في رحاب الحضارة الرّومانيّة (31 ق.م – 284 ق. م (
د.إيمان محمد فرحات([1])
الملخص
إنَّ الحضارة الرّومانيّة أو ما تُعرف باسم حضارة روما القديمة، هي واحدة من الحضارات المهمّة في تاريخ أوروبا خاصَّة وتاريخ البشريّة بشكل عام.
في هذا البحث سألقي الضّوء على الحضارة الرّومانيّة مميّزاتها وإنجازاتها بما فيها العمارة والفنون والآثار بما فيها المدرج الرّومانيّ، ومدرج الكولوسيون وعمود السّواري والمسارح والمعابد.
كما أنني سأدخل إلى الحياة الاجتماعيّة في الحضارة الرّومانيّة والحياة السياسيّة ومن ثمَّ الاقتصاديّة لنصل في النّهاية إلى سقوط الحضارة الرّومانيّة وأسبابها من غزو القبائل البربريّة والمشكلات الاقتصاديّة والإفراط في التّوسع، والإنفاق والفساد الحكوميّ حتى نصل إلى إضعاف الجحافل العسكرية الرّومانيّة ما أدّى إلى انهيار هذه الحضارة والامبراطوريّة العظيمة.
Abstract
The Roman civilization, or what is known as the ancient Rome civilization, is one of the most important civilizations in the history of Europe in particular and of humanity in general.
In this research, we will shed light on the Roman civilization, its features and achievements, including architecture, arts and antiquities, including the Roman amphitheater, the Colosseum amphitheater, the pylon, theaters and temples.
We will also enter into the social life of the Roman civilization, the political life, and then the economic life, to finally reach the fall of the Roman civilization and its causes from the invasion of barbarian tribes and economic problems. Excessive expansion, spending, and government corruption, until we reach the weakening of the Roman military legions, led to the collapse of this great civilization and empire.
أصل الرّومان
يعود أصل الرّومان إلى قصة تأسيس روما في القصص التّقليديّة التي نشرها الرّومان القدماء أنفسهم على أنها التاريخ الأقدم لمدينتهم، وهي ربما الأسطورة الأكثر شهرة بين جميع الأساطير الرّومانيّة، وهي قصة رومولوس وريموس، وهما توأمان أرضعهما ذئب في القرن الثّامن قبل الميلاد، وأصبحا أصل الرّومان، ولكن في رواية أخرى وضعت في وقت مبكر، تقول إنّ أصل الرّومان ينحدر من بطل حرب طروادة إينيس، الذي هرب إلى إيطاليا بعد الحرب، وكان ابنه يولوس هو جد عائلة يوليوس قيصر، إلا أنّ الأدّلة الأثريّة للاحتلال البشريّ لمنطقة روما تعود إلى حوالي 14000 سنة مضت، فلا يوجد توافق في الآراء حول أصل الرّومان ولا أصل اسم المدينة، كما اقترح جان جاك روسو أنّها باليونانيّة تعني “القوة والنّشاط”، لكن تقول النّظرية الحديثة إنّ اسم المدينة من أصل إتروري، وربما المدينة نفسها، على الرّغم من أنّ هذا يصعب إثباته، أو أنّه مشتق من رومون “النهر”([2]).
يُطلق اسم الرّومان على الشّعب الذي سكن الأراضيّ الإيطاليّة، واتخذ من مدينة روما مركزًا له لإنشاء إحدى أكبر الامبراطوريّات التي عرفتها البشريّة، وقد ظلّت آثار الرّومان باقية في الدّول التي كانت تحت سيطرتها إلى يومنا هذا، إلى جانب وجود العديد من بقايا الأنظمة الإداريّة والسياسيّة التي عرفها الرّومان واستلهمتها الدّساتير الحديثة([3]).
الامبراطوريّة الرّومانيّة
تأسست روما القديمة ابتداءً من القرن الثامن قبل الميلاد، ونمت روما القديمة من بلدة صغيرة على نهر التيبر بوسط إيطاليا إلى إمبراطورية شملت معظم دول أوروبا وبريطانيا، ومعظم دول غرب آسيا وشمال أفريقيا وجزر البحر الأبيض المتوسط، ومن بين الموروثات العديدة للهيمنة الرّومانيّة هو الاستخدام الواسع النّطاق للغات الرّومانسيّة: “الإيطاليّة والفرنسيّة والإسبانيّة والبرتغاليّة والرّومانيّة”، المستمدة من اللاتينيّة والأبجديّة الغربيّة الحديثة والتّقويم وظهور المسيحية كدين عالمي رئيس، وبعد 450 عامًا كجمهورية، أصبحت روما إمبراطورية في أعقاب صعود وسقوط يوليوس قيصر في القرن الأول قبل الميلاد، وقد بدأت مدّة الحكم الطويلة والمنتصرة لأول إمبراطور لها، أوغسطس، بعصر ذهبيّ من السّلام والازدهار، وعلى النّقيض من ذلك، كان تراجع الامبراطوريّة الرّومانيّة وسقوطها بحلول القرن الخامس الميلاديّ أحد أكثر الانهيارات دراماتيكية في تاريخ الحضارة الإنسانيّة([4]).
تعدّ الامبراطوريّة الرّومانيّة واحدة من أنجح القوى الإمبرياليّة في التاريخ، فعلى مرّ القرون، نمت روما من بلدة صغيرة على نهر التيبر في وسط إيطاليا إلى إمبراطورية شاسعة احتضنت إنجلترا في نهاية المطاف، وعلى عكس اليونانيين، الذين برعوا في المساعيّ الفكريّة والفنيّة، حقق الرّومان العظمة في مؤسساتهم العسكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وكان المجتمع الرّومانيّ خلال الجمهورية تحكمه روح عسكريّة قويّة، وهذا يساعد على تفسير الحروب المستمرة، إلا أنّه لا يفسر نجاح روما كقوة إمبرياليّة، لكن على عكس دول المدن اليونانيّة، التي استبعدت الأجانب على الرّغم من السّماح للشّعب بالمشاركة السياسيّة، فقد أدمجت روما منذ البداية الشعوب المهزومة في نظامها الاجتماعيّ والسياسيّ، بل مُنِح الحلفاء والمواطنون الذين تبنوا الطرق الرّومانيّة الجنسيّة الرّومانيّة في نهاية المطاف، وكانت المقاعد في مجلس الشّيوخ وحتى العرش الامبراطوريّ أحيانًا يشغلها أشخاص من مناطق البحر المتوسط خارج إيطاليا([5]).
الحضارة الرّومانيّة
كانت مدينة روما القديمة هي أساس الحضارة الرّومانيّة منذ القرن الثّامن ق.م حتّى انهيار الامبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة في القرن الخامس الميلاديّ، وهي تشمل المملكة الرّومانيّة من 753 ق.م إلى 509 ق.م، والجمهورية الرّومانيّة من 509 ق.م إلى 27 ق.م، والامبراطوريّة الرّومانيّة من 27 ق.م إلى 476 م. بدأت الحضارة الرّومانيّة كمستوطنة زراعية في شبه الجزيرة الإيطالية، ونمت إلى مدينة روما والتي أعطت اسمها لاحقًا للامبراطوريّة التي حكمتها، وقد تطورت الامبراطوريّة كثيرًا، فتوسعت لتصبح واحدة من أكبر الامبراطوريّات في العالم القديم، إذ يقدر عدد سكانها بما يتراوح بين 50 و 90 مليون نسمة، أيّ حوالى 20 ٪ من سكان العالم في ذلك الوقت، وغطت 5 مليون كيلومتر مربع في ذروتها سنة 117 م، وفي ما يأتي حديث حولَ أصل الرّومان ونشأة حضارتهم([6]).
تعدُّ الحضارة الرّومانيّة القديمة إحدى الحضارات الشّهيرة على مرّ العصور، تمتعت الحضارة الرّومانيّة بالقوة والنّفوذ والقدرة على القيادة، ما جعلها تتحكم في منطقة البحر الأبيض المتوسط بالكامل، وعلى الرّغم من الأزمات التي مرت بها الحضارة الرّومانيّة على أصعدة مختلفة؛ إلا أنّ ملوك الرّومان استطاعوا في كل مرة الخروج منتصرين من تلك الأزمات.
اشتهرت الحضارة الرّومانيّة بالآثار العريقة، تلك الآثار التي تركها الرّومان لكي تكون ذكرى طيبة لأحفادهم في دول العالم جميعه، فقد كانت تلك الآثار ذات طابع كلاسيكيّ متفرد، وهذا ما جعلها محط أنظار العالم ومركزًا مهمًا من مراكز السّياحة في مختلف الدّول التي حكمها الرّومان، كما أنّها كانت مصدر إلهام لكلّ من عزم على عمل بحث شامل عن الحضارة الرّومانيّة.
بدأت الحضارة الرّومانيّة منذ القرن الثّامن قبل الميلاد، وتحولت روما من تلك البلدة الإيطاليّة الصّغيرة إلى إمبراطورية كبيرة، بعد أن تمكّن حكام الرّومان من السّيطرة على أجزاء كبيرة من العالم، إذ شملت الامبراطوريّة الرّومانيّة بريطانيا ومعظم أوروبا الشّرقية، بالإضافة إلى شمال إفريقيا وغرب أسيا وجزر البحر الأبيض المتوسط.
تتضح سيطرة الحضارة الرّومانيّة حتى يومنا هذا باللغات التي يتحدث بها سكان العالم، فاللغة الرّومانيّة والإيطاليّة والفرنسيّة والإسبانيّة والبرتغاليّة، ما هي إلا لغات مشتقة من الأبجديّة الغربيّة واللاتينية القديمة.
تحولت روما القديمة من جمهورية إلى إمبراطورية بعد قضاء 450 عامًا، وكان ذلك على يد الامبراطور الرّومانيّ أغسطس، الذي لمع أسمه في العالم بتلك الآونة وحتى يومنا هذا، وقد تزامن تحول روما القديمة من جمهورية إلى إمبراطورية مع مقتل يوليوس قيصر.
بدأت الامبراطوريّة الرّومانيّة عصرها الذّهبيّ بعد تولي أغسطس، فقد كان عصرًا مليئًا بالسّلام والازدهار على المستويات كافة على عكس سقوط روما الذي حلّ عليها في القرن الخامس الميلادي([7]).
اشتهرت الحضارة الرّومانيّة بجسارة شعوبها في الحرب، ما أدى إلى جمعهم للكثير من الغنائم، وخوض الحروب المستمرة، ويُذكر أنّ الجيوش الرّومانيّة هزمت العديد من الجيوش التي تفوقهم عددًا في الكثير من الحروب، إذ إنّ المُقاتل كان يُمكنه السير 40 كم يوميًا حاملًا معه رمحًا، وسيفًا، ودرعًا خشبيًّا، ومرتديًا الخوذة المعدنيّة والدّرع الصّدريّ.
تعددت الثّقافات في الحضارة الرّومانيّة وتميّزت هذه الحضارة بمنح شعوب المناطق الواقعة تحت نفوذها؛ أيّ الشّعوب ذوي الأصول غير الرّومانيّة حقوق المشاركة الاجتماعيّة والسياسيّة في نظامها، ويُذكر أنّ الامبراطوريّة الرّومانيّة حُكمت من أفراد من منطقة البحر الأبيض المتوسط، حازوا أيضًا على مقاعد في مجلس الشّيوخ الرّوماني.
إجراء بحث شامل عن الحضارة الرّومانيّة قاد إلى التعرف على مميزات تلك الحضارة، خاصًة مع الشّعوب التي حكموها والدّول التي سيطروا عليها على مرّ العصور([8]).
- احترام الاختلافات الدّينيّة والثّقافيّة والعرقيّة، وذلك ظهر في عدم إجبار الشّعوب المحتلة على تغيير لغتهم أو دينهم أو التّخلي عن أصولهم العرقيّة، فقد كانت مطلب الرّومان فقط هو دعم الجيش الرّومانيّ والتحاق أفراد تلك الشعوب به، لتكوين عصبة قويّة قادرة على السّيطرة على العالم.
- تأسيس النّظام القانونيّ كان من مميزات الحضارة الرّومانيّة المهمّة، فقد كان النّظام القانونيّ الرّوماني ينص على براءة المتهم حتى تثبت إدانته بالتّهمة المنسوبة إليه، بالإضافة إلى أحقيّة الدّفاع عن المتهمين بالمحكمة العلنيّة، فضلًا عن إمكانية إلغاء القضاة للقوانين التي يرون أنّها غير عادلة.
- العمل في الزّراعة وتصدير المحاصيل كان حجر أساس لقوة اقتصاد الحضارة الرّومانيّة، كما أنّ التجارة قد ساهمت في زيادة ثروات الدّولة.
- الاهتمام بالجوانب التّرفيهيّة للشّعوب، من خلال إنشاء مراكز خاصة للسّيرك وحلبات للمصارعة، لجذب الفقراء والأغنياء من أجل التّرفيه عن أنفسهم([9]).
حققت الحضارة الرّومانيّة مجموعة متنوعة من الإنجازات على مدار قرون، كانت تلك الإنجازات على المستوى الاقتصاديّ والسياسيّ معًا.
- حصلت الامبراطوريّة الرّومانيّة على شهرة واسعة حول العالم، وقد كانت من أقوى وأكثر الامبراطوريّات نفوذًا وقوة على مرّ التّاريخ.
- ساهم الرّومان في إثراء العمارة الغربيّة، فقد أصبح القوس الرّومانيّ جزءًا لا يتجزأ من المعمار في الغرب والشّرق، فعلى الرّغم من استخدام هذا القوس منذ قرون؛ إلا أنّ الرّومان هم من أدركوا قيمته المعماريّة، واستغلوه في إنشاء مبانٍ معماريّة ضخمة وأكثر تعقيدًا مما كانت عليه.
- تأسيس قنوات المياه المتطورة كان إنجازًا مهمًا من إنجازات هذه الحضارة العريقة، إذ طوّر الرّومان تصميم قنوات المياه التي ظهرت لدى مصر القديمة والهند واليونان، وذلك حتى يُستفاد منها بشكل أكبر في الزراعة.
- تصميم مجموعة متنوعة من الأبنية المتفردة، مثل هياكل الكولوسيوم والبانثيون، التي أصبحت في ما بعد أحد عجائب الدّنيا السّبع، وصارت ملاذًا دائمًا للسياح.
- أنشأ الرّومان نظامًا معقدًا للطرق، ما ساهم في تطوير أنظمة الطرق في العالم بشكل عام، إذ أدرجوا مجموعة من الابتكارات المعماريّة بمجال هندسة الطرق.
- وضع القانون الرّومانيّ القديم أساسًا للنّظام القانونيّ الحديث بالعالم.
- ترك الرّومان إرثًا ضخمًا للأدب الغربيّ القديم، فقد اشتهر الرّومان بكتابة الشّعر والمقالات والمسرحيات بأنواعها.
- قام الرّومان بعمل التقويم اليوليوسيّ القديم الذي يعدُّ حجر أساس للتّقويم الميلاديّ الحديث.
- قدم الرّومان مجموعة متفرقة من الابتكارات العسكريّة القديمة.
- وضع الرّومان حجر أساس للصّحافة الحديثة، من خلال تدوين المعلومات على الألواح الحجريّة والمعدنيّة، ووضع تلك اللوحات في أماكن محددة تسمح بالعرض على الجمهور.
بعد الحديث عن تاريخ الحضارة الرّومانيّة، إنَّ من مميزات هذه الحضارة المهمّة هي العمارة المميزة التي كانت فيها، فقد ورث الرّومان العمارة والبناء من الإغريق القدماء، أخذوا عنهم النّحت والزّخرفة وزادوا وطوَّروا فيه، وكان الفن المعماريّ المنتشر في روما ينتشر في جميع أنحاء الامبراطوريّة الرّومانيّة، وعلى الرّغم من انتشار الفنّ الرّوماني في أرجاء الامبراطوريّة بطريقة ديكتاتورية إلَّا أنَّ بعض المعابد والكنائس اختلفتْ في طريقة بنائها وشكلها عن أبنيّة روما بسبب الظروف المناخيّة المختلفة التي اضطرتها إلى هذا الاختلاف، ويظهر هذا الاختلاف في المعابد الرّومانيّة الموجودة في سوريا، والتي بناها الرّومان في المدّة التي سيطروا فيها على بلاد الشّام.
ولعلَّ أبرز التُّحف المعماريّة التي تظهر فيها لمسة الرّومان المختلفة عن الإغريق في العمارة هو معبد فورتينا فيرليس الموجودة في روما القديمة، ويُعدّ هذا المعبد واحدًا من أقدم المعابد الرّومانيّة في التّاريخ، وهو مظهر من مظاهر الحضارة الرّومانيّة، ومن مميزات العمارة الرّومانيّة أيضًا أنَّها اهتمَّت بالأبنية الدّنيويّة أكثر من اهتمامها بالأبنية الدّينيّة كالكنائس والمعابد، واهتمَّت بالأبنية العامة أكثر من الأبنية الخاصة، كما أنشأ الرّومان المدارج والمسارح والمدن، وكلُّ هذا دليل على عظمة العمارة الرّومانيّة التي لم تزلْ تحفها المعمارية حاضرة حتَّى اليوم([10]).
الآثار الرّومانيّة
يمكن ملاحظة الآثار الدّائمة للحكم الرّوماني في أوروبا في التّوزيع الجغرافيّ للغات الرّومانسية، وكلها تطورت من اللاتينيّة، وهي لغة الرّومان. إنّ الأبجديّة الغربية المكونة من 26 حرفًا والتقويم 12 شهرًا و 365.25 يومًا هما فقط مثالان بسيطان على الإرث الثقافيّ الذي أورثته روما للحضارة الغربية.
تساعد الأدلة الأثرية في معرفة أصل الرّومان، فهناك أدلة أثرية على سكن الإنسان لمنطقة روما منذ حوالي 14000 عام، ولكن الطبقة الكثيفة من الحطام الأصغر سنًا تحجب مواقع العصر الحجريّ الحديث والحجري الحديث، وتدعم العديد من الحفريات وجهة النّظر القائلة إنّ روما نمت من المستوطنات الرّعويّة في تل بالاتين المبنيّة فوق منطقة المنتدى الرّومانيين وبين نهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديديّ، كانت كل تلة بين البحر والكابيتول تعلوها قرية([11]).
على أيّ حال، كان الموقع الذي أصبح مدينة روما يسكنه المستوطنون اللاتينيون وهم أصل الرّومان، ينحدرون من مختلف المناطق ومن المزارعين والرّعاة، كما يتضح من الاختلافات في تقنيات الفخار والدّفن، كان اللاتين التّاريخيون هم في الأصل قبيلة سكنت تلال ألبان وانتقلوا لاحقًا إلى الوديان، ما أتاح لهم أرضًا أفضل للزراعة، كانت المنطقة المحيطة بنهر تيبر مفيدة بشكل خاص ووفرت موارد استراتيجيّة بارزة، كان النّهر حدًا طبيعيًا من جهة، ويمكن أن توفر التلال موقعًا دفاعيًا آمنًا على الجانب الآخر، كان هذا الموقع قد مكّن اللاتين أيضًا من السيطرة على النّهر وحركة المرور التجاريّة والعسكريّة عليه من نقطة المراقبة الطبيعيّة في جزيرة تيبيرينا، علاوة على ذلك، يمكن التحّكم في حركة المرور على الطرق؛ لأنّ روما كانت عند تقاطع الطرق الرئيسة المؤديّة إلى البحر.
هناك إجماع واسع على أنّ المدينة تطورت تدريجيًا من خلال تجمع لعدة قرى حول أكبر قرية في بالانتين، هذا التّجميع يشير إلى الانتقال من مستوطنة زراعيّة إلى مستوطنة حضريّة، والذي أصبح ممكنًا بفضل الزّيادة في الإنتاجيّة الزراعيّة عن مستوى حد الكفاف، ما سمح بإنشاء أنشطة ثانوية، وهذا بدوره عزز تنمية التّجارة مع المستعمرات اليونانيّة في جنوب إيطاليا، كل هذه الأحداث، والتي حسب الحفريات الأثرية التي حدثت في حوالي منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، يمكن عدّها أصل المدينة.
أولى الرّومان العمران اهتمامًا كبيرًا، فبرعوا في بناء المعابد والسّاحات والمسارح والحمّامات. وقد بقيت هذه المعالم شاهدة على براعتهم إلى يومنا الحاضر. ومن أهم الآثار الرّومانيّة:
يقع المدرّج الرّومانيّ في وسط عمّان العاصمة الأردنيّة، وقد بُني في عهد أنتونيس بيموس الإمبراطور الرّوماني في الحقبة الواقعة ما بين 169-177م. يتّسع المدرّج الرّوماني إلى ستة آلاف شخص، وأمام المدرج الرّوماني توجد ساحة خاصة بالاجتماعات العامةّ (بالإنجليزية: Forum)، وتحيط بهذه السّاحة مجموعة من الأعمدة الكورنثيّة من ثلاث جهات.
يوجد مدرّج الكولوسيوم في العاصمة الإيطاليّة روما، ويعدُّ الكولوسيوم من أكبر المدرّجات التي بُنيت في عهد الامبراطوريّة الرّومانيّة إذ يتّسع لـ 45000 إلى 50000 شخص، وقد بدأ بناؤه في عهد الإمبراطور فيسباسيان وانتهى في عهد تيتوس الإمبراطور الرّوماني، أمّا في عهد الإمبراطور دوميتيان فقد أُجريت بعض التّعديلات والإضافات عليه. وقد استُخدمت ساحة هذا المدرّج في المسابقات الجماهيريّة وكذلك في عروض قتال المُجالدين.
من المعالم الرّومانيّة في مدينة الإسكندريّة المصريّة عمود السّواري، وهو آخر أثر روماني بقي من المعبد الذي أقامه بوستوموس (معبد السّيرابيوم) وقد أقيم هذا المعبد تخليدًا لذكرى دقلديانوس الإمبراطور الرّومانيّ. ويوجد عمود السّواري هذا في المنطقة الواقعة ما بين هضبة كوم الشّقافة الأثرية، وبين منطقة مدافن العمود وهي مدافن للمسلمين في الوقت الحاضر. يُذكر أن هذا العمود قد صُنع من الجرانيت الأحمر ويبلغ طوله ما يقارب 27 مترًا.
المسرح الرّوماني في الإسكندريّة
يقع المسرح الرّوماني في منطقة كوم الدّكة وقد بُني في أوائل القرن الرّابع الميلادي. ويتكوّن هذا المسرح من مدرجات مرقمة ومصنوعة من الرّخام، وفي أعلى هذا المدرج توجد مقصورات خمس لها قباب وأعمدة([12]).
مدينة تيبازة من المعالم الرّومانيّة الأثريّة الباقية في الجزائر، والتي تحتوي على مجموعة كبيرة من الآثار الرّومانيّة كالمسارح والمعابد والأضرحة.
يقع معبد البانثيون في روما، وقد بدأ العمل على بنائه في عهد تراجان الامبراطور الرّوماني، إلّا أنّ اكتمال بنائه لم يتم حتّى عهد هادريان في العام 125م، وقد بُني المعبد على أنقاض معبدين قديمين دُمِّرا بسبب الصّواعق والحرائق، وقد تحوّل المبنى في العام 608م إلى كنيسة.
شُيّد عمود تراجان لكي يكون شاهدًا على الحرب الّتي انتصر فيها تراجان الامبراطور الرّوماني ضدّ مملكة داتشيا، وقد بُني من الرّخام ووصل طوله إلى 38م.
اكتُشف معبد الرّأس السّوداء في عام 1936م في الإسكندريّة، وهو معبد يتكون من طابقين؛ خُصص الطّابق السّفلي منهما للعبادة، أمّا الطّابق العلوي فقد استُخدم للسكن، وقد بُني هذا المعبد على أرضيّة مرتفعة بواجهة ذات أربعة أعمدة صُمّمت بطراز أيوني، وتصل ردهته إلى غرفة صغيرة مربعة الشّكل.
يقع هذا المعبد في لبنان، وتحديدًا في منطقة بعلبك الّتي كانت تعدُّ مركزًا دينيًّا مهمًا، ويُعرف هذا المركز باسم هيليوبوليس وقد اكتمل بناؤه في العام 60م تقريبًا. يعدُّ معبد الإله جوبيتر أكبر معبد من المعابد الموجودة في هيليوبوليس.
توجد هذه المقبرة في الإسكندريّة وهي من أكبر المقابر الرّومانيّة العامة التي بقيت من آثار تلك الحضارة، ويعود تاريخ هذه المقبرة إلى القرن الثاني للميلاد([13]).
الفن الرّوماني
تميّزت الحضارة الرّومانيّة بفنها الواسع في مختلف المجالات، وقد تأثر الفن الرّوماني بفنون الحضارات الأخرى فيها:
ابتكر الرّسامون الرّومان فن تصوير المناظر الطبيعيّة، وكانوا يرسمون لوحاتهم الفنيّة باستخدام الشّمع أو باستخدام خليط من صفار البيض والأصباغ، والذي يُعرف بخليط التّمبيرا. وقد أبدع الرّومان في رسم الجداريات الزيتيّة مختلفة الأحجام، وتُعدُّ لوحات مدينة هيركولانيوم ولوحات مدينة بومبيي من الفنون الرّومانيّة المهمّة التي وصلت إلينا في مجال الرّسم.
يُقسم فن النّحت الرّوماني إلى أقسام أربعة رئيسة وهي:
تتمثل في نقوش التّماثيل النصفيّة والكاملة وكذلك تماثيل الفروسيّة، ومن هذه التّماثيل المهمّة: تمثال تراجان ورأس نيرون الموجودان في المتحف البريطاني، وكذلك تمثال تيتوس الموجود في متحف الفاتيكان.
كمنحوتات التّوابيت والمقابر، وقد ظهرت النّقوش الجنائزيّة بشكلٍ لافت بعد تحول الرّومان من حرق الموتى إلى دفنهم في توابيت، وكانت هناك ثلاثة أنواع من التّوابيت؛ كالتّوابيت التي صُنعت في أثينا، والتّوابيت التي صُنعت في رومانيا، وكذلك التّوابيت التي صُنعت في فريجيا.
نُسخ مطابقة لأعمال قديمة للإغريق
قد ساهمت هذه النّسخ في حفظ تاريخ الفن الإغريقي الّذي اختفى غالبيته، وهذه النّسخ هي من أكثر ما قدمه الفن الرّوماني أهمّية لتاريخ الفن بشكل عام.
يَظهر تأثر الرّومان بالفنون الشّرقيّة في اللوحات الجداريّة والفسيفساء، وتعدُّ كنيسة آيا صوفيا مثالاً رائعًا للفن الرّوماني لما تحتويه من لوحات جداريّة وفسيفساء متقنة الصّنع إضافة إلى قبابها الرّائعة الّتي ساهم في بنائها عشرة آلاف مختص وعامل([14]).
أمّا الفسيفساء الموجودة بالرموز بصقلية فيصوّر الأميرال جورج عند قدمي العذراء. ويصور فسيفساء كنيسة Cefali المسيح وأسفله العذراء، بينما في الحلقة السفلى من الهيكل صور الرّسل([15]).
الحياة الاجتماعيّة في الحضارة الرّومانيّة
اعتمد الهيكل الاجتماعي الخاص بالحضارة الرّومانيّة على خمسة عناصر أساسية: الوراثة، الملكية، الثروة، الحرية، المواطنة.
كما اعتمدت الحياة الاجتماعيّة في المجتمع الرّوماني على الطبقية، التي ظهرت في كل شيء حتى بالملابس، على سبيل المثال لم يكن مسموحًا لشخص يعيش داخل الامبراطوريّة بارتداء سترة أرجوانية، بوصف أن هذه السّترة خاصة بالملك وحده، وكذلك طبقة مجلس الشيوخ كانوا يرتدون سترة بيضاء ذات خط متقاطع([16]).
ظهرت عظمة الامبراطوريّة الرّومانيّة من الناحية الاجتماعيّة في احترام القيم والعادات والتقاليد، وتميزت هذه الحقبة باحترام ربّ الأسرة والولاء للحاكم، وانعكس ذلك على الفنون المختلفة، فأقيمت التّماثيل الضخمة وأقواس النّصر، كما شيّدت المعابد والقصور الضخمة وظهرت الصور الرائعة على الحوائط الداخلية للقصور والمنازل، كما انتشرت الحمامات وساحات الرياضة ودور القضاء([17]).
أمّا عن مكانة المرأة بالمجتمع الرّوماني القديم، فقد تم تحديد المرأة كزوجة وأم في المقام الأول، كما أنها لم تكن متساوية مع الرجل أمام القانون، وقد اعتمد عمل المرأة ونيل حريتها على مكانتها الاجتماعيّة والثّروة التي تمتلكها فقط، وبشكل عام لم تحتل المرأة مكانة مساوية للرجل على عكس مكانة المرأة في حضارة مصر القديمة([18]).
الحياة السياسيّة في الحضارة الرّومانيّة
كإمبراطورية عظيمة ومؤثرة بالعالم تمتعت روما القديمة بحياة سياسية منظمة، وهذا يظهر في المجلدات التاريخية الشاملة التي تحدثت عن الحضارة الرّومانيّة القديمة، فقد امتلكت الحضارة الرّومانيّة حكومة جمهورية مستقرة لعدة قرون، وأكثر ما يدل على قوة النظام الحكومي في روما هو استناد حكومة الولايات المتحدة جزئيًا على نموذج روما الحكومي.
كما اعتمد النّظام السياسيّ في الحضارة الرّومانيّة على مجلس الشيوخ، وبمجرد تكوين مفهوم الجمهورية لدى الرّومان؛ انتَخب المواطنون الممثلين للحكم نيابة عنهم في إدارة شئون البلاد، وقد كان لنظام الحكم الرّوماني نظام خاص ورونق جعله محطًا لأنظار باقي الشعوب في ذلك الوقت([19]).
الحياة الاقتصاديّة في الحضارة الرّومانيّة
ازدهرت الحياة الاقتصاديّة في الحضارة الرّومانيّة على الزراعة والتّجارة، فقد كانت الصّناعة تحتل نطاقًا ضيقًا من الاقتصاد الرّوماني، إذ اعتمد الرّومان على زراعة فئات محددة من المحاصيل الزراعية، أهمها الحبوب والزيتون والعنب، وقد اشتهر الرّومان بتصدير زيت الزيتون والنّبيذ إلى مختلف أنحاء العالم، تلك المنتجات التي كانت في مقدمة صادرات روما القديمة آنذاك.
قامت الامبراطوريّة الرّومانيّة بفرض ضرائب على المواطنين، وفي حالة فيض محصول أحد المواطنين عن حاجته كانت الدّولة تقبل بتقديم المحصول بدلًا من الضرائب النقدية، وذلك لسد حاجة الشّعوب من دون الحصول على تكلفة ماليّة مباشرة، ما أعطى للامبراطوريّة الرّومانيّة شعبية كبيرة بين سكان الامبراطوريّة.
أمّا على الصّعيد التجاريّ فقد اهتمت الحضارة الرّومانيّة بالتصدير، وقد ظهر ذلك من خلال إنشاء الطرق التّجارية لتسهيل عملية نقل البضائع والمحاصيل إلى المستوردين، وبشأن الإنتاج الصّناعي في روما فقد كان التعدين هو الاسم الأكثر شهرة في عالم الصناعة بالامبراطوريّة الرّومانيّة، إذ كانت تستخدم تلك الصناعة في تأسيس مشاريع البناء الضخمة.
سقوط الحضارة الرّومانيّة
من أسباب سقوط إحدى أكبر الامبراطوريّات في التاريخ: الامبراطوريّة الرّومانيّة.
أكثر النّظريات صراحةً في تفسير انهيار روما الغربيّة هي القول بسقوطها نتيجة الخسائر العسكرية المتلاحقة أمام القوى الخارجيّة، إذ اشتبكت روما مع القبائل الجرمانية قرونًا طويلة حتى استطاعت مجاميع بربرية كالقوط عبور حدود الامبراطوريّة في القرن الرّابع الميلاديّ. صحيح أن روما واجهت ثورة جرمانيّة في أواخر القرن الرّابع، لكن عاصمتها كانت قد سقطت -سنة 410 م- بيد الملك القوطي الغربي ألاريك؛ فقضت الامبراطوريّة عقودها اللاحقة تحت تهديد دائم قبل أن تُهاجم مجددًا سنة 455 م، وكان المهاجمون هذه المرة هم الفندال، وفي سنة 476 أشعل القائد الجرماني أودواسير ثورة خلع فيها الإمبراطور رومولوس أوغسطيلوس، ومنذئذ لم يستطع إمبراطور روماني أن يحكم من داخل إيطاليا، الأمر الذي جعل الكثيرين يختارون سنة 476 م تاريخًا لموت الامبراطوريّة الغربية([20]).
2- المشكلات الاقتصاديّة والاعتماد المفرط على العبيد
كان الغزاة الأجانب يهاجمون روما، لكنها كانت -في الوقت ذاته – تتداعى من الدّاخل أيضًا بسبب أزمة ماليّة حادة، فقد كانت الامبراطوريّة تدفع الكثير من المال لتغطي تكلفة الحروب المستمرة والمغالاة في الإنفاق حتى استُنفدت خزائنها، وتسبّب لجوؤها إلى فرض الضرائب الظالمة إضافة إلى التّضخم في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هاجر الكثير من الأغنياء إلى الرّيف وأسسوا إقطاعيات مستقلة هربًا من الجباة، في حين اهتز وضع الامبراطوريّة بسبب نقص العمالة. وقد اعتمدت روما على العبيد في حرث حقولها وأداء المهن الحرفية، وكان جيشها عادةً يخلق تيارًا مستمرًا من هؤلاء بقهره الشّعوب الأجنبيّة واستعباد أبنائها، حتى توقف توسع الامبراطوريّة إبان القرن الثاني الميلاديّ، فتوقف تدفق العبيد إلى روما مثلما بدأت خزائن غنائمها بالنّضوب([21]).
وضرب الزمان روما ضربة أخرى في القرن الخامس الميلادي، حين طالب الفندال بشمال أفريقيا وبدأوا بالتعرض لتجارة الامبراطوريّة حين جابوا البحر المتوسط قراصنةً. بدأت قبضة روما التي أمسكت أوروبا سابقًا بالارتخاء إذ انهمكت في مشكلاتها الاقتصاديّة وتردت أرباح تجارتها وتداعى إنتاجها الزراعي.
3- نهوض شرق أوروبا
كان مصير روما قد قُدّر -جزئيًا- منذ نهاية القرن الثالث الميلاديّ حين قسّم الامبراطور ديوكلتيانوس الامبراطوريّة إلى نصفين: غربي مركزه ميلان، وشرقي مركزه بيزنطة، القسطنطينية لاحقًا وإسطنبول حاليًا. سهّل هذا التقسيم من حكم الامبراطوريّة على المدى القصير، لكنه جعل القسمين يبتعدان من بعضهما مع مرور الوقت. فشل الشّرق والغرب في العمل بكفاءة للتّصدي للأخطار الخارجيّة معًا، وقد تنازعا -مرارًا- على الموارد وتشاجرا حول المساعدة العسكريّة، فتوسع الانشقاق بينهما وازدادت ثروة القسم الشّرقي المتكلم بالإغريقيّة -غالبًا- بينما عانى القسم الغربيّ المتكلم باللاتينية -غالبًا- أزمة اقتصاديّة.
وأهم من ذلك كانت قوة الجزء الشّرقي التي دفعت الغزوات البربريّة نحو الغرب، إذ حرص أباطرة مثل قسطنطين على تحصين مدينة القسطنطينيّة وحمايتها، بينما تُركت إيطاليا -وروما التي لم تحمل إلا قيمة رمزية للكثيرين في الشّرق- في وضع هش. تداعى الكيان السياسيّ الغربيّ في القرن الخامس لكن القسم الشّرقي استطاع الاستمرار -بطريقة أو بأخرى- ألف سنة تالية قبل أن تهزمه الامبراطوريّة العثمانية نهائيًا في القرن الخامس عشر الميلادي.
4- الإفراط في التوسع والإنفاق العسكري
امتدت الامبراطوريّة الرّومانيّة -إبان سطوتها- من المحيط الأطلسي حتى نهر الفرات، لكن اتساعها ربما كان سبب سقوطها أيضًا، فقد كان حكم هذه المساحات الشاسعة كابوسًا إداريًا ولوجستيًا حتى للرومان بشبكة طرقهم الممتازة، إذ كان من المستحيل عليهم التّواصل مع مختلف أنحاء الامبراطوريّة بسرعة كافية وفاعلية مناسبة.
كافحت روما لتجهيز قوات وموارد كافية لحماية الحدود من الثّورات المحليّة والهجمات الخارجية، وبحلول القرن الثانيّ الميلادي أُجبر الإمبراطور أدريان على بناء سوره الشّهير في بريطانيا ليمنع تدفق جحافل الأعداء إلى أراضي دولته. ازدادت نفقات الجيش الامبراطوريّ فقلّت سرعة التطورات التكنولوجية وانهارت البنية التحتية المدنية للدولة([22]).
5- الفساد الحكومي والتّقلقل السياسيّ
إذا كان حجم روما الضخم عائقًا أمام حكمها بنجاح، فإن قيادتها الواهنة والمتنافرة لم تفعل سوى تضخيم حجم المشكلة.
كان منصب الامبراطور الرّوماني يعرّض صاحبه للخطر دومًا، لكنّه أصبح في القرنين الثالث والرابع يُعادل حكم الإعدام تقريبًا، أما الحرب الأهليّة فقد جعلت الوضع في الامبراطوريّة فوضويًا وتداول الجلوس على العرش عشرون إمبراطورًا في غضون 75 سنة فقط، كان معظمهم يغادر الدنيا مقتولًا.
اغتال الحرس الامبراطوري -الذي كان حماية الامبراطور الشّخصيّة- الأباطرة ونصّبهم في الحكم كلما أراد ذلك، وفي إحدى المرات أقام مزادًا ومنح المنصب للرابح في المزاد. لم يقتصر الفساد السياسيّ على ذلك، بل امتد إلى مجلس الشّيوخ الرّوماني الذي فشل في وقف طوفان الأباطرة المتتالين بسبب استشراء الفساد فيه وانعدام كفاءته.
ازداد الوضع سوءًا وتضاءل شعور الفخر عند الرّومان وفقدت طائفة كبيرة من الشّعب ثقتها في قيادتها.
نتجت -جزئيًا- هجمات القبائل البربرية على روما من هجرتها الواسعة التي سببها غزو الهون لأوروبا في نهاية القرن الرّابع الميلادي. اكتسح المحاربون الأوراسيون (الهون) شمال أوروبا فدفعوا كثيرًا من القبائل الجرمانيّة إلى الحدود الرّومانيّة، وسمح الرّومان -منزعجين- لأعضاء قبيلة القوط الغربيين بعبور الحدود جنوب الدّانوب إلى أراضي الامبراطوريّة الآمنة لكن ذلك لا يعني أنهم لم يعاملوهم بقسوة مفرطة. يقول المؤرخ أميانوس مارسيلينوس إن المسؤولين الرّومان وصلوا في قسوتهم حد إجبارهم القوط المتضورين جوعًا على بيع أطفالهم ليكونوا عبيدًا مقابل إطعامهم لحوم الكلاب. وهكذا خلق الرّومان لأنفسهم عدوًا خطيرًا داخل حدود إمبراطوريتهم، فلما بلغ الاضطهاد حدًا يصعب تحمله فثار القوط حتى هزموا الجيش الرّوماني وقتلوا الامبراطور الشّرقي فالينس في معركة أدريانابول سنة 378 م، أمّا الرّومان المصعوقون فقد فاوضوا لأجل سلام مهلهل مع البرابرة.
لم تكد سنة 410 تحل حتى انحلت الهدنة إذ تحرك الملك القوطي ألاريك غربًا واحتل روما، وبسبب ضعف الامبراطوريّة الغربية استطاعت القبائل الجرمانية كالفندال والساكسون عبور الحدود واحتلال بريطانيا وإسبانيا وشمال أفريقيا.
7- المسيحية وفقدان القيم التقليديّة
كان انحطاط روما مترافقًا مع انتشار المسيحيّة، ورأى بعض الدّارسين أن صعود الإيمان الجديد ساهم في سقوط الامبراطوريّة.
صدر -سنة 313- مرسوم ميلان الذي قنن المسيحيّة التي ما لبثت أن أصبحت دين الدّولة الرّسميّ سنة 380، وأنهت هذه القرارات اضطهادًا نال المسيحيين قرونًا طوالًا لكنها ربما فتتت نظام القيم التقليديّة الرّوماني أيضًا، إذ حلت المسيحيّة محل الدّيانة التّعدديّة الرّومانيّة التي قدست الامبراطور واهتمت بعظمة الدولة، فلما أتت المسيحيّة ركزت على عظمة الإله الواحد، وفي الوقت نفسه ، تدخل البابوات وقادة الكنيسة في شؤون السياسة فأضافوا مزيدًا من التعقيد على الحكم([23]).
أعظم مناصري هذه النظرية هو المؤرخ إدوارد غيبون (القرن 18 م)، أما منتقدوها فكثيرون. وربما ساهم انتشار المسيحيّة مساهمةً ضئيلة في تقويض الفضيلة المدنية الرّومانيّة، إلا أنّ معظم الباحثين اليوم يرون أنّ تأثير ذلك في سقوط الامبراطوريّة لا يُقارن بتأثير العوامل العسكرية والاقتصاديّة والإداريّة.
8- إضعاف الجحافل العسكرية الرّومانيّة
حسد العالم القديم روما على جيشها خلال معظم تاريخها، لكن طبيعة جحافلها -التي كانت يومًا مهابة- بدأت بالتغير في حقبة انحدار الامبراطوريّة، إذ لم يعد باستطاعة الأباطرة -مثل ديوكلتيانوس وقسطنطين- تجنيد الأعداد اللازمة من الجنود من المواطنين الرّومان فلجؤوا إلى تجنيد المرتزقة الأجانب لدعم جيوشهم. أصبحت الرتب العسكرية ممتلئة بالقوط الجرمان والبرابرة الآخرين أخيرًا حتى استعمل الرّومان كلمة «بربري» للدلالة على الجندي، في حين أثبت هؤلاء الجنود الجرمان كفاءتهم في القتال مع انعدام ولائهم للامبراطوريّة، أما تعطش ضباطهم للسلطة فجعلهم كثيرًا ما ينقلبون على رؤسائهم الرّومان. في الواقع، كان كثير من البرابرة الذين غزوا مدينة روما وأسقطوا الامبراطوريّة الغربية جنودًا خدموا في جحافل الجيش الرّوماني يومًا ما([24]).
الخاتمة
بعد أن استعرضنا في هذا البحث الامبراطورية الرومانية، ودخلنا في رحابها وجدناها واحدة من الحضارات الشّهيرة على مر العصور، تمتعت بالقوة والنفوذ والقدرة على القيادة، ما جعلها تتحكم في منطقة البحر الأبيض المتوسط بالكامل. ورأيناها كيف اشتهرت هذه الحضارة الرومانية بالآثار العريقة، تلك الآثار التي تركها الرومان لكي تكون ذكرى طيبة لأحفادهم في جميع دول العالم، فقد كانت تلك الآثار ذات طابع كلاسيكي متفرد، وهذا ما جعلها محط أنظار العالم ومركزًا مهمًا من مراكز السياحة في مختلف الدول التي حكمها الرومان، كما وجدها متميزة بفنها الواسع في مختلف المجالات، كما أنها كانت مصدر إلهام لكل من عزم على عمل بحث شامل عن الحضارة الرّومانيّة، وعلى الرّغم من الأزمات التي مرت بها الحضارة الرومانية على أصعدة مختلفة؛ إلا أن ملوك الرومان استطاعوا في كل مرة الخروج منتصرين من تلك الأزمات، مرت الإمبراطورية الرومانية بأزمات عديدة من غزو القبائل البربرية والمشكلات الاقتصادية إلى أن وجدنا أباطرتها يعانون من الإفراط في التوسع والإنفاق العسكري، كما استشرى الفساد الحكومي حتى ضعفت الجحافل العسكرية فيها، إلى أن وصلت إلى سقوط هذه الحضارة العريقة.
المصادر والمراجع
المصادر العربية
- أحمد غانم حافظ: الامبراطوريّة الرّومانيّة من النشأة إلى الانهيار، دار المعرفة الجامعية، 2007.
- ألكسندر بتري: تاريخ الرّومان وآدبهم وآثارهم، ترجمة عزيز، يوئيل يوسف (1977)، دار الكتب بغداد.
- حسين أحمد الشيخ، الرّومان، دراسات في تاريخ الحضارة القديمة (2)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004.
- سعيد عبد الفتاح عاشور: أوروبا العصور الوسطى، القاهرة، 1975، ج1.
- سهير إبراهيم نعينع: تاريخ مصر في العصر البيزنطي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004.
- سيد أحمد علي الناصري، تاريخ الامبراطوريّة الرّومانيّة السياسي والحضاري، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية.
- عزت زكي حامد قادوس: مدخل إلى علم الآثار اليونانية والرّومانيّة، دار الكتب، الإسكندرية، 2007.
- محمد السيد عبد الغني، تاريخ الرّومان حتى نهارية العصر الجمهوري، الجزء الأول، منذ نشأة روما حتى نهاية العصر الجمهوري المبكر 265 ق.م، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2005.
- محمد محمود الجريري: رؤية في سقوط الامبراطوريّة الرّومانيّة، دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1995.
- محمود سعيد عمران: مقالات في تاريخ مصر في العصر البيزنطي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004.
- مصطفى عبد الحميد العبادي: الامبراطوريّة الرّومانيّة، النظام الإمبراطوري ومصر الرّومانيّة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2006.
- نور الدين حاطوم وآخرون (1968)، موجز تاريخ الحضارة، مطبعة الكمال، دمشق.
المصدر الأجنبي
Jones A.H.M.: The Declint of the Ancient World, London, 1975.
الموقع الإلكتروني:
موقع: اليوم السابع: أعظم 5 إمبراطوريات عرفها الإنسان عبر التاريخ، www.yom7.com.
[1]– أستاذ مساعد في الجامعة اللّبنانيّة، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم التّاريخ الفرع الخامس.
[2]– عبد الغني، محمد السيد: تاريخ الرّومان حتى نهارية العصر الجمهوري، الجزء الأول، منذ نشأة روما حتى نهاية العصر الجمهوري المبكر 265 ق.م، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2005، ص44.
[3]– الناصري، سيد أحمد علي: تاريخ الإمبراطورية الرّومانيّة السياسي والحضاري، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، ص 20.
[4]– الجريري، محمد محمود: رؤية في سقوط الإمبراطورية الرّومانيّة، دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1995، ص 38.
[5]– Jones A.H.M.: The Declint of the Ancient World, London, 1975. P39.
[6]– موقع: اليوم السابع: أعظم 5 إمبراطوريات عرفها الإنسان عبر التاريخ، www.yom7.com.
[7]– Ancient Rome.
[8]– مصطفى عبد الحميد العبادي: الإمبراطورية الرّومانيّة، النظام الإمبراطوري ومصر الرّومانيّة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2006، ص 91.
[9]– what were main features Roman Empire.
[10]– قادوس، عزت زكي: مدخل إلى الآثار الرّومانيّة واليونانية، دار الكتب، الإسكندرية، 2007، ص 225 بتصرف.
[11]– قادوس، عزت زكي: مدخل إلى الآثار الرّومانيّة واليونانية، مرجع سابق، ص 200 بتصرف.
[12]– قادوس، عزت زكي حامد: مدخل إلى علم الآثار اليونانية والرّومانيّة، مرجع سابق، ص200.
[13]– قادوس، عزت زكي: مدخل إلى الآثار الرّومانيّة واليونانية، مرجع سابق، ص 211- 212 بتصرف.
[14]– حاطوم، نور الدين وآخرون (1968): موجز تاريخ الحضارة، مطبعة الكمال، دمشق، ص 663.
[15]– قادوس، عزت زكي: مدخل إلى الآثار الرّومانيّة واليونانية، مرجع سابق، ص396.
[16]– حافظ، أحمد غانم: الإمبراطورية الرّومانيّة من النشأة إلى الانهيار، دار المعرفة الجامعية، 2007، ص 54.
[17]– قادوس، عزت زكي: مدخل إلى الآثار الرّومانيّة واليونانية، مصدر سابق، ص158.
[18]– بتري، ألكسندر: تاريخ الرّومان وآدبهم وآثارهم، ترجمة عزيز، يوئيل يوسف (1977)، ، دار الكتب بغداد، ص85.
[19]– الشيخ، حسين أحمد: الرّومان، دراسات في تاريخ الحضارة القديمة (2)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص 60.
[20]– الجويري، محمد محمود: رؤية في سقوط الإمبراطورية الرّومانيّة، مرجع سابق، ص34.
[21]– عمران، محمود سعيد: مقالات في تاريخ مصر في العصر البيزنطي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص 50.
[22]– نعينع، سهير إبراهيم: تاريخ مصر في العصر البيزنطي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص 71.
[23]– حافظ، أحمد غانم: الإمبراطورية الرّومانيّة من النشأة إلى الانهيار، مرجع سابق، ص 96.
[24]– عاشور، سعيد عبد الفتاح: أوروبا العصور الوسطى، القاهرة، 1975، ج1، ص 26 وما بعدها.