صورة الخضوع لسلطة الأب البديل وتجليّاتها في رواية ضوء وتراب لصالح إبراهيم
رفاه دياب
تمهيد
سنعالج في هذا البحث خضوع بطل رواية “ضوء وتراب”، “سلام الدوريّ” لسلطة الأب البديل. وسنأخذ شخصيّة “سلام الدوريّ” نموذجًا لهذا الخضوع.
لذا سنبيّن أسباب هذا الخضوع والنتائج المترتبة عنه؛ “فسلام” يسعى إلى تعويض الفقدان الأبويّ. وسنحاول الكشف عن هذه التبعيّة المفروضة على البطل، وتبيان سبب الاحتقار، ورصد كلّ أشكال الخضوع، كما أنّنا سنحاول إظهار السلطة المفروضة على البطل من قبل السلطة البديلة.
المبحث الأوّل:الخضوع لسلطة الأب البديل
الأب هو رمز السلطة والأمان، وهذه الصورة المزدوجة تُحِيلنا إلى دراسة خضوع البطل لسلطة الأب البديل “العمّ عاصي”، فالأحداث جعلت من “سلام الدوريّ” في رواية “ضوء وتراب”، شخصًا خاضعًا لأوامر فرضتها أواصر القرابةِ في مجتمعه ومحيطه.
إنّ المحيط الذي نشأ فيه “سلام”، وأثّر في حياته، وسلوكه الفرديّ، والجماعيّ، كان له ارتدادات في علاقاته المصيريّة بحكم الظروف، والتحدّيات الجديدة التي واجهها في مجتمعه.
فالأب يشكّل كِيانًا متماسكًا، يتكوّن من النظام، والسلوك، وطريقة التعامل التي يفرضها على أسرته، كونه مصدر السلطة، وكما أنّ الأمان من صفاته، يسعى الأب إلى خلق مساحة لكي يعبّر فيها الأبناء عمّا يزعجهم ويخيفهم.
لكنّ البطل وجد أمانًا مجتزأً، وسلطةً مفروضة تنهشُ جسمه الضعيف، عندها خضع لقرارات عمّه، ولأوامره، فكان العمّ هو المدبّر، والمهيمن، لأنّ شخصيّة عمّه تمثّل في الرواية رمزَ العناد والصمود. “هكذا قرّر عمّي عاصي.”([1])
وغياب الوالد جعل من “سلام” شخصًا خاضعًا ضعيفًا، فلو كان الأب موجودًا لكان الالتزام بالقرارات والأوامر، لا يسير هكذا على خطٍّ مستقيمٍ، ولكنّه وجد في عمّه واحةً في صحرائه، فهو المعذّب، “المبعثر على مفارق لا تحصى… الجائع المتشرّد، المدجن، الحزين…”([2]).
وهذا ما جعله يسلّم أمره لمن يكبره سنًا، لأنّه حاول التفتيش عن والده، “أبي يا عمّي لماذا رحل إلى فرنسا“([3])، وعندما يصف “سلام” ذاته، يصف الغياب الذي مزّقه “أنا من منفى أبي.”([4])
هو بعيد كلّ البعد من والد أراد أن يكون بقربه، ولكنّ عمّه “عاصي” قرّر أن يبقيه معه “هكذا قرّر عمّي عاصي… أن يرحل أبي وأبقى أنا معه…”([5]).
وعندما يكون الأب كالحصان الورقيّ، فلا بدّ من التعمّق في هذه الصورة التي يجسّدها الأب في مخيّلة البطل “سلام” فهو ليس فارسًا، أو بطلاً في نظر ابنه، بل هو يندثر كاندثار الأوراق، ويتطاير مبعثراً “أبي حصانٌ من ورق.”([6]).
فالعلاقة ما بين الآباء والآبناء تكون وطيدة إلى حدٍّ ما، ولكن غياب الأب دفع البطل “سلام” إلى البحث منذ البداية عن أبٍ بديلٍ، على الرغم من حالات التحرّر والانعتاق التي سادت سلوكه الاجتماعيّ، مع من يحيطون به، وهذا البديل فرضه المجتمع، وفرضته أواصر القرابة التي مثلّها العمّ “عاصي” في الرواية. كما أنّ هذا العمّ يقوم برسم صورة في ذهن البطل تشرّع عمليّة الخضوع له “أبوك جبان.”([7]).
والخضوع لأوامر بديلة من سلطة الأب الحقيقيّ هي حالة التقهقر التصاعديّ، وهذا “التقهقر التصاعديّ للبطل هو، في الوقت نفسه، عبور من الهوّة حيث السقوط المدوّي”.([8]).
وللمكان دور كبير في رسم معالم الخضوع في شخصيّة “سلام”، فالراوي البطل يتحدّث عن أثر المكان في حياته، وعن التغيرات العميقة التي أحدثها، منذ أن ابتعد من منزله الذي أسماه كوخًا، فيتمثّل المكان الروائيّ، ويظهر من وجهة نظر البطل، وهذا ما يسمّى المكان المنظر العامّ “والذي يقدّم الراوي الأماكن والأشياء الأخرى كما تتمثّلها رؤيته العامّة لها.”([9]) ويكبّل هذا المكان البطل ويجعله منقادًا وهو قريته “عيون الحورات” كما يصفها “قرية منزوية، معزولة، تشبه شهيق السماء على قمّة من ألق.”([10]).
ويستحضر الأماكن التي خلقت له جوًّا من العبثيّة والخضوع، “عركتني الأيّام، عانقت الأمكنة البعيدة، لكنّها لم تسكب في روحي سوى المزيد من سواد التعب.”([11]).
و”يكشف المكان الروائيّ الواقع الاجتماعيّ”([12]) لا بل يحدّده، وتبدو قرية “عيون الحورات” أشبه بالمكان الخياليّ، نظرًا إلى أليّة الوصف التي يقدّمها الراوي، “ويدور فيها الصراع بين اتّجاهين: أوّلهما الانعزاليّ، وثانيهما الوطن الساعي إلى وحدة وطنية.”([13]).
وعندما ينخرط “سلام” في صفوف الفدائيّين، يخضع لأوامر عمّه، من دون تردّد فالمكان البعيد المنعزل، سبَّب له انقطاعًا عن ذاته وجعله منقادًا.
لذا يظهر المكان في الرواية مضطرب الأبعاد ما بين عيون الحورات، وبيروت وفلسطين، وكلّها أماكن تشتعل فيها نار الحرب، وتجول نيرانها في مخيّلة البطل محدثة شعلة تبقيه متقلّبًا، فتفرض سلطة المكان نفسها على البطل.
وهذه السلطة الأسريّة التي مثّلها العمّ “عاصي” وفرضت على “سلام” أن يخضع لقرار الحرب، جعلته مكبلاً ما بين قيود الزمان والمكان، وهذه الحرب أبعدته من أسرته، وغيّرت مسار حياته، فالحرب أتت في “مقدّمة الأسباب الدافعة إلى الهجرة، لأنّ البلاد تَضيق إمكاناتها”([14])، وتضيّق الخناق على مواطنيها وتحدث الفوضى واللاستقرار.
وهذه النتائج السلبيّة والقاسية تحمّل أصحاب السلطة، والحكومات المتعاقبة والمتحكّمة بمصير الشعب أنذاك المسؤوليّة في جرّ الويلات، والأزمات على مستقبل الوطن وأفراده.
كما أنّ عدم الوعي والنضج سبَّبا عذابًا ومشاكلَ أثّرت في علاقات البطل مع أقرانه، ومن يحيطون به، وخصوصًا أن الحرب جعلت من “سلام” في أماكن كثيرة، شخصًا منعزلاً عن محيطه، لذا حاول الابتعاد من هذا الجوّ الكئيب، وجاب البلاد، علَّه يستريح من ألمه.
عندها راح سلام يبحث عن ملاذٍ آمن، لأنّه أضحى يتيمًا معذبًا بقناعات عمّه، وهذا ما يجعل الخضوع يتغلغل في أعماقه وكِيانه ويقول” لو كان لي أمّ لهرعت إليها، لو كان لي أب لناديته، وارتميت في حضنه. أنا اليتيم المعذّب بقناعات عمّي، وأبواي على قيد الحياة، أبكي في السرّ، وألوك صمتي في العلن.”([15]).
هذا ما سبّب للبطل أزمة وتشتّتًا كبيرين، ويقول الراوي البطل “أنا خجول وتأكلني العقد النفسيّة...”([16]) وصورة الحرب التي تعصف بالمجتمع في الرواية، والنظام الاقطاعيّ المستبدّ الذي يفرض سلطته على شخصيّات الرواية عمل على “قهر الإنسان، واستعباده، ومحاصرته بشتّى القيود التي تحدّ من قدرته، وتضعف، ثقته بنفسه…”([17]).
وهذه الحرب والتغيّرات في البنى الاجتماعيّة أوجدت في الإنسان أعمق الأشواق والوعود، وهذا يظهر في شخصيّة “سلام الدوريّ” عندما برزت هذه الأشواق، والوعود في حديثه، وفي وصفه وحتى في علاقته مع عمّه حين يخضع لقراراته.
“فالمرء يحتاج إلى سلطة أبويّة عادلة، ومتفهمة تساعده على مواجهة الأزمات.”([18]).
ويبدو أنّ العمّ متطرّف الملامح فتارةّ يقرّ بأنّه مهزوم، ويقول إنّه من جيل الهزيمة، وطورًا آخرَ، يظهر متسلّطًا، وهذا ما يردّده “سلام” بأنّه متسلّط أرعن.
وهذا الاعتراف نتج عن تدخّلات الرواي في سياق السرد أي “عندما يكون الراوي ممثّلاً في الحكي، أي مشاركًا في الأحداث.”([19]).
ولأنّ الراوي هو البطل، وليس مجرّد شاهد يتدخّل في تغيّر سيرورة الأحداث وتبدّلها، كان ظهوره ملموسًا، وفي هذا المبحث نتلّمس بروز الراوي البطل أي شخصيّة سلام الرئيسة، التي تنتج الأحداث بنفسها، فعلى الرغم من خضوعها لشخصيّات الرواية نجدها في هذا المبحث تتحدّث عن ذاتها، وتصف أحوالها وتبدّل أفعالها.
ويجتمع في رواية “ضوء وتراب” الوصف الجماليّ، والوصف التوضيحيّ التفسيريّ، ولهذا الوصف “وظيفة رمزيّة دالّة على معنى معيّن في إطار سياق الحكي.”([20]).
“أنا الممزّق بين الوردة والشظيّة، أنا القتيل ولم أقتل، أنا الهارب من النيران، أنا المعذّب بهمّي وقدري”([21]). وهذا ما يسمّى الوصف في الحكي، أي حكيًا يتضمّن “أصنافًا من التشخيص لأعمال، أو أحداث تكون ما يوصف بالتحديد سردًا”([22]). فهذا الوصف يحيلنا إلى التفتيش عن الخضوع، الذي انعكس سلبًا على شخصيّة “سلام” وعلاقاته الاجتماعيّة.
والواقع الاجتماعيّ يفرض نصًّا متآلفًا مع طبيعة التغيّرات الجذريّة، التي تنتاب المجتمع اللبنانيّ الذي لم ينعم بالاستقرار والأمان.
وهذا ما انعكس على الزمن المتأرجح، الذي اتّبع فيه الكاتب، وتيرة تتراوح ما بين الإبطاء والتسريع، والسببُ هو الثنائيّة التي أسقطت على شخصيّة البطل “سلام”، فالخضوع يظهر ويضمحل، تبعًا للمكان والزمان، عندها يخضع للشخصيّات الأخرى نتيجة التبدّلات في أسرته.
ولم يقتصر هذا الخضوع على الأفراد، بل تعدّاه إلى المكان المتغيّر، وفي الوقت نفسه هو العنصر المبدّل لطبيعة هذا الخضوع، وتحوّله إلى تمرّدٍ في السياقين الزمانيّ، والمكانيّ خلال عمليّة السرد.
وهذه الوتيرة التي تراوحت بين الإبطاء والتسريع، تسمّى مفارقةً زمنيّة، لذا نقع على تقنيّة الاستباق التي استخدمت في الرواية عندما يصف البطل “سلام” عمّه “عاصي”، وعندما يتّبع القارئ حركيّة السرد يدرك حقيقة هذا الموت المزيّن “ودعت عمّي حين تزيّن لموته وهو كهلٌ”([23]).
وهذه التقنيّة الاستباقيّة تستشرف المسقبل، عندها يعلن السرد مسبقًا، عمّا سيحدث قبل حدوثه أي “عندما يعلن السرد مسبقًا عمّا سيحدث قبل حدوثه” ([24]).
وهنا يبرز عنصر التخيّل، وعنصر التشويق، ويسعى الباحث إلى تعقُّب مشاهد الرواية، من أجل الاهتداء إلى الرجال الذين “ساروا إلى موتهم طوعًا“([25]). بحيثُ تصبح وظيفة السرد الاستباقيّ “هي تجاوز حالة القلق الناتجة عن وضعيّة الانتظار العبثيّ”([26])، وهذا الأب البديل يسترجع قصّته ويسردها للبطل “سلام”، ومظاهر الضَعف، والتشتّت تبدو واضحة في كلامه، فالسلطة الأبويّة التي احتاجها “سلام ” بعد سفر والده، تشبه قصّة عمّه الذي فقد والده أيضًا، نقول عمّه لأنّنا في صدد البحث عن هذا البديل الأبويّ “عاصي” الذي كان صغيرًا، ولكنّ والد “سلام”، “لطيف”، لم يحضن ابنه الوحيد، ولم يوفّر له الأمان، بل تركه وحيدًا يجابه، ويقاوم، الظلم واللاستقرار في محيطه ووطنه.
ويقول “عاصي”: “كان أبي قد مات قبلها بسنتين (أمّه حليمة)، فأصبحنا أنا وأبوك يتيمين.”([27]). وعلى الرغم من فقدان الأب الحقيقيّ “لطيف” لسلطة أبويّة تحضنه، لأنّه حرم من والده وتيتّم باكرًا، وفقد طفولة بريئة، وحياةً شريفة، “كبرنا في زمن الجوع. عشنا على عطف الفقراء وحسناتهم.”([28]). “ولا نزاع أنّ المراهق يحتاج إلى سلطة أبويّة عادلة، ومتفهّمة، تساعده على مواجهة الأزمات، وعلى مقاومة الميول الطوباويّة، والتدميريّة.”([29]).
ولكنّ هذه السلطة يتلقّاها من بديل أبويّ يعترف أنّه مهزوم، عاش كلّ الأزمات التي أثقلته، وجعلته، يخضع لمبدأ الحرب، وللأحزاب المتعاقبة التي حكمت لبنان، والتي تحالفت مع الدول الأجنبيّة والعربيّة، تبعًا لمصالحها.
ويقول “عاصي”: “عايشنا زمن التحوّلات الكبرى، زمن الاستعمار الفرنسيّ والنكبة والنكسة… أنا من جيل “سايكس” و”بيكو” يا ولدي. لعنة الله عليهما. أنا من جيل الهزيمة يا ولدي.([30]).
لذا نجد أنّ هذا البديل الأبويّ زرع في نفس الطفل، ميولاً عدائيّة جعلته يكره بيئته، ومحيطه، لأنّ مجتمعه يخضع بالدرجة الأولى لفئات أخرى، والرواية تطرح صراعًا معقدًا، هو صراعٌ قديمٌ نشأ في زمن الحرب، والاستعمار، وجد قبل حدوثه بين الآباء والأبناء أي بين “عاصي”، و”لطيف”، و”سلام”، وكلّنا يرى تجربة الغرب مع العرب، التي “اتّخذت طابعًا حادًا عنيفًا، اعتمد على القهر، والاستعباد، والقتل، والتدمير، والتشريد، ومصادرة الأراضي”.([31])
ويظهر هذا الصراع بوضوح عندما نقع في الرواية على مشهد زواج والد “سلام” من ابنة رجل غنيّ يحمل الجنسيّة الفرنسيّة، وعلى علاقة متينة مع القنصل الفرنسيّ.
وتعكس الرواية صوت الغرب وصورته من خلال الحديث عن دخول الفرنسيّين إالى البلاد، ويقع اللوم على الوالد وكأنّه المسؤول الوحيد عن الحرب التي تُرمى تبعاتها، وأزماتها على كتفه، وعند تتّبعنا السرد نرى هذا الهجوم، الذي شنّه “عاصي” على “لطيف” والد “سلام“، “أخي لطيف، يا جبان. أبوك… لم يقف ضد الفرنسيّين… ولم يدخل الحزب… ولم يلتحق بالثورة… تزوج من امرأة أبوها يحمل الجنسيّة… جنسيّة الأجانب الذين مصّوا دمنا، ونهبوا بلادنا.”([32]).
ونرصد في الرواية صوتًا وطنيًا، يمثّله “عاصي”، صوتًا يحملُ لومًا وحزنًا، لأنّ الوطن يفرغ من مواطنيه الذين تعرّضوا للظلم والجور، على أيدي المضطهدين، والمواطن المضطهد بدوره يختزن الاضطهاد من أجل التغيير، لا من أجل زرع الأحقاد في نفوس الأجيال الناشئة، ولكنّ الأب “لطيف” وربّما هو الوطن المفقود بالنسبة إلى “سلام”، يحمل أمتعته متوجّهًا نحو بلاد حاولت أن تمتصّ دمه، وتهتك عرضه، وتعرّضه للمذلّة والجوع، والفقر. لذا نجد هذا الهروب غير المسوّغ في زمن الحرب، والموت، والدمار، وهذا الدمار انعكس على ابنه الذي حمل بندقيّته كي يدافع عن وطن سلبت منه الكرامة والحرّيّة.
لذا تشرّب هذا المراهق مشاعر الدونيّة، والخضوع، بَدءءًا من عائلته التي حضنته، وأخذ يمتثل لقراراتها، هذه العائلة البديلة على الرغم من أنّها الواحة التي وجد فيها بعض الأمان، إلاّ أنّها مسرح أشواك، بُنيت دعامته على الخضوع، والانقياد التراتبيّ، فالعمّ “عاصي” يخضع لفئة الثوار الحزبيّين، وهو بدوره يفرض سلطته على ابن أخيه “سلام”، وهذا البطل اقتنع بقدره وآمن بحياته البائسة، “كبرت معه. اعتدت عليه. أحببته. لولا قسوته مع أبي لقدسته.”([33]).
وأصبح هذا الأب البديل، ملكًا يتربّع في ذهن البطل، ومخيّلته، “عمّي عاصي مَلِكُ هذه الطريق، ومَلِكُ تلكَ الشجرات، والساحر المذهل المتقنُ فنون الظهور والاختفاء.([34]).
ولم يكن هذا العمّ مجرّد ملك، يأسر البطل، لأنّه كان قائدًا مقدامًا في نظره، وهذا ما نجده في حديث البطل “سلام”، مع القائد الأعلى للحزب “أبو ليلى”، عندما أراد تبليغه باسم قائد المجموعة الجديد، عندها يردّ البطل بنبرة واثقة، “تكلّم أبو ليلى”: “هذا الأخ وفيق، يا سلام، قائدك الحزبيّ”([35]).
ولكنّ الضعف المسمّر في شخصيّته، يبرز من جديد، حتّى في مشهد دفاعه عن سلطة عمّه الصارمة، فهو لم يُجِبْ، إلاّ في وقت لاحق، “في اليوم التالي، قلت لــ “أبو ليلى” حازمًا: أنا لا قائد لي. عمّي عاصي هو القائد. وعليّ أن أتبعه. إمّا أن أتبعه بمَهَمَّة، أو أتبعه بطريقتي الخاصة”.([36]).
وعندما يسرد البطل رحيل عمّه عن هذه الحياة، يوظّف في هذا المشهد الروائيّ، تقنيّة الوصف، وتحتشد الحواسّ، وتتضافر جهود الباحث لتكوين صورة، ربّما تكون متكاملة بعد أن يختزل السرد صفات هذا البديل الأبويّ في البداية، “أخذ نفسًا. نظر إلى عينيَّ . قرَّب وجهه منّي، قبَّلني. فوجئت؛ كنت مقتنعًا، تمامًا، بأنّ عمّي عاصي لا يقبّل أحدًا. أمّا أنا فلا أذكر أنّ أحدًا قبّلني في طفولتي. نعم، قبّلني عمّي عاصي، ثمّ لفّ ذراعه على كتفيّ، وألقى بين يديّ علبةَ: “فيها كلّ ما أملك من مال”، أطال عمّي، بعد ذلك، الصمت، صمته الآن ثقيل، ثقيل جدًّا،… هكذا تركني، وقد شارف على السّتين، إلى غمامة ضوئه الأخير.([37]).
وتبدو هذه الصورة تشكيلاً، “يحيل الوصف إلى مدلول يرتبط بجوّ الحدث ولحظته، ويحفّز السرد، حتّى إنّ الوصف قد يؤدّي دور السرد في وظيفته، فيقتحم عالم السرد ليسقط الحالة النفسيّة المتواترة.”([38]).
فاستخدام الوصف له وظيفته في “إيضاح بعض العناصر التي تتميّز بشيء من الأهمّيّة وتعبّر عن شيء ما.”([39])، لأنّ هذا الوصف الدقيق يوحي بحالة البطل “سلام” في أثناء رحيل عمّه، ونجد وصفًا سرديًّا تظهر فيه حاجة “سلام” إلى عمّه، “هكذا تركني، وقد شارف على الستين، إلى غمامة ضوئه الأخير. لم يلتفت. لم يتكلّم. لم يتراجع. لم يردّ. لم يُصغِ. مشى. ناديته. رجوته: “خذني معك”. لم يستجب. ابتعد. راقبته دامعًا. استحال نقطة ضوء. امتصّه لبّ العالم، نبع الضوء… فرحت به لأنّي احتججت، صرخت، بكيت.([40])، فاحتجاجه بكاء، وصرخته صمت، هو ضعيف يحتاج إلى هذه القوّة المفروضة عليه، التي اعتاد أن تسيّره على خطّ مستقيم، لا يعبّر فيه عمّا يجول في خاطره، حتّى في رحيله، فرح به ووصف المكان الذي سيستوطنه من جديد أنّه لُبَّ العالم، “عمّي غادرني إلى لبّ العالم”([41]).
ونجد صفات جديدة تختصّ بالعمّ “عاصي”، ولكنّها على لسان المختار “الحاجّ أدهم” “عاصي… كان عنيدًا، حارب الفرنسيّين، كان شرسًا، يغيب عن الضيعة أشهرًا. وعندما يعود يُثير المشاكل. كان يريد أن يُحاسب الجميع… لا يُطيل المُكوث، ولا يعرف أحدٌ أين يقيم، ولا يُزامل، ولا يُصاحب. كان إنسانًا مختلفًا. كان مميّزًا. كنّا نخشاه…”([42])، وتعدُّد الرواة يعكس رؤى عدّة تأتي جميعها لخدمة النصّ الروائيّ، فالشخصيّات داخل الرواية الواحدة تتناوب على رواية الوقائع واحدة بعد الآخرى”، ومن الطبيعيّ أن يختصّ كلّ واحد منهم بسرد قصّته.”([43]).
ونقول إنَّ الخضوع ظلَّ يرافق البطل حتَّى في ذكرياته، وألمه، وبقيت رائحة التراب راسخة في عقله وقلبه، وظلّت الأرض التي أوصاه عمّه بأن لا ينساها، مسرحًا لاستمرار خضوعه، الذي تشرّبه من عمّه، ولكنْ في مكان، وزمان، آخرين، كما أنّ خضوعه للسلطة البديلة كان خضوعًا لسلطة مزدوجة تحمل القسوة والضَعف.
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ضوء وتراب، ص: 27.[1]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 26.[5]
[6]– المصدر نفسه، ص:101.
[7] – م. ن.، ص:25.
[8] – أيّوب، نبيل، نصّ القارئ المختلف (2) وسيميائيّة الخطاب النقديّ، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 2011، ص:83.
– زراقط، عبد المجيد، في بناء الرواية اللبنانية، ج2، البناء الروائي بوصفه خطابا، دائرة منشورات الجامعة اللبنانية، ص: 1149. [9]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 10. [10]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 11.[11]
.- زراقط، عبد المجيد، في بناء الرواية اللبنانيّة، ج2، البناء الروائيّ بوصفه خطابًا، ص: 1032[12]
.- المعوش، سالم، الأدب وحوار الحضارات، دار النهضة الحديثة، بيروت ، لبنان، 2007، ص:162[14]
.- إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 29[15]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص:12.[16]
– الحورانيّ رامز ، المناهج، النقديّة الحديثة، ساب، بيروت، لبنان، 1995.[17]
– طنوس، جان، العنف في الرواية والقصّة العربيّة،ج2، ثنائيّة الحبّ والقهر، ط1، دار النهضة العربيّة، بيروت، لبنان، ص:182.[18]
– لحمداني، حميد، بنية النص السرديّ، ص:49.[19]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 18.[21]
– لحمدانيّ حميد، بنية النصّ السرديّ، ص: 78.[22]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 10.[23]
– بو عزّة، محمّد، تحليل النصّ السرديّ، تقنيّات ومفاهيم، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 2010، ص: 89. [24]
– إبرهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 10. [25]
– بحراويّ، حسن، بنية الشكل الروائيّ، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1990، ص: 121.[26]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 24.[27]
– يعقوب، غسان، أزمة المراهقة والشباب، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنشر، بيروت، ط1، 1979، ص: 48 ـــ 49.[29]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 24.[30]
– المعوش، سالم، الأدب وحوار الحضارات، ص: 279.[31]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 25.[32]
– إبراهيم، صالح، ضوء وتراب، ص: 27.[33]
– أيّوب، نبيل، النقد النصّيّ(2)، وتحليل الخطاب، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 2011.[38]
– غرييه، آلان، نحو رواية جديدة، تر. مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف، مصر، ص: 166.[39]