قضايا النقد الأدبيّ ونظرة د. طه حسين النقديّة
د. محمّد أمين الضنّاويّ*
إن النقد ليس تقديم قراءة كاملة أو جاهزة لنصّ معيّن، والقول إنّ النصّ هو ما أقوله وإنّ قراءتي هي القراءة الوحيدة وإنّ ما وصلت إليه هو الصحيح فقط، فبذلك أكون قد أعطيت نفسي الصلاحية وجعلت النصّ مرئيًّا من وجهة نظري فقط. وبهذا أكون قد وضعت الناس تحت سلطتي فقط وهذا لا يجوز، فأهمّيّة النقد هو في أن يسعى الناقد لتمليك القارئ أيّ قارئ القدرة على القراءة الموضوعيّة، ونحاول أن نمارس نقدًا منهجيًّا، وهذا ليس معناه جهوزيّة الأدوات، بل تعني ممارسة منطقيّة في القراءة يتمثّلها القارئ فيمارس بدوره قراءة منطقيّة، والمنطق هنا ليس بمعنى المنطق الجافّ، بل هو القدرة على الإثبات، والتبرير، والتعليل لأنّ مثل هذا المنطق موجود في النصّ، فالنصّ دالّ بمنطق له، ونحن لا يمكننا أن نكشف منطق النصّ ودلالاته المرتبطة بهذا المنطق إن لم ننهج منهجًا منطقيًّا. فإذا كان النقد هو ممارسة فكريّة، فهذه الممارسة قادرة على أن تتمّ على أيّ عمل أو أيّ أمر، وينقده سواء أكان سلمًا أم حربًا أم أدبًا.
المرجع في النقد الحديث ليس له معنى التضمين، بل هو مفهوم آخر، وهو هذه الذاكرة المتكوّنة مع عالم ثقافيّ، أو محيط ثقافيّ، أو مراجع ثقافيّة لا يدركها صاحبها، إنّما تحضر في كتاباته، أو في ما يقول، وإذا كان حضورها ظاهرًا جدًّا يعدّ سرقة كما رآها النقّاد العرب سابقًا. أمّا النقاد الحديثون فيعدّونها محاكاة أو تناصًّا. أمّا إذا كانت غير ظاهرة بوضوح فهي تدخل ضمن النسيج الفكريّ، وهذا ما يحملنا على القول إنّها تدخل في الذاكرة. والذاكرة هي لغة وفيما لو تكرّرت هذه اللغة شكّلت سلطة معيّنة تصبح كأنّها أيديولوجيّتنا، أو فكرنا، وتسجننا فيها وهو ما يطرح الحاجة إلى تغيير اللغة وانفتاحها على اللغات الأخرى والثقافات الأخرى، وهو ما طرح على الثقافات اللسانية التغيير. فاللغة من حيث هي أنظمة من التعبير تخصّ مجتمعًا معيّنًا، وتحرص هذه الأنظمة على استمراريّتها. أما الكلام فهو ما يتولّد خارج هذه الأنظمة بتعبير الفرد، وليس المجموعة أو بمعنى آخر اللغة للمجموعة. أمّا الكلام فهو للفرد. إذًا فهو يولد مع تغيّرات الواقع اليوميّة مع المعيشيّ أي مع ما يولد على أرض الواقع وما يتجدّد فيه من أساليب العيش وسبل الاقتصادّ والتطويرّ وكل ما هو مادّيّ. من هنا أُعيدَ النظر في أدب الانحطاط لأنّه لصيق بالكلام، ولأنّه ابتعد عن أنظمة اللغة الفصحى، فهذه اللغة تكرّرت وانغلقت على نفسها بحكم انحطاط الوضع السياسيّ، ومن ثَمّة الفكريّ.
إنّ د. طه حسين الناقد الأدبيّ والاجتماعيّ متنوّع الجوانب، متعدّد الاهتمامات، متقلّب الصفات. والتبدّل والتحوّل ففي نقده أمور تشي بالتباين الكيفيّ لجوانب هذا النقد. من المؤكد أنّ هذا التباين الكيفيّ يرجع في جانب أساسيّ منه إلى الطبيعة التنويريّة للمشروع الحضاريّ عند د. طه حسين، وهي طبيعة تقترن بالموسوعيّة التي تصل صاحبها بكلّ نشاط، وتربطه بكلّ اتّجاه وتدفعه إلى أن يقدّم إلى مجتمعه المتخلف كلّ ما يمكن أن يساعده على التقدّم، ولذلك تعدّدت أنشطة د. طه حسين الثقافيّة بالقدر نفسه الذي تعدّدت فيه أدواره الاجتماعيّة ابتداءً من كونه أستاذًا جامعيًّا، وعميدًا، ومدير جامعة، وناقدًا للأدب، ومتفلسفًا في الحضارات، إلخ… من المراكز التي تولاّها.
هذه الطبيعة التنويرية لا تفرض على الناقد في طه حسين اتّجاهًا بعينه، إنّما تدفعه إلى لون من الموسوعيّة يأخذ معها من كلّ الاتّجاهات النقديّة والنظريّات الأدبيّة والأعمال الإبداعيّة والأفكار والآراء والنماذج التي تجدّد الإبداع الأدبيّ وتؤصل درسه في مجتمع متخلف. وتستوي لدى هذا الناقد كلّ مدارس الأدب والنقد الأوروبيّة، وكلّ مراحل التاريخ الأدبيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ جامعيّ سابق، وأحد رئيسَيْ تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة، مجلّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، له العديد من المؤلَّفات.
في الغرب، من حيث إنّها نتاج مجتمعات متقدّمة، تنقل ثمار تقدّمها إلى مجتمع متخلّف لتدفع عمليّة “النهضة” في هذا المجتمع إلى الأمام. فنراه يجرّب كلّ منهج ممكن في التعامل مع الأدب العربيّ القديم والحديث، ويحاول الإفادة من كلّ تصوّر نظريّ، أو إجراء تطبيقيّ يعينه على تأصيل الدراسة الأدبية، فالأدب في حاجة إلى أن يستقلّ، وأن يكون حرًّا لا يتملّق، ولا يترضّى، ولا يسعى إلى الناس، وإنّما يسعى الناس إليه. والأدب بعد هذا كله ومن أجل هذا كله في حاجة إلى أن يستأنى ويتمهّل، ويظهر حين يريد أن يظهر لا حين يريده الناس على الظهور. أبغض شيء على الأدب هو العجلة فلا شيء يفسد الأدب كما يفسده الإسراع، فهو متمهّل مُستأنٍ، وهو يحبّ أن يعيد النظر إلى نفسه مرّة ومرّة ومرّات. فهو يريد أن ينظر إلى نفسه في المرآة لا ليرى نفسه، بل ليصلح هنا، ويغيّر هناك، ويزيد في موضع وينقص في آخر. ويحاول أن يرضى عن نفسه قبل أن يظهر للناس، وليس أشقّ عليه من أن يرضى عن نفسه لأنّه عسير لا يحبّ المياسرة، ولأنه ينظر دائمًا إلى مثل رفيعة.
يبدو من خلال ما سبق أنّ د. طه حسين يركّز على أن نفهم لنتملّك، وأن نتملّك لنتجاوز، وبذلك لا نجعل من أيّ فكر وثنًا نعبده أو وثنًا نرجمه.