الشّعر في العصر الجاهليّ
جهينا محمود المصريّ[1]
مقدمة
الشّعر العربيّ من الفنون الأولى التي ظهرت في الجزيرة العربيّة قديمًا. إذ بين القبائل العربيّة انتشر الشّعر (وانتشرتِ الخطابة). إنّ الشّعر من أكثرِ الفنون التي يهواها العرب لما فيها من كلمات تتجسّد بروح كاتبها عندما يقوم بإخراج كلماتٍ ذات معنى. وقيمة شعر السّامعين أنّها تخرجُ من قلب الشّاعر. والشّعر موجود منذ أقدم العصور، ولمّا اشتهر العرب بالفصاحة والشّعر، فقد أُنزل القرآن باللغة العربيّة ليتحدّى أهل قريش الذين اشتهروا بالشّعر والفصاحة. وقد كان قديمًا من يستطيع أن يُقرِض الشّعر ويلقيه، من سادة قومِه الذي يمجّدونه؛ لذلك، فإنّ للشّعر العربيّ أهمّيّةً كبيرةً، إذ يمكن من خلاله معرفة البيئة والثّقافة في زمن الشّاعر. وبالتالي فإنّ الشّعر العربيّ يتطوّر ويظهر بأشكال متعدّدة في كلّ عصر.
أمّا عن مراحل تطوّر الشّعر العربيّ، فمن المعروف أنّ الشّعر القديم يختلف اختلافًا كلّيًّا عن الشّعر في الوقت الحاضر، ومن أكثر ما يميّز الشّعر القديم أهمّيّةً حرصُه على الوزن والقافية، وتكوّن البيت من الصّدر والعَجُز. فالشّعر القديم الذي لا يَدخل فيه الوزن والقافية لا يُعدُّ شعرًا، بل يخرج إلى الخطابة، أو الفصاحة في الحديث. بعد ذلك ظهرت الكتب التي تقوم على تدريس الأوزان والقوافي ليعتمد عليها الشّعراء في إبداع النّصوص، واستخراج أبياتٍ موزونةٍ. بعد ذلك ظهرت كتب أخرى تقوم على جمع الشّعر وتدوینه وتصنيفه إلى مجموعات بالاعتماد على أغراض الشّعر وموضوعاته.
وعليه، نجد المؤرّخين قد عدُّوا الشّعر القديم حافلًا لغرض الإمتاع والنّفع بنقل المشاعر، أو الحكمة، أو لأيّ غرض ذي قيمة، فهو مصدر طرب لدى العرب، ويحمل في طيّاته الأخلاق العربيّة، كما يعبّر عن الانتماء والحبّ.
حول الشّعر الجاهليّ
الجاهليّة هي عصر ما قبل الإسلام زمنًا وتقاليدَ. ويطلق تعبير العصر الجاهليّ في مقابل تعبير العصر الإسلاميّ. والحياة الجاهليّة تشمل ما فيها من عاداتٍ، وأخلاقٍ، ومعتقدات، وخصوصًا، المروءة، والشّجاعة، وإكرام الضّيف، وحماية الجار، والامتناع عن القتال في الأشهر الحرم، والحج إلى مكة كلّ عامٍ وإقامة الأسواق كسوق عكاظ(1). وكان الشّعر في العصر الجاهليّ يعرف بالقصيدة المكوّنة من أبيات، وكل بيتٍ فيها مستقلّ عما قبله وما بعده في التّركيب، وتتصل الأبيات معًا في المعنى. ويتألّف البيت من شطرين، يسمى الأول صدرًا والثاني عَجُزًا. وتنتهي أبيات القصيدة جميعها بحرفٍ أو صوت واحدٍ يسمّى الرويّ. وكانت تمتاز القصيدة قديمًا بموسيقى محدّدة تتحدّد بالبحر العَروضيّ المتّبع.
عرف الشّعر الجاهليّ في ذاك العصر بالشّعر التّقليديّ أو الكلاسيكيّ. عبّر الشّعر الجاهليّ عن أسلوب الحياة العربيّة، وصوّرها بدقّةٍ عاليةٍ عكس فيها أوجه الحياة المتعدّدة، ولهذا سمّي بـ”ديوان العرب”، أي إنّه الموسوعة التي تحتوي كلَّ الأخبار والقصص، فنجد فيه وصف الخيام، والرّحلة، ووصف الحيوانات، ورحلات الصّيد، والحروب؛ كما نجد فيه المدح، والغزل، والهجاء، والرثاء. وقيل إنّ أفضل القصائد التي كتبها العرب هي تلك التي كتبت بماء الذّهب وعلّقت على جدار الكعبة. بدأتِ القصيدة الجاهليّة بالمقدّمة الطلليّة حيث يقف فيها الشّاعر على الأطلال، فيبكي على الدّيار الخالية، ويصف الآثار التي خلت من أحبّائه بعد رحيلهم؛ ثم يصف الرّحلة، وعناء السّفر، ومعالم الطّريق، ووحوش الصّحراء وحيوانها وغيرها؛ لينتقل بعدها إلى الغزل، يذكر المحبوبة ويتغنّى بجمالها وأخلاقها؛ وقد يذكر بعض المغامرات التي عاشها معها قبل رحيلها؛ وتنتهي هذه القصيدة إلى الموضوع الرّئيس الذي يريد الشّاعر أن يتحدّث عنه، وقد يكون مديحًا، أو فخرًا، أو حماسةً، أو هجاءً، أو تعصبًا لقبيلته، أو غيرها. من أشهر شعراء العصر الجاهليّ أصحاب المعلّقات السّبع، وقيل العشر، وهم: امرؤ القيس، طَرَفَة بن العبد، زهير بن أبي سلمى، لبيد بن ربيعة، عمرو بن كلثوم، عنترة بن شداد، الحارث بن حلزة، الأعشی، النّابغة الذّبيانيّ، عبيد بن الأبرص(2).
شعر المعلّقات
إنّ شعر المعلّقات هو درّة الشّعر الجاهليَّ، فقد وقف الشّاعر في الجاهليّة أمام أطلالٍ دارساتٍ، فكان الهائم والمدلّه شوقًا لأحبّته القدامى، وما إن صعد ظهر مطيّته، أو راحلته حتّى غدا ذلك الفارس الذي يذود عن حِياض قومه ويصول في ساحات الوغى؛ ثم كان – إذا اشتدّ عليه الظلم أو العوز – عزیزًا يأبى الهوان؛ وعندما كان يقف بين حشود النّاس في سوق عكاظ، أو ذي المجاز وغيرها من أسواق العرب قديمًا، يصبح اللسان الذي يترجم كل ذلك في أبياتٍ محكمات، ويمليها على الملأ وعلى مسامع أهل العلم والشّعر، حتى يبلغ اللغة الفصحاء.
كانت ولادة المعلّقات التي تجاوزت أهمّيّتها في هذه البيئة حدود الشّعراء، والنقّاد، واللغويين العرب، ليجادل في أمرها ويبحث عن أصولها مستشرقون ألمان وأمريكيّون. وفي أبيات المعلّقات يمكن قراءة ملامح حِقبة بأكملها، ومعرفة ملامح ابن البادية والحياة التي عاشها وتنقّل وحارب بها.
لقد كان مشهورًا لدى العرب في كلِّ عامٍ أن يجتمعوا بشهر شوّال في سوق عكاظ، وفيه يبيع التّجار بضائعهم، ويعرضون ما لديهم على النّاس، ويستمرّ الحال كذلك لمدّة شهر. وكان الشّعراء يرون في ذلك فرصة ليوصلوا صوتهم إلى النّاس، وليزيدوا من شهرتهم، فيأتون في هذا الموعد ليقولوا شعرهم على مسامع النّاس، بوجود من يحكم على هذا الشّعر. وكانت اللغة القرشيّة هي المستخدمة لدى الشّعراء، كما كان الشّاعر يقول قصيدته من دون أن يوقفه، أو يقاطعه أحد حتى ينتهي.
لكن، ساد اختلافٌ كبيرٌ بين أهل اللغة وجامعي شعر العصر الجاهليّ، حول عدد المعلّقات إن كانت عشر معلّقات أم سبع معلّقات؛ كما ساد اختلاف حول سبب تسمية المعلّقات باسمها هذا، فهناك من قال إنّ الشّاعر الذي يقع الاتّفاق على بلاغته وإجادته وحسن كلامه، كانت تكتب قصيدته على الدّيباج، بحروفٍ من ذهبٍ وتعلق على أحد جدران الكعبة؛ وذلك للإشادة بشأن صاحبها ولتخليد اسمه، ومن أشهر من قال إنّ (سبب تسمية المعلّقات بهذا الاسم هو تعليقها على جدار الكعبة بعد كتابتها بالذّهب) هو ابن خلدون، وأحمد بن عبد ربه صاحب كتاب “العقد الفريد”.
يقول ابن رشيق (أديب وناقد وشاعر جزائريّ، عاش بين القرنين الرّابع والخامس الهجريين): “كانت المعلّقات تسمّى المذهّبات، ذلك أنّها اختيرت من سائر الشّعر القديم، فكتبت بماء الذّهب وعلّقت على الكعبة، لذلك يقال مذهّبة فلان إذا كانت أجود شعره”. بَيْدَ أن هناك من يختلف مع ذلك، ویری أن تسمية المعلّقات بالمذهّبات هو فقط للمجاز وكدليل على قيمة المعلّقات لدى العرب؛ وفي ذلك يقول المستشرق الألمانيّ ثيورد نودلكه إن المعلّقات لم تُكتب بالذّهب، ولم تُسمَّ لذلك بالمذهّبات، إنّما ذلك على سبيل المجاز للدلالة على عظم أمرها، فإنّ تسمية المعلّقات يمكن أن تكون مشتقّة من كلمة علّق (قلادة)، وذلك لنفاستها.
الشّعر الجاهليّ بين الملحمة والخرافة والأسطورة
يعدّ الشّعر الملحميّ من أوائل أشكال الأدب العربيّ التي انتشرت بين القبائل العربيّة قبل الإسلام، إذ نشأت القصيدة – وهي الشّكل الثّابت للنّظم الشّعري والملحمة في اللغة – ملتصقةً بمعنى الحرب، والقتال، والصراع المتسلسل للأحداث. وعلى الرّغم من انتشار أدب الملحمة بين العديد من الشّعوب، فإنّنا لا نجد لهذا الفنّ أثرًا متكاملًا قويًّا وثريًّا في الشّعر العربيّ سوى في قصائد معدودة ومقطوعات قصيرة ذات نَفَسٍ ملحميّ؛ ويعود ذلك، كما يؤكّد نقّاد وخبراء، للأسباب الآتية:
القصّة
القصّة في الشّعر الجاهليّ ضعيفة الفنّ لاقتصارها على الخبر البسيط والسرد السريع، ولا جرم أنّ الإيجاز الذي درج عليه الأدباء آنذاك، كان يحول بينه وبين الإسهاب في السّرد، فلم يتوفّر لهم عمل الملاحم والقصص الطويلة.
الخيال
خيال الأدباء في العصر الجاهليّ لم يتّسع للملاحم والقصص الطويلة، لانحصاره في بادية متشابهة الصور، محدودة المناظر؛ ثم لمادّيّتهم وكثافة روحانيّتهم، ثم لفردانيّتهم وضَعف الروح القوميّة، والاجتماعيّة لديهم .
إنّ الاعتبارات العقائديّة والاجتماعيّة للجاهليّين، لم تساعدهم على التأمّل الطويل، وربط الأفكار، وفسح آفاق الخيال، لاضطراب حياتهم، وبقائها برحيلٍ مستمرّ، فجاء نَفَسُهم في الشّعر قصيرًا كإقامتهم، وخيالهم متقطّعًا كطبيعة حياتهم.
معظم ما كُتب عن تاريخ الجاهليّة كان ينحصر في الحِقبة بين العامين 500 و622م، أي قرابة المئة سنةٍ قبل الإسلام، ووصلت هذه الكتابات عن طريق النقوش والرواة وفي أخبار متقطعة مبعثرة.
الإلهام
عكست الأسطورة لدى العرب في الجاهليّة شكل علاقتهم بالكائنات، ورُؤاهم في الحياة، ومشاهداتهم؛ وكانت مصدر أفكارهم، فألهمتهم الشّعر والأدب.
الطبيعة
لم يستطع العربيّ في الجاهليّة، تصوّر ما وراء الطبيعة، أو تخيّلَ حياة ما بعد الممات، فقد جعلته طبيعة بلاده الصحراويّة يلتصق بتوجهاتٍ اعتقاديّةٍ خاصّة.
البادية
يشترك العرب مع الفينيقيّين، والآشوريّين، والبابليّين في أصولهم، لأنّهم يتشابهون في أجسادهم وعاداتهم، إلا أنّه أصبح للعرب ميزاتهم الخاصّة جراء بيئة البادية، التي أثّرت في شعرهم على منوال وصفهم للمرئيّات بصورة دقيقة.
الدّهر
خلط العرب في الجاهليّة (وبينهم الشّعراء) معنى الدّهر بالقضاء والقدر، وتطوّرت هذه العقيدة حتّى خضعوا لسلطان أوثانٍ محددةٍ في هذا الصدد.
الخلود
كانت غاية الخلود، تغازل مَخَايل الشّعراء، والناس كافّةً لدى العرب في الجاهليّة، وارتبط خلودهم (كنوعٍ من الأسطورة) ببقاء سبعة نسورٍ على قيد الحياة، وآخر نسر اسمه “لبد”، ويعني الدهر.
الخُرافة
إنّ خيال الشّعراء الجاهليّين كان قادرًا على توليد الأسطورة، والخرافة بشكل تصوريّ، فقد تصوّروا الأشياء، واسترجعوا التّجارب، وركّبوا صورهم الشّعريّة المادّيّة المحسوسة.
ميزة الوقوف على الأطلال
برزت ظاهرةُ الوقوف على الأطلال عند الشّعراء الجاهليين بامتياز، فقد افتتحوا قصائدهم بالوقوف على الأطلال، أي بالوقوف على آثار ما تبقّى من ديار المحبوبة. ومن الصّور الشّائعة في المقدّمة الطلليّة أن يبدأ الشّاعر بذكر الدّيار، وقد عفت، أو كادت آثارها أن تُمحى، ثمّ يذكر الديّار ويحدّد مكانها بذكر ما جاورها من مواضع، ثمّ ينعتها بعد أن سقطت عليها الأمطار، ونما عليها العشب فاتّخذتها الحيوانات مرتعًا تقيم فيه وتتوالد(3).
من ملامح الوقفة الطلليّة
مناداة الدار وذكرها(4)
يذكر الشّاعرُ الدّار مثلًا من خلال استفهامٍ إنكاريٍّ، إذ يسأل ويعرف الجواب، ولكنّه يعبّر عن حالةٍ إنسانيّةٍ عميقةٍ تتجلّى في دهشته وحسرته على ما يرى من الدّمار في الطلل، كقول زهير بن أبي سلمی:
لِمَنِ الدِيارُ بِقُنَّةِ الحِجرِ أَقوَينَ مِن حِجَجِ وَمِن دَهرِ
ذكر اسم المحبوبة
فهي رمزٌ فنّيٌّ مفتوح الدّلالة تبعًا للحالة النّفسيّة للشاعر، فمثلًا زهير بن أبي سلمى يذكر محبوبته للدّلالة على الوفاء بالعهود التي قطعتها القبائل المتحاربة عندما تصالحوا، فيقول:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
ذكر الرّيح والمطر والزّمان والدّهر
بوصفها رموزًا دالة على الشّرّ والاعتداء، كقول امرئ القيس:
حَيِّ الدِّيارَ التِي أبلَى معالِمَها عواصفُ الصَّيْفِ بِالْخَرْجاءِ والْحقَبِ
ذكر الأمكنة والبكاء
دلالة على مصداقية التّجربة وواقعيتها، كقول عبيد بن الأبرص:
لِمَنِ الدِيارُ بِصاحَةٍ فَحَروسِ دَرَسَت مِنَ الإِقفارِ أَيَّ دُروسِ(5)
وكثير من الشّعراء بكوا، أو ذكروا الدّموع عند الطلل، فللوقفة الطلليّة بُعدٌ نَفْسِيٌّ يرتبط بإحساس الشّاعر بتبدل الحياة. وكثيرًا ما يتبع وقوف الشّاعر في الطلل وسؤاله إيّاه عن مصير الأحبة البكاء، كقول النّابغة الذّبيانيّ:
وَقَفتُ بِها القَلوصَ عَلى اِكتِئابٍ وَذاكَ تَفارُطُ الشَوقِ المُعَنّي
أُسائِلُها وَقَد سَفَحَت دُموعي كَأَنَّ مَفيضَهُنَّ غُروبُ شَنِّ
وقت الوقوف
تبعًا للحالة النّفسيّة للشّاعر، فالنّابغة الذّبيانيّ – على سبيل المثال – وإزاء غضب الملك النّعمان، يشعر بضياع كلّ شيء، فيكون وقت وقوفه عند الغروب والأصيل:
وَقَفتُ فيها أُصَيلانًا أُسائِلُها عَيَّت جَوابًا وَما بِالرَبعِ مِن أَحَدِ
ذكر الوشوم
من خلال تشبيه بقايا الطلل بها، وذكر الحيوانات والنّباتات، وتشبيه الأطلال بالكتابة، يشبه بعض الشّعراء الأطلال بالكتابة المتجدّدة لإضفاء الحياة على الطلل؛ يقول زهير بن أبي سلمى مشبّهًا دار (أمّ أوفى) بالوشم على المعصم:
ودَارٌ لَهَا بالرّقْمَتَينِ كأنّها مراجيعُ وشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ
كما يشبه بعضهم الأطلال في تجدّدها واستمرارها بالكتابة المتجددة؛ يقول لبيد بن ربيعة العامريّ:
وجَلا السُّيولُ عن الطّلُولِ كأنّها زبرٌ تجِدُّ متونَها أقْلامُها
ويسكن بعضهم الحيوانات كالغزال في الطلل، لاستيفاء الحياة واستمرارها، كقول زهير بن أبي سلمى:
بِهَا العِيْنُ وَالأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَـةً وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم(6)
ذكر الصّحب والخلّان
تعذّب الوقفة الطللّية النَّفْس من خلال الذكريات ما يستدعي الحزن والبكاء، فتحتاج النفس صاحبًا يشاركها هذا المصاب ويعينها عليه، كقول امرئ القيس:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
أسباب الوقوف على الأطلال
الحنين إلى ديار المحبوبة
الحنين الذي يشعر به الشّاعر إلى دار الحبيب بعد أن خلت هذه الدّار من الحبيب، فرؤية منازل الأحبة خالية تشعر الشّاعر بالحنين والشّوق. وكان لانعكاسات البيئة الصّحراوية على النّاس قيامهم بالتّرحال بحثًا عن الماء والكلأ، وكان يسمّى النّاس الذين يتجمعون في موضع اللقاء بالخليط، وهنا يبدأ شعر الوقوف على الأطلال عند ابن الغدير في الخليط:
إن الخليط أجد والبين فابتكروا لينة ثم ما عادوا ولا انتظروا
وقال جرير:
بَـانَ الخَلِيطُ وَلَو طُوِّعْتُ مَا بَانَـا وَقَطَّعوا مِنْ حِبَالِ الوَصلِ أقْرَانَـا
وقال بن حري:
إن الخليط أجد والبين فابتكروا واهتاج شوقك أحداج لها زمر
البعد والاشتياق والحبُّ(7)
البعد عن المحبوبة والاشتياق إليها في دار الغربة، أو موت المحبوبة؛ وهنا يدمج الشّاعر في قصيدته مشاعر الحزن بمشاعر الشّوق. ولعلّ من أبرز انعكاسات هذه الظاهرة على الشّعر الجاهلي ابتداء الشّعراء قصائدهم بالوقوف على الأطلال، والبكاء على الدّيار، والاستطراد إلى وصفها، وجعلوا ذلك شبه قاعدة فنّيّة نادرًا ما يخرجون عنها. ومن مقدمات الوقوف على الأطلال ، قول زهير بن أبي سلمی:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
بِهَا العِيْنُ وَالأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَـةً وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
النّابغة الذّبيانيّ: (نموذج من العصر الجاهليِّ)
النّابغة الذّبيانيّ شاعر جاهلي له قصيدة يَعدُّها البعض من المعلّقات، ومطلعها:
أدارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَمَدِ
نسبه
هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن یربوع بن غيظ بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، أبو أمامة. وبنو مرة بن عوف قوم النّابغة، وأصل نسبهم يرجع إلى مرة بن عوف بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة، من قبيلة قریش من بني كنانة؛ ولكنّ عوف بن لؤي خرج من قومه، ودخل في بني ذبيان الغطفانيّين، وانتسب إلى سعد بن ذبيان.
لقبه
لقّب (النّابغة) بهذا اللقب لأنّه نبغ في الشّعر أي أبدع في الشّعر دفعةً واحدةً. واختلف النقّاد في تعليله وتفسيره. أمّا ابن قتيبة فيذكر أنه لقّب بالنّابغة لقوله:
َحَلَّتْ في بَنِي القَيْنِ بنِ جَسْرٍ فَقَدْ نَبَغَتْ لَنَا مِنهمْ شُؤُونُ
وردَّ ابن قتيبة هذا اللقب إلى قولهم: “ونبغ – بالشّعر- قاله بعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر”. وفي رأي البغداديّ، أنَّ هذا اللقب لحقه لأنَّه لم ينظم الشّعر حتى أصبح رجلًا. وربما كان اللقب مجازًا، على حدِّ قول العرب: نبغت الحمامة، إذا أرسلت صوتها في الغناء، ونبغ الماء إذا غزر. فقيل: نبغ الشّاعر، والشّاعر نابغة، إذا غزرت مادّة شعره وكثرت(8).
نشأته
لا يُعرف شيء يذكر عن نشأة الشّاعر قبل اتّصاله بالبلاط، إلّا من خلال ما نقله صاحب الرّوائع عن المستشرق دي برسفال، من مزاحمة النّابغة لحاتم الطائيّ على ماويّة ، وإخفاقه في ذلك. ويذكر ابن قتيبة أنَّ النابغة كان شريفًا فغضّ الشّعر منه.
يرى صاحب “أدباء العرب” أنّ النّابغة من سادات قومه، ويخالف هذا الاتجاه حين يقول: نشأ النّابغة في الوسط من قومه، لا في الذّروة من الشّرف، ويقول آخرون: ولا معنى لقول الرواة: إنّه أحد الأشراف الذين غضّ الشّعر منهم.
والنّابغة من سادات قومه، لما كان للشّعراء من منزلةٍ في الجاهليّة وللدور الذي أدّاه في توسّطه لقومه عند الغساسنة ومنعهم من حربهم، في مواقف عديدة.
أما لماذا “غصن الشّعر منه”، فزعم لا يقبله النقد الحديث، فقد كان النّابغة معزّزاً عند الملوك، ومكرمًا في قومه، وإنما هو حسد الحاسدين الذين لم يقووا على الارتفاع إلى منزلة الشّاعر، فراحوا يعيّرونه لتكسّبه بالشّعر، وربما قصد بتلك الغضاضة هروبه من بلاط النّعمان بن المنذر إثر “حادثة المتجردة”.
علاقته بالحكام
كان أوّل اتّصال النّابغة ببلاط الحِيرة، دخوله على المنذر بن ماء السماء في أواخر ملكه، على ما يرجّح النقّاد. ومع اندحار اللخميّين أمام الغساسنة في معركة “يوم حليمة” التي دارت بين جيش المنذر بن ماء السماء، وجيش الحارث بن جبلة الغسّاني، فقد ظل النّابغة وطيد الصّلة بالمناذرة، إذ هنأ عمرو بن هند حين ارتقى العرش بعد أبيه.
لكنّ علاقة الشّاعر بالمناذرة انقطعت بعد ذاك ولا سيّما في المدّة بين (570 – 580م)، وهي المدّة التي مثّل فيها دور الشّاعر السياسيّ، لاهتمامه آنذاك بحوادث حرب السّباق، ومن الطّبيعيِّ أن يمثّل النّابغة في حرب “السّباق” دورًا له شأنه، وهو الشّاعر الرفيع المكانة(9).
شعره
معلّقة النّابغة الذّبيانيّ
يا دارَ مَيّةَ بالعَليْاءِ فالسَّنَد أقْوَتْ وطَالَ عليها سالفُ الأَبَدِ
وقفتُ فيها أُصَيلا كي أُسائِلُها عَيَّتْ جَوابًا وما بالرَّبعِ مِن أحَدِ
إلاّ الأواريَّ لأيًا ما أُبَيّنُهَا والنُّؤيُ كالحَوْضِ بالمَظلومَةِ الجَلَدِ
رُدَّتْ عليَهِ أقاصيهِ، ولَبَّدَهُ ضَرْبُ الوليدةِ بالمِسْحاة ِ في الثَّأَدِ
خلَّتْ سَبيلَ أتيٍّ كانَ يَحبسُهُ ورَفَّعتْهُ إلى السَّجْفينِ فالنَّضَدِ
أمسَتْ خَلاءً وأمسَى أهلُها احْتمَلُوا أخْنَى عَليها الذي أخْنَى على لُبَدِ
فعَدِّ عَمَّا ترَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ وانْمِ القُتُودَ على عَيْرانةٍ أُجُدِ
مَقْذوفةٍ بدَخيس النَّحْضِ بازِلُها له صَريفٌ صَريفَ القَعْوِ بالمَسَدِ
اتّصال النّابغة بالمناذرة
وعندما رقي النّعمان بن المنذر، أبو قابوس عرش الحِيرة، أراد أن يظهر بمظهر الملك العزيز الجانب وأن ينافس أعداءه الغسّانيّين بمظاهر العظمة. وكان النّعمان على ما يظهر، محبًّا للأدب أو كان يدرك على الأقل ما للشّعر من أثرٍ كبيرٍ في الدّعاية للبلاط وتصويره بصورة الفخامة، وهكذا اجتمع في بلاطه جملة من الشّعراء كان النّابغة أبرزهم. وقد ترك آنذاك الغساسنة، وعاد إلى الحِيرة.
علاقته بالنّعمان
وتتّفق روايات المؤرّخين على أنّ النّابغة نال حظوةً كبيرةً عند النّعمان، الذي قرّبه إليه بعد أن أحسن وفادته. ولا شكّ في أن الشّاعر نزل من نفس الملك منزلة طيّبة فآثره هذا بأجزل عطاياه وأوفر نعمه، ما لم ينله شاعر قبله. ويذكر أبو الفرج الأصفهانيّ في أغانيه أن النّابغة كان يأكل ويشرب في آنيةٍ من الفضة والذّهب. وعن ابن قتيبة عن ابن الكلبيّ الرّواية الآتية التي تثبت مكانة الشّاعر عند النّعمان، قال حسّان بن ثابت: رحلت النّعمان فلقيت رجلًا فقال: أين تريد، فقلت هذا الملك قال: فإنّك إذا جئته متروك شهر، ثم يسأل عنك رأس الشّهر، ثم أنت متروك النّابغة قوله:
فإنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعتْ لم يبدُ منهنّ كوكب .
دفع إليه مائة ناقة من الإبل السّود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحدًا حسدي النّابغة لمّا رأيت من جزيل عطيّته، وسمعت من فضل شعره. واستبدّ النّابغة بمودّة الملك النّعمان وجزيل عطائه وسابغ نعمه، فلا عجب أن يثير هذا حفيظة الشّعراء ليعملوا على إفساد علاقته ببلاط الحِيرة. ومهما يكن من أمر فإنّ الدّسيسة قد نجحت، وبات الشّاعر مهدّدًا بدمه وحياته، لكنّ حاجب أبيّ قابوس عصام بن شهير الجرميّ – وكان بينه وبين النّابغة إخاء وصداقة – حذّره من غضب النّعمان، ونصحه بترك البلاط، فاضطر النّابغة إلى الفرار، فلجأ إلى الغساسنة، وفي نفسِه حسرة وغيظ وأمل في العودة.
يذكر ابن قتيبة، أنَّ الرّواة اختلفوا في السّبب الذي حمل الملك النّعمان على أن ينذر دم شاعره، على أنّنا نستطيع أن نحيط بأبرز الدّوافع التي أوقعت الجَفاء بين أبي قابوس والنّابغة. وذكر قوم أنّ النّابغة هجا الملك بقوله:
قَبَّحَ اللَهُ ثُمَّ ثَنّى بِلَعنٍ وارِثَ الصائِغِ الجَبانَ الجَهولا
اتصال النّابغة بالغساسنة
يقال إنّ السّبب في مفارقة النّابغة النّعمان، ومسيره إلى غسّان، خبر يتّصل بحادثة المتجرّدة. والمتجرّدة هذه، امرأة النّعمان، وكانت فائقة الحسن، بارعة الجمال، وكان النّعمان – على ما يروى – قصيرًا دميمًا أبرش. وقد تعدّدت الرّوايات حول وصف النّابغة للمتجرّدة. قيل إنّ النّابغة دخل على النّعمان، ذات يوم، فرأی زوجته المتجرّدة، وقد سقط نصيفها فاستترت منه بيدها. فأمره النّعمان أن يصفها له، فأنشأ قصيدته التي يقول فيها:
سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ فَتَناوَلَتهُ وَاِتَّقَتنا بِاليَدِ
أردف ابن قتيبة يقول: وكان لللنّعمان نديم يقال له المنخّل اليشكري يتّهم بالمتجرّدة ويظنّ بولد النّعمان منها أنه منه، وكان المنخّل جميلًا، وكان النّعمان قصيرًا دميمًا، فلما سمع المنخّل هذا الشّعر، قال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشّعر إلاّ من قد جرّب. فوقع ذلك في نفسه، وبلغ النّابغة ذلك، فخافه فهرب إلى الغساسنة.
لعلّ اتصال النّابغة بالغساسنة، أعداء المناذرة، كان سببًا آخر من أسباب حقد الملك على الشّاعر، ولا مسوّغ هنا للتفصيل ومناقشة هذه الآراء. وأقام النّابغة في بلاط الغساسنة، منقطعًا إلى عمرو بن الحارث الأصغر وإلى أخيه النّعمان بن الحارث، وقد امتدح هؤلاء بقصائد عديدةٍ، منها القصيدةُ اليائيّةُ التي قالها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر، ومطلعها:
كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ وَلَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكَواكِب
بقي النّابغةُ عند الغساسنة مدًّة من الزَّمن، ينشدهم شعره، ويشاركهم في محافلهم ومجالسهم، جاهدًا في ذكر مفاخرهم وانتصاراتهم، إلى أن توفرت أسباب عودته إلى بلاط النّعمان فترك جوارهم.
ذكر ابن قتيبة أن النّعمان قد غمّه امتداح النّابغة للغساسنة أعدائه، وأيقن أنّ الذي قذف به عنده باطل، فبعث يستقدمه إليه من جديدٍ بقوله: “إنّك صرت إلى قومٍ قتلوا جدّي فأقمت فيهم تمدحهم، ولو كنت صرت إلى قومك لقد كان لك فيهم ممتنع وحصن إن كنّا أردنا بك ما ظننت”، وسأله أن يعود إليه. وهكذا نظم النّابغة اعتذاريّاته، ثم جاء أبو قابوس مع رجلين من فزارة هما: زبان بن سيّار الفزاري، ومنظور بن سيّار الفزاري، وبينهما وبين النّعمان مودّة وصفاء؛ وكان الملك قد ضرب لهما قبّة، وهو لا يعلم أن النّابغة معهما. وقد أشار النّابغة على إحدى القيّان أن تغنّي أبياتًا من قصيدته “يا دار مية” ومنها قوله:
أُنبِئتُ أنّ أبا قابوسَ أوعدني ولا قرارَ على زأر من الأسد
فلمّا سمع الملك النّعمان هذا الشّعر، قال: هذا شعر علويّ، هذا شعر النّابغة وسأل عنه، فأخبر مع صديقيه الفزاريّين اللذين كلّماه فيه، فأمّنه النّعمان. ومهما يكن من أمر الاختلاف حول أسباب عودة النّابغة إلى بلاط الحِيرة، فإنَّ الشّاعر استرجع مكانته عند الملك النّعمان واستأنف مدائحه فيه.
رأي النّقاد في النّابغة الذّبيانيّ
اجتمعت كلمة النقّاد على أنّ النّابغة أحد شعراء الطبقة الأولى إن لم يكن رأس هذه الطبقة بعد امرئ القيس، وليس أدلّ على علوّ منزلته من ترأسه سوق عكاظ؛ وفي ذلك يقول الأصمعي:
كان النّابغة يضرب له قبةّ حمراء من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشّعراء فتعرض عليه أشعارها. وما رُوي عن أبي عبيدة قوله: يقول من فضل النّابغة على جميع الشّعراء: هو أوضحهم کلامًا وأقلهم سقطًا وحشوًا، وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالع، ولشعره ديباجة. وذكر أبو عبيدة أيضًا أنَّه سمع أبا عمرو بن العلاء يقول: كان الأخطل يشبه بالنّابغة، وعن أبي قتيبة، قال الشّعبيِّ: دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل لا أعرفه، فالتفت إليه عبد الملك فقال: من أشعر النّاس فقال: أنا، فأظلم ما بيني وبينه، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين، فتعجب عبد الملك من عجلتي فقال: هذا الأخطل، فقلت أشعر منه الذي يقول:
هَذا غُلامٌ حَسَنٌ وَجهَهُ مُستَقبِلُ الخَيرِ سَريعُ التَمام
فقال الأخطل: صدق أمير المؤمنين، النّابغة أشعر مني، فقال عبد الملك: ما تقول في النّابغة، قلت: قد فضّله عمر بن الخطاب على الشّعراء غير مرّة.
لم تكن منزلة النّابغة عند المحدثين بأقلّ منها عند الأقدمين، فقد شهد كثيرون منهم بما في شعره من إيقاع موسيقيٍّ، وروعةٍ في التّشبيه، وبراعةٍ في أغراض الشّعر المتباينة ولا سيّما في الوصف والمدح والاعتذار؛ وفي ديوانه من هذه الفنون العديد من القصائد الدالّة على نبوغه وشاعريّته، في مخاطبة الملوك وكسب مودّتهم والاعتذار إليهم، حتّى قيل “وأشعر الناس النّابغة إذا رهب”. وقال عنه بديع الزمان الهمذاني: والنّابغة لا يرمي إلا صائبًا.
في طليعة العوامل التي أسهمت في تفوق شاعريّة أبي أمامة في ضروب المعاني ومختلف الأساليب، رجاحة فكره، إذ كان ذا بصيرة بمواطن الكلام، متميزًا بنظرته الثّاقبة والقدرة على الملاءمة بين الأقوال والمواقف، يحسن بباعث الموهبة والذّائقة التي صقلتها الدّربة والمراس، الملاءمة بين ركنيِّ المقال أيّ بين الصورة والجوهر، فهو يؤدي الدّلالات دقيقةً لأنَّه يجيد انتقاء الألفاظ الدالّة ووضعها في مواضعها الصّحيحة في سياقه الشّعري العام.
لعلّ السمة اللافتة في شعره ذاك التأثّر بالظروف المكانيّة والزّمانيّة، الذي حمله على أن يُضفي على فنونه طابعًا من الواقعية مستمدًّا من البيئة البدويّة أو الحضريّة، فهو جزل شديد الأسر في أوصافه الصّحراويّة، رقيق عذب واضح العبارة بعيد من الخشونة ممعن في السّهولة في وصف حالات الوجدان، وفي أداء الخواطر أو إرسال الحكم، إلا إذا اقتضت البلاغة الإبقاء على لفظة غير فصيحة لكنّها دالة، كلفظة “الشعث” في قوله:
ولســتُ بمُسْتَبْــقٍ أخـــاً لا تَلُمّهُ على شَعَثٍ، أيُّ الرّجالِ المُهَذّبُ؟
خلاصة حول النّابغة الذّبيانيّ وخصائص شعره
إذًا، يُعدُّ النّابغة الذّبيانيّ أحد أبرز الشّعراء في العصر الجاهلي، وكان يمتاز بالبلاغة والأدب، ولديه الكثير من المعرفة. وقد أحبّ الشّعر والنثر وألقى القصائد، وإنّ أشعاره لا تزال حيّة فكلّما مرّ عليها الزمان زاد بريقها، واتضحت قيمتها وعظمتها. وهناك مجموعة من الخصائص التي عرف بها شعر الذّبيانيّ التي تتلخص في ما يلي: عرف شعر النّابغة الذّبيانيّ باسم شعر الاعتذارات، إذ كان كثير الكتابة الاعتذاريّة، وتقديم الأسف عن ما بدر منه؛ كما أنّه كان كثيرًا ما يعتذر من الحاكم، حيث قدّمت إليه في يوم من الأيام أحد التّهم من قبل رجل يدعى عوف بن قريع، فأخذ الذّبيانيّ يكتب الأشعار مدافعًا عن نفسه من خلال الاعتذارات للنّعمان بن المنذر. كثيرًا ما كان النّابغة الذّبيانيّ يستخدم الأسلوب القصصيّ في الكتابة، ما جعل أسلوبه يتّسم بالتّشويق والإثارة، وعدم الشّعور بالملل من المستمعين والقرّاء، لا سيما وأنّه كان يكتب بأسلوبٍ متقنٍ ولامعٍ، فيجعل القرّاء والمستمعين لديهم حبٌّ وشغفٌ بقراءة المزيد.
تُعرف أشعار النّابغة الذّبيانيّ الاعتذارية، أنّها أجمل ما نُظم في الشّعر، إذ كانت تُكتب بأسلوبٍ راقٍ، خالٍ من الرّكاكة، بعيد من الابتذال، مميّز للغاية. كان يستخدم أسلوب الاستطراد في الكتابة، وهو أسلوب المحاكاة الذي لم يملَّ النَّاس منه، ولا ينتهي بمرور الزّمن، وقد كان أسلوب الاستطراد هو أسلوب العصر الجاهلي، وكثيرًا ما استخدمه الشّعراء الجاهليّون الذين ذاع صيتهم في العصر الجاهليّ وإلى الآن، لا يزالون يمثّلون علاماتٍ ومنابرَ شعريةً مميزة. يمتلئ شعر النّابغة الذّبيانيّ بالأحداث القصصيّة، والسّرد الدقيق في الشّعر الذي يجعل المستمع أو القارئ راغبًا في استكمال القصائد بلهفة وحبّ. ويُعَدُّ الذّبيانيّ أوّل من استخدم الوحش كصيغةٍ تعبّر عن الحيوان المتوحّش كصورة تشويقيّة ومثيرة في قصائده.
اشتهر الذّبيانيّ بمدحه المبالغ للحاكم، إذ كان يكتب العديد من القصائد في مدح النّعمان بن المنذر، فكان لديه أسلوب ساحر في الاستحواذ على العقول والقلوب، لما لأشعاره من عذوبةٍ وجمال.
عَدَّ الكثير من النقّاد أنَّ الشّاعر الذّبيانيّ هو أحد أجرأ الشّعراء وأكثرهم شجاعة، حيث كتب قصيدة الملكة المتجرّدة، التي كثرت فيها الأقاويل، واختلف حولها الكثيرون(10).
المراجع
(1) الموسوعة العربيّة الميسّرة – منشورات محمّد شفيق غربال – دار الجيل – المجلّد الأول أ – س – طبعة 1995 – ص 609.
(2) تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، د. شوقي ضيف، الطبعة الحادية عشرة، دار المعارف، 1119 ، خصائص الشّعر الجاهلي ص. 183 – 231 بتصرف.
(3) الأطلال في شعر المعلّقات 2014- 01 – 17. مؤرشف من الأصل في 21 ديسمبر 2017. اطّلع عليه بتاريخ 14 مارس 2018.
(4) ملامح الوقوف على الأطلال في الشّعر الجاهلي. د. حماد القاسم ص. 58 .
(5) aladibnewspaper.net باللغة الإنجليزيّة. مؤرشف من الأصل في 22 مارس 2017. اطلع عليه بتاريخ 14 مارس 2018.
(6) ظاهرة الوقوف على الأطلال – مجلّة كفربو الثقافية. عدد 867.
(7) مؤرشف من الأصل في 22 أكتوبر 2018. اطلع عليه بتاريخ 14 مارس 2018.
(8) المؤلف: المكتبة الوطنية الفرنسية – رخصة حرّة – 10 أكتوبر 2015.
(9) “معلّقة النّابغة الذّبيانيّ”. مؤرشف من الأصل في 16 أغسطس 2018. اطّلع عليه بتاريخ 25 مایو 2018.
(10) موقع المرسال الثقافي – كتابة: آية أحمد زقزوق – آخر تحديث 17 أغسطس 2020.