قراءة في ديوان “فاصلة لكلّ الأزمنة”
د. عليّ حجازيّ
جميلة هي اللحظات التي نتخاصر فيها في قراءة نتاج شاعر كبير، من صفاته الشفافيّة، والصدق، والرقّة والعذوبة، والرؤية التي يتّسع مداها الرحب لنقرأ مجريات أحداث هذا الكون، ومسار القائمين على قيادته، ولنكشف ونعري بلغة راقية قريحة مكّنته من تقديم هذه الرؤية بفرادةٍ وخصوصيّة يسمّيها الصديق العزيز د. عليّ زيتون، البصمة.
فبصمة محمود نون في هذا الديوان هي الأدبيّةُ عينها التي قدّمت الرؤية بتقنيّة عالية.
وجميلٌ أن نسبر أعماق الشاعر، نسوح في حدائق فكره، نشرّع النوافذ على رؤاه للرمل، للذئاب، للعلل التي تضرب جسد هذا لوطن، للفساد القائم المستشري فيه بدءًا من عمامة (عمة) متطفّل على الدين، إلى حامل شارة الأمن، وإلمعلّم المفترض ان يكون مؤتمنًا على رسالة العلم والطلاّب، فإذا به يقلب المعادلة، ويأخذ من أصحاب الكفاءة المنح التي يستحقونها ويمنحها لغيرهم.
لذا رأيت أن أدخل إلى عالمه من باب العنوان الذي يخفي بين حروفه حكاية معبِّرة، العنوان “فاصلة لكلّ الأزمنة”. فعند رؤيتي الفاصلة، غامت عيناي ورحت استعيد ذلك المشهد البهيّ، حيث طلب إلينا السيّد “وانغ قوي قا”، المترجم من الصينيّة إلى العربيّة وبالعكس، أن تفضلوا بالوقوف، سنقدّم لكم باسم اتّحاد كتّاب عموم الصين هدية ثمينة. فوقفنا على أرض الصين الحبيبة التي زرناها ممثّلين اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، وتقدّم السيّد “وانغ”، وشرع يعلّق على صدر كلّ واحد منا شعارًا يحمل فاصلة. ولمّا سألناه عن رمزيّة هذه الفاصلة قال: “إنّها شعار اتّحاد كتاب عموم الصين، وهي فاصلة المعرفة، بمعنى أًوضح، نحن نكتب جملة في نصّ عالميّ مفتوح على اللقاء والحوار والتفاهم، ونضع فاصلةً، وأنتم تكتبون جملة ثانية تليها فاصلة، وغيرنا يكتب ثالثة ففاصلة. وفي الختام، لا نضع نقطةً، لأنّ النقطة انقطاع. متى حدث هذا الإنقطاع، شرعت الأبواب على الحروب”، من هناك علمنا أنّ فاصلتهم غير فاصلة العرب التي تفصل على جمع. ففصول السنة أربعة، ومع ذلك فإنّ السنة هي الحاصل والنتاج… رسالة العنوان هي: إن التواصل بين بني البشر مطلوب منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تتشكّل عمارة هذا الديوان من سبعة أبواب يقع كلّ واحد منها على رؤيةٍ، على تجربةٍ على أزماتٍ راهنة، وعللٍ عالميّةٍ سابقة. وعلى وفاءٍ منقطع النظير للأصدقاء (ويخصّ هنا الشاعر الحبيب الأستاذ جوزف حرب) وللأهل، للبلدية، للأحباب. وكلّ باب يستحقّ دراسة مستقلّة. من هنا، رأيت أن أتكلّم على بابين متجاورين متجانسين يشكّلان رؤية واحدةً، هما: “خاصرني اليمام، وقال: “”و” وشم على جناح اليمام”، وبما أنّ اليمام رمز مشترك في العنوانين رأيت أن أُعرّج عليه قليلاً. فاليمام من حيث الوجود الواقعيّ هو طائر يرفض التدجين، ولا يرغب عندنا في تناول الحب من أي كفّ.
أمّا من حيث الرمز، فيمام الشاعر يخاصره “خاصرني اليمام، وقال” استعار الشاعر صفتين ليستا من صفات اليمام هما “المخاصرة” و”القول”. وهذا يعني أنّ اليمام يحيل إلى رمزٍ للوجدان الإنسانيّ، هو يشير إلى ضمير هذا الوجود، إنّه يرى، ربما، أكثر ما يراه الإنسان العادي، لذا، عندما يستشعر رماحًا قادمة، وسيوفاً مسلطة موجهة إلينا، يسرع إلى الشاعر يخبره يوحي إليه… والشاعر القاصّ أتصوّره في هذين البابين قاصًّا، أو روائيًّا، يكلّف عوامل تمثّل له الأدوار، وأراه ينزل إلى الحدث ويصير راويًا، وبذلك يكتمل المشهد الإنسانيّ. اليمام العراف وظيفته الإبلاغ، والتحذير، والشاعر شريك في إيجاد الحلّ والخلاص.
والرمل مداه الكون، وهو يرمز إلى الصحراء التي اشتققنا منها مصطلح التصحّر الذي يصيب العقول لتتجلّد، وتقفل على الكتاب، وهذا التصحّر يأتينا من كلّ الجهات.
يفتح الشاعر الباب الأول بـ: “قال لي”، فالياء عائدة إلى الشاعر الرائي، بل القارئ الذي، بحسب رؤية اليمام، يكون سريع التقاط الرسائل التي يبثها اليمام العراف. ثمّ نراه الشاعر، بل يرى ذاته فردًا مسؤولاً في جماعة، يستخدم صيغة الجمع فيقول:
“والسؤال يجيء من الأرض رمحًا إلينا. عن غيوبٍ تقيم السيوف علينا”. نون الجماعة تتكرّر خمس مرات: “من وجدنا، نقتضي عشقنا، نقتفيه، ونحاكي الضياء الفسيح”. وهذا الأمر يتكرّر في النصّ الثاني:
“وقال لي” ياء المتكلم الفرد /وسمعنا/ قلت/ إذن، فلنقفل على الرمل، نفتح، ولننس، ولنهم.
وفي النصّ الثالث كذلك: “قال لي، ونحن نقتفي دروب البدو، ليس في الرمال من ورود…” إنّ الفرد المعبّر عنه بالياء وتاء الضمير سرعان ما يندمج مع الجماعة المستهدفة في راهنها، ومستقبلها أنّه يحمل همومها، يخاف عليها، لأنّ اليمام أخبره عن سوداويّته للمشهد المنتظر غير أنّه، ومع ذلك، غير متشائم، وغير سوداويّ، فهو يبشّرنا بخلاص ممّا نحن فيه، وما هو قادم إلينا، أو الخير واصلون إليه هذا الخلاص بحسب ما يراه يشكّل الثنائيّة الضدّيّة الموجودة في هذا العالم والمتمثّلة بقطبين يشير إلى العوامل اللاستغلاليّة فيهما برموز تحمل دلالات أشكالها.
فرموز القطب الأوّل: ذئاب، وغراب، وسيوف، ورمال، وبدو. أمّا الثاني فرموزه: يمام، وعصافير، وطيور، وبجع. وحرص الشاعر على الفريق الثاني واضح لأنّه يمثّل الشعب المضطهد والمظلوم في هذا الكون.
ولو قرأنا رموز القطب الأوّل لوجدنا:
- على مستوى الرمل: هو مصدر الأزمات الفكريّة الكبرى، وهو عقيم على المستوى الإنسانيّ، يشعرك بتفوّقه، ولا يصدِّر لنا سوى الدم، وأشباه رجال يحملون السيوف باسم الله. مداه رصاصٌ في أفقه غمُّ وهمٌّ، آلام وجراح، ليس في هذا الرمل غمامٌ ولا ثمر، إنّه جُدبٌ، في كفّه أمارات حروبٍ قادمة من داحس، وفيه حفر كبيرة فاغرة لابتلاعنا. ليس فيه عشبة، ولا عطر، ولا أثر، وليس فيه سوى ذئاب غادرة تحمل سيوفًا تقطع بها رقاب من يخلعون الجليد عن الكتاب الكبير.
هذي الرمال تملأ الجوار بالغبار حيث تنعدم الرؤية، ويتعذّر على العيون الإبصار، وفيه ممالك بدوٍ ينسلّون في حلكة الليل لصوصًا يصيدون عابري السبيل، وفيه صقيعٌ، وجليدٌ يصيب العقول والأذهان، وفيه نعي لمستقبل مفتوح على حرابة لا تنتهي سوى بالإقفال عليه.
وفي الرمال ركام بشع نشتمّ فيه رائحة الموت قتلاً بالحسام، وفيه رماد يتناسل من رحم الظلام موتًا، ومع الأسف، هذا الرمل القاتل يحميه الأعداء، وقاتلو النفس الحرام. وفي ممالك الرمل منابر إعلاميّة، وثقافيّة، وسياسيّة، ودينيّة لا يتولاّها سوى الأغربة السود التي تنعب، أو الذين ينعبون في وجوهنا. إذا ما تصدينا لعدونا، الذي تعدّه صديقًا، وحاميًا، وشفيعًا. أصحابُ هذه المنابر عقولهم متحجّرة وهم غير قادرين على قراءة حروف الكتاب الكبير، لأنّ عقولهم ضريرة ومريضة، وليس للرمل الذي تفرّ منه المعجزة بعد هذه الكومة من القرون سوى كهوف أضحت سجونًا للعيون البريئة.
إنّه الرمل إذاً، ذلك المدى الممتدّ إلى أيّ مكان تشتهر فيه السيوف، وما جرى على خليج “سرت” سوى عيّنة من ضحاياه. والضحايا هناك عصافير الصبح التي نامت على حلم برغيف خبز – على ما يحمله الرمز من دلالة – ولمّا صحت، صحا الحالمون برزق أطفالهم وجدوا على الرمل هناك، وبعد لحظات قُتلوا، وسبق قتلهم ببسملةٌ وحمد. الرمز يدلف بك مباشرة إلى الضحايا البشريّة الذين يعادلون ببراءتهم، وطهرهم العصافير، ولم يشفع لهم فقرهم، ولا طيبتهم.
وبعد مشهديّة الرمل السوداء، وما فيها من رموز، نقع على رموز أخرى متمّمة لوظيفة الرمل. الذئاب وما تعنيه من غدر ولؤم، والمعرف عن الذئاب أنّها لا تنتظم قطارًا، لأنّ كلّ ذئب يخشى غدر الذئب الذي خلفه، وبعد الذئاب يأتي الغراب. ثمّ القطيع الذي يبيعه المدبّر للمليك كلّه، ولا ينقص هذه اللوحة إلاّ البدو والسيوف.
هذا المشهد المأسويّ يثير حفيظة الشاعر المتألّم الذي يتمنّى لو يحصل طوفان من الخليج إلى الخليج ليغمر الرمل، والقطيع، والذئاب، والحراب، والسيوف بالمياه، لترتاح هذه الأمّة في هذه الأرض التي تدور صامتة خفيفة الضمير، يقول الشاعر:
فآه… آه!
لو السماءْ
تبعثُ بالطوفان من جديدْ
ليغمر القطيع بالمياهْ
ويبصر الإله في كلّ اتّجاه! ص 48
هذه الأرض أضحت خفيفة الضمير تتولاّها أمم تتولّى المنابر ومجلس للأمن.
ونحن بتنا معهما أمام عولمة متوحّشة عمياء لا تبصر. هذا ما أنبأنا به اليمام العراف، والشاعر الرائي. إنّ مصيرنا مع الرمل مجهول، لأنه سيعبر بنا من أزمة إلى أزمات: حضاريّة، ودينيّة، ومصيريّة، وإنسانيّة، ووجوديّة… فمن يخلّصنا؟
الشاعر هو الذي يتولى الإجابة. ويرسم لنا خارطة طريق نصل منها إلى بر الأمان.
يفتح الشاعر أبوابًا على الرجاء. ماذا في فضاء الرؤية والخلاص؟
يرى الشاعر أنّه علينا: أن نعمل الحرف، وأن نفتح على المدى البعيد، وأن نقرأ حروف كتابنا الكبير قراءة واعية. وعلينا أن نقفل الباب على الرمل، وأن نفتح النوافذ على المطر. وإذا كنا راغبين بكسر سيوف المجرمين فما علينا سوى دفع الحبر والدم. فالكتابة الموجّهة الرائية مضافة إلى الدم الذي يصير خشبة خلاصٍ، جديران بنقلنا إلى برّ الأمان. فضلاً عن التراب، هذا الذي يضمّ أحبّة لنا، يضمّنا، ونعدو إلى بابه نظلّ العري. وعلينا عند العواصف أن نكون جفنًا يؤاخي الجفن، وساعدًا يعضد ساعدًا، والاقتراب من السماء مطلب… يقول الشاعر:
ما أقربَ السماء
وما تشاؤه النوافذ المطلّة على الضياء
ما أقرب السماء
وما أبعد السماء
ويبقى الأمل مشعًا في نصّ يقول فيه:
يحزنني أن أقرأ الأمس
أن أقرأ الأنين والهمس
لكن
وبالأصابع الخمس
يفرحني
أن أرسم الشمس
بين الحزن والفرح، بين الأمس واليوم، (لكن) التي تقفل على الماضي، وتفتح كوّة على الأمل مشرّعة على السماء، لتخلّص العصافير، والطيور المهاجرة، والبجع التي تمثّل رموز النقاء، والصفاء من أمس طافح بالحزن، والألم، وندفع بها إلى معانقة النور، والضياء، والشمس.
وبعدُ، لا يمكننا الفصل بين الرموز المحتاجة إلى من يخاصرها، ويشد أزرها، إلى من يجمع أناه إلى نون الجماعة أي إلى الشاعر الإنسان محمود أسعد نون الذي قدّم لنا ضميره الأبيض، وصورته الناصعة على بساط وفي أعماق هذه القصيدة التي اختارها لتزيّن الصفحة الثانية من الغلاف إنّه يقول:
وكلّما تهاجر الطيور
أهمي
لو توقّفنا عند هذه الكلمات التي تشكّل لوحتين مثيرتين للحزن، والألم لوجدنا في اللوحة الأولى مشهد المهاجرين من جحيم النار والموت، فيموتون في البحار والطرقات، ويلقى الواصلون منهم الذلّ على أرصفةِ دولٍ عندما صارت عقيمةً شاءت أن تضرمَ الحرائق طمعًا في هجرة الطيور إليها.
وفي الثانية يقف الشاعر الإنسان الذي يمثل الضمير والوجدان حزينًا يهمي دموعًا عزيزة على مآل حزين وصلنا إليه. ونتابع التأمل. يقول الشاعر:
ويصير الكون بعض جسدي
ويعبّر الضلوع شيء يشبه الأحزان والوجع
وكلّما أهمي
أمد للمدى قلبي
وأفتح الجفون والكمونَ والسمع
وأقرأ الذي يكون في المدى
لأفهم ما يقوله الزمان والبجع
عندما يصير الكون بعضَ جسدٍ نعلم مدى قدرة صاحب هذا الجسد على دقّ الجرس للضمائر الغافلة عمّا يجري في هذا الكون، ونعلم معنى أن يفترش ضمير واحد جفونه.
– نلاحظ أنّه لم يقل جفني – ونعلم مدى فعل الدموع – التي تغسل، وتفتح لشهقة على قلب كبير يمتدّ فراشاً لهذه الطيور المهاجرة.
الشاعر في هذين البابين فردٌ، بل ضميرُ فردٍ يفتح على حزن الجماعة، وعند اشتدادِ ألمه لمصيرٍ مرسومٍ لطيورٍ مهاجرةٍ يهمي – لعلّه يرتاحُ، بل لعلّه يفتحُ الذهن على قراءةِ ما يفعل في هذا الزمن، وما يقول الزمان والبجع الأبيض.
أخلص من هذه القراءة إلى تسليط الضوء على قدرةِ الشاعرِ الذي يصبح الكون بعض جسده على التنبؤ، والتنبيه، والتعبير عن مصير وصلنا إليه، ومستقبل يفتح على ألف حرابة، وإلى تجشّمه حملَ أعباءِ الطيور والعصافير المعرّضة للموت، وللهجرة. وأخلص لأقول إنّ الشاعر إنسان عالميّ كلّما دخلت إلى خصوصيّته، وذاته عبرت إلى عالم الكون الأرحب، وأنّه استطاع تقديم أدبيّته بلغة راقية تدخل إلى عمق الكِيان البشريّ تهزّه فتنعشه هنيئًا لمن قرأ الديوان، وهنيئًا لهذه الأمّة بشاعرٍ على هذا المستوى من التكثيف، ومن التعبير الرمزيّ المفتوح على قراءات جميلة.