العربيّة والثقافة عبر الزمن
عليّ مهديّ زيتون**
تحاول هذه الدراسة رصد علاقة اللغة العربيّة بحركة الثقافة. وذلك عبر مجموعة من النقاط.
أ ــــــ اللغة سلطة: أراد “بارت” أن يقدّم لطلّابه فهمه السيمائيّةَ، في جامعة لياج، فوجد نفسه يجيب عن سؤالين هما: ما اللغة؟ وما الأدب؟
رأى أنّ اللغة سلطة تفرض قوانينها، وشروطها، وتصنيفها العالم، على المتحدّث بها، بصرفها، ونحوها، ومعجمها.
فكيف صنّفت اللغة العالم؟
ميّزت العربيّة بين أنثى الحيوان الأليف وذكره (دجاجة/ ديك)، (بقرة/ ثور)؛ لأنّ الدجاجة هي التي تبيض لصاحبها، والبقرة هي التي تلد له العجول. ولم تفعل مثل هذا مع الحيوانات البرّيّة (ذئب، ثعلب، غراب)؛ لأنّ أنثى هذه الحيوانات وذكرها سِيّان بالنسبة إلى الإنسان.
والفرنسيّة لم تصنّف عالم الحيوان كما صنّفته العربيّة. ويزداد الاختلاف اتّساعًا في تصنيفات عديدة أخرى قامت بها اللغات المتعدّدة. فرّقت العربيّة بين المخاطب الذكر والمخاطب الأنثى (أنتَ/ أنتِ)، (أنتم/ أنتنّ). ولا نجد مثل هذا في الفرنسيّة. وتذهب الفارسيّة أبعد من ذلك، فهي لم تفرّق بين الجنسين في جميع الضمائر التي اصطنعتها (مَن = أنا، تو= أنتَ أنتِ، أو = هو هي، ما = نحن، شُما = أنتما أنتم أنتنّ، آنها = هما هم هنّ). وكانت العربيّة أكثر اللغات تدقيقًا في تعاملها مع العدد. ميّزت المفرد عن المثنّى عن الجمع. أمّا العديد من اللغات الأخرى، وعلى رأسها الفرنسيّة والفارسيّة ، فلم تميّز المثنّى عن الجمع.
ولقد بنت العربيّة الصداقة على قاعدة أخلاقيّة. وكلمة (صديق) مرتبطة بالجذر (ص د ق) ذي العمق الأخلاقيّ، أمّا الفرنسيّة فقد بنت الصداقة على قاعدة شعوريّة ترتبط بالفعل، وكذلك فعلت الفارسيّة مع كلمة (دوست = صديق بالعربيّة).
ولئن دلّ ما رأيناه على شيء إنّما يدلّ على أنّ لكلّ لغة تصنيفها الخاصّ للعالم. وإذا كنّا لا نستطيع أن نفكّر إلّا باللغة، حضر تصنيف هذه اللغة العالمَ، وحدّد لنا كيف نفكّر.
ب ــــــ الأدب وسلطة اللغة: رأى “بارت” أنّ الأدب تمثيلٌ للخروج على تلك السلطة، وثورة في وجهها بوساطة السيمائيّة. والحقيقة أنّ تلك الثورة على اللغة عبر مواجهة تصنيفها العالمَ لا تمثّل الأدبيّة بشكل دقيق. الأدبيّة منهج يعوّض قصور اللغة في تصنيف أشياء العالم ومكوّناته بكلمات تشكّل مفردات المعجم. وكلمة ككلمة (فرح) مثلاً، هي عنوان لما لا يُعدّ، ولا يُحصى من أنواع الفرح ودرجاته. وهي لذلك عاجزة، وقاصرة عن التعبير عن خصوصيّة الفرح الذي عاشه أحدهم. وإذا كان من غير العملي، والواقعيّ أن توجد اللغة مفردة لكلّ نوع ولكلّ درجة، عوّض الأدب بالسيمائيّة البارتيّة (المجاز بلغتنا العربيّة) ذلك القصور، وعبّر عن الخصوصيّة الفريدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** أستاذ جامعيّ حائز رتبة أستاذ في اللغة العربيّة وآدابها. باحث في التراث الشعبيّ، وأدب المقاومة، وأدب الأطفال له العديد من المؤلَّفات منها: وفاء الزيتون، وقد ترجمت إلى الفارسيّة، والصينيّه، والفرنسيّة؛ وعناقيد العطش ترجمت إلى الفارسية أيضًا. عضو اللجنتين العلميّتي: الماستر والدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة.
ج ـــــ علاقة اللغة بزمن النشأة: وعودة إلى حديث “بارت” العلميّ عن تصنيف اللغةِ العالم، وفرضِها شروطَها وقواعدَها على المتحدّث بها، تضعنا وجهًا لوجه أمام تشكّل ذلك التصنيف الذي يعود إلى زمن نشأة اللغة في ظروفٍ بيئيّة جغرافيّة محدّدة، إلى مرحلة الإنسان (الكائن البيولوجيّ)، الخاضع في تشكّله العامّ لتأثير البيئة والجغرافيا، مرحلة الثقافة الأولى التي تحصّلت له ارتكاززًا إلى ثقافة الحواسّ التي سبقت الثقافة المجرّدة المرتبطة باللغة، وأسّست لها.
كان اتّصال الإنسان بالعالم المحيط به، قبل اللغة، يتمّ عبر حواسّه. فالحواسّ، وحدها، كانت تمنحه الإحساس بالوجود. كانت حاسّة اللمس، مثلاً، تجعله منزعجًا إزاء البرد الشديد في الشتاء، أو الحرّ الشديد في الصيف. وأن يكون الإنسان منزعجًا يعني أنّه موجود، يحسّ بوجوده، بقطع النظر عن وعيه، أو عدم وعيه بذلك الوجود. إنّ مسافة تقوم بين الإحساس، والوعي بالإحساس. ووضعته سائر الحواسّ في الحال نفسها. كانت تمنح صاحبها الإحساسات المتباينة المتراوحة بين الضيق الشديد، والمتعة الفائقة. وما يجب أن نستنتجه هنا هو أنّ ما يتحكّم بتحديد أوضاع الإنسان، وأحواله شقاءً، أو راحةً هو سلطة. والحواسّ بناء على هذه القاعدة سلطة مؤسّسة على غريزة الإنسان، في مثل هذه الحال، ومستندة إليها. وسلطة الحواسّ المرتكزة إلى الغريزة، هي التي تجعل الإنسان يقيم في مكان محدّد، أو يرحل عنه، أن يقوى أو يضعف. وإذا كان من الطبيعيّ أن تنتج أيُّ سلطة، مهما تدنّت بدائيّتها، ثقافتها الخاصّة، فهل ستنتج الحواسّ ما يمكن أن نسمّيه تجوّزًا (ثقافتها)، وقبل وجود اللغة؟ إنّ ثقافة تحدّد سلوك الإانسان في البيئة التي تحيط به، ومدى نجاح تأقلمه فيها، هي ثقافة مضمرة تكون حاضرة، تؤسّس عليها ثقافة الإنسان، زمن اللغة.
د ـــــ “جوليا كريستيفا” واللغة: والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تظلّ اللغة أسيرة المرحلة الثقافيّة البدائيّة التي رافقت نشوءها بناء على تأثير كلّ من البيئة، والجغرافيا اللتين احتضنتا ولادتها؟
لو كانت كذلك لظلّت عاجزة عن مواكبة أيّ تقدّم، أو تغيّر، أو تطوّر في الحياة. إنّ فهم “جوليا كريستيفا” للسيمائيّة هو الأفق الذي نحتاج إليه في كلّ مرّة نفكّر فيها باللغة. فالسيمائيّة عند “كريستيفا”، وفي كلّ مرّة تحاول أن تقوم فيها بوظيفتها إنّما تمارس نقدًا لذاتها. والمقصود بهذا، وفق قناعات “كريستيفا” الماركسيّة، أنّ الثقافة البشريّة، ومن ورائها (الأيديولوجيا) قد مرّت بثلاث مراحل: مرحلة الميتافيزياء، ومرحلة الجدليّة المثاليّة “الهيغليّة”، ومرحلة الجدليّة المادّيّة الماركسيّة بناء على نقد الذات ممارسةً للوظيفة. نقدت الأيديولوجيا ذاتها الميتافيزيائيّة فنتج عن هذا النقد المادّيّة المثاليّة، ثمّ مارست نقدًا لذاتها المادّيّة المثاليّة فنتج عن ذلك النقد المادّيّة الجدليّة. وكان كلّ نقد في هذه النقود يعيد إنتاج اللغة والسيمائيّة عبر إعطاء مفردات كلّ منهما أبعادًا دلاليّة جديدة. ولذلك رأى الماركسيّون أنّ السيمائيّة هي علم الأيديولوجيا. ويعني كلّ ذلك أنّ اللغة قابليّة لتعدّد الولادات. وهي في كلّ مرّة تولد فيها من جديد إنّما تجري ولادتها بناء على حركة الثقافة والأيديولوجيا.
وينطبق هذا الكلام على اللغة العربيّة في انتقالها من الجاهليّة إلى الإسلام. أعاد الإسلام، بوصفه ثقافة ثوريّة جديدة (أيديولوجيا تغييريّة)، إنتاج اللغة العربيّة انطلاقًا ممّا كانت عليه، سواء أتعلّق الأمر بإعطاء المفردات أبعادًا دلاليّة جديدة منتمية إلى ثقافته، أم تعلّق باستحداث مفردات جديدة تعبّر عن مفاهيم جديدة جاء بها الإسلام؛ لأنّ المفهوم الجديد لا يمكنه الحضور في الحياة إلّا من خلال كلمات تقدّمه للتداول.
وكلمات اللغة شديدة الحساسة تتجاوب برهافة مع الحياة الثقافيّة لكلّ مرحلة تاريخيّة جديدة. والمجتمع العباسيّ بما صار إليه، انتقل بالفعل (احتال) ذي الأبعاد الإيجابيّة، كأن يحتال المرء لرزقه بمعنى تحصيله، إلى أبعاد سلبيّة قوامها السعي لتحصيل الرزق بأساليب ملتوية وغير أخلاقيّة. ويبقى أنّ نماء اللغة مواكب ومصاحب لنماء الثقافة. ذلك أنّ أيّ علم جديد يقدح به ذهن فردٍ من أفراد المجتمع، في أيّ فرع من فروع المعرفة، إنّما يحتاج أمرين: تعريف موضوع العلم الجديد، وإيجاد المصطلحات التي يحتاجها. والمصطلحات الجديدة هي كلمات جديدة بدالّها ومدلولها تُرفَد بها لغةُ مبتكر هذا العلم. و”سوسير”، الناطق بالفرنسيّة ، حين انتقل بالدراسات اللغويّة لتصبح (علم لغة)، وجد نفسه محتاجًا إلى تحديد موضوع اللغة من جهة، وإلى تحديد المصطلحات (الكلمات) التي أثارها هذا العلم داخل الثنائيّات التالية: (لغة/ لسان)، (لغة/كلام)، (لسانيّة/ سيمائيّة). هذا بالإضافة إلى جملة من العلوم من مثل: (علم اللغة التزامنيّ)، و(علم اللغة التعاقبيّ). وإذا كانت بعض هذه الكلمات موجودة في معجم اللغة الفرنسيّة، قبل “سوسير”، إلّا أنّها مع “سوسير” باتت كلمات جديدة (مصطلحات) بدلالاتها المنتمية إلى علم اللغة.
ونجد الأمر نفسه مع حركة “الأبوياز” التي انتقلت بالدراسات الأدبيّة لتصبح (علم أدب). خلعت هذه الحركة من قاموسها ثنائيّة (شكل/ مضمون) لتستبدل بها ثنائيّة (إجراء/ مادّة) المنتمية إلى العلم الجديد المرتكز إلى “أدبيّة الأدب”. وكلمتا: (إجراء) و(مادّة) وإن كانتا موجودتين في قاموس اللغة قبل الحركة، إلّا أنّهما مع الحركة باتتا مصطلحين جديدين مرتبطين بقضايا “أدبيّة الأدب”، حملتا أبعادًا دلاليّة جديدة.
ما يُراد الوصول إليه هو أنّ حركة الإنتاج المعرفيّ في مجتمع من المجتمعات هي الكفيلة بتنمية اللغة، وإغنائها، وجعلها متوائمة مع روح العصر. فالتفكير الذي يقوم به العلماء مثارٌ لإنتاج أفكارٍ جديدة لم تكن موجودة من قبل. وإذا كان من غير الممكن أن يفكّر المفكّر من دون اللغة ؛ لأنّ التفكير هو تفكير باللغة، فإنّ الفكرة الجديدة لا تولد إلّا ملتبسة بالدالّ، أحدِ وجهي الكلمة.
ه ـــــ العربيّة في زمن التخلّف العربيّ: شهد المجتمع العربيّ، وإلى نهاية القرن الخامس الهجريّ، الحادي عشر الميلاديّ، حركة ثقافيّة نامية متألّقة في مختلف حقول المعرفة. وما كان للمجتمع الغربيّ، في مطلع نهضته، أن ينمو ثقافيًّا إلّا بالارتكاز على ما أنتجته القريحة العربيّة خلال سنوات خصبها. أكاديميّاتهم المتنوّعة التي أنشأوها لمختلف حقول المعرفة تأسّست على مثاقفة مع ما أنتجه التفكير العربيّ. والمثاقفة ضرورة بالنسبة إلى أيّ مجتمع متخلّف يسعى إلى النهوض؛ لأنّه لن ينهض، إذا تغافل عمّا سبقته إليه المجتمعات الأخرى.
وكما شهد الغرب قرونًا وسطى ميسمها الأساسيّ التخلّف، فإنّ مجتمعنا العربيّ قد عاش مثل تلك الظروف، من بداية القرن السادس الهجريّ، الثاني عشر الميلاديّ، قرن حضور الفرنجة الصليبيّين في الشرق ولمّا يزل. توقّف مجتمعنا عن الإبداع، وعن الإنتاج الثقافيّ الفاعل، ولم تستطع شخصيّتان ثقافيّتان كبيرتان: ابن خلدون، وابن رشد، مع ما بذلتاه من جهد فكريّ أن تعيدا المياه إلى مجاريها الإبداعيّة، فكانتا تجليًّا لمحاولة استفاقة، أو صرخة أخيرة للثقافة العربيّة في وجه تداعيها المريع. واستمرّت هذه الحال إلى زمن العثمانيّين الذين لم يغادروا العالم العربيّ إلّا في حدود العام 1914. المهمّ أنّ المجتمع العربيّ لم يكن منتجًا للثقافة طيلة تسعة قرون، أو ما يزيد. يعني ذلك أنّ المجتمعات العربيّة لم تكن تمتلك الأدوات المعرفيّة المتراكمة، والمتوارثة لمواجهة ما تعرّضت له من غزو غربيّ مع انتهاء الحرب العالميّة الأولى.
ما يهمّنا معرفته أنّ السياسة التي حكمت مجتمعاتنا منذ القرن السادس المشؤوم لم تكن على قدر المسؤوليّة الثقافيّة. تعطّل العقل العربيّ عن إنتاج الأفكار والمعارف الجديدة التي تحتاج إلى كلمات جديدة، وتكلّست لغتنا، بشكل عامّ، عند حفافي القرن السادس. ولم يُسجّل جديدٌ مهمّ للغتنا في أيّ ميدان من ميادين الحقول المعرفيّة المتعدّدة. ولا يعني ذلك أنّ العقل العربيّ، بطبيعته، عقل عاجز. عقل الإنسان هو عقل الإنسان أينما وُجِد. العجز مرتبط بظروف مجتمع، وظروف أيّ مجتمع مرتبطة بالسياسة القائمة فيه. المهمّ أنّ لغتنا العربيّة لم تشهد أيّ نماء يُذكر داخل مفرداتها، ولا في عدد تلك المفردات، وعلى مدى عشرة قرون تقريبًا، ولمّا يزل الوضع على حاله.
و ـــــ توثّب العقل العربيّ: دخل العقل العربيّ في الزمن الراهن طور التوثّب، وبدأ يطرح أسئلة النهوض والتقدّم بحرقة. والسؤال الذي يُطرح، بناء على هذا التوثّب: هل يؤدّي ذلك، عبر المثاقفة مع الغرب، إلى نهوض جديد؟ إلى مساهمة في إنتاج ثقافة وأفكار تؤدّي إلى نماء لغتنا نماءً جدّيًّا؟
لا شكّ في أنّنا نمارس مثاقفة مع الغرب، شئنا أم أبينا، ولكنّ هذه المثاقفة مثاقفة يقوم بها أفراد، وليس مؤسّسات مجتمعيّة قادرة وهادفة. حين احتاج الغرب إلى المثاقفة مع العرب، نهضت بذلك أكاديميّات متخصّصة، مؤسّسات أنتجتها الدول الغربيّة الناهضة، أوالجمعيّات الشعبيّة كحركة “الابوياز” مثلاً. ولا يوجد بين الدول العربيّة دولة واحدة، على الأقلّ، طرحت على نفسها أسئلة النهوض الثقافيّ الجذريّة، مع وصول أحزاب عقديّة إلى السلطة في عدد من هذه البلدان، وظلّ الحمل على كاهل أفراد. والأفراد، إمّا غارقون في الثقافة الغربيّة عاملون داخل آليّات اشتغالها، وإمّا ماكثون عند حدود معرفتهم بها غير قادرين على إعمالها في مشكلات مجتمعاتنا؛ لأنّ مجتمعاتنا محتاجة إلى أسئلة ثقافيّة تخصّها، وتتناول مشكلاتها. ومتابعة هذه المثاقفة الفرديّة تخرج بنا إلى نتائج غير مشجّعة. فكلمتان فرنسيّتان مثل: Modernisme et modernite تقدّمان باللغة العربيّة من خلال كلمة واحدة هي (الحداثة). واستخدام كلمة (حداثة) للتعبير عن أيّ من الكلمتين الفرنسيّتين إنّما يقدّمها غائمة ملتبسة. ويجب أن نشفعها بكلمة ثانية للتمييز بين الحداثتين الغربيّتين:الحداثة الثقافيّة والحداثة الأدبيّة. ولقد دار جدل كبير في أثناء تعريب كلمتي: Langue et langage، لما يقوم بينها من نسب مشترك وتداخل. النتيجة هي أنّ عمليّة المثاقفة ليست دربًا ممهّدة سالكة، دونها مصاعب كثيرة. ومن مظاهر هذه المصاعب أنّ أحدًا من المشتغلين العرب في اللسانيّات لم يناقش “سوسير” في ما أقامه من تمايز بين تينك الكلمتين الفرنسيّتين. تمحورت كلمة (لسان) في الآيات القرآنيّة التي وردت فيها حول الكلمة التي خصّصتها الفرنسيّة لتعني بها (لغة). وهذا ما لا يتّفق معه الرأي السوسيري، فما المخرج؟
هذا والمجامع اللغويّة، وهي المؤسّسات العربيّة التي تُعنى بالعربيّة، تضمّ نابغين وفق معايير السياسات القائمة، وليس نابغين متخصّصين، وهي لم تقم بإعداد أمثال هؤلاء المتخصّصين.
ولذلك فإنّها لم تستطع أن تحطّ رحالنا في الأماكن الآمنة من جوانب لغتنا العربيّة، خصوصًا أنّها مجامع، وليست مجمعًا واحدًا موحّدًا. وإذا كانت السياسات العربيّة الرسميّة المبعثرة عشوائيًّا، والتي ما زالت، ولغايات في نفوسها، تستخدم الجَمَل آليّة انتقال، فإنّ على الأفراد أن يتأطّروا في مؤسّسات، وأن يطرحوا أسئلة النهوض اللغويّة وغير اللغويّة.
هل فكّر أحدنا أن يجمع إشارات الاستدلال الكثيرة الموزّعة على آيات الذكر الحكيم والتي سبقت (السيميولوجيا) التي جاء بها الغرب بستّة عشر قرنًا، ليؤسّس عليها سيمائيّة عربيّة تتوازى مع السيمائيّة الغربيّة وتتبادل معها الإضاءة والاستضاءة؟
هل فكّر باحث منّا بمفهوم المكان كما تقدّمه استعمالات القرآن الكريم لهذه المادّة، لوضعه قبالة المفهوم الغربيّ ذي الأساس البيولوجيّ، قصد الموازنة، وتبادل الإضاءة، والاستضاءة أيضًا معه؟
هل استطاع ناقد منّا أن يتحرّر من التفكير داخل آليّة الثقافة الغربيّة، فيما يخصّ الأدبيّة؟
الجهود الفرديّة مشكورة، ولكنّها تبقى في حدود المشكورة، ولن تدخل دائرة الفعل في حياتنا إذا لم تستثمر في مؤسّسات تقنّن فعلها، وتوجّهه نحو الغايات الكبرى، مؤسّسات تطرح سؤالين جوهريّين:
1 ــــــ ماذا يُقبل من تراثنا المتنوّع، وذلك عبر حوار يُقام مع هذا التراث انطلاقًا من ثقافة المرحلة، والأمور المعرفيّة التي بتنا نمتلكها؟
2 ــــــ ماذا يُقبل من الثقافة الغربيّة الحديثة، وذلك عبر حوار دقيق وعميق يُقام معها وصولاً إلى تملّكها تملّكًا يبني على أسئلتها أسئلة تتناسب مع حاجات مجتمعنا المعرفيّة؟
بمثل هذه المؤسّسات تعود إلى العقل العربيّ فعاليته في التفكير، وإنتاج المعرفة الجديدة الكفيلة بإنتاج لغة عربيّة جديدة تقف إلى جانب سائر لغات العالم باعتزاز بالنفس، وثقة كبيرة بها. تصبح معها حاجة الآخرين إلى تعلّمها شبيهة بحاجتنا إلى تعلّم اللغات الغربيّة.
حاشية:
1 ــــــ رأى الغرب، في مرحلة من تاريخه النقديّ الأدبيّ ،أنّ الأدبيّة انعكاس العالم في العمل الأدبيّ، فقلنا هي انعكاس. ورأى، في مرحلة ثانية، أنّها انكسار العالم الموضوعيّ في النصّ، فقلنا إنّه انكسار. ولم نقل أبدًا بنظريّة (الكشف) التي ألمح إليها القرآن الكريم، بعيدًا من الانعكاس، والانكسار اللذين ينزلان الأدبيّة إلى دائرة التقنيّات التي تغنيها الممارسة عامّة، بقطع النظر عن الثقافة.