في النماذج العالميّة للفنون التشكيليّة والأدب وروائع الإنتاج السينمائيّ. ومن أبرز ما تضمّه ثقافة الشرق من قصص جمعت بين الحقيقة التاريخيّة والأسطورة وساهمت بإثراء النتاج الفنّيّ، حكايات “ألف ليلة وليلة” حيث تُرجمت إلى لغات عدّة مُلهِمَة بدورها السّاحة الفنية، كلوحة الفنّان إدوارد ريتشل “شهرزاد”، وأعمال الزوجين أندريه دوجين وأولجا حيث قاما بتجسيد قصص “ألف ليلة وليلة” في العديد من اللوحات البديعة.
الأسطورة الشخصيّة في الفنّ التشكيليّ الحديث
دور الفن في تنمية الثقافة من الأهمية بمكان لأنّنا نستطيع أن نربّي من خلاله الروح والمثل العليا، والفنّ، فهو بفضل الذات، قادر على الحفاظ على نظام قيّم مفتوح، وبحث مفتوح واختيار التوجّه في الثقافة، ما يعزّز في النهاية الاستقلال الروحيّ للشخص، وحرّيّة الروح. بالنسبة إلى الثقافة، هذه إمكانات مُهِمَّة وعامل أساسيّ في تطوّرها. يتواصل التفاعل المستمر بين الفنّ والأسطورة بشكل مباشر، في شكل “نقل” الأسطورة إلى الأدب، وبشكل غير مباشر: من خلال الفنون البصريّة والطقوس والمهرجانات الشعبيّة والأسرار الدينيّة، وفي القرون الأخيرة، من خلال المفاهيم العلميّة للأساطير والتعاليم الجماليّة والفلسفيّة ودراسات الفولكلور. هذا التفاعل نشط بشكل خاصّ في المجال الوسيط للفولكلور.
وفقًا لنوع الوعي، ينجذب الشعر الشعبيّ نحو عالم الميثولوجيا، لكنّه كظاهرة فنّيّة يجاور الأدب، إذ إنّ الطبيعة المزدوجة للفولكلور تجعله في هذا الصدد وسيطًا ثقافيًّا، والمفاهيم العلميّة للفولكلور، التي أصبحت حقيقة من حقائق الثقافة، لها تأثير كبير على عمليّات التفاعل بين الأدب والأساطير.”تتبدّى صلة البشر الجمالية بعالمهم في كلّ وجه من وجوه النشاط الإنسانيّ. وهذه الصلة تبلغ أرفع صورها في شكل محدَّد من أشكال الثقافة والوعي الاجتماعيّ وهو الفنّ. لكن الأدب من بين الفنون، لا يتّصل في منشأ محاولاته الأولى وتطورها المبكِّر بالتجريب، إنما يتَّصل بالتجريد”([8]).
لو عدت إلى موضوع بحثي، سأجد أنّ هذا المفهوم سائد في الفنّ المعاصر والحديث ولا سيّما مفهوم “الأسطورة الشخصيّة”، فقد أطلقها الناقد والفنّانHERALD SZEEMAN (ولد هارالد زيمان في برن، سويسرا في 11 يونيو 1933. درس تاريخ الفن وعلم الآثار والصحافة في برن وفي السوربون في باريس من 1953-1960، ومن 1956 إلى 1958 بدأ العمل كممثل ومصمم مسرح ورسام، وأنتج العديد من العروض من رجل واحد، كان أمينًا وفنانًا ومؤرخًا فنيًّا سويسريًا. نظّم أكثر من 200 معرض، وقد وصف الكثير منها بأنها رائدة، ويقال إن زيمان ساعد في إعادة تعريف دور أمين الفن). على معرض فنّيّ أوجب أن يعبر كلّ عمل معروض عن تجربة شخصيّة للفنان المشارك وأن تقتبس المواضيع من سيرتهم الذاتيّة. كما حضر هذا المفهوم أيضًا في أعمال الفنّان JOSEPH BEUY (جوزيف بويز مايو 1921 – 1986 كان فنانًا ومعلمًا ومنظراً ألمانياً للفن، كان له تأثير كبير في الفن المعاصر في النصف الأخير من القرن العشرين. وهو مؤسس الحركة الفنية المعروفة باسم فلوكسوس. اعتمد وسائل الإعلام والتقنيات بما في ذلك الطلاء والنحت وفن الرسم والتركيب). وخصوصًا في تنصيباته وعروضه القياسيّة. وقد كانت أعماله نتاجًا لحادث كان قد تعرّض له بعد تحطّم طائرته أثناء الحرب ووجوده لمساعدة قبائل من “التتار” الذين أسعفوه باعتماد الوبر وشحم الحيوانات، ولأنّ هذا الحادث كان عميق الأثر في نفسه فقد بصم جلّ أعماله من تنصيبات وعروض قياسيّة، وذلك عبر حضور مواد وأشياء معيّنة تذكّره بالمعسكر وبهذا الحدث، أصبحت هذه المواد قاعدة أساسيّة تتشكّل منها أسطورتة الشخصيّة كالشحم، الوبر، العظام، الدم، الغبار والحيوانات الميّتة… وعلى حدّ قول “تويس” أظنّ أنّ الأحداث إجمالًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يسمّيه الناس أسطورة شخصيّة.
الأسطورة الشخصيّة في الفنّ التشكيليّ المعاصر
لا يزال مفهوم الأسطورة الشخصيّة حاضر إلى اليوم، ففي مجال الفنون المرئيّة (السينما) حلّت الأسطورة في المركز الأوّل، من كثرة الإنتاجات الفنّيّة التي دخلت فيها الأساطير كعنصر مهمّ، وجاذب للمشاهدين، وحقّقت أرباحًا خياليّة. وفي الفنون التشكيليّة، هناك العديد من الفنّانين الذين تناولوا الأسطورة في فنونهم، نأخذ مثلًا، لا على سبيل الحصر، تجربة الفنّانة التونسيّة “فاطمة شرفي” التي بنت أعمالها الفنّيّة على أسطورة شخصيّة وذاتيّة شكّلتها من خلال خلقها لتركيب تشكيليّ أطلقت عليه اسم “عبروك” وجعلت كل أعمالها الفنّيّة سواءً المرسومة أو الفوتغرافيّة وحتّى التنصيبات والعروض القياسيّة أيضًا تتمحور حوله. و”العبروك” في الأصل هي كلمة تونسيّة، تعني “الشخص المخادع المتغطرس على استعداد للهيجان والسيطرة على كل شيء”. كما يحضر هذا المعنى في الخرافة التونسيّة، “فهو الشخصيّة الخارقة للعادة والجبّارة وتحضر بأشكال
صورة 6, فاطمة الشرفي، العباريك.الفن المعاصر. |
متعدّدة في التمثّل الذهنيّ التونسيّ كالغول والجان([9])“.
حضرت على مستوى لبنان الأسطورة والحكاية الشعبيّة في أعمال العديد من الفنّانين حيث إنّ ماضينا مليء بالقصص والحكايا المُلهِمَة، إلّا أنّ اهتمام الفنّانين بالشكل والتقنيّة أبعد البعض عن استلهام مواضيعه من القصص والحكايات الشعبيّة والأسطوريّة، ومن الفنّانين من لجأ إلى الأسطورة الدينيّة مع التحفّظ على بعض الأساطير.
لعلّ أبرز من اقترب من الحكايات الشعبيّة الفنان “رفيق شرف” الذي انشغل بالقضايا الوطنيّة والقوميّة، فكتب باللوحة وبالنصَّين الشعريّ والنثريّ، والعودة إلى تراث الحكاية الشعبيّة العربية الذي يحتضن رموزًا للبطولة مثل: سيرة الزير سالم، وعنترة، والزيناتي خليفة، وأبي زيد الهلالي، وتاليًا إلى توليد شخوص وأحصنة وفضاءات تمثّلت في ثلاثة معارض أقامها بعد العام 1967م. وفي عودة رفيق شرف إلى الرسوم الشعبيّة، عودة إلى الذاكرة التشكيليّة الشعبيّة العربيّة بروحيّة البحث عن قيم جديدة للوحة العربيّة المعاصرة، حتى إنّه في لوحات الأيقونة البيزنطيّة أو غير البيزنطيّة كان ينطلق من إشارات عرفها في طفولته محاولًا مدّ اللوحة العربيّة بعناصر وروح جديدة.
صورة 7. رفيق شرف. عنتر وعبلة.
خلاصة
إنّ الفنّ هو تعبير مجازيّ ورمزيّ عن حاجة الإنسان وتجربته اللحظويّة المُهِمّة في حياته، معبّرًا عنها بوسائل خاصّة، حيث إنّ الانخراط في هذا العالم والتعبير عن الذات ومعرفة الذات فيه من احتياجات الروح البشريّة المُهِمّة.
تعدُّ الأساطير الأكثر تعبيرًا عن هواجس الإنسان ومشاعره ونظرته النفسيّة إلى العالم من حوله مؤثّرًا ومتأثّرًا بوصفها تقدّم إجابات عن ذلك التناقض بين الممكن والمستحيل والخياليّ والواقعيّ لكونها ارتبطت بالوجود الإنسانيّ، وتعبّر عن معتقده وفكره الدّينيّ والفلسفيّ والروحيّ ومراحل نضجه من مرحلة وجوديّة لحِقبة أخرى، متجسّدة بقصص مقدّسة تبرر ظواهر الطبيعة ونشوء الكون وخلق الإنسان، ومتنوّعة بمواضيعها من أسطورة طقوسيّة ارتبطت بالعبادات والمعتقدات، وأسطورة التكوين التي تناولت قصّة الخلق والوجود، وأساطير تعليليّة حاول الإنسان من خلالها أن يفسّر ظواهر ما تثير اهتمامه فيشكّلها في خياله كحكاية تعبّر عن فهمه الخاصّ لها كما في القصص الشعبيّة والخرافيّة وغيرها.
الأسطورة عند علماء النفس هي مجرّد تعبير انفعاليّ عن مشكلات غامضة يفسّرها الإنسان ويحاكيها بالتخيّلات والأساطير والملاحم والأحلام الخارقة التي تهدّئ من روعه وقلقه.
ومن هنا جاءت الأساطير كمادّة محفّزة للخيال والإبداع لدى الفنّان التشكيليّ لما تحتويه من ألغاز جميلة ومثيرة ودلالات روحيّة ووجوديّة استطاع توظيفها ببراعة في لوحاته أو منحوتاته وإسقاط مضامينها على الواقع ضمن فضاءات تعبيريّة ورومانسيّة.
شكَّلَت الأسطورة وعي الإنسان في أقدم الحضارات، كما كان لها عظيم الأثر في اللاوعي الخاصّ به، فكانت الكتاب الذي يُسجّل كلّ حركة وسكنة، بل يطوّرها ويتطوّر معها، حتّى تنتقل بين الحضارات واللغات للتشابه بينها على الرّغم من تعدُّدها، وتظهر وكأنّما يربطها رباطًا واحدًا وجذرًا يضرب في عمق التاريخ قرونًا وقرونًا. ويضع أمامنا والدكتور “سيد القمني” هنا ببحوث عدّة تتنوَّع موضوعاتها وتتوحَّد مآربها، أساطيرنا داخل قوالبها التراثيّة، في دعوة صريحة لإعادة قراءتها قراءة جديدة تناسب حاضرنا، ولتفادي خلطٍ قد يحدث، واتهامٍ قد يُلقى جزافًا، فقد حدَّد الباحث نطاقًا لبحثه عن كُنه العلاقة بين الأسطورة والدين، حيث سترتكز الدراسة على «الأديان الابتدائية» دون غيرها، لتشابه ظروف ظهورها بظروف نشأة الأسطورة.
المصادر
1- خورشيد، فاروق: عالم الأدب الشعبي العجيب، دار الشروق، القاهرة – 1991.
2- زكي، أحمد كمال: الأساطير، دراسة حضارية مقارنة، دار العودة، بيروت، 1979.
3- عكاشة، أحمد: آفاق في الإبداع الفني “رؤية نفسية”، دار الشروق، القاهرة، 2001.
4- العاصي، عربي: «الحيوان في قصص الأطفال»، الكرمل للدراسات والطباعة والنشر والتوزيع، دمشق (1981).
5- عكاشا، ثروت: الإغريق بين الأسطورة والإبداع، دار المعارف، القاهرة، 1978.
6- القمني سيد، الأسطورة والتراث، المركز المصري لبحوث الحضارة، القاهرة، 1999.
7- صلاح نصر، الحرب النفسية، معركة الكلمة والمعتقد، الجزء الأول، القاهرة، 1966.
8- طلال حرب، معجم أعلام الأساطير والخرافات في المعتقدات القديمة، دار الكتب العلمية، لبنان، 1999.
9- العلي عادل، الأسطورة والفنّ، الجزيرة، السبت 23 فبراير 2019، https://www.al-jazirah.com/2019/20190223/cm18.htm
10- تليمة دكتور عبد المنعم، مقدمة في نظرية الأدب، دار التنوير للطباعة والنشر، 2013.
11- خفاجي عبد الجواد – جريدة الجريدة (مقال: حتى لا يقع الباحث في غواية الأسطورة) السنة التاسعة العدد 188 – 2006م.
12- الجمل ناصف، ساندرو بوتيشيللي… الفنّ والأسطورة، الصدى نت، http://elsada.net/16017/
[1] . طالبة في المعهد العالي للدكتوراه، الجامعة اللبنانية الآداب والعلوم الإنسانيّة – قسم الفن وعلوم الفنّ.
[2] . زكي أحمد كمال: الأساطير، دراسة حضارية مقارنة، 1979، دار العودة، بيروت،. صفحة 196
[3] . الجمل ناصف، ساندرو بوتيشيللي… الفن والأسطورة، الصدى نت، http://elsada.net/16017/
[4] . العلي عادل، الأسطورة والفن، الجزيرة، السبت 23 فبراير 2019، https://www.al-jazirah.com/2019/20190223/cm18.htm
[5] . العاصي، عربي: «الحيوان في قصص الأطفال»، الكرمل للدراسات والطباعة والنشر والتوزيع، دمشق (1981م)، الطبعة الأولى، ص29.
[6]. خفاجي عبد الجواد – جريدة الجريدة (مقال: حتى لا يقع الباحث في غواية الأسطورة) السنة التاسعة العدد 188 – 2006م.
[7] . تليمة دكتور عبد المنعم، مقدمة في نظرية الأدب، الفصل الثاني، ص 27.
[8] . تليمة دكتور عبد المنعم، المرجع ذاته.
[9] . عواطف منصور. https://www.ssrcaw.org/ar/print.art.asp?aid=375872&ac=1