أدونيس الفكر والرؤية الشِّعريَّة الحديثة
محمّد غركان سرحان([1])
ملخص البحث
حاول أدونيس عبر كتاباته النقدية تنبيه المتلقي إلى ضرورة تأصيل الأصول من خلال النظر إليها بعيدًا من متاهات التقليد والتنميط، لهذا طالب بضرورة اشتهاء هذه الأصول وجعلها سندًا للكتابة الآنية، والكتابة المستقبلية. إن موقف أدونيس من الشعر الحديث، لم يقتصر على تنظير بقدر ما كانت مواقف تساؤلية، ترتضي القراءة مهجًا والتأويل والرؤيا وسيلة لبلوغ غاية الكتابة الإبداعية التي راجعها أدونيس منذ مرحلة القصيدة الشّفوية، وقد كشف أدونيس عن جوهر الكتابة الإشكاليّة النقديّة في قضية الحداثة لم يعد يتركز على الكتابة الشعرية تقفيةً أو نثرًا، بل أصبح يرتكز على مدى قدرة الشاعر على خلق كتابة نابعة من مراجعة واعية للغة والتراث.
إذ إن الحداثة الشعرية لدى أدونيس لا تتركز على تشكيلات لغويّة وإيقاعيّة متشابكة، إنما هي القدرة على إدراك الذات من خلال التجربة الشعرية. على الرّغم من أن أدونيس قد صدم بمواقفه النقدية الكثير من النخب الدّينيّة والثقافيّة، إلا أنه وصل إلى قناعة مفادها: أنّ مشروع الحداثة الشعرية العربية في النصف الأخير من القرن المنصرم؛ قد انكسر بسبب انعدام الذاتية في الكتابة. وضياع الذات الإبداعية بين النصوص إلى درجة الاتباعية في الفكر العربي.
الكلمات المفتاحية: الشعر الحديث، أدونيس، الشعر المعاصر، النقد، الشعر الحر.
Abstract
Through his critical writings, Adonis tried to alert the recipient to the need to root assets by looking at them away from the mazes of tradition and profiling, so he demanded the need to craving these assets and make them a support for real-time writing, and future writing.
Adonis’ position on modern poetry was not limited to theorizing as much as it was questionable positions, satisfying reading as a glow, interpretation and vision as a means to achieve the goal of creative writing reviewed by Adonis since the stage of the oral poem. Adonis revealed the essence of critical problem writing in the issue of modernity. It is no longer focused on poetic writing as a standstill or prose, but has become based on the extent to which the poet is able to create writing stemming from a conscious review of language and heritage.
Adonis’ poetic modernity is not focused on intertwined linguistic and rhythmic formations, but the ability to self-awareness through poetic experience. Although Adonis shocked many religious and cultural elites with his critical positions, he came to the conviction that the project of Arab poetic modernity in the latter half of the last century was broken due to lack of subjectivity in writing. And the loss of the creative self among texts to the degree of following in Arab thought.
Keyword: modern poem, Adunis, present poem, justification, open poem.
المقدّمة
لقد ظهرت الرؤية الشعرية الحديثة عند الشاعر العربي المعاصر، التي كانت بداية تمثّل الروافد الفكرية؛ والثقافية الوافدة من الشّعر الغربي خلاصة سنوات من التّفاعل الحضاري مع الآخر الأوروبي، استطاع من خلالها الشّاعر العربي المعاصر أن يقف على ملامح الشّعر الغربي، وقد تمكنت من إحداث الحداثة الشّعرية، وإخراج الشّعرية الغربيّة من قيود الفكر الكلاسيكيّ والرّومانسيّ على مراحل متعدّدة.
وقد آمن الشّاعر العربي المعاصر أن الشعر وليد الحياة في تفاعلاتها شتّى، وتنظر لعملية تفعيل التشكيل الجديد من منطور آخر، فعمل شعراء جماعة شعر في الخمسينيّات من القرن الماضي وعلى رأسهم أدونيس إذ يرى أن العرب يفرّقون بين المادة والروح، بين الآلة والفكر في تعاملهم مع الغرب فيأخذون المنجزات دون الموقف العقلي الذي تقوم عليه، وهذا من شأنه أن يجعله تابعًا للآخر لا مبدعًا ولا مشاركًا في صنع الثقافة العالمية، وبهذا يصبح الوطن العربي متلقيًّا لما يصنعه الغرب مقلّدًا لـه في الثقافة والتكنولوجيا مستمرئًا للجمود والركود.
وقد وقفت عند دراسات أخرى تناولت الشّاعر الناقد أدونيس، أذكر من هذه الدراسات المُهمّة:
- بحث (فعاليّة الإمام الحسين (عليه السلام) رمزًا في شعر أدونيس والماغوط)، إعداد م. انفال جاسم محمد.
- بحث (المعنى والتشكيل النصي دراسة في شعر أدونيس)، اعداد أ.م.د وحيدة حسن والباحث كريم كاظم
إن فضاء البحث في موضوع الفكر والرؤية الشّعرية ما زال مفتوحًا لدى الباحث الأكاديمي، لهذا يبقى مجال البحث فيه متاحًا ينتظر مقاربة وقراءة أخرى، تحاول أن تجليّ شيئًا من المتشاكل والمختلف في مواضيع البحث. من خلال رصد معالم الفكر والرؤية الشعرية لدى أدونيس والتنظير للعملية الشعرية الإبداعية معًا.
تكوّن الخلفيّة الشّعرية عند أدونيس
تمتدُّ الخلفيَّة النظريَّة الشعريَّة لأودنيس إلى بداية القرن العشرين؛ لتتجذَّر أكثر فأكثر، لتبدأ – بعدها – خلفيته النّظريَّة للشِّعرية؛ لتتعمَّق أكثر فأكثر عندما تلامس خلفيَّات ثقافيَّة وسياقيَّة غربيَّة وعربيَّة متماسكة، مُستمدَّة من إنتاج الرؤيا وتوليدها، على أساس أنَّ النظريَّة الشعريَّة؛ هي الركيزة الجوهريَّة في الشعريَّة العربيَّة الحديثة بحسب الأفق الأدبي عند أدونيس، إذ انحدرتْ نظريَّة القرن العشرين الشعريَّة الحداثيَّة هذه، من “الرومانسيين والرمزيين الذين عارضوا العلم ووجهات النظر الآليَّة والوضعيَّة في الطبيعة والواقع، وتقاطعوا معها أحيانًا”([2]). ويمتدُّ خط الفكر من المثاليَّة الألمانيَّة إلى (نيتشيه وهايدغر) حيويًّا لنظريَّات الفنِّ والأدب الحداثيَّة، إذ جاءتْ هذه “المفاهيم الُمعلَّية من شأن الحُريَّة والاستقلاليَّة والتميّز والتفرُّد، ووحدة الشكل والمضمون، ومفهوم الشّاعر العبقري؛ بدرجةٍ يمكن فيها الاعتقاد أنَّ هذه الخلفيَّة قد نشأتْ وترعرعتْ فكريًّا ضمن إطارٍ رحبٍ، ووثيق الصلة بالنّخبويَّة، وبالمناخ السياسي الذي أنتج الفاشيَّة والنازيِّة”([3]). لا يخفى على المتتبع للأدب الحديث أنَّ أدونيس تأثَّر – بشكلٍ مباشر- بالرّمزيَّة الفرنسيّة؛ إذ كانتْ هذه الرمزيَّة المصدر الرئيس لنظريَّته الشَّعريَّة؛ إلَّا أنَّه امتلك معرفة مباشرة بالفكر الفلسفي والجمالي للمثاليين الألمان، إذ إنَّ هذا الفكر يُتوَّج بـ(هايدغر).
وجاء هذا التأثُّر من طريق مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وزعيم القوميين العرب الأستاذ : (أنطوان سعادة)، وكذلك من طريق: (شارل مالك)؛ ثمَّ: (يوسف الخال). كما كانتْ هناك ولادة اتجاه جديد في نظريَّة اللغة، على يد (نيتشه)؛ ليخالف من سبقه تمامًا، إذ يراجع اللغة على أساس أنَّها ذات أبعادٍ مجازيَّةٍ أو بلاغيَّةٍ وليس إحاليَّة أو تمثيليَّة. وتطوَّرتْ هذه الرؤيا للغة – بعد ذلك- في القرن العشرين؛ فأضحتْ تمثَّل جوهر الدراسات الأدبيَّة، لا سيَّما عندما ترتبط بآليَّة الشعر الذي عدّه (هايدغر) أنَّه “مصدر وأساس اللغة والفنِّ والتاريخ والكينونة والزمن والحقيقة، وأنَّه تأسيس وموضوع وتسمية أزليَّة، وأنَّه يخلق الوجود، ويُنتج التفكير، ولا شيء خارج الشعر حتَّى اللاشيء نفسه ليس خارج الشعر”([4]).
ا- أهمّية الموضوع
ويمكننا أنْ نتلمَّس أهميَّة هذا البحث؛ وذلك تأثَّر أدونيس بعالم الفكر والفلسفة الألمانيَّة من خلال عبارته الشهيرة؛ وهي عبارة نسبها (فايدنر) إلى أدونيس، ورأى أنَّها عبارة احتوتْ على الكثير من معالم الفكر الفلسفي الألماني؛ ففي “القول مفتاح لفهم أعماله، فهو يحيلنا في الوقت ذاته إلى الأهميَّة العظيمة التي يولها أدونيس للشعر والفلسفة الألمانيين. هذان المصدران – إلى جانب التأثير الفرنسي – هما بالتأكيد العنصران الغريبان اللذان أديا الدور الأعظم في أعماله؛ فحينما يؤكَّد أدونيس: أنا آتٍ من المستقبل، يضع نفسه داخل تراث (هايدغر وهولدرلن). ففي إحدى دراسات (هايدغر) الأكثر شهرة بعنوان: (لماذا الشُّعراء؟)، والتي يعود تاريخها إلى العام 1946 يقول: إنَّ (هولدرلن) هو سلف شعراء زمن البؤس، لذا لم يستطع شاعر من شعراء تلك الحقبة أنْ يتجاوزه. وهذا السلف مع ذلك، لم يذهب إلى المستقبل؛ بل إنَّه على العكس، جاء منه، بحيث إنَّ المستقبل وحده هو الحاضر داخل كلامه”([5]). ومن هنا جاءتْ أهميَّة الموضوع.
2- إشكالية الدّراسة
تتمثَّل القضية المركزيَّة في إشكاليَّة هذه الدراسة، في رؤية شاعر رائد من رواد الحداثة الشَّعرية العربيَّة، إلى الحداثة وقضاياها ومسائلها، إذ ينبغي أنْ يجيب هذا البحث عن الرؤية الشَّعريَّة الحديثة من منظور هذا الشَّاعر. ومن الأسئلة التي تُثار حولها: ما مفهوم الحداثة من منظور أدونيس؟ وما مفهوم الحداثة الشَّعريَّة بنظره؟ وبم تتميِّز رؤية أدونيس حول الحداثة؟ وهل الوزن شرط لازم وكافٍ ليكون النصَّ الأدبي شعراً؟ كما يحاول هذا البحث تبيان الإجابة عن هذه الأسئلة لدى أدونيس مقارنةً مع بعض الشُّعراء الحداثيين المعاصرين.
3- أسئلة الدراسة
ومن الأسئلة التي سيحاول هذا البحث بيان الإجابة عنها أيضًا: ما هي جذور الحركة الشِّعريَّة الحديثة؟ ما دور الاتَّصال بالأدب الغربي في حدوث هذه الظاهرة؟ إلى أي مدى يمتدُّ تاريخ الحداثة في الشِّعر العربي؟ هذه الأسئلة وغيرها سوف يجيب عنها البحث في ثناياه الدراسة، مبيِّنًا رؤية أدونيس في ذلك إلى غيرها من القضايا والمسائل التي تُثار.
4- أهداف الدّراسة
كما تهدف هذه الدراسة إلى الإجابة عن أسئلة أُخرى تتفرع عنها من منظور أدونيس، ومن دون التطرُّق والاستطراد إلى آراء الشُّعراء والنُقَّاد الآخرين إلَّا بقدر ما تُتيح لنا مساحة البحث في الاسهاب بموضوع الحداثة الشِّعريَّة، وبقدر ما يُفتح لنا الباب أمام إنجازات أخرى تالية.
خلفيّة الدّراسات
وقد وقفت عند دراسات أخرى تناولت الشّاعر الناقد أدونيس، أذكر من هذه الدراسات المهمّة:
- بحث (فعاليّة الإمام الحسين (عليه السلام) رمزًا في شعر أدونيس والماغوط)، إعداد م. انفال جاسم محمد.
- بحث (المعنى والتشكيل النصي دراسة في شعر أدونيس)، اعداد أ.م.د وحيدة حسن والباحث كريم كاظم.
إن فضاء البحث في موضوع الفكر والرؤية الشّعرية ما زال مفتوحًا لدى الباحث الأكاديمي، لهذا يبقى مجال البحث فيه متاحًا ينتظر مقاربة وقراءة أخرى، تحاول أن تجلي شيئًا من المتشاكل والمختلف في مواضيع البحث. من خلال رصد معالم الفكر والرؤية الشعرية لدى أدونيس والتنظير للعملية الشعرية الإبداعية معًا.
5- منهج الدّراسة
بناءً على كُلِّ ما تقدَّم؛ وجدنا أنَّ المنهج الملائم لبحث هذا الموضوع؛ هو “المنهج الوصفي” المنطلق من النصِّ، يقرأه مرَّةً أولى؛ ثمَّ يقرأه قراءةً ثانية وثالثة حتَّى يتمثَّله؛ فيصنَّفه ويبيَّن الرؤى؛ ثمَّ يحلَّله ويستخرج هذه الرؤى، ويصنَّفها، ويعيد تركيبها، ليبلورها. فالمنهج “وصفي تحليلي تركيبي” يستفيد من التأويل في حالة الحاجة إلى ذلك، وخصوصًا لدى قراءة النصَّ الإبداعي. وطبيعي أنْ يكون المنهج مرنًا وحيويَّاً. ولذا؛ سنقسَّم هذا البحث إلى محاور تالية تباعًا، وهي كالآتي:
أوَّلا- الصّراع التقليدي بين الموروث العربي وبين التجربة الغربيَّة الحديثة
واجهتْ أدونيس – حينما الكتابة في منتصف الأربعينيَّات من القرن المنصرم – إشكاليَّة إجرائيَّة، تبلورتْ في ضبط علاقته مع الموروث العربي، أيّ مع الأصول، إذ كان يعتقد – في حينها – أنَّه لم يكن بمقدوره اتخاذ الموقف الذي يفصل في هذه الأصول؛ لأنَّه لم يزل في الخطوات الأولى بعد. كما أنه لم ينصاع لتجارب معاصريه، هذا من جهة؛ ومن جهةٍ أخرى أنَّه لم يخضع لتجارب الشّعر الغربي.
ولذا؛ فقد بدا الأمر أكثر تعقيدًا أمام المغريات الفكريَّة والسّياقات الثقافيَّة، وأذرع الكتابة التجاوزية التي يقدمها الأنموذج الغربي الأوروبي. ومن هنا قرَّر أدونيس عدم الانصياع وراء بلورة أنموذج يوازي الأنموذج المُستخدم.
ومن هنا كان “المخرج الذي اختاره أدونيس في عدم تبني الثّقافة الغربيَّة بل التعلُّم من الغرب كيفية نقد ثقافته الخاصَّة من الدّاخل، وكان هذا بوجه التّحديد، ما استطاع تعلَّمه من (نيتشه) أكثر من أيِّ مفكرٍ آخر. وهكذا فإنَّ شخصيَّته الفريدة، ونبرته الغربيَّة على الشَّعر العربي حتَّى ذلك الحين، بالإضافة إلى الدّيوان الثالث لأشعاره في لبنان العام 1961م بعنوان: أغاني (مهيار الدّمشقي)، تدين قبلَ كُلِّ شيءٍ إلى التقائه بكتابات نيتشه”([6]). قرأ أدونيس لـــ(نيتشه) بناءً على مقتطفات بالعربيَّة؛ ثمَّ تعمَّق أكثر في قراءته بالفرنسية في باريس بعد ذلك، على الرّغم من أنَّ أدونيس كان لا يُتقن الألمانيَّة بحسب ما يذكر (فايدنر)، وكان ذلك كيف في مرحلة الخميسنيَّات والستينيَّات؛ أي قبل انتقاله إلى فرنسا. بالإضافة إلى (نيتشه)؛ فإنَّه اكتشف “في باريس – أيضًا – (هولدرلن) و(ريلكه)، وبالطاقات التي كانتْ ما تزال فتيَّة للشَّعر العربي الذي أحدث ثورة منذ نهاية الأربعينيَّات؛ قام أدونيس في هذا الديوان: (أغاني مهيار الدّمشقي) بانقلابٍ على كُلِّ القيم التقليديَّة، ولكن ما أدهش قارئ هذا الديوان؛ هو أنَّ الانقلاب قد تمَّ كُليًّا وفقًا للشروط الخاصة بالثقافة الإسلاميَّة، ووفقًا للإمكانيَّات الشَّعريَّة للغة العربيَّة، وأخيرًا وفق شبكةٍ من المجازات والإشارات الميولوجيَّة الأصيلة المترسَّخة في التُّربة الأصليَّة”([7]). وبناءً على ما تقدَّم؛ يتَّضح لنا أنَّ أدونيس كان قريبًا جدًا من الأصوليَّة؛ بل أقرب منها الانتماء في تطبيق إجراءات الفعل الحداثي الغربي؛ وذلك لأنَّه قرأ التراث قراءةً واعية على أساس تضمينه ضمن الأصول؛ ولم تنفِ تلك القراءة الماضي العربي، ولا تراثه، إذ صرَّح بذلك الكثير مَّن الشُّعراء والنُقَّاد الذين عاصروه؛ مثل: يوسف الخال. كما أنَّه راجع تلك الأصول مراجعةً موضوعيَّةً؛ واستمدَّ من الغرب عمومًا – ولا سيَّما الألمان – طريقةً تجعله يعي هذه الأصول وتقدَّره في قراءتها ومراجعتها، وصولًا إلى بعث ثقافةٍ عربيَّةٍ جديدةٍ لا تتنكر للماضي؛ بل تأخذ منه جواهر النظم والكلم، وتبعث المحظور من الفكر والثقافة بعيدًا من سُلطة السُّلطة في شتَّى تمظهراتها عبر الحقب الزمنيَّة الماضية.
ثانيًا- موقف أدونيس من التجديد الشِّعري ومشكلاته
يرى أدونيس أنْ الشعر يجب أنْ ينطلق من الفاعليَّة التجديديَّة؛ أي من إدراكٍ واعٍ لكُلِّ قديم، وكُلِّ جديدٍ أيضًا، وكذلك قراءة كُلَّ واحدٍ في سياقه الاجتماعي والوظيفي من دون الخروج عن هذين الإطارين، وصولًا إلى توليد علاقات الربط والاتحاد والتّكامل بين النصَّين القديم والجديد، من دون أنْ يتلاشى الأوَّل في بوتقة الثاني أو العكس؛ يرفض أدونيس أنْ تُبنى فلسفة التجديد على أساسٍ من الصراع بينه وبين القديم، وإنَّما يجب أنْ تنطلق الفعاليَّة التجديديَّة من إدراكٍ واعٍ للقديم والجديد معًا؛ لأنَّ المشكلة الآن في الشعر العربي الجديد “لم تعد في الصراع بينه وبين القديم؛ وإنَّما أصبحتْ في معرفة الجديد حقًّا. والتمييز بين ابتكار النّموذج وتعميم الزي. فالواقع أنَّ في النتاج الشَّعري الجديد اختلاط وفوضى، وبين الشُّعراء الجُدد من يجهل حتَّى ما يتطلَّبه الشَّعر من إدراكٍ لأسرار اللغة والسيطرة عليها، ومن لا يعرف من الشَّعر غير التفاعيل في سياقٍ ما”([8]). كما أنَّ الجديد عند أدونيس يجب ألَّا يقف عند الانسجام مع الأشياء والأشكال القائمة والموجودة في الواقع؛ لأنَّه يحدُّ من فاعليَّة الخلق والإبداع فنيًّا، إذ إنَّ الشّاعر والفنَّان يصبحانِ على السّواء؛ أي أنَّهما يتحولانِ إلى آلة نقل تنبهر بالشكل ولا تلج في المضمون؛ فيسود الزي، وفي سيادة الزي “تناقضٌ صميم. فيتعلُّق بالزي، غير أنَّه سرعان ما يصير عتيقًا. فالزي هو الوجه الآخر من الجمود، من كُلِّ ما يسير إلى الوراء، وهو فنيًّا يعني الإعجاب المُفتعل المتصنَّع بكُلِّ ما هو رائجٌ وشائع… لنحترس من الزيِّ إذا أردنا أنْ نكون جديدين”([9]).
ثالثًا- حركة التجديد في الشَّعر العربي عند أدونيس
تستند حركة التجديد في الشَّعر العربي من بحسب أدونيس إلى ثلاثة أسس؛ وهي:
- الخروج على التقليديَّة
في الكثير من الدراسات، ابتداءً من العام 1961م؛ وبالتحديد في مؤتمر الأدب العربي المعاصر بروما صرَّح أدونيس في محاضرةٍ موسومة بـــ: (الشَّعر العربي ومشكلات التجديد)، إلى كتابه: (المحيط الأسود) الذي صدر العام 2005م، حين أسهب مطوَّلًا عن ذات القضية، إذ أسماها بــ(سلطة الأصل). ولذا؛ حينما نقرأ ما جاء فيه من مواقف ورؤىً حول قضية التجديد؛ نلاحظ أنَّ أدونيس ظلَّ يطالب بالثورة على التقليد لا الثورة على الأصل، وهو السلوك الذي انتهجه الشُّعراء القُدامى أمثال: أبي نوَّاس، وبشَّار بن بُرد، وأبي العلاء المعرَّي، وأبي تمام وغيرهم. كما أنَّ أدونيس يؤمن بضرورة إنضاج هذا التمرَّد وإيصاله إلى “أقصى ما تتيحه التجربة الشَّعريَّة، دون أيِّ نوعٍ من أنواع الخضوع للتقليد. فلا يحصل بالعودة إلى التقليد أو بالتلاؤم مع أشكاله الشَّعريَّة؛ بل إنَّ في ذلك انفصالًا عن الحضارة وتقييدًا للحساسيَّة، ورفضًا للواقع. التقليد ثابت والحياة حركة؛ فمن يبقى في التقليد يبقى خارج الحياة. وكما أنَّ الأمانة للتقليد نفي للحياة؛ فإنَّ الأمانة لأشكاله وأساليبه الشَّعرية نفيٌ للشَّعر. وكم يتحتَّمُ على هذا التمرَّد أنْ يكون جذريًّا وفذًّا، إذا تذكَّرنا أنَّ التقليد في بلادنا ليس مجرَّد إيمان واقتناع؛ وإنَّما هو في آنٍ نظام حياة، ونظام فهم للحياة”([10]). ولا يدعو أدونيس إلى إحداث القطيعة الشّاملة مع الماضي. كما يجب أنْ يُفهم من النصِّ أعلاه؛ ولكنَّه “بصرف النّظر عن مفهوم التقليديَّة بالنسبة إليه”؛ وإنَّما طالب في أكثر من مناسبة بضرورة التّجديد ضمن آليَّاتٍ تراثيَّةٍ تكون صالحة لأنْ تواكب آفاق الكتابة التجديديَّة؛ لأنَّ “الشاعر العربي الحديث أيًّا كان كلامه أو أسلوبه، وأيًّا كان اتجاهه إنَّما هو تموُّجٌ في ماءِ التراث، أي جُزءٍ عضوي منه. وذلك لسبب بديهي هو أنَّ هويَّته الشَّعريَّة كشاعرٍ عربي لا تتحدَّد بكلام أسلافه مهما كان عظيمًا؛ وإنَّما تتحدَّد بكونه يصدر عن اللسان العربي، مفصحًا عن هذه الهويَّة بكلامٍ عربي”([11]).
وضبط الفرق بين الجديد والحديث عند أدونيس؛ إنَّما هو على أساس أنْ ليس كُلُّ حديثٍ جديد؛ لأنَّ الجديد يتحدَّد في ضوءٍ معيين: زمني؛ وهو آخر ما استجدَّ. وفنَّي؛ أي أنَّ مستوى الجدَّة المتحقَّقة في الأثر الإبداعي ذاته؛ لا تتوفَّر في نصٍّ سابق. أمَّا الحديث؛ فهو “ذو دلالةٍ زمنيَّةٍ، ويعني كلُّ ما لم يصبح عتيقًا، كُلُّ جديدٍ بهذا المعنى حديث، لكن ليس كُلُّ حديثٍ جديد… الجديد يتضمَّن معيارًا فنيًّا لا يتضمَّنه الحديث بالضرورة”([12]).
ومن هذا المنطلق؛ نجد أنَّ أدونيس كان ينظر إلى بعض الشَّعر القديم بكُلِّ تفاصيله على أساس أنَّه جديد ومتفرَّد ومتميِّز؛ وهذا يؤكَّد على تعميق موقفه من الأصول، وتقليد والأصول.
- تخطَّي التقليد للشَّعر
يقول أدونيس: “إنَّ هذا الانقطاع هو الذي يحول دون أنْ يصبح الشَّعر تقليديًّا؛ أي من دون أنْ يحوَّل الفاعليَّة الإنسانيَّة إلى مجرَّد تكرار واستعادة؛ فالشَّعر لا ينمو إلَّا في نوعٍ من الجدليَّة الضدَّيَّة أو التناقضيَّة، وعلى هذا يقوم التراث الإبداعي الفعَّال، وهو ما سميته بالمتحوُّل، وعينتُ بذلك شعريًّا”([13]).
انطلاقًا من هذا الرّفض للثابت؛ والبحث عن المتغيِّر، وصولًا إلى تحقيق ما سمَّاه أدونيس بالانقطاع الذي يفضي إلى تجاوز النمط ورفض الاجترار؛ على أنَّ لهو الفكر القديم والفكر الحديث في قراءة الآليَّات الشَّعريَّة؛ إنَّما هي بعثٌ متجدَّد للمأساة التي نعيشها فكريًّا منذ القديم؛ إذ إنَّ فكرنا “يعيش في عالمٍ قديم. ولأن قَبِلَ الجمهور بهذا الواقع المجزَّأ؛ فإنَّ الشاعر يرفضه من أجل أنْ يعيده إليه الوحدة، ومن أجل أنْ نتجاوز التناقض ويصير شكل حياتنا مقولة فكرنا وصورته”([14]).
- تخطي المفهوم
يرى أدونيس في الشَّعر القديم وثيقة جماليَّة، وأنموذجًا لكُلِّ يأتي بعده أو مقياسًا له، وهذ الموقف – بحسب ما يتَّضح- إنَّما هو تجاوزٌ لمفهوم التقليد ذاته ضمن ربط علاقة الأصول بعضها ببعض؛ وهي: (الشِّعر الجاهلي، والقرآن الكريم، والحديث الشّريف)؛ فدعوة أدونيس هنا هي دعوة نزع الغطاء الحضاري عن التراث وفق النظرة التقليديَّة التي ترضى بالاجترار بفعل الغطاء السابق.
ومن هنا يرى بوجوب “تجاوز الموقف الحضاري الذي يرافق هذا المفهوم. وهو الموقف الذي يرى أنَّ للتراث الشَّعري العربي قيمة بحدَّ ذاته وفي استقلال عن التراثيَّات الشَّعريَّة الأخرى، وأنَّه لذلك مبدأ واصل، وعالم مكتف بنفسه، وأنَّ التقدَّم والإبداع تشبَّه به، ودعوة دائمة صوب عصره الذهبي”([15]).
رابعًا- الشَّعر في فكر أدونيس
يرفض أدونيس رفضًا قاطعًا لأيِّ صياغة تحدَّد ماهيَّة الشَّعر. وانطلاقًا من الدّعوة إلى تخطَّي قيم الثبات والجمود في الشَّعريَّة العربيَّة القديمة؛ لأنَّ الشَّعر في فلسفة أدونيس لا يمكن أنْ يستند إلى قواعد وضوابط وأحكام جاهزة؛ وهذا الأمر يدعو إلى التنميط والوقوع في الخطيئة التي وقع فيها أسلافنا في الماضي، وجملة الشعر هو “الكلام الموزون والمُقفَّى، وهي عبارة تشوُّه الشَّعر؛ فهي العلامة والشاهد على المحدوديَّة والانغلاق، وهي إلى ذلك معيار يناقض الطبيعة الشَّعريَّة العربيَّة ذاتها؛ فهذه الطبيعة عفوية، فطريَّة انبثاقيَّة. وذلك حكم عقلي منطقي”([16]). كما أنَّ كُلَّ قصيدةٍ يجب أنْ تنطلق من ذاتها لكي تؤسس مسارها بعيدًا من كُلِّ زخرفٍ في القول؛ أو وصف لإخراج الموضوع أمام المتلقَّي في صورةٍ أضحتْ مألوفة لديه؛ لأنَّه طالما أدرك مثل هذا التشكُّيل سابقاً. كما توزَّعتْ آراء أدونيس ومواقفه حول طبيعة الشَّعر وماهيَّته بين كتبه ودراساته ومقالاته بشكلٍ يصعب معها رصد موقفه منها بدقة؛ ومن هذا المنطلق سنوجز الكلام في هذه القضية على صياغة بعض الآراء المتناثرة في كتبه؛ وذلك لإدراك أيَّ موقفٍ قريبٍ إلى الدقَّة عند أدونيس حول ماهية الشعر. ومن هنا نجده قد كتب عن الشعر ما لم يكتبه شاعرٌ من معاصريه. كما أنَّ أدونيس منذ البداية يرفض أنْ تكون للشَّعر فعاليَّة في التغيير الإجرائي المباشر، كأيِّ عملٍ يبني ويغيير، لا سيَّما إذا ما ارتبط الشَّعر بأيديولوجيَّة مُعيَّنة تجعل منه جُزءًا من الواقع المعيوش في إطار من الشَّعريَّة المفروضة عليه من الخارج إطاره المعروف.
وللشَّعر القدرة على البناء والتغيير ضمن آليَّاتٍ شعريَّة خاصة به، ولكن الاختلاف هو أنَّ البناء الشَّعري والتغيير الشَّعري ليس بالضرورة ماديًّا، إذ نجد فاعليَّته في الواقع المادي، ورُبَّما “تكمن وراء مقايسة الشَّعر بالعمل عقليَّة تنظر إلى الشَّعر كما إلى العلم. تطلب من الشَّعر أنْ يكون منطقيًّا، واضحًا، تمكن البرهنة عليه، وأنْ يكون مفيدًا، وأنْ يكون مادة نتعلمها ونطبقها”([17]). إنَّ هذه النظرة التي يرفضها أدونيس؛ إنَّما هي نظرةٌ تجعل من القصيدة معادلًا موضوعيًّا لأحكامٍ منطقية عقليَّة تحيد بها عن الدّور الأساس المُناط بالقصيدة، وهو خلق لجماليَّةٍ إيحائيَّةٍ لا تحيل إلَّا على ذاتها، ولا تقرأ إلَّا انطلاقًا منها. وقد ركَّز أدونيس في نقطة البداية هذه على ضرورة طمس فكرة المقايسة لدى المتلقَّي خشية أنْ تؤدَّي عمليَّة ربط الإبداع الشعري بالعمل على “اعتبار القصيدة كالشيء المادي، كالأداة تطلب الحاجة. وتلبيةً لهذا الطلب تصبح القصيدة زيًّا، ويصبح الشاعر عارض أزياء. وتصبح القصيدة كأيِّ شيءٍ مصنوع، محكومة بأنْ تكون وقتيَّة للحاجة للمناسبة، شأن المنتجات الماديَّة، شيئًا عابرًا بالضرورة، لأنَّه منتج بمنطق الإنتاجيَّة الماديَّة”([18]). ويُفسَّر هذا الموقف من الشَّاعر على أساس الكتابة الشَّعريَّة رفضًا لتفسير الواقع مهما اندمج هذا الأخير في خط مسار القصيدة؛ لأنَّها بكُلِّ بساطة لا تفسَّره؛ وإنَّما تعمل على تغييره؛ بل تفكيكه استنادًا إلى آليتين أساسيتين؛ وهما: تفعيل آليَّة الرفض ذاتها من خلال الثّورة على مطابقة الأشكال الجاهزة، ثمَّ خلق أشكال تعبير تختلف بالضّرورة مع السّائد المُبتذل، وهذا ما حثَّ عليه أدونيس حين طالب بضرورة تفكيك الواقع وتجاوز أيديولوجيَّته، إذ يقول: “الكتابة الشَّعريَّة، إذن لا تصوُّر الواقع؛ وإنَّما تفككه، أو تهدمه من أجل تحويله ثوريًّا، فما تقوم به خصوصية العمل الشَّعري يسير في توازٍ مع ما تقوم به خصوصيَّة العمل السياسي في توازٍ لا تبعية، وكما أنَّ الممارسة السياسيَّة الثوريَّة لا تنهض إلَّا كانفصال عن الممارسات غير شعريَّة. فإنَّ ممارسة الكتابة الشَّعريَّة الجديدة لا تنهض إلَّا كانفصال عن الممارسة الكتابيَّة التقليديَّة”([19]). وبناءً على ما تقدَّم من النصِّ في أعلاه؛ يُفهم من كلام أدونيس أنَّه دعوةٌ إلى خلق مرحلة جديدة مختلفة في مقاربة الواقع والحياة في شتَّى تمظهراتها، وأنَّ القصيدة الشَّعريَّة يجب أنْ توفَّر لذاتها شكلًا ومضمونًا مختلفين تمامًا عن المألوف والسائد؛ لأنَّ الفاعليَّة الشَّعرية، يجب أنْ تتحقَّق من خلال تفجير مستويات اللغة التقليديَّة المرتبطة بالحسِّ الأيديولوجي أوَّلًا، وصولًا إلى نقل هذه المستويات اللغويَّة نحو مسارٍ خلَّاق، يؤثَّر فيه الرمز والإيحاء، ويؤسَّس لرؤيا شعريَّة تتجاوز ذاتها لحظة الإبداع؛ وذلك حتَّى لا تقع بدورها في الاجترار والتنميط. ومن هذا المنطلق طالب أدونيس بتأسيس قصيدةٍ جديدةٍ، إذ قال: “بدل القصيدة الحكاية، أو يقيم الشّاعر الجديد القصيدة الدفعة الكيانيَّة، القصيدة الرؤيا الكونيَّة. وهذه قصيدةٌ تنمو في اتجاه الأعماق في سريرة الإنسان وخيلائه، وتنمو أفقيًّا في تحوُّلات العالم، وهي لا تصدر مصادقة عن مزاج أو وحي؛ بل تصدر بدفعة واحدة ورؤيا واحدة وحدس واحد”([20]).
كما أنَّ هذه دعوة مباشرة لرفض التقليد في الكتابة، وارتضاء منهج التّجديد ضمن فضاءات الخلق والبعث والرؤيا، إذ يتمكَّن المتلقَّي من أنْ يشاهد مظاهر الكون التي حجبتها عنه العادة والألفة، ويكشف الوجه المخبوء للعالم وللوجود، ويقف عند علائق خفيَّة يعبَّر من ورائها عن قلق الإنسان في هذا الواقع، ولا من منطلق أيديولوجي؛ بل من منطلقٍ إنساني محض. بناءً على تلك المعطيات؛ فإنَّ هذه الدعوة لنْ تتحقَّق إلَّا إذا اقترنتْ طبيعة الشَّعر بالرؤية التي يجعلها أدونيس دليل الشّاعر في عمليَّة الإبداع، إذ إنَّها تقوده نحو التخطَّي والرّفض والتّجاوز، وهي – أيضًا- وحدها تمكَّنه من الثورة على النّمط الجاهز والشكل الجاهز، والقالب الجاهز؛ وذلك لأنَّها آليَّة تفعيل الحواس وتعطيلها في الوقت ذاته؛ فإنْ “كتب الشّاعر الجديد قصيدته، لا يعني أنَّه يمارس فرعًا من الكتابة؛ وإنَّما يعني أنَّه يحيل العالم إلى شعر: يخلق له، في ما يتمثَّل صورته القديمة، صورة جديدة، فالقصيدة حدثٌ أو مجيء، والشَّعر تأسيس باللغة والرؤيا. تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما من قبل، لهذا كان الشَّعر تخطيًّا يدفع إلى التّخطي. وهو إذن طاقة لا يغيير الحياة فحسب؛ وإنَّما يزيد إلى ذلك في نموها وغناها وفي دفعها إلى الأمام وإلى فوق”([21]). وإذا كان خليل حاوي قد ربط الرؤيا الشَّعرية بالتجربة والفنِّ، وربطها يوسف الخال بالتعبير من دون التجربة؛ فإنَّ أدونيس يربط الرؤيا بالتحرر من السائد والمألوف. فالشَّعر رؤيا، والرؤيا عنده “قفزة خارج المفهومات السائدة، هي إذن تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها”([22]). وبناءً على ذلك؛ فالشَّعر من وجهة نظر أدونيس؛ إنَّما هي نظرة جديدة إلى العالم تختلف عن النظرة التقليديَّة؛ فهو ثورة على المفهومات القديمة ومحاولة لخلق عالم جديد أكثر حُريَّة، فالشعر من حيث هو رؤيا تساؤل لا جواب، وتجاوز للواقع، والشاعر هو العارف أو النبي ومعرفته تأتي من أعلى([23]). ويفسَّر الدكتور عاطف فضَّول هذا الكلام بأنَّه دعوة صريحة لإحقاق التغيير والتجديد معًا في النّظر إلى طبيعة الشّعر العربي المعاصر، إذ “إنَّه يؤكَّد مظاهر عديدة في الشَّعر الجديد. المظهر الأوَّل هو: الجدَّة بمعنى الإسهام في فهم جديد للعالم وتغييره. وفي الشكل الذي يجسَّد الفهم والتحوُّل الجديدين للواقع… أمَّا المظهر الثاني؛ فهو التّشديد على السمات المستمرة وليس العرضية والمؤقتة في الشَّعر الجديد. والمظهر الثالث هو استقلالية الشَّعر الجديد عن الاهتمامات الأيديولوجيَّة؛ لأنَّه له أهدافه ووظائفه الخاصة”([24]).
بناءً على ما تقدَّم؛ يتَّضح أنَّ أدونيس يرى – في ما سبق – أنَّ الشَّعر شكلًا من المعرفة، لا يمكن أنْ تبلغه كُلّ أشكال المعرفة الأخرى سواءً ارتبطتْ ببواعثٍ دينيَّةٍ أو أيديولوجيَّة، إذ تعمل الأولى على توظيف الشَّعر لبثِّ مبادئها، أو الدّفاع عنها، وتعمل الثانية على أدلجة الشَّعر لتحديد وظيفته وغايته وفق آلياتٍ ثوريَّة. وهذا ما أخذ بيد أدونيس إلى (سياسة الشَّعر) التي تربط طبيعة الشَّعر بالكشف، وتفعيل المعرفة، إذ إنَّ الشِّعر يكشف “عن نوعٍ من المعرفة ترتبط بالمكبوت اللاعقلاني في الإنسان والمجتمع، يصعب إخضاعها لضوابط النّظام المعرفي الديني والأيديولوجي. وفي هذا الكشف يثبت الشَّعر استحالة المعرفة الشموليَّة الكليَّة التي ينسبها هذا النّظام لنفسه. ويؤكَّد أنَّ المعرفة انفجاريَّة، متحرَّكة، مفاجئة. ومن تجد الأيديولوجيَّة: دينيَّة كانتْ أو علمانيَّة في الشَّعر ما يوشوش نظامها المعرفي، أو ما يشكَّل في يقينيتها”([25]). ويعرض أدونيس بعد هذا إلى دور الكشف عن تأسيس القصيدة الجديدة؛ وذلك من خلال النقاط التي سنعرضها بالآتي:
- إنَّ هذه الرؤيا هي كشف جديد، يرتقي بالضرورة إلى الخلق والإبداع؛ فالشَّعر بوصفه كلامًا بادئًا ليس دخولًا في ما فكَّر به؛ بل في ما لم يفكَّر به، وهذه دعوة تشير إلى أنَّ الشَّعر يكتشف أبعادًا معرفيَّةً وجماليَّةً لم تكتشفها الأيديولوجيَّة.
- يكتشف الشَّعر حقائق تُثبت بالذوق، أو بنوع من الحدس يتعذر تحديده.
- الدين جواب، والأيديولوجيَّة جواب، أمَّا الشَّعر فلا يقدَّم جوابًا أنَّه سؤال، استبصار، أو هو كشف متسائل يتحرك في هيامٍ متواصل لمزيدٍ من الكشف المتسائل، وفي هذا – أيضًا- يبدو أنَّ الشَّعر يتناقض مع كُلِّ نظامٍ معرفيٍ مغلق ووثوقي([26]).
ويدعو أدونيس الشّاعر إلى الارتباط بما سماه التّجريبيَّة لاعتقاده أنَّ الشَّعر التجريبي؛ إنَّما هو الشَّعر الجديد الذي يرتبط بالثورة؛ فيقود الشّاعر نحو الخلق والإبداع، أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. ويُعدُّ مصطلح التّجريب في الشَّعر من المصطلحات الدّخيلة على عالم الشَّعر، إذ إنَّه لم يكن يؤمن إلَّا بالأنموذج، والنمط من حيث أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يتطلَّب أساليب من النّماء الكثير من الصنعة والمقايسة. كما أنَّ أدونيس يحاول ابتكار أساليب النّماء الكثير من الصنعة والمقايسة. كما أنَّه يحاول أنْ يورط الشَّاعر المعاصر في عمليَّة الكتابة عن طريق ما أسماه علماء النّفس بالمحاولة والخطأ، لأنَّ المحاولة في منظوره هي الرّغبة الملحة والدّائمة في كسر عمود الشعر والقواعد الشَّعريَّة القديمة، وإنتاج رؤيا جماليَّة خاصة به لا تستقيم ولا تتأسس إلَّا عن طريق ما أسماه بالتّجريبيَّة؛ وهي “المحاولة الدّائمة للخروج من طرق التعبير المستقرَّة، أو التي أصبحتْ قوالب وأنماطًا، وابتكار طرق جديدة، وتعني هذه المحاولة إعطاء الواقع طابعًا إبداعيًّا حركيًّا؛ وذلك لأنَّ التّجريبيَّة لا تنهض وفقًا لما هو راهن، وإنَّما تنهض كتجاوز له. من أجل الكشف عن بديل أشمل وأعمق وأغنى. فالتّجريبيَّة إذًا عملٌ مستمرٌّ لتجاوز له. من أجل الكشف عن بديلٍ أشمل وأعمق وأغنى. فالتجريبيَّة إذًا عمل مستمر لتجاوز ما استقر وحمد وهي تجسيد لإرادة التّغيير ورمز الإيمان بالإنسان وقدرته غير المحدودة على صنع المستقبل، لا وفقًا لحاجاته فحسب؛ بل وفقاً لرغباته أيضًا”([27]). وإذا اقترنتْ طبيعة الشَّعر بالتّجريبيَّة وفق منظور أدونيس أنَّها تتوجَّه مباشرة نحو تأسيس كتابة الاختلاف، أو شعر الاختلاف مع الآخر الذي ارتضى في الشَّعر سبيل من سبقوه فلم يؤسس، ولم يجرب خلق نموذج وتجاوزه في آنٍ واحد.
خامسًا- موقف أدونيس من شكل القصيدة الجديد
يدعو أدونيس إلى أنْ يتمظهر الشَّعر بشكلٍ ما؛ ولكن ليس بالضرورة شكلًا يسبق التّجربة الشَّعريَّة ذاتها؛ أي أنْ يكون مفروضًا من الخارج. فمن خصائص الشَّعر أنْ يفرض ذاته في شكلٍ ما ؛لأنَّه “يتيح طواعية شكليَّة إلى أقصى حدود التنوُّع، إذ إنَّ القصيدة تخلق شكلها الذي تريده، كالنهر الذي يخلق مجراه”([28]). كما يركَّز أدونيس على الإيقاع من دون الوزن، إذ إنَّ الإيقاع أعمُّ من الوزن من باب أنَّه موجود في الفنون المختلفة، ولكنه خاص إذ إنَّ لكُلِّ فنٍّ إيقاعه الخاص؛ فللشَّعر إيقاعه وللنثر إيقاعه، ثمَّ ينفرد كُلُّ نص شعري أو نثري داخل الجنس الأدبي بإيقاعه الخاص. وإذا كان أدونيس قد ركَّز على الإيقاع بمفهومه العام؛ فكيف نميَّز بين إيقاع الشَّعر وإيقاع النثر؟
إنَّ إيقاع الشَّعر منضبط يقوم على تناسب الحركات والسكون في حين يبقى إيقاع النثر منفلتًا لا ضابط لـه، والإيقاع إذا لم يكن منضبطًا لم يصلح مقياسًا للتمييز بين حركات الأجسام ودوران الأجرام لعلَّه يميَّز بين الشَّعر والنثر، وهو ليس إلَّا تعلَّة يُراد منها إدخال قصيدة النثر إلى محراب الشَّعر من باب الإيقاع، بعد أنْ أُوصد أمامها باب الوزن([29]).
خـــــــــــاتـــــــــمة البحث
وفي ختام كلامنا عن التجربة الشَّعريَّة في الرؤيا الأدونيسيَّة؛ يمكننا أنْ نتلمَّس تأثَّر أدونيس بعالم الفكر والفلسفة الالمانيَّة من خلال عبارته الشهيرة؛ وهي عبارة نسبها (فايدنر) إلى أدونيس، ورأى أنَّها احتوتْ على الكثير من معالم الفكر الفلسفي الألماني؛ ففي القول مفتاح لفهم أعماله، فهو يحيلنا في الوقت ذاته إلى الأهميَّة العظيمة التي يولها أدونيس للشعر والفلسفة الألمانيين. إنَّ هذين المصدرين – إلى جانب التأثير الفرنسي – هما بالتأكيد العنصران الغريبان اللذان أدّيا الدور الأعظم في أعماله؛ فحينما يؤكَّد أدونيس: أنا آتٍ من المستقبل؛ فهو يضع نفسه داخل تراث (هايدغر وهولدرلن).
وفي إحدى دراسات (هايدغر) الأكثر شهرة بعنوان: (لماذا الشُّعراء؟)، والتي يعود تاريخها إلى العام 1946 يقول: إنَّ (هولدرلن) هو سلف شعراء زمن البؤس، لذا لم يستطع شاعر من شعراء تلك الحقبة أنْ يتجاوزه. وهذا السّلف مع ذلك، لم يذهب إلى المستقبل؛ بل إنَّه على العكس، جاء منه، إذ إنَّ المستقبل وحده هو الحاضر داخل كلامه. كما يتَّضح لنا – بحسب ما توصلَّنا إليه – أنَّ أدونيس كان قريبًا جدًا من الأصوليَّة؛ بل أقرب منها الانتماء في تطبيق إجراءات الفعل الحداثي الغربي؛ وذلك لأنَّه قرأ التُّراث قراءةً واعية على أساس تضمينه في الأصول؛ ولم تنفِ تلك القراءة للماضي العربي، ولا تراثه، إذ صرَّح بذلك الكثيرين مَّن عاصروه؛ مثل: يوسف الخال. كما أنَّه راجع تلك الأصول مراجعةً موضوعيَّةً؛ واستمدَّ من الغرب عمومًا – ولا سيَّما الألمان – طريقةً تجعله يعي هذه الأصول وتقدَّره في قراءتها ومراجعتها، وصولًا إلى بعث ثقافةٍ عربيَّةٍ جديدةٍ لا تتنكر للماضي؛ بل تأخذ منه جواهر النّظم والكلم، وتبعث المحظور من الفكر والثقافة بعيدًا من سُلطة السُّلطة في شتَّى تمظهراتها عبر الحقب الزمنيَّة الماضية. وكانتْ لفاعليَّة (سوزان برنار) في الشَّعريَّة العربيَّة الحديثة فاعليَّة تأسيسيَّة للجانب النظري على الأقل، لا سيَّما عندما ارتبطتْ ارتباطًا وثيقًا بجماعة (شعر)؛ إذ إنَّ كتاب قصيدة النثر من (بودلير) إلى الوقت الراهن. ولــ(سوزان برنار) تاريخٌ عربيٌّ، وفاعليَّةٌ مؤكَّدة في الشَّعريَّة العربيَّة منذ صدوره طبعته الأولى العام 1958م بباريس. ورُبَّما كانتْ فاعليَّته عربيًّا أعمق وأفدح من فاعليَّته فرنسيًّا في مجاله الحيوي الأصلي، مفارقة تضيء في بعض وجوهها آليَّات التفاعل الثقافي، وأشكالها العربيَّة. وطوال هذه السنوات ظلَّ الكتاب هاجسًا أساسيًّا لدى شُعراء الحداثة العربيَّة غائب حاضر في آن. غائبًا بالفعل، حاضرًا بالقوة. لكنَّه الغياب الذي لا يفضي إلى النسيان، بقدر ما يفضي إلى التشبث بالغائب؛ ليصبح غيابه حضورًا فادحًا، بلا غفران، إنه نورٌ من المهدي المنتظر. ولذا؛ يمكننا أنْ نلخص موقف أدونيس من الثقافتين الغربيتين: (الالمانيَّة والفرنسيَّة)؛ على أنَّهما أسهمتا في بعث حركة التجديد عند أدونيس بعيدًا من اجترار النمط الغربي في الكتابة والتنظير؛ وفي خلق آليَّات الكتابة والتمرُّس في نقد الثقافة العربيَّة وقراءتها. ومن هنا كانتْ مواقفه حول التجديد؛ إنَّما هي مواقفٌ حداثيَّةٌ.
المصادر والمـراجع
- إدوارد سعيد: أدونيس كما يراه مفكرون وشعراء عالميون، ط1، بدايات للطباعة والنشر، دمشق، 2004.
- أدونيس: زمن الشَّعر، ط5، دار الساقي، بيروت، 2005.
- أدونيس: سياسية الشَّعر “دراسات في الشَّعريَّة العربيَّة المعاصرة”، ط2، دار الآداب، بيروت، 1966.
- أدونيس: مقدَّمة الشَّعر، ط3، دار العودة، بيروت، 1979.
- سوزان برنار: قصيدة النثر من بودلير حتَّى الوقت الراهن، ترجمة: رواية صادق – رفعت سلام، ج1، دار شرقيات، القاهرة، 2000.
- عاطف فضَّول: النظريَّة الشَّعريَّة عند إليوت وأدونيس، ترجمة: أسامة إسبر، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000.
- محمد بنيس: الشَّعر العربي الحديث، ط1، ج3، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1990.
- محمد جمال باروت: الحداثة الأولى، مجلَّة المعرفة، بيروت، العدد: 285 نوفمبر، سنة 1985.
[1] – دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانيّة، الجمهورية اللبنانيّة، أستاذ اللغة العربيّة وآدابها في كلّيّة علوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات جامعة واسط في جمهوريّة العراق.
[2]– عاطف فضَّول: النظريَّة الشَّعريَّة عند إليوت وأدونيس، ترجمة أسامة إسبر، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص71.
[3]– المرجع نفسه، ص71- 72.
[4]– المرجع نفسه، ص74- 75.
[5]– إدوارد سعيد: أدونيس كما يراه مفكرون وشعراء عالميون، ط1، بدايات للطباعة والنشر، دمشق، 2004، ص229.
[6]– إدوارد سعيد: أدونيس كما يراه مفكرون وشعراء عالميون، مرجع سابق، ص231.
[7]– المرجع نفسه، ص231.
[8]– أدونيس: زمن الشِّعر، ط5، دار الساقي، بيروت، 2005، ص268.
[9]– المرجع نفسه، ص268.
[10]– أدونيس: زمن الشِّعر، المرجع السابق، ص174.
[11]– أدونيس: سياسية الشَّعر “دراسات في الشَّعريَّة العربيَّة المعاصرة”، ط2، دار الآداب، بيروت، 1966، ص15- 16.
[12]– أدونيس: مقدَّمة الشَّعر، ط3، دار العودة، بيروت، 1979، ص99.
[13]– المرجع نفسه، ص16.
[14]– أدونيس: مقدَّمة الشَّعر، مرجع سابق، ص101.
[15]– المرجع نفسه، ص174.
[16]– المرجع نفسه، ص108.
[17]– أدونيس: زمن الشَّعر، مرجع سابق، ص32.
[18]– المرجع نفسه، ص33- 34.
[19]– المرجع نفسه، ص61.
[20]– أدونيس: مُقدَّمة الشَّعر العربي، مرجع سابق، ص106.
[21]– المرجع نفسه، ص102.
[22]– أدونيس: زمن الشَّعر، مرجع سابق، ص9.
[23]– محمد جمال باروت: الحداثة الأولى، مجلَّة المعرفة، بيروت، العدد: 285 نوفمبر، سنة 1985، ص104.
[24]– عاطف فضَّول: النظريَّة الشَّعريَّة عند إليوت وأدونيس، مرجع سابق، ص87.
[25]– أدونيس: سياسة الشَّعر، “دراسات في الشَّعريَّة العربيَّة المعاصرة”، ط2، دار الآداب، بيروت، 1966، ص173- 174.
[26]– المرجع نفسه، ص174.
[27]– أدونيس: زمن الشَّعر، مرجع سابق، ص148.
[28]– المرجع نفسه، ص116- 117.
[29]– محمد بنيس: الشَّعر العربي الحديث، ط1، ج3، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1990، ص41.