الشعر في العصر العباسيّ
جهينا محمود المصري([1])
مقدمة
تطورت الأساليب الشّعريّة في العصر العباسيّ بسبب اطّلاع الشعراء على الثقافات الأجنبيّة التي وسّعت مداركهم، وزادت من معلوماتهم، إلى جانب تطوّر الحياة الحضاريّة. فنجد أن الشّعراء في هذا العصر، قد مالوا إلى الأساليب السّهلة والمفهومة المنسوجة من واقع الحياة، وابتعدوا عن الألفاظ الصّعبة التي قلّ استعمالها أو هجرت، واعتمدوا على المحسّنات البديعيّة، والتّجديد في الألفاظ تبعًا لتطوّر الأمور، حتى وصلت الحال عند مجموعة من الشّعراء إلى استخدام ألفاظ غير عربيّة في الشّعر. وعليه، يمكننا أن نقول إنّ مفهوم الأسلوب يعني الطريقة السّلوكيّة التي يعتمدها الشّاعر في شعره، وقد كان لكلّ شاعر أو مجموعة من الشّعراء تلك الطريقة التي عرفوا بها. لقد نظم شعراء الدّولة العباسيّة الأساليب الشّعريّة في ضوء حضارة الدولة وثقافتها، وطريقة تذوّقها للفنون؛ لذا جاء الأسلوب الشّعري أقرب ما يكون إلى الرقّة في النّسج، والدّقة في التّصوير؛ وشاعت في الحواشي ألوان من الزّخرفة اللفظيّة، والصنعة اللغويّة، إضافةً إلى النّغمة الموسيقيّة التي تحرك المشاعر والوجدان وكذلك تدبيج النثر. ولقد تعدّدت عوامل ازدهار الشّعر في العصر العباسيّ، ومنها ما يأتي:
– حب الخلفاء العباسيّين للشّعر، وتقديرهم للشّعراء، وقد ساهموا في تشجيع الشّعراء على نظم الأشعار وإنشادها، وأغدقوا الأموال والعطايا عليهم.
– الثقافة العالية التي كان يكتسبها خلفاء العصر العباسيّ، ولقد شارك بعض منهم في نظم الشّعر وتدبيج النثر، وأصبحت مجالس الخلفاء ملتقى الأدباء والشعراء.
– التّطور والتّقدم الحضاريّين في كلّ جانب من جوانب العصر العباسيّ، وقد تطورت التقاليد، والغناء، والطرب، والأدوات المستخدمة في الأكل، والشّرب، والفراش، والتّرف، وأدوات الزّينة وما إلى ذلك، وقد أدى هذا إلى تنوع موضوعات الشّعر في العصر العباسيّ ونظم الشّعر في موضوعات جديدة.
– الحرّيّة الواسعة التي دفعت الشّعراء إلى النظم في مواضيع متعددة بعيدة عن الخُلق، والدّين الإسلامي، والمتمثلة بالمجون وظهور تيّار الشّعوبيّة.
حول الشعر العباسيّ
العصر العباسيّ هو المدّة الزّمنيّة التي ظهرت فيها الدّولة العباسيّة على يد العباسيّين بعد سقوط الدولة الأمويّة، ويمتد نسبها إلى العباس عمّ الرّسول صلى الله عليه وسلم. قامت الدّولة العباسيّة العام 132هـ. على يد العباسيّين، وقد أعدّوا لها في رويّة وسرّيّة. وسقطت الدّولة العباسيّة على أيدي التّتار إثر سقوط بغداد العام 656هـ. تاريخيًّا، قُسِم العصر العباسيّ إلى أربع حِقب، وهي على النّحو الآتي:
– العصر العباسيّ الأوّل: امتدّ هذا العصر بين الأعوام (132 – 232هـ)، وتميز بسيادة الخلفاء الأقوياء من بني العبّاس، وهم الذين استطاعوا حسم النّزاع بين العرب والفرس لصالح العرب.
– العصر العبّاسيّ الثاني: امتدّ هذا العصر بين الأعوام (232 – 334هـ)، وتمثل بسيادة الأتراك على ساحة الخلافة.
– العصر العبّاسيّ الثالث: امتد ما بين (334-447هـ)، وفيه ظهر نفوذ البويهيّين على السّاحتين السياسيّة والعسكريّة.
– العصر العباسيّ الرّابع: بدأ هذا العصر في العام 447هـ، وانتهى مع سقوط بغداد العام 656هـ، وفي هذا العصر ظهر السّلاجقة على ساحة الخلافة.
عمومًا، نجد أن الشّعراء – في العصر العباسيّ – كلّما كانوا أكثر تحضّرًا مالوا إلى الزّينة واللطافة في كلّ شيء؛ فالطابع الحضريّ تغشاه الأناقة في كلّ جوانبه، وهو ما يدلّ على التطوّر في الأذواق، والرّقي في الأفكار، وهو السّبب الذي دفع بالشّعر إلى إيجاد أسلوب جديد تركن إليه النّفس لتستريح عند جماله وتناسقه ورقته. من أشهر شعراء العصر العباسيّ نذكر: المتنبّي، الأصمعيّ، أبو فراس الحمدانيّ، أبو العلاء المعرّيّ، أبو نوّاس، ابن الروميّ، ابن الفارض، أبو العتاهية وغيرهم من الشّعراء(2).
ويمكن إجمال موضوعات الشّعر في العصر العباسيّ بالآتي: – المدح/ – الفخر/ – الرثاء/ – الهجاء/ – الغزل/ – الخمريّات/ – الوصف/ – الشكوى/ – العتاب/ – الطرد (الصيد)/ – الاستعطاف.
أبو نواس: ( نموذج من العصر العباسيّ)
أبو نواس أو الحسن بن هانئ الحكميّ شاعر عربيّ، يعد من أشهر شعراء عصر الدّولة العباسيّة ومن كبار شعراء شعر الثورة التّجديديّة. يكنّى بأبي عليّ، وأبي نؤاس، والنّؤاسي. ولد في الأهواز سنة (145هـ/ 762م). ونشأ في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد واتصل بالبرامكة وآل الربيع ومدحهم، واتصل بالرّشيد والأمين. وقد توفّى في بغداد سنة (197هـ/ 813م). شعر أبي نواس صورة لنفسه، ولبيئته في ناحيتها المتحرّرة، فكان أبو نواس شاعر الثّورة والتّجديد، والتّصوير الفنيّ الرّائع، وشاعر خمرة غير مُنازَع. ثار أبو نؤاس على التّقاليد، ورأى في الخمرة شخصًا حيًّا يعشق، وإلهة تعبد وتكرم، فانقطع لها، وجعل حياته خمرة وسكرة في موكب من النّدمان والألحان، ينكر الحياة ويتنكّر لكل اقتصاد في تطلّب متع الحياة. وهو إلى ذلك شاعر الملاحظة الدقيقة والإحساس العنيف، وشاعر الهجران الذي يكثر من الشّكوى. وهكذا كان أبو نواس زعيم الشّعر الخمريّ عند العرب. ولكنه تاب عما كان فيه واتجه إلى الزّهد، وقد أنشد عددًا من الأشعار التي تدل على ذلك(3).
مولده
أبو نوّاس هو أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأوّل بن الصباح الحكميّ المذحجيّ، لأب دمشقيّ وأمّ أهوازيّة، وقد ولد في مدينة الأهواز من بلاد عربستان سنة (145هـ/ 762م)، وكانت كنيته الأولى عليّ، ثم غلبت عليه كنية ” أبو نوّاس”.
حياته
بعد هزيمة مروان في معركة الزاب الأعلى، انتقلت أسرة الشّاعر إلى البصرة، والطفل أبو نوّاس في الثانيّة من عمره، وقيل في السّادسة؛ وما لبث أن مات أبوه، فأسلمته أمه إلى الكتاب، ثم إلى عطّار يعمل عنده أجيرًا، يبري عيدان الطيب. وبعد أن انتقلت به أمّه من الأهواز إلى البصرة، آلت الخلافة إلى بني العباس، فانتقل من البصرة إلى الكوفة، ولم تذكر لنا كتب التاريخ سبب ذلك، غير أنه التقى والبة بن الحباب الأسديّ الكوفيّ أحد الشّعراء اللامعين في ميدان الخلاعة والتهتّك، فعني به واعتنى به أيّ عناية، إذ عمل على تأديبه وتخريجه. وصحب جماعة من الشّعراء الماجنين كمطيع بن إياس وحماد عجرد. ثم انتقل إلى بادية بني أسد فأقام فيهم سنة كاملة آخذًا اللغة من منابعها الأصيلة. ثم عاد إلى البصرة وتلقى العلم على يد علمائها أدباء وشعراء(4). ومن ثَمَّ تلقّفه شيخ من شيوخ اللغة والأدب والشّعر، هو خلف الأحمر، فأخذ عنه كثيرًا من علمه وأدبه، وكان له منه زاد ثقافيّ كبير حتى إنّه لم يسمح له بقول الشّعر حتى يحفظ جملة صالحة من أشعار العرب، ويقال: إنّه كلّما أعلن عن حفظه لما كلّفه به، كان خلف يطلب إليه نسيانها؛ وفي هذا لون رفيع من ألوان التّعليم، حتى لا يقع هذا الشّاعر الناشئ في ربقة من سبقه من الشّعراء المتقدمين. وقد روي عن أبي نوّاس قوله: “ما ظنكم برجل لم يقل الشّعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهنّ الخنساء وليلى الأخيليّة، فما ظنكم بالرجال؟”. ما كاد أبو نوّاس يبلغ الثلاثين، حتى ملك ناصية اللغة والأدب، وأطلّ على العلوم الإسلاميّة المتعدّدة، من فقه وحديث وغيرها، وبصر بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وما أن حصل لابن هاني هذا القدر من المعرفة حتى طمح ببصره إلى بغداد، عاصمة الخلافة، ومحط آمال الشّعراء. ولكن نظرةً سريعةً في ديوانه تجد غلبة الخمر عليه، للحدّ الذي جعله يفضّلها على كل شيء. لم يقتصر طلبه العلم على الشّعراء والأدب، بل كان يدرس الفقه والحديث والتفسير حتى قال فيه ابن المعتز في كتابه “طبقات الشّعراء”: “كان أبو نوّاس عالمًا فقيهًا عارفًا بالأحكام والفتاوى، بصيرًا بالاختلاف، صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه”(5).
شغف أبو نوّاس في البصرة بجارية تدعى جنان، وغناها بشعر كثير يعبّر عن عمق شعوره نحوها. وقد قصد أبو نواس بغداد وامتدح هارون الرّشيد ونال مكانةً مرموقةً لديه، ولكنّه، أي هارون الرّشيد – كان كثيرًا ما يحبسه عقابًا له على ما يورد في شعره من المباذل والمجون. وقد أطال الرّشيد حبسه حتّى عفا عنه بشفاعة من البرامكة، الذين كان أبو نؤاس قد اتصل بهم ومدحهم. ولعل صلته الوثيقة بهم هي التي دفعته إلى الفرار حين نكبهم الرّشيد في ما عُرف بنكبة البرامكة. ذهب أبو نوّاس إلى دمشق ثم إلى مصر متّجهًا إلى الفسطاط، عاصمتها يومذاك، واتصل بوالي الخراج فيها الخصيب بن عبد الحميد، فأحسن وفادته وغمره بالعطاء، فمدحه بقصائد مشهورة. توفى هارون الرشيد وخلفه ابنه الأمين، فعاد أبو نواس إلى بغداد متّصلًا به، فاتخذه الأمين نديمًا له يمدحه ويسمعه من طرائف شعره. غير أن سيرة أبي نواس ومجاهرته بمباذله جعلتا منادمته الأمين تشيع بين الناس. وفي نطاق الصّراع بين ابنيْ الرّشيد، الأمين والمأمون، كان خصوم الأمين يعيبون عليه اتّخاذ شاعر خليع نديمًا له، ويخطبون بذلك على المنابر، فيضطر الأمين إلى حبس شاعره. وكثيرًا ما كان يشفع الفضل بن الرّبيع له لدى الخليفة، فيخرجه من سجنه. وعندما توفى الأمين رثاه أبو نؤاس بقصائد تنمّ عن صدق عاطفته نحوه(6).
وفاته
لم يلبث أبو نؤاس أن توفي في العام (199هـ/ 813م)، قبل أن يدخل المأمون بغداد، واختلف في مكان وفاته أهي في السّجن أم في دار إسماعيل بن نوبخت. وقد اختلف كذلك في سبب وفاته، وقيل إن إسماعيل هذا قد سمّه تخلّصًا من سلاطة لسانه. وذكر الخطيب البغداديّ، صاحب کتاب “تاريخ بغداد”، في الجزء السابع، صفحة 448، أنّ الشاعر أبو نؤاس دفن في مقبرة الشونيزيّة في الجانب الغربيّ من بغداد عند تلٍ يسمّى تلّ اليهود، وهي مقبرة الشّيخ المعروفة حاليًّا(7).
قصة رؤية أصحابه له في المنام
وقد رأه بعض أصحابه في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس:
في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأبصار هي الذّهب السّبيك
على قضب الزّبرجد شاهدات بأنّ الله ليس له شريك
في رواية عنه أنه قال: غفر لي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي فجاؤوا فوجدوها برقعة في خطّه:
يا ربّ إن عظمت ذنوبيّ كثرة فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
أدعوك ربيّ كما أمرت تضرعًا فإذا ردّدت يدي فمن ذا يرحم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجيرُ المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم أني مسلم
نفسيته
كان أبو نوّاس ألعوبة في يد الأقدار، ميالًا إلى الدّعابة والفكاهة، وقد تكاثرت عقده النفسيّة، فانصرف إلى اللهو والمجون يرى فيهما دواء للحياة وآلامها، وطلب الخمرة بإلحاح يرى فيها حلًا لعقده وتفريجًا لأزماته العاطفيّة، فقاده هذا كله إلى فلسفة الإباحة والغفران.
شاعر الخمرة
شاعت الخمرة في عصر أبي نوّاس، وكثر شاربوها، واشتد الجدل بين الفقهاء في أمر تحريمها وتحليلها. وقد نشب الصّراع بين أهل القديم والجديد، وبين العرب والشّعوبيّة. فالشّعوبيّة راحت تنافس العرب في دينهم وتقاليدهم وأدبهم، وراحت تعزّز شأن الخمرة على أنّها عنصر من عناصر الحياة الجديدة، وراح شعراؤها يتعصّبون على العرب، ويقيمون الخمرة مقام الدّيار والطلول. فمال إليها أبو نوّاس في اندفاع وثورة، وشملت ثورته التّقاليد العربية والدينيّة، واصطبغت بالصبغة الشعوبيّة التي تريد الحطّ من شأن العرب في عقليّتهم وعاداتهم وأخلاقهم وثقافتهم ودينهم(8).
لم يحب أبو نوّاس الخمرة كما أحبّها الأعشى والأخطل وغيرهما، أي لم يعدُّها وسيلة إلى الفرحة والنّشوة فحسب، بل زاد على ذلك أنّه أحياها، ورأى فيها شخصًا حيًّا، لا على سبيل المجاز، بل على سبيل الحقيقة؛ فإنّه رأى فيها حياة عندما رآها تغلي، وتفور، وتضرم، وتأتلق ائتلاقًا، وتسري في الجسم سريانًا، وتبعث فيه الحياة والنّشاط، كما تصبغ العينين والخدّين بحمرة الدّم. فهي ذات روح يحاول أبو نوّاس أن يستلّها من الدنّ ليجعل في جسمه روحين. هي كائن أشبه بكائن عالم الأفلاك الذي جعله الفلاسفة فوق عالم المادّة وتحت عالم الرّوح، إذ هي مادة روحانية تتّصف باللطافة فيكاد الماء لا يمازجها، وهي نور متلألئ، بل هي معنى من معاني المفارقة، أي التي تغاير المادّة، حتى أصبحت من المعقولات بالفعل، تحس بها الرّوح، وتناجيها، وتتعشّقها لأنّها جمال من الجمالات الأفلاطونيّة(9).
لم يقف أبو نواس عند هذا الحدّ، بل رأى في الخمرة شيئًا من ألوهة، ورآها فوق النّار التي كان الفرس يعبدونها، ورآها فوق معبودات الناس أجمعين، حتى كادت تنسيه الله. وصفها بصفات الذّات الإلهيّة، وجعل لها آلاء وأسماء حسنى، وصفات تجلّ عن الشّبه والمثل، وهنا يبدو تأثّر أبي نواس بحركة الجدل والنزاع القائم في عصره بين علماء الكلام، قال:
أثنِ على الـخـمـر بآلائها وسمهـا أحـسـن أسمـائها
لا تجعل الماء لها قاهراً ولا تسلطها على مـائها
لما كانت الخمرة كذلك، فقد راح الشاعر يجلّها، ويبذل كل شيء في سبيلها، ونصب نفسه داعيًّا من دعاتها، وأقام لها طقوسًا لعبادتها وتكريمها، وسعى في إبعادها عن كل من لا يستحقّها، لأنّ التّقرب منها، عن غير استحقاق إثم فظيع(10).
شعوبية صارخة
فقد عملت شعوبيّة أبي نواس، إلى جانب هذا كلّه، ما عملته الشّعوبيّة العامة في المجتمع العباسيّ الأول، فأنهضته على تقاليد العرب في الشّعر، وحرّضته على التهجّم التّحقيري السّاخر، وعلى التنديد بما يراه جمودًا في الذّهنيّة العربيّة، وبداوة قبيحةً في عصر الحضارة والتقدميّة؛ وقد عمد إلى كثير من الألفاظ الأعجميّة للحطّ من شأن اللغة العربيّة. وعمد، أكثر ما عمد، إلى لغة التّخاطب وأساليبه للحطّ من كلاسيكيّة الأساليب العربية القديمة؛ وأخيرًا عمد إلى النّقد المباشر فهزئ بالوقوف على الأطلال، وبكاء الأحبة، ورأى أنّ الخمر الحيّة أجدر بالبكاء من الجيف البالية، وأن مجالس الشراب أجدر بأن توصف من الرسوم الدّارسة التي تنسج الرياح رمالها:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة كانت تحلّ بها هند وأسماء
حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها وأن تروح عليها الإبل والشّاء
ولا تأخذ عن الأعراب لهوًا ولا عيشًا فعيشهم جديب(11)
وهكذا، يتجلّى لنا أنّ أبا نواس رجل تفكير يدلي بآرائه في صراحة وجرأة، ورجل نقاش وجدل يتسلح بسلاح الأئمّة لكي يبرّر موقفه الشاذّ من الحياة، ويقرع الحجة بالحجة، في لباقةٍ ومهارة، لكي يبدو لجماهير الشّعب أنّه لا يسير في طريق الضلال، فيخفي، تحت ستار الجدل، تلك الميول الجامحة التي تخضع العقل لمنطقها، وإن كان العقل – في معنى آخر – يؤمن بالله ويتنكّر في أعماقه لأعمال الشذوذ الإنسانيّ التي يغرق في عبابها الإنسان العاقل.
شاعر الغزل
كان أبو نوّاس في غزله نزاعًا إلى المجاهرة بالفسق، وبلغ القمة في لطف الأداء، وعذبة الانسجام. فحياة أبي نوّاس وشعره الغزلي متلاصقان متمازجان، وما غزله إلا عبارة عن اندفاعه وراء الحياة؛ وقد أراد أن يحيا حياة مليئة، كاملة، حياة المتعة والسّعة، تلك الحياة الحرّة في تنوّعها وخصبها؛ فنادم العظماء، ورافق الشطار والشّذاذ، وعاشر الخمارين، وتقلّب مع كلّ حال مقتنصًا الفرص للهو، والمجون، والمرح. وقد تتبع الجمال حيثما راه، تتبّعه بنهم، معرضًا عن كلّ جمود أو تقليد، وتتبّعه بذائقة مرهفة، وأراد أن يكون ذلك جهرًا في غير ما تستّر ولا اقتصاد، بل أحبّ الافتضاح والتهتّك.
كان أبو نوّاس مغرمًا باستيفاء اللذّة واستقصاء المتعة، وقد نظر إلى تعدّد أبوابهما، وإذا به يجدهما في الخمر والنّساء، والغلمان، يجدهما في تأنق الغلاميّات، وعلى أوتار القينات، وإذ شعره الغزليّ يدور حول النّساء كما يدور حول الغلمان(12).
شاعر المطاردات
لقد أصبح الطّرد مع أبي نواس فنًا مستقلًا يودعه أوصاف ما يتوسّل به للصيد من حيوانٍ وأدوات، وأوصاف مطاردات الوحوش البرّيّة وما إلى ذلك، وكان معه هذا النوع حافلاً بالدقّة والإبداع(13).
شاعر المدح
مدحه تقليديّ متين السّبك رائع الأسلوب، فلقد نظم أبو نوّاس في المدح على عادة الأقدمين؛ وقد أضطر إلى مجاراتهم في اختيار البحور الجليلة، ولزوم جانب الترصّن، والافتتاح بالغزل، ووصف الإبل وما إلى ذلك. وما ذلك إلا إرضاءً لذوي السلطان وللتقرب منهم. وقد برع أبو نوّاس في هذا الشّعر التقليديّ براعة كبرى وإن تكلفه تكلفًا، فجارى أكابر شعراء المدح في متانة السّبك وروعة الأسلوب، ولكنّه لم يأت فيه بجديد.
شاعر الزّهد
في شعره الزهديّ المتأخّر، صدق ورقّة وعذوبة مؤثرة .
دیوانه
لأبي نواس ديوان شعر كبير، عني بجمعه كثير من الأدباء، وطبع عدة مرات في مصر ولبنان. ومن طبعاته الأخيرة طبعة دار الكتاب العربيّ ببيروت، قدّم له أحمد عبد المجيد الغزاليّ بدراسةٍ لعصر أبي نوّاس وبيئته وشعره، وقام بتحقيق الديوان وضبطه وشرحه وتذييله بفهرسٍ هجائيّ للقصائد والمقطوعات التي انطوى عليها. وهذا الدّيوان يقسم إلى ثمانية أقسام: الخمريات، الغزل، المديح، الهجاء، الرثاء، العتاب، الزهد والطرد. لقد جمع ديوان أبي نواس كثيرون منهم الصولي المتوفّى العام 338 هجري (946م) الذي جمعه في عشرة فصول. وحمزة بن الحسن الأصفهاني، ونسخة هذا الأخير أكثر سعة، وأقل تحقيقًا، وقد جمعها المهلهل بن يموت بن مزرد الذي كان على قيد الحياة حوالي العام 332هجري (943م) برسالةٍ عنوانها “سرقات أبي نواس”(14).
آراء بعض الرواة في شعر أبي نواس
كان أبو عبيدة يقول: “ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه حديثه بامرئ القيس الأوائل، وأبي نواس في المحدثين”. وقال عبيد الله بن محمد بن عائشة: “من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نوّاس فليس بتام الأدب”.
وكان يقال: “شعراء اليمن ثلاثة، امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نوّاس”. كما قال أبو نؤاس عن نفسه: “لو أن شعري يملأ الفم ما تقدّمني أحد”. وقال أيضًا: “أشعاري في الخمرة لم يقل مثلها، وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس، وأجود شعري إن لم يزاحم غزلي، ما قلته في الطرد (الصيد)”.
قال الإمام الشّافعي: “لولا مجون أبي نوّاس لأخذت العلم عنه”. وقال الإمام الذّهبيّ: “رئيس الشعراء (…) لأبي نواس أخبار وأشعار رائقة في الغزل والخمور، وحظوة في أيام الرشيد والأمين (…) ما روي أحفظ من أبي نوّاس مع قلّة كتبه”(15).
مختارات من شعر أبي نؤاس
من قول أبي نؤاس حين قربت إليه الوفاة:
الهي لستُ للفردوس أهلًا ولا أقوى علي النار الجحيم
فهب لي توبة واغفر ذنوبي فإنّك غافر الذنب العظيم
وعاملني معاملة الكريم وثبتني علي النهج القويم
إلهنا ما أعدلك مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك لبيك لا شريك لك
والليل لما أنحلك والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك ما خاب عبد أملك
أنت له حيث سلك لولاك يا رب هلك
كل نبي وملك يا مخطناً ماأعقلك
عجل وبارز أجلك واختم بخير عملك
لبيك إن الحمد لك والعز لا شريك لك
ذنوبي مثل أعداد الرمال فهب لي توبة يا ذا الجلال
وعمري ناقص في كل يوم وذنبي زائد كيف احتمالي
إلهي عبدك العاصي أتاك مقراً بالذنوب وقد دعاك
إن تغفر وأنت لذاك أهل وان تترد فمن نرجو سواك.
في الفخر
ومستعبـد إخوانـه بثرائه لبست له كبراً لأبرّ على الكبر
إذا ضمّني يوماً وإياه محفل رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر
أخالفه في شكله، وأجرّه على المنطق المنزور والنظر الشّزر
وقد زادني تيها على الناس ارائي أغناهم وإن كنت ذا فقر
فوالله لا يبدي لساني حاجة إلى أحد حتـى أغيب في قبري
فلا تطمعن في ذاك مني سوقة ولا ملك الدنيا المحجب في القصر
فلو لم أرث فخراً لكانت صيانتي فمي عن سؤال الناس حسبي من الفخر
في الخمر
أبو نوّاس “شاعر خمر غير منازع”، والخمر عروس شعره الحقيقيّة، وفيها تجلت عبقريته المجددة التي رفعته فوق السّابقين واللاحقين، فكان من أشهر من قالوا فيها، وقد جعل لها في الأدب العربي بابًا مستقلًا كاملًا؛ إذ قال:
اثن على الـخـمـر بآلائها وسمهـا أحـسـن أسمـائها
لا تجعل الماء لها قاهراً ولا تسلطها على مائها.
وقال أيضًا:
الشرب في ظلـة خمـّار عندي من اللذات يا جاري
لا سيما عند يهودية حوراء مثل القمر الساري
تسقيك من كف لها رطبة كأنها فلقة جمار
حتى إذا السكر تمشى بها صار لها صولة جبار
وقال أيضًا:
دع المساجد للـعباد تسكنها وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للذي سكر بل قال ربُّك ويلٌ للمصلينا
في المديح
قال يمدح الأمين:
تتيه الشمس والقمر المنير إذا قلنا كأنّهما الأمير
فإن يك أشبها منه قليلًا فقد أخطاهما شبه كثير
ونور محمد أبدأ تمام على وضح الطريقة لا يحور
وقال يمدحه أيضًا:
ملكت على طير السعادة واليمن وحزت إليك الملك مقتبل السن
لقد طابت الدنيـا بطيب محمد وزيدت به الأيام حسناً الى حسن
ولولا الأمين بن الرشيد لما انقضت رحى الدين، والدنيا تدور على حزن
لقد فك أغلال العناة محمد وأنزل أهل الخـوف في كنف الأمن
إذا نحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما نثني، وفوق الذي يثني
وإن جرت الألفاظ يومًا بمدحة لغيرك إنسانًا، فأنت الذي نعني.
في الزّهد والتّوبة
يا ربّ إن عظمت ذنوبّي كثرة فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلّا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجيـر المجرم
أدعـوك رب كما أمرت تضرعًا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم.
في مدح آل البيت عليهم السلام
مطهّرون نقيّات ثيابهم تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علويًّا حين تنسبه فما له في قديم الدهر مفتخر
والله لما برا خلقا فأتقنه صفاكم واصطفاكم أيّها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم علم الكتاب وما تأتي به السور
وقال أيضًا يمدح الإمام عليّ بن موسى الرضا:
قيل لي أنت أوحد الناس طرًّا في فنون من المقال البديه
لك من جوهر الكلام نظام يثمر الدر في يدي مجتنبيه
فلماذا ترکت مدح ابن موسی والخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح إمام كان جبريل خادمًا لأبيه
في الهجاء: قد مللناك فملي
أكثري أو فأقلي قد مللناك فملي
ما إلى حبك عود ما دعا الله مصلي
قد وهبناك لعمري وتصدقنا بحمل
لم يكن مثلك لولا سفه الرأي هوى لي
أيها السائل عنها اسمع اللفظ المحليّ
شخصها شخص قبيح ولها وجه مولي
وخفت عن كل عين وخفت عن كل دل
ولها ثغر كأن الله غشاه بكحل
تصف النكهة منها جيفة في يوم طل
ردفها طست ولكن بطنها زكرة خل
اشهدوا أني بريء من هواها متخلي .
خلاصة
مظاهر التجديد في شعر أبو نواس متنوّعة: ففي اللغة: تأثرت اللغة الشّعرية لأبي نواس بعاملين أساسيين، الأول: البيئة المدنية، إذ طغت على أشعاره اللغة البسيطة، والمفهومة، والخالية من التّعقيد كما هي اللغة السائدة آنذاك.
العامل الثاني: السّلطة العرفيّة والفكريّة، وقد ظهر ذلك في قصائد المدح التي تتماشي مع أعراف الأجداد القدماء؛ كما يمكن تصنيف الألفاظ في شعر أبيّ نواس بناء على مضمون الشّعر إلى: قصائد الغزل، والقصائد الحضاريّة التي تعكس مظاهر الفلسفة، والعلوم، والدّيانات(16). ولقد دلّت مجموعة من المظاهر على التّطوّر والتّغيير اللغوي الذي طرأ على شعر أبيّ نواس، ومنها ما يأتي:
- استخدام اللغة كوسيلة للتّعبير عن ذاته ومعتقداته الدّاخليّة بمعزل عن العالم الخارجيّ وأفكاره.
- الحفاظ على اللغة حيّةً، إذ يمكن فهمها باختلاف الأوقات والأماكن.
- اعتماد لغة لينة وسهلة، إذ تميزت بسلاستها وبساطتها فلا يستصعبها القارئ، وكأنها حديث يومي يسهل فهمه.
ميزت هذه السّمات وغيرها شعر أبي نواس وأسلوبه عن باقي الشّعراء، فكانت أشعاره وقصائده دائمة التجدّد والحيوية. ويجدر بالذّكر أنّ أسلوبه الخاص أثبت في كتابة خمريّاته قدمها وأسبقيّتها على غيرها من الخمريّات، إذ اعتمد أبو نوّاس – كبقيّة الشّعراء في عصره – اللغة الشعبيّة القريبة للناس في قصائد الغزل، إذ اشتملت على استخدام عدّة ألفاظ منها الأمثال الشّعبية التي كانت مستخدمة ف اللغة العاميّة، مثل: “إياك أعني واسمعي يا جارة”، إضافة إلى استخدامه الألفاظ البسيطة الأصيلة في اللغة، والألفاظ المعرّبة كبعض الألفاظ النّصرانيّة والمجوسيّة، بالإضافة إلى الألفاظ الفارسيّة الدّخيلة، ومثال ذلك لفظ “متخرسن” أيّ الذي يرتدي الملابس الخراسائيّة الفارسيّة.(17)
في بنية القصيدة: رفض أبو نؤاس اتباع النمط الشّعري القديم في اغلب قصائده، والذي كان يبدأ بالوقوف على الدّيار، ويتبعه النّسيب، ووصف الرّحلة، ومن ثم تنتهي القصيدة بالغرض الشّعري منها؛ وبدلًا من ذلك دعا إلى اتباع نمطٍ شعريّ جديد تميز بالوحدة الفنيّة، إذ تقوم بنية القصيدة في نمط أبي نواس على مجموعة من العناصر أهمها وحدة الموضوع، وتواقع المعاني، وتوازن التّشبيه؛ كما استطاع أبو نواس – دونًا عن غيره من الشّعراء – تركيز القصيدة على موضوع واحد وإشباعه، من دون الخروج عنه إلى نهاية القصيدة. في الأغراض والموضوعات الشّعرية: تتعدد الأغراض الشّعرية لأبي نواس، وهي في اتجاهين كالآتي:
الاتجاه الأول: يضمّ شعر أبي نواس المديح، والرثاء، والطرد، إذ حافظ فيه الشّاعر على أنماط الشّعر القديم وتقاليده؛ كالمطلع الطلليّ، وركوب النّياق، واستخدام غريب المفردات، وغيرها، مبتعدًا بذلك من التّجديد، ويمكن تعليل استخدام أبي نوّاس لأسلوب الأعراب الذي طغى على قصائد المدح والطرد إلى محاولته إرضاء اللغويين، وإظهار مهاراته اللغويّة، إضافة إلى حرصه على مراعاة مقام الممدوح، إذ كان يمتدح الخلفاء والوجهاء، مثل: هارون الرشيد.
الاتجاه الثاني: يتمثّل في قصائد أبي نواس حول الهجاء، والغزل، والخمر، إذ ابتعد فيها تمامًا من أنماط الشّعر القديم وأساليبه، وأخذ منحىً أكثر حداثة وتجديدًا.
إذًا، تتمثل مظاهر التّجديد في شعر أبي نوّاس في كل غرض من الأغراض الشّعريّة كما يأتي:
1 – الخمرة: إذ تفرّد أبو نوّاس عن غيره من الشّعراء في قصائد الخمريات، فقد كانت غرضًا مستقلًا بذاته، إذ استطاع في قصائده ذكر كافّة الجوانب التي تخصّ الخمر، مع مراعاة القوة في الألفاظ والمعانيّ، والاستخدام البديع للغة والصور الفنيّة. ويظهر التجديد في شعر أبي نواس حول الخمر باتجاهين مختلفين، حيث اتبع في الاتجاه الأول الأسلوب القديم الذي يحاكي أجداده، أما الاتجاه الثانيّ فاتبع فيه أسلوبه الخاص وثار على النّمط القديم ؛ فاستعاض عن التّأليف والتّغني بالأطلال، بأسلوب أكثر واقعيّة، والذي يعكس بصدق ما كانت عليه بعض مظاهر الحياة في العصر العباسيّ، فاستخدم لغةً سلسةً بسيطةً تعكس رفاهيّة عصره.
2 – الغزل: احتوت الكثير من قصائد أبي نواس على الغزل خاصة في الجاريّة التي أحبها وملكت قلبه.
3 – الهجاء: أولى أبو نوّاس القليل من اهتمامه لهذا الغرض، ومع ذلك فقد شمل هجاؤه عدة جوانب: الهجاء السياسيّ بقسميّه هجاء العرب وخاصة النزاريّين، وهجاء الأمراء والوزراء، وهجاء العلماء من اللغويين وأصحاب الكلام، إضافة إلى هجاء النّدماء والشّعراء. ويشار إلى أنّ أبا نوّاس اتبع ذات النّمطين الأساسيين في هجائه ألا وهما التّمسك بالقيم والتّقاليد التي ورثها عن أجداده كجرير والفرزدق، والتّركيز على وصف القيم الجديدة التي سادت في الدّولة العباسيّة، مقتديًّا بذلك بأستاذه بشار.
4 – الزّهديات: برع أبو نوّاس في الزّهديات، فعلى الرّغم من قلّتها مقارنة بغيرها من القصائد الشّعرية، إلّا أنّها من الأصدق في التّعبير عن النّدم والزّهد.
5- الطرديّات: لاقت الطرديّات انتشارًا واسعًا في العصر العباسيّ، وعبرت عن مجالات مختلفة منها النّفسيّة، والاجتماعيّة، والفنيّة، إذ عكست بدلالاتها الرّمزية الواقع آنذاك، وقد أكثر أبو نؤاس من النّظم في هذا الغرض، إذ تفردت قصائده بعمقها والاستعارات الفنيّة الخياليّة المأخوذة من الواقع.
6 – مظاهر التّجديد في الأوزان والقوافيّ: سار أبو نوّاس على الأوزان العربيّة للشّعراء القدامى من دون تجديد، وقد أظهرت دراسة أجراها الباحثون حول الأوزان والقوافيّ في شعر أبي نواس إلى اتّباعه بحور الشّعر المتعدّدة بنسب متباينة؛ إذ يشمل البحر البسيط مثلًا عشرين بالمئة من شعره، والبحر الطويل سبعة عشر بالمئة، والبحر الكامل خمسة عشر بالمئة، وغيرها من البحور كالوافر، والرّمل، والمنسرح.
ويرجّح أنّ أبا نواس اتبع أنماط العَروض القديمة الجهوريّة الإيقاع كما الشّعراء القدامى، إضافة إلى كتابته قصائد أخرى تشمل بعضًا من التجديد بهدف جعل الأنماط أكثر ونعومة، وسهلة النّطق والفهم، إذ إنّ تجديده لم يشمل استخدام عروض محدّثة، وإنّما حرص على التباين في استخدام الأوزان العَروضية( 18).
7 – مظاهر التّجديد في المطالع: يظهر تجديد أبو نوّاس في مطالعه الشعريّة في ما يأتي:
المقدمة الطلليّة: استعمل أبو نوّاس إمكاناته اللغويّة للخروج بنهج جديد وأكثر حداثة للأطلال التي تعود إلى العصور السّابقة، فبدلًا من استعمالها في ذكر الرّحلة والرّاحل، استخدمها أبو نوّاس في بداية قصائده الخمريّة، فاستعمل ذات المفاهيم ولكن بأسلوب يحاكي واقعه الجديد، ويمزج بين الجدّ والهزل.
المقدمة الغزليّة: أظهر أبو نوّاس معاني الشّوق، والطهر والعفة على الرّغم من ندرتها، بالإضافة إلى توظيفه الرّموز والصور الأدبية لإضفاء معانٍ أعمق وأكثر تأثيرًا على المتلقي.
مقدّمة الظعن: اتبع فيها أبو نوّاس أسلوبه الخاص المغاير للأنماط القديمة،إذ اعتمد فيها وصف رحلته الخاصة وما تضمنتها من مغامرات، وأحداث شخصية، معبّرًا عنها بأسلوب فنيّ يتوافق مع شخصيّته وأفكاره، وينعكس ذلك بشكلٍ واضح في مقدّماته.
مقدمة الشّيب والشّباب: ضمت قصائد أبو نوّاس القليل من مقدّمات الشّيب والشّباب مقارنة بغيرها، إذ إنّه وفي حديثه عن الشّباب والشّيخوخة تعمّد ربطهما بالواقع، وحاول عكسها على المظاهر من حوله.
المقدمة الخمريّة: طغت المقدمات الخمرية على شعر أبي نوّاس، وهذا يتناسب مع ما كان يدعو إليه من حرية التعبير، والانفتاح، وتناول بعض مظاهر الحضارة العباسيّة الجديدة من رغد، وترف؛ حيث وجد فيها سبيله في الثّار على القديم، وترك العناصر والموروثات الشّعرية القديمة.
المراجع
1- محمد سهيل طقوش (2009)، تاريخ الدولة العباسيّة (الطبعة السابعة)، بيروت: دار النفائس، صفحة 7. بتصرّف.
2- بتصرّف عن مقالة العصر العباسيّ، جامعة أم القرى.
3- أبو نواس: قصة حياته وشعره، عبد الرحمن صدقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1944م.
4- أبو نواس، خليل شرف الدين، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1996م .
5- أخبار أبي نوّاس لأبي هفان عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، مكتبة مصر، القاهرة، 1953م.
6- ديوان أبو النؤاس. دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت/ لبنان. مؤرشف من الأصل في 16 ديسمبر 2020.
7- شوقي ضيف، العصر العباسيّ الأول، ص 220.
8- حنا الفاخوري (الطبعة الثانية : 1995). الجامع في الأدب العربي – أدب قديم. بيروت، دار الجيل.
9- “أبو نوّاس شاعر الخمر” – موقع محيط: شبكة الإعلام العربية، تاريخ تحديث المقال: 1- 1- 2008. وصل لهذا المسار في 4 – 12 – 2010. نسخة محفوظة 30 أغسطس 2011 على موقع “واي باك مشين”.
10- شوقي ضيف، العصر العباسيّ الأول، ص 221.
11- منير القاضي – أبو نوّاس وتجربته الشعريّة، دار النهضة، بغداد 1977 ص 32.
12- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، شمس الدين المقدسي، ص 30.
13- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، شمس الدين المقدسي، ص 302.
14- کامل سلمان جاسم الجبوري (2003). معجم الشعراء 1-6 – من العصر الجاهليّ إلى سنة 2002م. ج2. دار الكتب العلمية. ص 81.
15- الذهبي (1982). كامل الخراط (المحرّر). سير أعلام النبلاء – ج9 . مؤسّسة الرسالة. ص: 279 – 280 – 281.
16- یوسف پور نهزمي (6 – 2011)، “دراسة نقدية في مبني خمريّات أبي نواس”، اطّلع عليه بتاريخ 15 – 4 – 2021. بتصرّف.
17- أحمد (2008)، مظاهر التجديد في العصر العباسيّ الأوّل، السودان: قسـم اللغة العربيّة/ جامعة الخرطوم. صفحة 115 – 127، الفصل الرابع، بتصرّف.
18- بودربالة (2018)، إشكالية الصراع بين المحافظين والمجدّدين في الشعر العباسيّ، الجزائر: قسم اللغة والأدب العربيّ/ جامعة العربيّ بن مهيديّ أمّ البواقي، صفحة 7-114، بتصرف.
19- بشری تاکفراست، “مظاهر التجديد في هيكل النصّ الشعريّ القديم”. -bouchra takafraste.com، اطّلع عليه بتاريخ 4-4- 2021 . بتصرّف.