فاعليّة صورة المرأة في التّشكيل الشّعريّ (قراءة في نصوص من الشّعر الجاهليّ)
أ.م. د. أمل حسن طاهر ([1])
مُلخص
يقوم البحث على تأويل صورة المرأة في بنية التشكيل الشّعريّ في نصوص مختارة من الشّعر الجاهلي من خلال ما تمنحه اللغة الحاضرة من اشارات وايحاءات ،فضلًا عما تؤديه التّجارب الذّاتيّة بوصفها بواعث مباشرة في الانتاج الإبداعيّ، فصورة المرأة هي اللافتة الخارجية التي ينبغي فهمها وتتبع دلالاتها؛ لأنّها تتشكّل من لغة خاصة تستوعب المعاناة النّفسيّة من جهة، وتعبّر عن أحوال وهيئات من جهة أُخرى، فيغدو التّعويض وسيلة الشّاعر التي تتناغم مع ما يبعثه الفقد الكامن في الذّات الإنسانيّة.ويفجر الشّاعر ماتحمله تلك الأوصاف من طاقة ليوازي بين واقعه النّفسيّ والفكري والاجتماعيّ عبر بنية المواقف، وما تحمله من عناصر ودلالات تتفاعل وتتآزر في ما بينها لتجسد صورة لا يمكن إغفالها في بناء التشكيل الشّعري في النّصوص.
Summary
The research is based on the interpretation of the image of women in the structure of poetic formation in selected texts of ignorant poetry through what the present language gives him references and references، as well as what self-experiments perform as direct motives in creative production، the image of women as an external sign that should be understood and follow their implications; Composed of a special language that accommodates the psychological suffering on the one hand، and expresses the conditions and bodies on the other hand، compensation becomes the means of the poet، which is in harmony with the inherent loss of human self، and the poet blows the capacity of those descriptions to match the psychological، intellectual and social reality The righteousness of the structure of attitudes، and what it carries elements and semantics interact with each other and are mutually supportive to embody the image can not be overlooked in the formation of poetic texts in the building.
مقدِّمة
من أبرز خصائص اللغة الشّعرية قدرتها على إضمار المعاني خلف إشارات ذي حضور فعّال في النصوص، ويتعيّن في كلّ قول اختيار الوسائل والأنواع الكلامية التي تتأثر بفكرة الذّات المتكلمة (القصد)، و تتجلى فيه العلاقة الذّاتية المقوّمة بشكل انفعاليّ للمتكلم بمضمون قوله الماديّ، فيغدو المضمون التّعبيريّ مختلفًا تبعًا لإختلاف الخطاب الكلاميّ وسياق القول. تنطوي الإشارات على مجمل التّفكير الإنسانيّ؛ لأنّ الإبداع غير منفصل عن الفكر والإحساس والوعي يعكس ظواهر الواقع، ليصبح الفكر متصلًا بالواقع يجسد صفات عالمه الواقعي ويعممها، ويوظفها لتلبية حاجات متعلقة بالذّات. تعتمد القراءة الثّقافية للنصّ الشّعري التركيز على القيم الجماليّة بوصفها إشارات أيديولوجيّة وفكريّة متشابكة، يغدو معها النص تشكيلًا ثقافيًّا في آن واحد، إذ تصبح مكونات الصورة الفنيّة أدوات مؤثرة تحفّز المتلقيّ إلى اكتناه المدلولات النّسقيّة في بنية النّص الشّعري. ولفاعليّة الصورة أثر في البنى النّصيّة، فضلًا عما تُحيل إليه من ترابط بين الفكر وضغوطات الواقع.
التّشكيل الصّوري وعلاقته بالتمثلات الذّهنيّة
تؤدي الصورة وظيفتها في اللغة القائمة على التكثيف وهي من النّاحية البنيويّة شموليّة ومن النّاحية الوظيفيّة تكثيفيّة (كوين، 145،1999)، فـ”الأشياء أو الموضوعات ليست سوى انطباعات أو أفكار لايمكن أن تتحقق في الوجود إلاّ على نحو ما، أيّ بوصفها تمثلات ذهنيّة. والأشياء ليست موجودة وجودًا مستقلًا بذاتها عن القوّة النّاطقة التي تدركها، بل إنّ وجودها مستفاد من هذه القوة” (أمين ،8،1967). “ويمرّ التّرابط القائم بين الصور والأفكار التي تعبرعنها بعمليات شاقة، لا نصل إليها بسهولة فهي إعادة انتاج عقليّة كبرى لتجربة عاطفيّة أو إدراكية غابرة”، والصّورة في العمليات الإبداعيّة “تذكر واعٍ أو استرجاع لمدرك حسيّ أو خبرة ذهنّية ومن أعمال الذّهن القيام بالتّصورات ومقارنة الأشياء ثم ربطها وترتيبها” (الدليمي،66،1990).
يعتمد هذا الرّبط على الرّموز والأشكال والعلاقات والمضامين والتّشكيلات التي تحمل خبرات الشّعوب الحضاريّ ورصيده، وتتصف بسماتها وهي نامية ومتجددة وديناميكيّة، وأبرز أهدافها تجسيد الإدراك الحسيّ للعالم لا لخلق تصورات عنه، وذلك من خلال دعوة المتلقيّ إلى التّبصر في المعطى البصريّ للنّص في غياب أيّ محفّز لتصّور غير بصريّ ، ففي عمليّة الخلق الفنيّ تحاول الأفكار الغاء التّناقض بين الأنشطة المتضادة من خلال عمليات المزج والتّوحيد ؛لأنّ الإبداع ينطلق من التّعارض القائم بين الأضداد، ثُمّ امتصاصه وتأليفه من جديد، وتلك ميزة الشّاعر الجاهليّ العبقريّ الذي استطاع الغاء التّناقضات التي تؤثر عليه سلبًا بإسقاطات ماديّة وروحيّة تُجسد توحّد الشّعور باللاشعور، وتمزج الحريّة والضرورة التي يقوم عليها كلّ فن من الفنون ، فضلًا عن علاقات التبادل بينهما.
تجسيد الصورة عبر الحلم والخيال
يجنح الأدب إلى الخيال لتجسيد الأفكار وتشكيل الصور ،فيربط الخيال بعالم الأحلام ، والرؤى البعيدة ، إذ إنّ “تحقيق الأحلام هو أمل البشريّة منذ فجر الحياة، وما عجز عنه الإنسان في الواقع سلط عليه الخيال ليحققه بالحلم “(عزام،14،1994).
وعليه فإنّ الحلم محاولة تعويضيّة تجاه تصدعات الذّات، فهو المجال الوحيد الذي تسلم فيه الذّات من القهرمن خلال التطهير، وهذا ما جعله اَليّة دفاعيّة لحفظ التّماسك الدّاخليّ للذّات، والمزج بين الشّعور واللاشّعور، فيغدو الحلم رغبة ممكنة ؛ لأنّ ما يسعى اليه الشّاعر يمثل صعوبة بالغة على أرض الواقع، فيُشكل ذلك الحلم أو الرّغبة ضمن بنية نصيّة تعتمد تكثيف الصور وتجميعها.
وقد دلت النّماذج الجماليّة التي صورها وأبدعها الشّاعر الجاهليّ لاسيما مع المرأة على أن ما يقدمه من رؤية خاصة متأثرًا برؤية شعراء عصره وبمجتمعه وبثقافة ذلك المجتمع. إذ ارتبطت صور المرأة بالجدل مع الواقع والحياة، فقد واجه الواقع بشعره، ثم عمد إلى مواجهة الضّرورة في الواقع ليحقق لنفسه وجودًا أجمل وحياة أعمق من تلك التي يعيشها، ويكابد مشاقها؛ لارتباطها بوعيه ووعيّ المجتمع. يكون إدراك الصّور الجماليّة على مرحلتين، الأولى: حسيّة، متمثلة بالألوان والأصوات، والثّانية: معرفيّة لما فيها من إدراك الحقيقة عبر التّفكير الحرّفي (الجمال المطلق). وقد حمل الشّاعر الجاهليّ في ذهنه عناصر كثيرة للجمال تمثلت بمجموعة القيم المتوارثة والقيم الثّقافيّة، فضلاً عما استمده من المحيط.
الصور الأنثوية وآثارها النّفسيّة
شكلّت المرأة ورموزها الأنثوية قوام الطبيعة والكون، فكأنها هي الطبيعة بعينها تأخذ منها مكوناتها الشّكليّة لتعطي صورة موحية تعتمد على اضمار رغبة ومحاولة لتحقيقها، فلا سبيل أمام الشّاعر إلا الحلم هربًا من الواقع الضاغط، والتّخلص من قهر الذّات، وإيجاد وسيلة للتّواصل مع الواقع ، يقول امرؤ القيس:
إذا التفتت نحوي تضوّع ريحُها نسيمَ الصَّبا جاءت بريّا القُرُنفُلِ
إذا قلتُ هاتي نَوِّليني تَمايلت عليّ هضيمَ الكشحِ ريّا المخلخَلِ
مُهفهفــــةٌ بيضاءُ غيرُ مفاضَــــة تــرائبُهـــا مصــقولــــــــــة كالسّجَنــجَلِ (امرؤ القيس،13-15)
يعتمد النّص فاعليّة الصّورة وسيلة لتشكيل بنيته الشّعرية من خلال تجسيد صور الأنوثة والاتكاء على المرئيّ والمحسوس في (تضوع ريحها، رّيا القرنقل، هضيم الكشح، مهفهفة، مصقولة). يكمن التّضاد بين الحضور الجماليّ المكتمل، وغياب الرّغبة التي يسعى إليها الشّاعر في ممارسة الحلم؛ لأنّ لاوجود لحلم بغير الحياة، وبالعودة إلى حياة الشّاعر نعرف أنّه كان “مفركًا لا تريده النّساء” (ابن قتيبة،،1982، 122) فيغدو تداعي الصور الجميلة وسيلة للتعويض من خلال الأفعال.
وفي قوله:
وبيضةِ خدرٍ لايُرام خِباؤُها تمتّعتُ من لهو بها غيرَمُعجلِ
تجاوزتُ أحراساً واهوالُ مَعشرٍ عليّ حِراصٍ لو يُشرّونَ مقتلي
فجئتُ وقد نضت لنومٍ ثيابَها لدى السّتر إلاّ لبسةِ المتفضلِ
خرجتُ بها تمشي تجرُّ وراءَنا على أَثَرَينا ذيلَ مِرطٍ مُرحّلِ*
يحاول الشّاعر تضخيم فعل الذّات ومنحها القوّة في الأفعال: (تجاوزت، تمتعت، جئت، خرجت) التي تمكنها من الاقتحام وافتعال المبادرة والمخاطرة، فضلًا عمّا أشارت إليه حركات الجسد في (التفتت، تمايلت) للدّلالة على بعث الحياة التي تضفي فيضًا من المشاعر الإيجابيّة الممزوجة بدلالات البياض والصفاء في قوله: (بيضة خدر) إشارة للرّاحة النّفسيّة والتبشير بالأمل الجميل والحلم المنتظر المعقود على معاني ولوج النّور والإشراق. وعليه فإنّ التّشكيل الصّوري القائم على البوح يشير إلى حركة داخليّة تحركها تيارات العجز، لتحيلها راية تبوح بالجمال. والتّعابير الحسيّة ليست مجرد وسيلة فنّية، بل هي اسقاطات على الأحلام المكبوتة التي لا تبوح بها النّصوص الشّعريّة، وتكتفي بالإشارات. تحاكي الصور الذهنيّة رأب الصدع بين الشّاعر وواقعه وصولًا إلى حالة من الكمال لايمكن ولوجها إلاّ في حالة متخيلة، إذ تحيل الصّور التّشكيليّة للشّعور على مواجهة قبح الواقع بعمل إبداعي يصل إلى أعلى مستويات الإدراك الجماليّ، لتحقيق بناء الذّات وتفاخرها بالانتصار على عوامل الاكتئاب والقهر، واللااعتراف بحقوقها في الوجود، وإقامة تواصلها مع الواقع ” ففي الحلم تنتفي عناصر النسبيّة وينتفي المنطق بعلاقاته المنتظمة ؛ لذلك يعمل الخيال على الإنفلات من حدود العقل، وكذلك من قبضة الواقع ورتابته إلى منطقة اللاشعور والحلم” (الديهاجي،85،2014).
ألم الوجود ولذة التّصوير الأنثويّ
تغدو المرأة عند الشّاعر الجاهليّ رمزًا للحياة نفسها، فيصبح موقفه منها يرمز إلى موقفه من الحياة كلها بما تُشكّله من متعة وبهجة ،كقول الأعشى :
أقبلتً امشي مشيةَ الـ خشيان ِ مُزوَرا جنابُه
وإذا غزالٌ احورُ الـ عينينِ يُعجِبُني لِعابُـه
حسنٌ مُقلّدُ حَليِـــــهِ والنّحرُ طيّبةُ مَلابُــه
غرّاءُ تبهجُ زولَـــه والكفُّ زيّنها خِضابُه
لو أنّ دونَ لقائـِها جَبَلا مزلّقةُ هضابُـــه
لنظرتُ أنّى مُرتَقا هُ وخيرُ مَسلِكه عقابُـه
لأتيتُها إنّ المُحب مُـكلّفٌ دنــسٌ ثِيابــــه
(الأعشى،28، د.ت)
يُشير الأعشى إلى دلالات الحركة الإيجابيّة من منطلق تصويري مرئيّ في الأفعال: (طرقت، أطفت، أقبلت، نظرت، أتيتها) ليضفي تجربته وذاته، ما يحقق الاختيار الذّهنيّ للوحته الحسيّة مع المكوّن النّفسيّ ؛ لأنّ الصورة تعبّر عن نفسيّة الشّاعر و تتشابه مع الصّور التي تتراءى في الأحلام، ودراستها مجتمعة يُعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهريّ، لما تشير اليه من عمل القوة الخالقة التي أججت روح الشّعر.
إنّ استنطاق النّص وحده القادر على الكشف عن الآليّة التي تتشكل بها الذّات من خلال منظومة العلاقات المتخيلة، ففاعليّة التّشكيل الصّوري متعلق بدلالات الحركة (بعث الحياة وتجددها)، وهو ما يحقق اللذة عند الشّاعر، أما اللون (غرّاء)، والضّوء الذي تبعثه الزّينة في قوله: (مقلّد حليه، النّحر طيبة مُلابه، والكفّ زينها خضابه )، فقد حملت دلالات الإغراء والغواية التي يعكسها الجمال المُدرك في تلك المواضع، وقد مثّل متع الحياة، فلا يجد الشّاعر ترددًا في الإقبال عليها واقتحام الصّعاب من أجل نيلها والتّلذذ بمغرياتها في قوله: (ولو أن دون لقائها جبلا).
وقد وفرّت اللغة الشّعرية مجالًا واسعًا لتوالد المعاني والدّلالات لتبقى لغة الخيال هي اللغة السّائدة في النّص، والمعاني الشّعرية مرتكزة على تلك السّياقات التي يوحي بها السّياق كله. وظف الشّاعر مخزونه الذّاتي المرتبط بمخزون مجتمعه ومتلقيه في إسقاط التّشكيل الصّوري على الرّموز فقد ارتبطت صورة الغزال في الشّعر الجاهليّ برمزية المرأة المثال في ملامح الحسّ الأنثويّ المثاليّ كالنّعومة والبياض والجمال. إذ إنّ ” شعريّة اللون تنبثق من منظومة علاقات يحتل الشّاعر مركزها باتجاه التّراث، والطبيعة، والعصر، واللغة، والأيديولوجيّة، ويُضحي صعبًا تغييب مفاتيح بعينها لاستجلاء فعاليات المحاور الدّلالية لجماليات اللون في الخطاب الشّعري “(عبيد،135،2010)، فيحمل المعنى المتخيل إشارات وأشياء محسوسة في الذّهن ؛ لأنّ ” الشّعر يخلّص الأشياء من أسر الواقع ويمنحها بهجة ًوجمالاً، ويصحح علاقة مبدعه بالعالم “(رومية،167،1981)، فينتفض الشّاعر على الألم الذي يعانيه في الحياة (وجوده) بمحاكاة الجمال التّخييليّ وتحقيق اللذة.
هكذا تغدو الصّور التّشكيليّة مرتبطة بتصورات فكريّة عميقة متزاحمة في عالم الأحلام واللاشعور، من أجل الفخر بالذّات الفردية التي تهتك الأعراف والقوانين فتُبيح كلّ شيء في طلب ملذاتها.
جماليات التّمثيل الشّعري بوصفها وسائل انتقام
يتخذ الشّاعر من الصور الأنثوية وسائلَ للتنفيس عن كروب الذّات، وذلك للتّعويض عن النّقص الذي يعانيه في واقعه، محاولاً إقامة التّوازن النّفسيّ مع المجتمع ، ومنه قول سُحيم:
كأنّ الثٌّريا عُلِقت فوق نَحرِها وجمرَ غضىً هبّت له الرِّيحُ ذاكيا
إذا اندفعت في ريطةٍ وخميصةٍ ولاثت بأعلى الرِّدفِ بُردا يمانيـا
تُريك غداةَ البينِ كفّاً ومعصَماً ووجهاً كدينــــــارِ الأعزةِ صــافيا
فما بيضةُ باتَ الظّليمُ يحُفُّها ويرفـــع عنها جُؤجُـــــــؤاً مُتجافيا
فيرفعُ عنهاوهي بيضاء طلة وقد واجهت قرنا من الشمس ضاحيا
(سحيم،18-21)
إنّ تفضيل الشّعراء اللون الأبيض في وصف الجسد الأنثوي لايقتصر على غلبة الاسمرار النّاجم عن طبيعة البيئة الصّحراوية حسب، فقد عُدّ هذا اللون رمزًا للسّرور والسّلام والصفاء، فضلًا عما يختزنه من معاني الهدوء والطمأنينة والاسترخاء (قادرة ،2018،53)؛ لذا يقتبس سحيم شعاع النّور الوّهاج نور انتصاره على ظلم الواقع له.إنّه نور المرأة الذي يستضيء به وسط ظلمة حياته التي يعيشها بسبب عقدة السّوداوية، وما تخلّف عنها من معاملة قاسية يفرضها المجتمع، إنّ ذلك النّور يُعيد للشّاعر توازنه، وإحساسه بالوجود، عبر خيالات اللاوعي.
يفرض الخيال تحطيم مادة الشّعور، ثُمّ إعادة خلقها وإبداعها من جديد، وذلك عبر خلق دنيا جديدة، فقد يألف المرء عالم الإدراك الحسيّ الذي يعيشه يوميًا، ولكنه يسعى دائمًا إلى مستوى أرفع وأعمق من الشّمولية، ولا يتحقق ذلك إلاّ بإيجاد التّداخل بين الصّور الحسيّة والمعنى الكامن في النفس.
عمد سحيم إلى تجسيد صور أنثويّة فاضحة مع النّساء محاولة للانتقام من أسياده، وثأرًا لكرامته المهدورة ، فكان هتك الأعراض والمجون معهنّ وفضح شرفهنّ، وسيلة لتحقيق الدّوافع الخفيّة وراء تلك التمثيلات التي ذكرها في شعره بتفصيلاتها الدقيقة ،ومنها قوله:
وبتنا وسادَانا إلى عَلجانةٍ وحقفٍ تهادَاهُ الرِّياحُ تهاديا
تُوسِّدُني كفّاً وتثني بِمعصمٍ عليّ وتحوي رِجلها من ورائيا
وهبّت لنا ريحُ الشّمالِ بقِرّةٍ ولا ثوبَ إلاّ بُردُها وردائيا
فما زال بُردي طيِّباً من ثيابها إلى الحولِ حتّى أنهج البُردُ باليا
سقتني على لوح ٍمن الماء شربةً سقاها بها الله الذِهاب الغواديا*
يقدم الشّاعر صورة تمثيليّة قائمة على الحركة في الأفعال (توسدني، هبت، سقتني) للدّلالة على الانتقال من حال إلى حال عبر التّحقق والإنجاز؛ لأنّه “لايستطيع الانتقام من أسياده بالقوّة، لكنّه يمتلك سلاحًا أمضى وأشدُّ إيلامًا، وهو هتك الأعراض وفضح الأستار” (كاظم،534،2004). و”العمل الفنيّ وجود خاص لا يقتصر على المماثل الماديّ، ولكن يستدعي دائمًا الخيال الذي يضفي الوجود على الموضوع ، وفي الوقت نفسه وجود بدليل مخالف للوجود الواقعيّ” (حلمي،46،د.ت)، وقد صبّ الشّاعر تفكيره على التقاط الصّور التي تحمل معاني الهتك والفضح؛ لانّ “التشكيل الحسيّ شعر صامت، والشّعر تشكيل صائت” (دوبري،37،د.ت)، وفاعليّة التّشكيل التمثيليّ تكمن في تلك الصّور الصائتة، وما تحمله من بنية فكريّة تحاكي الشّعور بالهوان والضعة ما جعل الذّات تعاني القهر والحرمان، لتغدو تلك الممارسات وسائل للانتقام، وحمولات لإثبات الوجود ومساواة الذّات بمن حولها. رورو
وعليه تتعلق فاعليّة التّشكيل الصّوري بقبح الواقع، ومعاناة الرقّ والعبوديّة وسواد اللون، ليغدو الشّاعر حالمًا بعالم جديد تمحى فيه الحواجز بينه وبين الآخرين.
صورة الجسد الأنثوي وأثرها في تبديد ظلمة النفس
يضفي الشّعراء الحسّ الجماليّ على الجسد الأنثوي ؛ لأنّ “الإحساس بالجميل عند الإنسان من حاجة النّفس البشريّة إلى ما يكمّل نقصّها، ويُثير سكونها ، ويغدو الموضوع جميلا تبعًا لقدرته على إثارة حِسّ من الإشباع والارتياح، وتعويض الفقد الكامن في الذّات الإنسانيّة ، ففي الحسّ الجماليّ تكون المعادلة بين طرفين أساسيين هما : الذّات الحساسة ، وموضوع الإحساس لديها “(قادرة ،203،2014)،كقول الشنفرى:
فدقّت وجلّت واسبكرّت وأُكمِلت فَلَو جُنّ إنسانٌ من الحُسنِ جُنّتِ
بريحانةٍ من بَطنِ حليَةَ نوّرت لها أرجٌ ماحولها غيرُ مُسنِتِ
مُصعلِكةٌ لا يقصُرُ السِّترُ دونها ولا تُرتجى للبيت ِ إن لم تُبيّتُ
(الشنفرى،33-35،1996)
بما أنّ الشّعر لغة تعبيريّة تأثيريّة في آن واحد، ونتاج وعيّ أكثر شمولية من المقصديّة، فإنّ اقتصاده يتميز بدقة أكثر في ترتيب ما يريد التّعبير عنه ، وهذا يعني أنّ بنيته الشّكليّة الكلية تتحدد انطلاقًا من البنية الجزئيّة التي تتعلق بالدّلالة العميقة للشّكل بوصفه تجسيدًا للوعي، ويتعيّن الوعي في شكل يحقق فاعليته لتحرير ذاته التي تكون نقيضًا للواقع ، فتغدو مهمة الشّاعر أن ينقل متلقيه إلى التّفاعل والتّواصل عبر توحيد ودمج وعيّ المتلقي بالوعي الشّعريّ، فيرسم صورة مضيئة وهاجّة للمرأة تعتمد حسن تقسيمه للجسد ، ليعوّض قتامة الواقع، ويلبي نوازعه النّفسيّة. وقد وفرت اللغة إمكانيّة التّعبير عن الرّغبة في الكمال، ففي أوصاف الليونة والخصوبة هناك دلالات عميقة تشير إلى التطلّع لخصوبة حياتية مفقودة. أمّا معاني الجمال فجاءت متواترة في الأفعال (دقت، جلّت، اسبكرت، أُكملت ) لتدل على العطش النّفسيّ لاحتضان تلك العناصر عبر التعويض.
ويمزج الشّنفرى الماديّ بالمعنويّ عبر تجلي الإشراق في الألفاظ (ريحانة نورت)، فذات الشّاعر تُدرك النّور والإشراق الدّاخلي الذي قادها إلى رؤية النّور الخارجيّ والسعي إليه. إنّ القدرة على التّحكم في الطاقة النّفسيّة السّلبية (الفقر بالنّسبة إلى الشنفرى) يجعل بناء الشّخصيّة يتخذ أشكالًا وسمات متميزة لينشيء سلوكًا بديلًا للدّوافع التي تجد معارضة شديدة من الواقع ؛ لذا فإنّ الحل يكون ب ” تجاوز معطيات الواقع وإطلاق العنان للدافع للتعبير عن نفسه بشكل رمزيّ من دون اكتراث للواقع وقيمه وقوانينه الأخلاقيّة ” (عيد،د.ت،8)، فيغدو تحقيق الرّغبات جوهرًا للنّشاط السّايكولوجي في الحلم، ليسمح للذات الافصاح عن نفسها عبر الهروب ، وبذا يتسنى إدراك العناصر والغايات التي تخضع لها الذّات في اللاشعور الكامن في النشاط السايكولوجيّ.
وتتضح فاعليّة خيال الشّاعر في تحويل المسموع إلى مرئي، وهذا متوقف على الصور المحسوسة في رسم الصور الذّهنيّة التي يغدو معها التّخييل نافذًا إلى جوهر الشّعر الخالص، وهذا ما نؤول به أبيات تأبط شرًا:
بِحليلة ِ البَجَليّ بِتُ من لَيلها بين الإزارِ وكشحِها ثُمّ الصقِ
بأنيسةٍ طُويَت على مَطويّها طيَّ الحِمالةِ أو كطيّ المِنطَقِ
فإذا تقومُ فصَعدةٌ في رَملةٍ لَبَدَت بِريّقِ ديمةٍ لــم تُغــدِقِ
وإذا تَجِيءُ تَسحَبُ خِلتَها كالأيم أصعدَ في كثيبٍ يرتَقي
(تأبط شرا،145-146،1984)
يميل الشّاعر إلى استعمال دلالات الحركة المفعمة بالحياة التي يحلم بارتقائها، وذلك في الألفاظ (تقوم، لبدت، تغدق، تجيء، تسحب، يرتقي).تُساير البنية الفكريّة ” الأساس التّصوري والخصائص اللاواقعيّة لمواضيعها، وهي بنية تقدم نفسها بكونها تنقل بدقة محتوى الفكر التّأمليّ وتصوره الرئيس بينما تقوم بتغييب القبح ، فمفاتن المرأة هي مفاتن الحياة وجمالها ونورها هو نور الحياة الذي يحلم به الشّاعر لتبديد ظلمة النفس ” (جهاد، 86،2007 -87).وقد أشارت لفظة (الطيّ) التي تكررت أربع مرات في البيت الثّاني إلى دلالات نفسيّة مكبوتة متعلقة بذات منكسرة تحلم بالاستقامة والعدالة، فضلًا عما حملته لفظة (بريق ديمة) من دلالات الإشراق والأمل التي يحملها البرق فرحة وبهجة لمسايرة الواقع ؛ لأنّ الشّاعر يحاول اللحاق بالممكن القابل للتّحويل والتّغيير ضمن رؤية جماليّة تضخم شأن الذّات لمواجهة قبح واقعها في سبيل العدالة، ورفض الهوان ضمن عالم تخييلي مختلف ومفتعل من قبل اللاشعور.
ونظرًا لما يتعرّض له الشّاعر من حياة بيئيّة قاسيّة، فقد غدا ينشد ضديدها في قوله (كالأيم أصعد في كثيب يرتقي ) عبر صورة حركية مجسدة دلّت على الليونة، ولعلّ ذلك البياض يسود واقعه، ويعوّض ما افتقده فيه. يظل تشكيل الصورة مرتبط مع الفكر طيلة العملية الإبداعيّة وصولًا إلى القصديّة التي يعكسها التّفكير الخالص على مستوى التّأمل للصور فيما يشكله الخيال بوصفه عنصرًا لإنقاذ الذّات من الواقع. ويتخذ تأبط شرًا من ذلك الجسد الأنثويّ وسيلة تعويضيّة لبعث مكامن الحياة عبر الليونة والإشراق والنّور ، وبذا نحن نخالف ما ذهب اليه د.عز الدين إسماعيل في قوله :” إنّ العربيّ القديم لم يفكر في الجمال، وإن كان قد انفعل بصوره، وهو لم ينفعل بكل صوره، وإنما انفعل بصوره الحسيّة، بخاصة ما استُقبل بالعين فكان رائعًا ، أو بالفم فكان لذيذًا، أو باليد فكان ناعمًا ” (اسماعيل،1974،132-133)؛ لأنّنا نجد أن المسألة تختلف فقد غدا الإحساس بالجمال وإدراكه وسيلة تعويضيّة عن نقصٍ مهم في ركن من أركان الوجود، ولم يجد ما يُضفي عليه الكمال والجمال إلاّ في تكامل الجسد الأنثويّ ومثاليته التي فتحت أمامه الآفاق ليخوض في موضوعات قهره ومعاناته لنفسية.
حمل البياض والصفاء دلالات النّور والإشراق لولوج العتمة النّفسيّة التي تشيع في أعماق الشّاعر، فغدت حلمه ورغبته ، كقول أبي الطمحان القينيّ:
وبيضاءَ مثلِ الرّيم ِ قد كنتُ خِدنَها
أرَبَت في نعيمٍ جِيدُها غير عاطلِ (الجبوري،217،1988)
يضفي الشّاعر قيمة جماليّة على الجسد الأنثوي من خلال تشكيل صور البياض من جهة، والتّرف من جهة أخرى ، وذلك في الألفاظ: (بيضاء، جيدها غير عاطل)، فالبياض يوحي بإشراق الوجود بالنّسبة إلى الشّاعر، أمّا قوله:(مثل الرّيم ) فالصورة تشير إلى صفاتها القدسيّة التي تعود إلى معتقدات العرب الدّينيّة والاسطوريّة، ويدلّ في ذلك كلّه على رمز الألفة المفقودة من حياة الشّاعر. فذلك الجمال بعث في نفس الشّاعر التّوق إلى الإشراق والألق والإلفة، أمّا أبو كبير الهذليّ فقد وجد في ذلك الجسد المُشع بياضًا وسيلة لمحوّ الزمان الأسود الذي أخذ شبابه، إذ يقول:
وبياضُ وجهٍ لم تَحُل أسرارُهُ مِثلُ الوذِيلَةِ أو كسيفِ الأنضَرِ
( السكري،102،د.ت)
فالجمال الذي عكسته صورة ذلك الوجه لايختلف عن لون سبيكة من الفضة أو لون السّيف، والجسد يمارس فاعليته عبر الصورة المتخيّلة في الصّقل والتّناسق والحدّة. إنّ ذلك التّشكيل الصوريّ، وما يحويه من جمال ورِقّة وعذوبة يشي بالنّقص الذي تسعى الذّات لإكماله لتشرق ويحلّ النور محلّ الظلمة، لأنّ وراء كلّ موصوف حسّ نفسي مُدرك ينشد قيم بالغة الأثر في النّفس، يقول عنترة العبسيّ:
ولولا فتاةٌ في الخيام مقيمة لما اخترتُ قُربَ الدّار يوماً على البُعدِ
أشارت إليها الشمسُ عند غُروبها تقول ُ إذااسوَدّ الدُجى فاطِلعي بعدي
وقال لها البدرُ المُنيرُ ألا اسفري فإنكِ مِثلي في الكمال وفي السَعدِ
فَولّت حياءً ثُمّ أرخت لِثامَها وقد نَثَرت من خدّها رَطِبَ الوَردِ
وسلّت حُساما من سواجي جُفونها كسيف أبيها القاطع المُرهف الحَدِّ
(عنترة ،189،1964)
يحاول الشّاعر الخروج من أزمة الذّات وما تعانيه من ظلم المجتمع بسبب السّواد ؛ لذا يوظف دلالات الألفاظ :(اطلعي، البدر، المنير، اسفري، أرخت، نثرت، سلت ) لولوج الانعتاق من تلك الظلمة النّفسيّة، والارتباط بالضياء والتفاؤل. والتّعبير عن كوامن النّفس من خلال ماتوحي به الإشارات التي يتفنن في انتقائها وفقًا للحالة الشّعورية. وكان عنترة موفقًا في اختيار الصّور التي رسمها للغوص في أعماق نفسٍ متألمة جرّاء القساوة والظلم، للتعبير عن الأزمة من خلال معجم لغويّ ثريّ الدلالات.
وهكذا فسحت اللغة المجال واسعًا أمام الشّاعر ليتوسل بدلالات لغوية تُسهم في حمل المعنى على أكثر من وجه، وبذا فهي تُضيء عالم الشّاعر وجوانبه النّفسيّة وتصوراته الفكريّة التي يسقطها على التشكيل الصوري للنموذج الأنثوي لترسيخ الحضور الفعليّ.
جمالية التّشكيل الصوريّ الأنثويّ وعلاقته بالوجود
إنّ ما تحمله رمزية المرأة البيضاء في الشّعر الجاهلي من معانٍ تستوعب انفعالات الشّاعر، ورغباته في تجاوز أزمات الحياة مُزِجَت أيضًا بإبراز الخصب بوصفه ملمحًا وجوديًّا يناقض الجدب الماثل في ذهنه لحظة الإبداع ، فكان البياض وسيلته إلى مواجهة الإحساس بالفناء، وهي نظرة وجودية تشير إلى إثبات ذاته، إذ إنّ الكائن البشريّ بطبيعته مفطور على امتلاك الكمال وتقدّر جماليّة الشيء بقربه من الكمال، ويقدّر خصبه بما يضفيه من إحساس بالوجود (قادرة،123،2018). يقول طرفة بن العبد :
وتُبسمُ عن ألمى كأنّ منورّاً تخلّل حُرّ الرّملِ دِعصٌ له ندي
سَقته إياةُ الشمس إلاّ لِثاتهِ أُســفَ ولم تكدِم عليــــه بإثمــد
ووجهٌ كأنّ الشمس حلّت رِداءَها عليه نقـــيُّ اللّــــونِ لــم يتخَدّدِ
(طرفة بن العبد،26،2000)
يعتمد التّشكيل الصّوري على إظهار النّور والإشراق الذي يؤكد العلاقة المترابطة بين المرأة والشّمس، وما تحمله تلك العلاقة من إشارة للحياة. فالنّور ملمح الحياة في قوله: (تبسم عن ألمى كأن منورًا، وجه كأن الشّمس، سقته إياة الشّمس إلاّ لثاته).
فالنور ملمح الحياة في قوله (تبسم عن ألمى كأن منورا ، وجه كأن الشمس ، سقته إياة الشمس إلاّ لثاته). يعود تصوير طرفة لمبسم المرأة وتشبيهه بالنّور الوضّاء إلى دلالات نفسيّة عميقة تسعى إلى ولوج الألق والنور نظرًا لما يعانيه من سلب الحقوق، وما أثاره من ظلمة النّفس، فالبياض أمل الشّاعر بالخروج من ظلمته النّفسيّة، والالتحاق بذلك الألق المشرق.
وعليه تغدو المرأة وسيلة لتعويض الاستلاب الوجوديّ لمكامن الحياة لتأكيد الرغبة في التّخلص من تلك السّوداوية، وقلبها إيجابًا من النّور والضياء، فجاء استحضار المرأة تعبيرًا عن الحاجة إلى الصفاء النّفسيّ ؛ لأنّ الحس والانفعال من البواعث المهمّة التي أتاحت لطرفة الاتصال بالطبيعة ومناجاتها وتأملها، ف” الاستجابة لعناصر الطبيعة وتمثيلها استجابة انفعال وتفاعل تمنح النّص معطياته الدّلاليّة من خلال التّداخل الانفعاليّ بين تلك العناصر والشّاعر “(شمس،93،2008). كذلك فإنّ ألفاظ العذوبة واللذة والبرودة تعبرعن ذلك الانفعال والتأثر، إذ تعود إلى الحالة الشعورية الآنية ، ومنه قوله :
فله منها على أحيانها صفوة الراح بملذوذ حصر
أن تنوله فقد تمنعه وتربه النجم يجري بالظهر
ظل في عسكره من حبها ونأت شحط مزار المذكر
فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتكر
بادن تجلو إذا ما ابتسمت عن شتيتٍ كأقاحي الرمل غر
(طرفة بن العبد،2000،-50-51)
تشير الألفاظ (تمنعه، نأت، شطت ) إلى الحرمان العاطفيّ الباعث الأساس في إبداع الشّاعر، وتلك الصّورة الأولى التي وردت بالإيحاء والدّلالة على الحرمان، أمّا الصّورة الثّانية فقد تشكّلت في الألفاظ (بملذوذ، تنوله، يجري، تجلو، غر ) وتشير إلى الانتقال من حال إلى حال أيّ من السّلب إلى الإيجاب، ولكن ذلك الإيجاب مشروط بحلمٍ استحال تحققه في الواقع ؛ لأنّ الشّاعر لا يصف من أجل الوصف فقط ، بل يعبر عن أحاسيس ومشاعر متأثرة بتلك الصور التّشكيليّة نظرًا لإنعكاس جماليتها في النّفس، وارتباطها بعواطف الحبّ والحرمان. إنّ توزيع الصّور الجزئيّة على لوحة الموقف يعتمد التناسق والتّلاحم، لخلق صورة زاخرة بالمعنى المتأتي مما تختزنه تلك الجزئيات بوصفها وحدة من وحدات المعنى، وهذا ما تتضمنه الأبيات الشّعرية التي رسمها الحادرة لتلك المرأة وفقًا لتشكيل صوري متكامل، كقول الحادرة:
وإذا تنازعُك الحديثَ رأيتَها حسناً تبسُّمُها لذيذَ المَكرعِ
كغريضِ ساريةٍ أدَرَّتهُ الصَّبا من ماءِ اسجَرَ طَيِّب المُستنقَعِ
لعِب السُّيولُ بِهِ فأصبح َماؤُهُ غَللاّ تقطّع في أصولِ الخِروَعِ
(الحادرة،306،د.ت)
يميل الشّاعر إلى إدراك الجمال عبر حواس مختلفة، فعذوبة الصوت قد أطربت حاسة السّمع، وحسن التبسم يُدرك بالبصر. انتزع الحادرة تلك الصور من خلال تشكيل لوحة فنيّة لتخفيف متاعب الحياة الصّحراويّة المتمثلة بقلة الماء والمطر، بما ينسجم مع طبيعة الواقع المعروفة بمناخها وقحطها، فكان لها أبعاد سلبية أظلمت بها النّفس ، ما حدا بالشّاعر إلى البحث عن ذاته في لوحة جماليّة يمزج فيها مكونات تلك الطبيعة بصورٍ استعاريّة.
تنطوي صورة السّحابة في ظاهرها على رموز الخصب؛ لما تحمله من تأسيس للوجود يفجر الحياة من قلب الجدب. أما الألفاظ : (كغريض سارية، لعب، أدرته ) فقد أشارت إلى صور حركيّة ينشأ في إثرها نسق الوجود؛ لأنّها اعتمدت فكرة الخصب والنّماء المناهضة لفكرة الجفاف والقحل، ليجعل الطبيعة تنعم بالماء ويكثر فيها الخصب والشّجر كنقيض للطبيعة الصّحراوية التي عانى حرمانها وقلّة مائها ، ما أثر في نفس الشّاعر وانعكس هذا التّأثير على إحساسه الجمالي من خلال شعوره بعذوبة الحبيبة.
- الخاتمة
- أفاض شعراء الجاهلّية في تصوير المرأة بمجمل أحوالها هربًا من الإحساس بالسّلبية، ومحاولة لبلوغ المتعة والبهجة.
- خضعت فاعليّة الصور في التّشكيل الشّعري لدلالات متماثلة، ومتقاربة تحاكي المخزون الثقافي في اللاوعي الإنسانيّ.
- تنوعت الصّور الشّعرية تبعا لتنوع التجارب وعمقها النّفسيّ ؛ لأنّ الشّعر يمثل حضورًا لأشياء في ظل غياب أشياء أخرى
- ارتبط التّشكيل الشّعري بأبعاد اسطوريّة واجتماعيّة غدت فيها صورة المرأة معشوقة وليست عاشقة من خلال توظيف لتلك النماذج.
- إنّ حضور الصور الجماليّة وتمثلات أفعال المغامرة والمخاطرة والاقتحام يشير إلى قبح الواقع الذي يتحكم بالتّجربة، فيسعى الشّاعر إلى نقضه بالجمال لتحقيق الانتصار للذّات في نيل متعها وغاياتها في الحياة.
- كشفت تداعيات اللاوعي الشّعري عن الآمال والرّغبات عبر (عالم الأحلام ) لخلق التوازن بين الواقع والحلم ، فكان التعويض عملية تحويل ومعالجة عبر اسقاطات يفتعلها الخيال خدمة للمقصدية المنبثقة من حاجة الواقع.
المصادر والمراجع
1-اسماعيل،عز الدين ،الأسس الجماليةفي النقد العربي(عرض وتفسير ومقارنة)1974،دار الفكر العربي،ط3.
2-ابن قتيبة ،د.ت، الشّعر والشّعراء ، ، ت احمد محمد شاكر ، دار الحديث _القاهرة ، د.ت.
3-أمين ،عثمان ،1967رواد المثالية في الفلسفة الغربية ، عثمان أمين ، دار المعارف
4-الجبوري،يحيى،1988،قصائد جاهلية نادرة ، يحيى الجبوري ، مؤسسة الرسالة ، بيروت، ط2.
5-جهاد،هلال ،جماليات الشّعر العربي دراسة في فلسفة الجمال في الوعي الشّعري الجاهلي ، 2007،مركز دراسات الوحدة ، بيروت ، ط 1.
6-الدليمي ،سمير علي ،19990،الصّورة في التشكيل الشّعري ، سمير علي الدليمي ، دار الشؤون الثقافية العامة ،العراق_ط1.
7-دوبري،ريجيس، د.ت ،حياة الصورة وموتها ، ريجيس دوبري ، ت فريد الزاهي ، أفريقيا الشرق للنشر والتوزيع.
8-الديهاجي، محمد،2014،الخيال وشعريات المتخيل بين الوعي والشّعرية العربية ، محمد الديهاجي ، منشورات المكتب المركزي بفاس ، مطبعة وراقة بلال ،ط1،.
9-رومية،وهب،الرحلة في القصيدة الجاهلية،1981،مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر ،ط3.
10-السكري،الحسن بن الحسين،د.ت،شرح أشعار الهذليين ، ت عبد الستار أحمد فرّاج ، دار العروبة ، مطبعة المدني ، القاهرة.
11-شمس،حسن جبار محمد، 2008،ملامح الرمز في الغزل العربي القديم ، دار السياب للطباعة والنشر ، ط1.
12-الصفراني، محمد ،التشكيل البصري في الشّعر العربي الحديث، 2008، المركز الثقافي العربي ، ط1.
13-عبيد،كلود،جمالية الصورة في جدلية العلاقة بين الفن التشكيلي والشّعر ، 2010 ، مجد للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط1.
14-عزام،محمد، 1994، الخيال العلمي في الادب ، محمد عزام ، دار طلاس للنشر والتوزيع ، دمشق ، ط1.
15-عيد، صلاح ،التخييل نظرية الشّعر العربي ، د.ت ،مكتبة الاداب ،القاهرة.
16-قادرة ،غيثاء ،جدلية العدم والوجود قراءة في مضمرات الخطاب الشّعري الجاهلي ، 2018، كيوان للطباعة والنشر ، دمشق ،ط1.
17-قادرة ،غيثاء،2014،لغة الجسد في أ شعار الصعاليك تجليات النفس وأثرها في صورة الجسد ، غيثاء قادرة ،اتحاد الكتاب العرب ، دمشق.
18-كاظم ،نادر، تمثيلات الاخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط ، 2004 ، دار فارس للنشر والتوزيع ، ط1.
19-كوين،جون ،1999،النظرية الشّعرية بناء لغة الشّعر ، جون كوين، ت احمد درويش ،دار غريب القاهرة.
20-مطر،أميرة حلمي، د.ت،فلسفة الجمال ، أميرة حلمي مطر ، دار المعارف ، القاهرة.
الدواوين :
1-ديوان الاعشى ، ت عمر فاروق الطباع ،،دار القلم ،بيروت ،د.ت.
2-ديوان الشنفرى ،1996،ت اميل بديع يعقوب ،دار الكتاب العربي ،بيروت _ ط2.
3-ديوان امرىء القيس ،ت محمد ابو الفضل ابراهيم ،دار المعارف ، ط5 ،د.ت.
4-ديوان تأبط شرا ،1984،ت علي ذو الفقار شاكر ،دار الغرب الاسلامي ،ط 1.
5-ديوان سحيم ، 1950،ت عبد العزيز ميمني ،مطبعة دار الكتب المصرية _القاهرة.
6-ديوان شعر الحادرة،ت ناصر الدين الاسد ،مستل من مجلة معهد المخطوطات العربية ، مج 15 ،ج 2.
7-ديوان طرفة بن العبد شرح الاعلم الشنتمري ،2000،ت درية الخطيب ولطفي الصقال ،بيروت _لبنان ، ط1.
8-ديوان عنترة ،1964،ت محمد سعيد مولوي ،المكتب الاسلامي _القاهرة.
[1] – أستاذ مساعد في كلية الآداب، جامعة واسط، قسم اللغة العربية – aaldelphi@uowasit.edu.iq