مقام المرأة في التراث العربي – بين الأخذ بالشائع والحكم على الوقائع –
د. ناهد جابر([1])
ملخص البحث
يعالج هذا البحث مقام المرأة في تراث العربيّة بهدف رسم صورة للمرأة العربيّة، مستوحاة من الواقع، بعيدا عن الأحكام المسبقة التي وضعتها في مقام هامشي، دوني منبعه الموروث. وقد اعتمدت الباحثة في هذا البحث المنهج العلميّ، القائم على وصف الظاهرة، مذيلة بالأدلة؛ فتتبعت الدراسات السابقة التي سلطت الضوء على بعض الظواهر الاجتماعية التي عايشتها المرأة العربية كالوأد، والزواج. إضافة إلى ذلك، استعرضت الباحثة بعض مصادر الأدب العربي، والمجموعات الشعرية التي أفردت جانبا للمرأة، إن بشكل كلّي، أو جزئيّ.
Abstract
The paper deals with the place of women in Arab heritage. It aims to portray a realistic and unprejudiced image of women in the Arab society. The paper attempt to convey an image of women that differs from the marginalized, inferior post allotted to them by archaic traditions. In this research, the researcher has adopted the scientific method, which is based on a description of the phenomenon, appended with evidence; she traced the previous studies that shed light on some of the social phenomena that Arab women experienced, such as infanticide and marriage. In addition, the researcher reviewed some sources of Arabic literature and poetry collections that singled out women, whether in whole or in part.
مطلع
مثّلت المرأة عنصرًا رئيسًا مع الرجل في مجموعة الاجتماع البشريّ الثّنائيّة. إنّهما نواة الحياة، وبهما يستمرّ النّوع الإنسانيّ. وهي صورة صادقة لثنائيّات الموجودات: رجل وامرأة، سالب وموجب، حار وبارد، قريب وبعيد… الرّجل يجني وهي تبني، من دونها يغدو العيش بورًا، وينقلب النور ديجورًا.
ونظرًا لمقامها، جالت أقلام الباحثين في أرجاء المرأة، ومخرت الدّراسات عباب جوانب شتّى فيها: اجتماعيّة، أدبيّة، إعلاميّة، علميّة… وعادت بنتائج مختلفة باختلاف الغاية المرجوة. ولكن الثابت في أذهان أكثر الدارسين، دونية مقامها في التراث العربيّ، وضعة قدرتها على المساهمة في صناعة اللّغة، وغيرهما… كأني بالباحثين والدراسين يتزودون بالأحكام المسبقة، قبل الخوض في بطون المصادر، والغوص عميقًا في الأغوار. ولما تزل تردّد الأحكام حتّى اليوم، ويضيفون: كانت المرأة مهيضة الجانب، توأد، تستخدم كجارية في المنزل، تقبع بالجهل، لا قوة لها ولا حول!
أمام السّائد في الأفهام، والمتردد على ألسنة الخواص والعوام، برزت إشكاليّة البحث، المتمثلة بمقام المرأة في تراث العربيّة. وعاشت على جنباتها فرضيّات كثيرة، اقتضاها البحث، منها: هل الوأد شائع عند العرب؟ ألم تملك المرأة حقّ اختيار زوجها؟ ماذا تعمل إلى جانب دورها الأسرى؟ هل أثّرت أعمال أدبيّة عن المرأة؟ جملة أسئلة أثارت دافع الباحث، وأوجدت الحوافز للإثبات في أرض بكر – إلى حدّ ما – تعود بإنتاج وفير. رسم البحث صورة للمرأة العربيّة، مستوحاة من الواقع، بعيدًا من الأحكام المسبقة، والنتائج المعلبة. اعتمد المنهج العلميّ، القائم على وصف الظاهرة، مذيلة بالأدلة، ترفعًا عن القول بغير بينة.
وسبر أعماق مصادر اختصت بالمرأة كليًّا أو جزئيًّا، ما بوسعها بأنها أثر يدل على عين، وحقيقة ترفع عن المقول الزيغ والبهتان. وأشار إشارات لطيفة إلى دور المرأة في اللغة وأحكامها…
الأمر الذي يجعل – على الأغلب – الصّورة واضحة، والإجابة شافية. وما النساء إلا شائق الرّجال! وما يأتي من الحقائق إلا دحض لزائف الأقوال! يجنبنا عثرات الركون إلى ما يشاع، الذي يقضي – في الفهم – إلى الضبابيّة وعدم الانقشاع.
المرأة العربيّة: إشكاليّة المقام والتّسرع في الأحكام
جابت أقلام الباحثين جوانب شتّى من حياة المرأة العربيّة، وخرجت بنتائج تقرّر دونيّة المرأة وضعة موقعها في المجتمع العربيّ. يقرأ الدارس نماذج من محصلات الأبحاث: الرواسب الثقافيّة التي تضع المرأة في مواقع القصور والدونيّة… وتضرب هذه الرواسب الثقافيّة جذورها في عمق الثقافة التقليدية التي تجعل المرأة في مرتبة الرجل. ويتابع الباحث قوله: كثيرة هي الدراسات التأمليّة التي حاولت أن ترسم صورة المرأة في ما تعانيه من وضعيات قهر ودونيّة([2])…
ويتابع آخر وصف حالة المرأة قياسًا بالرجل، مصورًا إيّاها ضحية إهمال وعبوديّة وعيشها مكبلة بقيود الجهل، مقابل حرية الرجل الّذي ينعم بنور المعرفة. جاء في دراسته: كانت المرأة الشرقيّة… ضحيّة إهمال شنيع، وتقييد فظيع. كان هناك بون شائع وهوة سحيقة بين الرجل والمرأة… طلب الرجل لنفسه الحريّة، وكبلها بقيود الاستعباد، وطلب لنفسه العلم، وأبقاها تتعثّر في دياجير الجهالة([3])…
ورأى آخرون أنها لا تملك حق التعبير والكتابة، وما ينقل عن لسانها يعتبر إغواء يتمتّع الرجل في سماعه، ويشكّل جسدًا يغري الرجل في المسامرة والمتابعة. وهو ينقل كلامها كما ينقل الكلام على لسان البهائم. جاء في أحد الدراسات: ليس للمرأة من موقع لدى الرجل إلا بوصفها كائنًا عجيبًا، وهذا ما ضمن لها مكانًا من مدونات الرجال ولغتهم، بدءًا من ألف لية وليلة، وامتدادًا عبر تمثلات اللغة للمرأة وتصويرها لها تمامًا مثل حيوانات كليلة ودمنة، حيث يمنّ الرجل على الحيوان باللّغة([4])…
ربّما منَّ ثالث على المرأة العربيّة بصفة الأدبيّة، غير أنه عاد وحجمها في زاوية أدبيّة تقبع فيها، ولا تبارحها إلى سواها. نقل في إحدى الدراسات ما يلي: إن الباحث في تاريخنا الأدبيّ، منذ فجره حتى العصر الحاضر، يجد أن الأدب النسويّ قد غلب عليه طابع حزين منقبض، يكاد يصبغه بصورة مظلمة قاتمة[5]… وعلى المنوال المذكور، راحت أكثر الدراسات تدور، مع تباين في الحجم والقدر. هل حقًّا ما وصفت به المرأة؟ أكانت دائمًا في موقع الدونية؟ أيصحّ تعميم النتائج المحصلة؟ أم هي نتائج قاست الكل على الجزء؟ ألم تعرف المبالغة؟ ألا يوجد امرأة حرّة تنافس الرجل في وقت ما، أو زمن معيّن؟!
واقع المرأة العربيّة
لقد بذل الدارسون السابقون جهودًا مشكورة، في تتبّع حياة المرأة، وسبر أغوار ظروف حياتها، للوصول إلى ما قرروه. ولكن الواقع والتتبع يكمل دراساتهم، ويرمم ثغراتهم، ويشير إلى هفوات التعميم، وإطلاق القياس الواحد، على الرغم من تبدّل المقيس، واختلاف الظروف. وربما تأتّى الحكم، على ضوء بعض الظواهر الاجتماعيّة، التي عايشتها المرأة العربية منها:
- الوأد
عادة مرذولة شهدها المجتمع العربيّ قبل الإسلام. وحقيقته دفن الحيّ في القبر، قالوا: وَأَدَ ابنته وأدًا دفنها في القبر وهي حيّة[6]. ولما جاء الإسلام، نهى عن فعله، مصداقًا لقوله تعالى:﴿وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت﴾([7]). وعزّز شجب الفعل المذكور، أحاديث الرسول (ص)، منها:” أنه نهى عن وأد البنات، أي قتلهن”([8]).
وتابع الأمر بالترفّع عن الوأد، حين شخص سبب الداء، ووصف الدواء. كانت دوافع الجاهليّ الكامنة وراء الوأد حجتين: الأولىمخافة العار والسبي والاسترقاق، والثانية الحاجة والإملاق. وضع البيان الإلهي الحل، الذي يقضي على دوافع الوأد. قال عزّ وجل: ﴿ولا تَقْتُلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُم وإيّاكُم﴾([9]).
والدّراسة الحصيفة للوأد، الذي جر الشنآن إلى الأنثى، تبين أمرين: الأوّل إن عادة الوأد جزئيّة، إذ عرفت في قبائل “مضر” و”خزاعة”، وأشدهم في هذا “تميم”([10]). وهي مذكرة من الآخرين، إلى درجة أن بعضهم كصعصة (جد الفرزدق الشاعر الأموي المعروف)، كان يشتريهن من آبائهن تخليصًا لهن من الوأد. قال الفرزدق مفتخرًا بجده: [من المتقارب]
ألــــــــــــمْ تَـــــــــــــــــرَ أنّــــــــــا بنــــــــي دارمٍ زُرارَةُ مِنّـــــــــــــــــــا أبـــــــــــــــــــو مَعْبِــــــــــــــــــــــــدِ
ومِنَـــــا الــــــــذي مَنــــــــــــعَ الوائِــــــــــــــدا تِ وأَحيـــــــا الوئيـــــــدَ فَلَــــــــــــــم يــــــــــــوأَدِ([11])
والثاني أن الوأد كان يلحق البنين([12]) كما يلحق البنات عند المجاعة. وبالتشخيص الدقيق للأسباب الموجبة للوأد، والتنفيذ الواقعي له، تظهر جزئيته من جهة، ووقوعه حينًا من الدهر على الذكور وشجب فاعليه. كلّ ذلك يخفف من حده، واعتباره إشارة للحكم على دونية المرأة العربية وانحطاطها. ولو صح – منطقيًّا – وقوع الوأد عامة، كيف وصل الناس إلى الحياة اليوم؟ أين الأمهات التي تلدنهم، وقد وئدن منذ المهد؟ كيف استطاع المجتمع العربي متابعة مسيرته في الحياة بجناح ذكوريّ واحد، من دون الآخر الأنثوي؟ هل يستطيع الطائر الارتفاع في الفضاء بجناح واحد؟
قضية الزواج
شهد المجتمع العربي تعدّد الزوجات. وقد كانت له مشروعيته الدينية، إذ رسم الحكم الشرعي للرجل الزواج بأكثر من واحدة. جاء في محكم تنزيله: ﴿فانْكحوا ما طاب لَكُمْ من النساءِ مثْنى وثُلاثَ ورُباع﴾([13])، وبمشروعية تعدّد الزوجات، باتت – برأيهم – امرأة في موضع صغار وانحطاط. يستهتر بها الرجل، ويسهل تركها، بسبب قانون الطلاق. وما درى أولئك الحكمة الكامنة وراء تعدد الزوجهات من جهة! وضوابطه من جهة أخرى. لم يعرف الحكم الشرعي العبثيّة، وتضييع حقوق أحد الجنسين، بل غدا تنظيمًا للمجتمع، وإصلاحًا لأموره، وتيسيرًا لمعاملاته. كان في تعدد الزوجات ضوابط يجب الأخذ بها، حتى لا تفلت زمام الأمور، منها:
- عدم تخطي العدد المذكور ” أربع زوجات”، في وقت واحد.
- العدل، وهو ضابط مرهق ومتعب، لمن تفكر في الزواج بأكثر من واحدة، قال تعالى: ﴿فإنْ خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا﴾([14]). ولما كان العدل منفيًا بين البشر، كأني بمقصد الوقوع في الظلم والبهتان، والإعالة التي ينتج منها الفقر والحرمان. قال البيضاوي في تفسير الآية السابقة: “… فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع… أقرب من ألا تميلوا…”([15])؛ وذلك خوف الوقع في الجور والظلم عند انتفاء العدل. وإليه ذهب الزمخشري، قال: “فإن خفتم أل تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فواحدة، فالزموا أو اختاروا واحدة وذروا الجمع رأسًا، فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به”([16]).
- تحريم الجمع بين المحارم، وهو من قيود التعدد إلى جانب اشتراط العدل. ومحارم الإنسان كثيرة، عددها الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿حُرِمَت عليكم أمهاتُكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربابئكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جُناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين﴾([17]). وغاية الشّريعة البعد عن الخلاف والتناحر بين ذوي الأرحام والأنساب. والتحريم حصانة للمرأة، ورفعة لها عن الاحتقار، ولم يلحقها فيه الصغار. وتعدد الزوجات، سمة اجتماعية، عرفه غير مجتمع، وطور حياتي شهدته أكثر البقع، وما على الدارس إلا أن يتابع.
عرف الصينيون تعدد الزوجات، وأخذوا به. يروى أن الصيني كان يسمح له بشراء عدد من الفتيات زوجات له([18]). وشهدت مصر القديمة ظاهرة تعدد الزوجات، ولكن انتشاره في الطبقة العليا أكثر من تفشيه في الطبقات الدنيا([19]). ولعل الأمر يعود إلى الكلفة، وما يترتب عليه من نفقة. وكذلك الحال في الحضارة اليونانية، التي طالب فيها الفلاسفة والمفكرون بشيوع النساء، وعدم التقيد بزوجة واحدة([20]). والسلوك نفسه كان مباحًا عند الرومان، على الرغم من بعض محاولات منعه([21])…
وشيوع التعدد لم يعد منقصة في حياة المرأة العربية، لأنه ظاهرة تخطت العربية إلى سواها، كما تجاوز الوأد – فيمن انتشر بينهم – الإناث إلى الذكران، كل ذلك لا يسمح بإطلاق الأحكام الجائرة والقطعية على مقام المرأة العربية. إن الفتاة العربية لم تكن لقمة سائغة، يسهل مضغها واقتحام حصونها، واستباح حماها. كانت هناك أنظمة تتشدد في نيلها، والوصول إليها. ولا أدل على ذلك من الخوض في غمار المحبين، للوقوف على مدى العذاب للوصول إلى الأحباب.
وضع الشرع مهرًا للفتاة قبل تزويجها، إحقاقًا لحقها، سمونه سياقًا، نظرًا لما تداوله العرب من مال؛ لأن العرب كانورا إذا تزوجوا ساقوا الإبل والغنم مهرًا لأنها كانت الغالب على أموالهم([22]). وقد ينوء تحته طالب الفتاة، فيبقى الحصول عليها حسرة في نفسه، وغصة تقطع نفسه، يشد الأزر، ما روي على لسان عروة بن حزام صاحب غفراء: [من الطويل]
يُكَلِّفُني عمّي ثمانينَ ناقةً وماليَ والرحمنِ غيرُ ثمانِ
والمشهد الآخر لمكانة المرأة العربية، ما يناله الحبيب في سبيل الوصول إلى من يحب. يتجشم الأهوال يقطع الفيافي ويجتاز الجبال. وبعد كل ذلك يرضى بالقليل. أنشد جميل بثينة مصورًا حال الحبيب تجاه من يحب، باثًّا همومه: [من الطويل]
إلى اللّهِ أشكو لا إلى الناس حُبّها ولا بُــــــــــدَّ مِن شـــــــكوى حبيـــــبٍ يُــــــــرَوّعُ
ألا تَتَقـــــينَ اللّه فــــــــــــيمن قَتَلْتِـــــــــــــــــهِ فَأَمْســـــــــــى إلـــــــــــيكم خاشــــــــــــعًا يتضرّعُ([23])
وربما اعترض معترض، حجته ما وُسِم به جميل من حبّ عذري، جعله ينتحي السّلوك السابق. ولكن الوقائع تشير إلى أنه نمط المحبيّن، عرفه العذريّون والإباحيّون، من شواهد ذلك، ما نقل على لسان عمر بن أبي ربيعة، يصف معاناته: [من البسيط]
يا لَيْتَ مَنْ لامَنا في الحــبّ مَرَّ بــهِ ممـــا تُلاقي وإنْ لمْ نحْصِهِ العُشُرُ
حتّـــــى يَـــــــذوقَ كمـــــا ذُقْــــــنا فَيَمْنَعَــــــــهُ ممـــا يَلَـــــذُّ حــــديثُ الـــــــنَّفْسِ والسَّهَرُ([24])
وغدا الحب، وما تسببه الأنثى مرضًا وداءً عضالًا، ينجم عنه الموت. حقيقة خلدها الشيخ أبو محمد جعفر بن أحمد السراج القارئ في كتابه “مصارع العشاق”، الذي جمع فيه قصصًا لهم، ونوادر مع من أحبّوا، وقد صدر أحد أجزاء كتابه، بما دلّ على غايته. جاء في صدر الفصل الأخير: [من البسيط]
قدْ صَنَّفَ الناس في أهلِ الهوى كُتُبــــا فـي مـَنْ صَحا بعد سُكْرٍ منْه أو عظبا
وأكـثــــروا غـيـر أنـي قـد جــــــــمعت لهـــــم ومــــا اخـتـصـــــرْتُ كـتـابـًـــا رائقًـــــــا عَجَبـــــــا
ذَكــــــرْتُ فــيــــــــه بــإســــــنـادٍ مَـصــــــارِعَـهُـم عُــجْـمًـا وَجَــــــدْتُهُم فــي الناسِ أو عَرَبــــــا([25])
ويرادف الحب الموت عمومًا، وأمراضًا بعينها خصوصًا، كالجنون. سئل أحدهم: ما العشق؟ قال: الجنون والذّلّ[26]. وهو تارة عمى، ورد في أحد الأمثال السائرة :” حُبُّكَ الشيء يُعْمي ويُصِمّ”([27]).
اكتوى بنار الأنثى الحبيبة غير إنسان، لأن الحب عاطفة إنسانيّة تعتمر في القلب، وتعيش بين جوانحه، وقل أن نجا منه آدمي. والأنثى فيه تملك سلاح عبودية المذمر. إن أقبلت أضعفت، وإن بعدت أضنت. سلاحها ذو حدين، على مَنْ وقع في شباكه. قال ابن الرومي مصورًا نظرة المحبوب القاتلة لمحبها: [من البسيط]
نظـــــرت فأقصــــــدتِ الفـــــــــــؤادَ بِســَــــــــــهمِها ثُـــــــــــمَّ انثنَـــــــــــــــتْ عنــــــــــــــــهُ فكــــــــــــادَ يَهــــــــــــــيمُ
ويـــــــــلاهُ إنْ نَظَــــرتْ وإن هِــــيَ أعْرضتْ وقْـــــــــــــــعُ السِّــــــــــــهام ونَــــــــــــــــــزْعُهُنَّ ألـــــــــــــــــــــيمُ([28])
وصونًا لكرامة الأنثى، ورفعةً لمقامها من الدنس، ميز الأدباء والعلماء بين الحب والجنس، بين الزواج الحلال، وطلب اللهو والرجس. نقلت مصادر فصولًا جاء فيها:” ذكر التحلي بالعشق والتخلي عن الفسق”. روي فيه قول الإعرابي، وقد كان قد أطال عشقه بجارية: ما كنت صانعًا لو ظفرت بها، ولا يراكما غير الله؟ قال: والله لا أجعله أهون الناظرين، كنت أفعل ما أفعله بحضرة أهلها، شكوى وحديث عذب، وأعرض عما يسخط الرب. ويقررون في خضمه أن الظفر بالمعشوقة يسقط شطر عشقها، والنكاح يفسد الحب… ويستشهد الكاتب بما أنشده البكري للمأمون: [من مجزوء الرجز]
مـــــــــــــــا الحُــــــــــــــبُّ إلا قُبلـــــــــــــــــة وهـمــــــــــــز كــــــــــــــــف أو عضــــــــــــــدْ
أو كــتـــــــــــــب فيــــــــــها رُقــــــــــــــــــيّ أنفــــــــــــــذ مـــــــــن نَفْــــــــــــــــثِ العُقَـــــــــــدْ
مَـــــــــن لــــــــم يكــــــــــنْ ذا حبـــــــــه فإنَّمـــــــــــــــــــا يَبغــــــــــــــــــــــــي الــــــــــــــــولد
مــــــــــــا الحـــــــــــبُّ إلا هـــــــــــــــكذا إن نكــــــــــحَ الحــــــــــــــــــــــــبُّ فَسَــــــــــــدْ([29])
وبالقول السابق، ميزوا بين مستويين، الجنس والحب، لذا قال أعرابي معقبًا على الأبيات: هذا طالب ولد.
المرأة: مصدر أدبها ومصنفات آثارها
أفردت مصادر الأدب العربي، والمجموعات الشعرية جانبًا للمرأة في تضاعيفها. واستقلت مؤلفات أخرى، بجوانب مخصّصة في أدبها. وهي بمجملها تدفع الدارس إلى تصنيفها في ثبتين: الأول مصنفات استقلت بالكلام على المرأة، والثاني أفسحن مجالًا لها، كما فعلت مع غيرها من طبقات المجتمع. وعلى ضوئهما، يمكن استعراض الأشهر منهما، والأكثر تداولا بينهما.
- كتب خالصة في المرأة
المرأة عضو اجتماعي، تمثل مع المذكر أساسيات الأحياء على الأرض. تشعر بمشاعر الحياة وتعبر عما يدور في خاطرها، ويجول في فكرها. لقد رصد المؤلفون سلوك المرأة المختلف، وأنشأوا مؤلفات تغطية، وتوصف حركاته ومساعيه. وشارك الفقهاء الأدباء في مؤلفاتهم، ولم يغفلوها من أحكامهم. برزت مصنفات مختلفة في المرأة منها:
- كتاب أدب النساء الموسوم بكتاب الغاية والنهاية لعبد الملك بن حبيب (ت238ه/ 852م)
هو كتاب يخوض في أدب النساء، يعتمد الحديث والأثر وقول الأئمة كليًا أو جزئيًا، مضيفًا – أحيانًا – إليها مادة من الأدب، أي إشعارًا وروايات ونوادر وحكايات… من شأنها تبيين غرض المؤلف، وإثارة الاهتمام. وقد صنف المادة تصنيفًا غلب عليه النزعة التأديبية، القائمة في منهجها التّربويّ الازدواج والتّقابل. ففي الباب الأول تحدث عن فضل المرأة الصالحة، ثم أردفه بالباب الثاني الذي تكلم فيه على المرأة السوء… وهكذا. والمقابلة تجد لها مكانًا داخل الباب الواحد، وهو مقابلة لها- بالإضافة إلى مقصدها التربوي- هدف تثقيفي أخلاقي عام قائم على نوع من التكافؤ والتعادل بين الزوجين([30]).
- كتاب بلاغات النساء للإمام أبي الفضل أحمد بن ظاهر طيفور (ت280ه/ 852م)
مصنف جمع بين دفتيه طرائف كلام النساء وملح نوادرهن، وأخبارهم ذوات الرأي منهن، وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام. وقد اقتصر فيه المؤلف:” على حسب ما بلغته الطاقة، واقتضته الرواية، واقتصرت عليه النهاية، مع ما جمعنا من أشعارهن في كل فن مما وجدناه يجاوز كثيرًا من بلاغات الرجال المحسنين، والشعراء المختارين…([31]).
- كتاب القيان لأبي الأصبهاني (ت356ه/ 967م)
لم تهمل الجارية في المجتمع العربي على حساب السيدة والحرة، بل نلنن جميعًا من أقلام المؤلفين وآثار المصنفين. وكتاب القيان[32] الشاهد والعيان. جاء في مقدمته، إفصاحًا لغاية مؤلفة: “بحمد الله والثناء عليه افتتح كل قول عند ابتدائه… الخ وهو تمثل على لطائف مستحسنة، وأخبار مستظرفة من أخبار القيان، قديمهن وحديثهن، شورح أحوالهن”([33]).
- كتاب الإماء الشواعر لأبي الفرج الأصبهاني(ت356ه/ 967م)
تابع الأصبهاني اهتمامه بالنساء، فأعار جانب الأمة الشاعرة اهتمامًا، بعد أن جال قلمه في رحاب القيان. تناول في الكتاب شعر الإماء المماليك في الدولتين الأموية والعباسية، معتذرًا عن قلة الأمويات، حجته: “… لم أجد في الدولة الأموية منهن شاعرة مذكورة، ولا خاملة، لأن القوم لم يكونوا يختارون من في شعره لين، ولا يرضون إلا بما يجري مجرى الشعر الجزل المختار الفصيح، وإنما شاع في هذا في دولة بني هاشم، فذكرت منهن ما وقع إلي من شعر مستحسن أو شعر صالح، ورسمت ذلك على قدر مراتبهن في أشعارهن وأزمانهن….”[34].
- أشعار النساء لمحمد بن عمران المزرباني (ت384ه/ 994م)
مصنف جمع فيه المزرباني تراجم 38 شاعرة أغلبهن لا ذكر لهن في الكتب المطبوعة. وانفرد مؤلفه بإثبات كثير من الأشعار والأخبار، وأضاف إضافة قيمة لشعر النساء الخارجيّات. بدأه بأخبار ليلى مع النابغة الجعدي، وختمه بأخبار عجل بن لجيم…([35])
- أخبار النساء لابن قيم الجوزية(ت751ه/ 1350م)
أدلى الفقهاء بدلوهم في بئر التأليف النسوي، عنوانًا وصدى لمبدأ الإسلام، في المساواة بين الذكر والأنثى. جال فيه جولات تناولت ما جاء في وصف النساء، ممثلًا على ذلك بنماذج تطبيقية. وينتقل بعدها إلى باب ذكر فيه من صبره العشق إلى الأخلاط والجنون، انتهاء بباب: “ما جاء في خلق النساء”([36]).
- نزهة الجلساء في أشعار النساء للسيوطي (ت911ه/ 1505م)
مصنف تخطى فيه واضعه الفترة الزمانية التي أعارها المصنفون السابقون. وبكلمة تجاوز السيوطي شعر الجاهليات والإسلاميات، مكتفيًا بالمحدثات. قال في المقدمة: “… هذا جزء لطيف في النساء الشاعرات “المحدثات” دون “المتقدمات” من العرب العربياء من “الجاهليات” و “الصحابيات” و”المخضرمات”، فإنه أولئك لا يحصين كثرة… وقد سميت هذا الجزء نزهة الجلساء في أشعار النساء”([37]).
- كتب جزئية في المرأة
احتلت آثار المرأة الأدبية، أجزاء من كتب متخصصة، أثبتت فيها آثارها الشعرية والنثرية، وبعض نوادرها. والكتب السابقة، تأخذ صفة الموسوعات الأدبية، أو المجموعات الشعرية، أو النوادر والحكايات، منها:
- المحاسن والأضداد للجاحظ (ت255ه/ 868م)
عقد فيه فصولا خصها بالمرأة، متتبعًا صفاتها وأحوالها، إلى جانب ما جاء متفرقًا في الكتاب. أثبت فيه “محاسن النساء النادبات” و” النساء الماجنات” و”الأعرابيات” و”المتكلمات”، و”محاسن النساء”، وصولًا إلى “محاسن مكر النساء” و”مساوئهن”. لم يأنف الجاحظ من ذكر أقوالهن وأشعارهن ومساجلاتهن وبديهتن في الجوانب، من دون تحرج في المقامات التي تتحدث عن الفحش والشّذوذ([38]).
- كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة (ت276ه/ 889م)
من المصادر ذات الطابع الموسوعي. تناول فيه مؤلفه مواضيع اجتماعية، أدبية… قسمه إلى أبواب، وأفرد الأخير منها – وهو الكتاب العاشر من عيون الأخبار – للنساء، وحمل اسمهن: “كتاب النساء”[39]. بدأه بذكر “أخلاقهن وخلفهن وما يختار منهن وما يكره”. وختمه بأبيات في الغزل حسان. يبدأ الفصل بذكر أقوال الرسول (ص)، ثم العلماء والرواة، معززًا رأيه بشواهد من أقوالهم، وأبيات لأئمة الشعراء… وينقل فيه كلام النساء، مبينًا آراءهن في مواضيع شتى تناسب المرأة.
- كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه (ت28ه/ 940م)
لعل العقد صدى لكتاب عيون الأخبار، الابق الذكر، قال صاحبه:” وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره، من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان… وإنما لي فيه تأليف الأخبار، وفصل الاختيار، وحسن الاختصار، وفرض في مصدر كل باب، وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء…”([40]).
وزّع ابن عبد ربه مادته على خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزآن. انفرد كل كتاب باسم جوهرة من جواهر العقد. خصّ المرأة بكتاب أسماه “كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن”([41]). احتوى الكتاب على قضايا تخص المرأة، بالإضافة إلى كلامها، منها: “قولهم في المناكح”، “صفات النساء وأخلاقهن”، “صفة المرأة السوء”، و”من قولهم في الجارية”، “المنجبات من النساء”…
- لطائف اللطف لأبي منصور الثعالبي (ت429ه/ 1038م)
عرض الثعالبي فيه مجموعة من لطائف الظرفاء، نثرًا ونظمًا، قولًا وفعلًا، جِدًا وهزلًا. جاء في أثني عشر بابًا، أوله “في لطائف الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين”… وآخره في “لطائف الشعراء نظمًا”. وقد أحل المرأة في الباب الثامن الموسوم: “في لطائف الجواري والنساء الحسان”([42]). وبذلك احتلت المرأة موقعًا في الكلام المروي، إلى جانب الفئات الأخرى من ملوك ووزراء، وبلغاء وأدباء، قضاة وعلماء وفلاسفة وأطباء…. فكانت بذلك عضوًا في المجتمع شأن غيرها من الفئات…
- كتاب الأذكياء لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوري (ت597ه/ 1201م)
اختص كتاب ابن الجوري بالأذكياء، الذين امتازوا بموهبة العقل، وهو معيار التفاضل بين البشر. “ولما كان العقلاء، يتفاوتون في موهبة العقل، ويتباينون في تحصيل ما يتقنه من التجارب والعلم، أحببت أن أجمع كتابًا في “أخبار الأذكياء” الذين قويت فطنتهم، وتوقد ذكاؤهم لقوة جوهرية في عقولهم…”([43]). وقد استدل ابن الجوري على ذلك، بقدرتهم على استحضار الحجة التي بها يتخلصون من مشاكلهم، وبسرعة بديهتهم. كان للمرأة حضورها في مواقف الذكاء، يمثله الباب التاسع والعشرون، الذي عقده ابن الجوري “في ذكر طرف من أخبار النساء والمتفطنات”([44]). وتظهر فطنة الأنثى، حين تستثمر الرموز لتعبر أجلّ تعبير، على نحو قوله: بكت عجوز على ميت، فقيل لها: بماذا استحق هذا منك؟ فقالت: جاورنا وا فينا إلا من تحل له الصدفة، ومات وما منا إلا من تجب عليه الزكاة([45]).
- المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي (ت852ه/ 1448م)
كتاب اتصف بالموسوعة الأدبي، تضمن مجموعة من الآداب والمواعظ والحكم، إلى جانب التواريخ والنوادر والأخبار والحكايات واللطائف ورقائق الأشعار. وقد اتبع في عرضه منهجًا تمثل بقوله: “واستدللت فيه بآيات كثيرة من القرآن العظيم، وأحاديث صحيحة من أحاديث النبي الكريم، وطرزته بحكايات حسنة عن الصالحين الأخيار… وجمعت فيه لطائف وظرائف عديدة… وأودعته من الأحاديث النبوية، والأمثال الشعرية، والألفاظ اللغوية، والحكايات الجدية، والنوادر الهزلية، من الغرائب، والدقائق، والأشعار والرقائق…”([46]).
اشتمل الكتاب على أربعة وثمانين بتبًا، تمثلت المرأة في الباب السابع، الذي يعالج أدق موضوع لغوي، يسمى: “في البيان والبلاغة والفصاحة، وذكر الفصحاء من الرجال والنساء”([47]). فقد كانت مذكورة جنبًا إلى جنب مع الرجال، ولم تغفل عن ميدان فن القول، وكيفية صناعة اللغة والكلام، بما قدمته من أمثلة تحتذى، ونماذج بها يهتدى…
بالإضافة إلى المصادر السابقة، التي حضنت بين طياتها كلام المرأة، عرفت كتب أعارت أدب المرأة أهمية، على رأسها كتاب الأغاني، الذي ترجم فيه صاحبه لعدد من الشواعر. ومثله كتب الحماسة، كحماسة أبي تمام والبحتر… وسواهما. ولكن الخوض في تفصيلها، يخرج الدراسة عن حدها. وتكفي الإشارة إلى إطناب العبارة. وما المصادر المتخصصة والعامة التي سجلت كلام المرأة، إلا رد يطلب إعادة النظر في الأحكام المقولة بشأنها، ويسطّر موقفًا منهجيًّا في ميدان البحث.
الخلاصة: من النتيجة إلى إحكام المنهجية
المرأة كائن عايش الرجل أطوار حياته، أعانه في تخطي صعوباته. من دونها لا يكمل المجتمع خطواته، وينهض من كبواته. لقد تركت بصماتها في الحياة الاجتماعية – إلى جانب الأسريّة – وأدت ما يؤديه أسياد القوم. وملكت الشريفات من النساء قدرة على حماية مَنْ يستجير بهنَّ، وقوة على ردّ حرية من يستشفع بهنْ، على غرار ما أعادت فُكَيْهَة إلى السُّلَيك بن السلكة([48]) حريته، حين وقع أسيرًا في يد عشيرتها…
وكان للمرأة رأي فيمَنْ تختار من أزواج تقبل، ترفض، وتترك إذا لم يحسن معاملتها. لا يغريها المقام، ولا الغنى والتقدم بين الأنام. قيل إن الخنساء ردّت دريد بن الصمّة([49])، حين خطبها، وهو “فارس شجاع شاعر فحل… كان أطول الفرسان الشعراء غزوًا، وأبعدهم أثرًا، وأكثرهم ظفرًا، وأيمنهم نقيبةً عند العرب… وهو سيد بني جُشَم وفارسهم وقائدهم…”([50]). وملكت بعض النسوة عصمتهن، فإذا أصبحت عند زوجها، كان أمرها إليها، إن شاءت أقامت، وإن شاءت تركته، وذلك لشرفهن([51]).
تحكي الشواهد المتقدمة، عدم دقة الأحكام الشائعة بشأن المرأة في تراث العربية. واستنادًا إليها يمكن النفاذ إلى جملة توصيات منهجية، يستضيء بنورها الباحث، والدارس المتتبع، منها:
- اتباع الأدب في باب التصحيح وإظهار الخلل، أما الجفاء فيؤدي إلى الخلاف والبعد والإذلال. ذكر النّضْر بن شميل، قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فجرى ذكر النساء، فقال: حدثني هُشَيْم عن مجاهد… قال: قال رسول الله (ص):” إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها ودينها كانت سَدادًا من عوز”، بفتح السين، فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هُشَيْم، حدّثنا عوفٌ… عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (ص): “إذ تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في سِداد من عوز”، بكسر السين، قال: وكان أمير المؤمنين متكئًا فاستوى جالسًا، وقال: “يا نَضْر، كيف قلت سِدادًا؟” قلت: نعم، يا أمير المؤمنين؛ لأنّ ” سَدادًا” بالفتح هنا لحن، قال: أوتلحنني! قلت: إنما لَحَن هُشَيم، فتبع أمير المؤمنين لفظه… قال الفضل بن سهل: يا نَضْر، إنّ أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبرته، ولم أكذبه، فقال: ألحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا إنما لحن هُشيم، وكان لحّانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ الفقهاء، ورواة الآثار، ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم، فأخذت ثمانين بحرفٍ واحدٍ([52]).
- الجِدّ والاجتهاد عنوان الباحث، وهدف يتسلح بهما الدارس. إنما يفيضان إلى مقاصد التأليف وغاية العِلم. بهما تشمح المكتبة وتُنْفَض عنها غبار الدهر، وبلى القِدم، وتدخل في ما استحق الذكر. أشار العلماء إلى مقاصد التأليف، التي لا يؤلف عالم إلا في أحدها، وهي: “إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخلّ بشيء من معانيه، أو شيء متفرّق يجمعه، أو شيء مختلط أخطأ فيه مؤلفه يصلحه”([53]).
- وضْع الظاهرة موضوع التّقييم، أو القضيّة مطلوبة التّحكيم في حدودها الزمانيّة والمكانيّة، قبل إعطائها قيمة، أو إصدار بحقّها حكمًا. فمن غير المعقول قياس ابن النّفيس ونظرياته الرّائدة في الطب بمنظار اليوم، وبمقاييس العصر؟! فجهود العالِم في غير زمانه تظهر تقصيره. ونظرًا للمعيار المذكور، جدّ علماء اللغة في إعطاء القيمة الكبيرة للسياق قبل تحديد المعنى المقصود. وإليه ذهب البلاغيون، الذين أعاروا اهتماماتهم لما أسموه “القرينة”…
لم يعد نعت المرأة بالدونيّة مَجلبه التراث، ووضعها في مقام هامشي في صناعة اللغة منبعه الموروث. بات السكوت عن الخطا الشائع مبعثةً للشنائع، وتقويض بنيان الحقيقة وجعلها من سقط المتاع. على العاقل والتبصّر والتفكّر والتدبّر قبل اتخاذ القرار، للسموّ من حضيض التأخر إلى يفاع التطور. والقول مع الفعل يوصل إلى الأمل، والتمني مع التوقع يرقى بالعِلم إلى أسفل.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- أخبار النساء: محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، شرحه وقدّم له عبد مهنل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410ه – 1990م.
- أدب المرأة العراقية في القرن العشرين: بدوي طبّانة، دار الثقافة، بيروت، ط2، 1974م.
- أشعار النساء: أبو عبد الله بن عمران المزرباني، حقّقه وقدم له د. سامي مكي العاني وهلال ناجي، عالم الكتب بيروت، ط1، 1415ه-1995م.
- الإماء الشواعر: علي بن الحسين أبو فرج الأصبهاني، تحقيق د. نوري حمودي القيسي ود. يونس أحمد السامرّائي، عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية، بيروت، ط2، 1406ه- 1986م.
- تاريخ الموسيقى العربية حتى القرن الثالث عشر الميلادي: هنري جورج فارمر (G Harmer)، عربّه جرجس فتح الله المحامي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1972م.
- تعدد الزوجات في الإسلام: إبراهيم محمد حسن الجمل، دار الاعتصام للطبع والنشر، القاهرة، 1984م.
- تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل: الإمام عبد الله بن عمر البيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408ه-1988م.
- ثمرات الأوراق: أبو بكر بن علي بن حجة الحموي، تحقيق وتعليق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجبل، بيروت، ط3، 1417ه- 1997م.
- الجامع لأحكام القرآن: الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413ه- 1993م.
- حضارة العرب: غوستاف لوبون (Gustave Le Bon)، نقله إلى العربية عادل زعيتر، طبع بمطابع عيسى البابي الحلبي وشركاه، لا.تا.
- درّة الغوص في أوهام الخواص: القاسم بن علي الحريري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، ط1، 1424ه-2003م.
- ديوان جميل بثينة، جمع وتحقيق د. حسين نصّار، دار مصر للطباعة، القاهرة، ط2، 1967م.
- ديوان عمر بن أبي ربيعة، شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الأندلس، بيروت، 1997م.
- ديوان الفرزدق، دار صادر، بيروت، لا.تا.
- رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها: ابن حزم علي بن أحمد الأندلسي، تحقيق د. إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1987م.
- روضة المحبين ونزهة المشتاقين: الإمام محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، خرّج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415ه- 1995م.
- الفهرست: محمد بن إسحاق النديم، دار المعرفة، بيروت، لا.تا.
- القيان: أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، تحقيق جليل العطية، رياض الرّيس للكتب والنشر، بيروت، لا.تا.
- كتاب أدب النساء: الموسوم بكتاب الغاية والنهاية: عبد الملك بن حبيب، حققه وقدّم له ووضع فهارسه عبد المجيد تركي، دار المغرب الإسلامي، ط1، 1412ه-1992م.
- كتاب الأذكياء: الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415ه-1995م.
- كتاب الأغاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، تحقيق عبد الستار أحمد فرّاج، دار الثقافة، بيروت، لا.تا.
- كتاب ألف باء: الإمام الحجّاج يوسف محمد البلوي، عالم الكتب، بيروت، لا.تا.
- كتاب بلاغات النساء: الإمام أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور، اعتنى به وفهرسه بركات يوسف هبّود، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، ط1، 1412ه-2000م.
- كتاب العِقد الفريد: أحمد بن محمد بن عبد ربّه، شرحه وضبطه… أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1403ه-1983م.
- كتاب عيون الأخبار: ابن قتيبة عبد الله بن مسلم، طبعه مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية لسنة 1343ه-1925م، إعادة طبعه دار الكتاب العربي، بيروت لا.تا.
- كتاب المحبّر: محمد بن حبيب، رواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري، اعتنى بتصحيحه د.ة. إيلزة ليختن شتيتر، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، لا.تا.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: جار الله الزمخشري، دار المعرفة، بيروت، لا.تا.
- لسان العرب: ابن منظور محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت، ط1، 1410ه- 1990م.
- لطائف اللطف: أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، تحقيق د. عمر الأسعد، دار المسيرة، بيروت، ط2، 1407ه-1987م.
- مجلة الفكر العربي، محمد معهد الإنماء العربي، بيروت، العدد 82، خريف 1995م.
- مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني، حققه وفصّله وضبط غرائبه وعلّق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السنّة المحمديّة، القاهرة، 1374ه-1955م.
- المحاسن والأضداد: عمرو بن بحر الجاحظ، شرح د. يوسف فرحات، دار الجيل، بيروت، ط1، 1417ه-1997م.
- محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لا.تا.
- المرأة واللغة: عبد الله الغذَّامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1996م.
- المستطرف في كل فن مستظرف: محمد بن أحمد الأبشيهي، عني بتحقيقه إبراهيم صالح، دار الصادر، بيروت، ط1، 1999م.
- مصارع العشاق: الشيخ أبو محمد جعفر السرّاج القارئ، دار صادر، بيروت، لا.تا.
- المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء: أبو العباس أحمد بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405ه-1984م.
- نزهة الجلساء في أشعار النساء: الإمام عبد الرحمن السيوطي، دراسة وتحقيق وتعليق عبد اللطيف عاشور، مكتبة القرآن الكريم، لقاهرة، لا.تا.
- النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين المبارك بن محمد الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، لا.تا.
[1] – دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانية، كلّيّة التربية . mrs.nahedjaber@gmail.com
[2]– مجلة الفكر العربي، العدد 82، ص 5-6.
[3] – أدب المرأة العراقيّة في القرن العشرين، ص 24.
[4] – المرأة واللغة، ص 114.
[5] – مجلة الفكر العربي، عدد 82، ص 81.
[6] – لسان العرب، مج 3، ص 442 [وأد].
[7] – سورة التكوير ، الآيتان 8و9.
[8] – يراجع النهاية في غريب الحديث والأثر، ص 143، وأكد على شنيع الفعل، وشجب القتل ما تلاه من حديث في المصدر المذكور: ﴿الوئيد في الجنة﴾ أي الموءود.
[9] – سورة الإسراء، الآية 31، وسبق التنبيه في سورة الإنعام، الآية 151: ﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم﴾.
[10] – الجامع لأحكام القرآن، مج 5، ج 10، ص 87، زاد في اللسان:” وكانت كندة تئد البنات” لسان العرب، مج 3، ص 443.
[11] – ديوان الفرزدق، مج 1، ص 173.
[12]– ينظر، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 5، ص 143، ولسن العرب، مج 3، ص 442-443، مادة [وأد].
[13] – سورة النساء، الآية 13.
[14] – سورة النساء، الآية 13.
[15]– تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مج1، ص 200.
[16] – الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج1، ص 497.
[17] – سورة النساء، الآية 23.
[18] – ينظر، تعدد الزوجات في الإسلام، ص 15.
[19]– تعدد الزوجات في الإسلام، ص 17.
[20]– نظام تعدد الزوجات في الإسلام، وتفسير السلوك المذكور نابع من نظرتهم إلى المرأة. “كان الأغارقة على العموم، يعون النساء من المخلوقات المنحطة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل… وكانت المرأة الولود تؤخذ من زوجها بطريق العارية لتلد للوطن أولادًا من رجل آخر”. ينظر حضارة العرب، ص 406.
[21] – تعدد الزوجات في الإسلام، ص 21.
[22] – يراجع، لسان العرب، مج 10، ص 166، مادة: [سوق].
[23] – ديوان جميل بثينة، ص117.
[24] – ديوان عمر بن أبي ربيعة، ص 113.
[25] – مصارع العشاق، مج1، ص 10.
[26] – مصارع العشاق، مج1، ص 12، وفي لمصدر نفسه، الصفحة 15، نقل عن سقراط الحكيم قوله: العشق جنون، وهو ألوان كما أن الجنون ألوان.
[27] – مجمع الأمثال، ج1، ص 196، وشرحه: أي يُخفي عليك مساويه، ويُصمُّك عن سماع العذل فيه، ومن الأدواء أيضًا الحصر والعي، والبهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره، لا سيما إذا رآه فجأة، أو طلع عليه بغتة. ينظر تفصيل ذلك وشرحه، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ص 193-194.
[28] – يراجع، محاضرات الأدباء، ومحاورات الشعراء والبلغاء، مج2، ص 118.
[29] – كتاب ألف باء، ج1، ص271-272.
[30] – كتاب أدب النساء، ص 10-11.
[31] – كتاب بلاغات النساء، ص 19.
[32]– ينظر في المزيد من كتب القيان، الفهرست، ص 207، ص 211- 212.
[33] – القيان، ص 41.
[34] – الإماء الشواعر، ص 21-22.
[35] – أشعار النساء، ص25، ص130.
[36] – أخبار النساء ص 7، ص 197.
[37] – نزهة الجلساء في أشعار النساء، ص 23.
[38] – المحاسن والأضداد، ص 178، وص 170.
[39]– كتاب عيون الأخبار، مج 2، ج4، ص 1-145.
[40] – كتاب العقد الفريد، ج1، ص2.
[41] – كتاب العقد الفريد، ج6، ص 83-142.
[42] – ينظر، لطائف اللطف، ص 97- 104.
[43] – كتاب الأذكياء ص 5.
[44]– كتاب الأذكياء، ص 236-262.
[45] – كتاب الأذكياء، ص 256.
[46] – المستطرف في كل فن مستظرف، مج 1، ص17-18.
[47] – يراجع، المستطرف في كل فن مستظرف، مج 1، ص 184-195.
[48] – ينظر، كتاب الأغاني، مج 20، ص 354، وفيه تفصيل رواية السليك واستجارته بفكيهة.
[49] – يراجع، كتاب الأغاني، مج 15، ص 61.
[50]– ينظر، كتاب الأغاني، مج 10، ص3.
[51] – يراجع، كتاب المحبّر، ص 398-399، ويشير فارمر إلى مقام الأنثى في المجتمع بقوله: المطربة (المغنية) لم يكن دورها بالذي يستهان به في الحياة الأدبية… هنري فارمر تاريخ الموسيقى في العربية، ص 48، ولم يكن (الحريم) معروفا آنذاك وحرية النساء على ما يبدو تكاد تساوي حرية الرجال.
[52]– يراجع، ثمرات الأوراق، ص 129-130، ودرة الغواص في أوهام الخواص، ص 90-91.
[53]– رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها (ضمن رسائل اب حزم الأندلسي)، ج2، ص 186.