جريمة في بعقلين بحث تحليلي للجريمة من الناحية النفسية
محمد عبد الله شهاب)[1](/ دة. ماجدة حاتم([2])
ملخص البحث
في السنوات الأخيرة كثرت الجرائم في لبنان خاصة تلك التي تحدث بين ذوي القربى، أو الأزواج أو تلك التي تصنف ضمن جرائم القتل الجماعيّ Mass murder، وعلى الرّغم من التزايد الملحوظ لهذا النوع من الجرائم، فإنه لم ايُعمل على تحليل أي منها من الناحية النفسية ودراستها ، ولم يكن لعلم النفس أيّ دور في أي منها لمحاولة الوصول إلى الدّوافع النّفسيّة الحقيقة التي تدفع إنسان ما إلى قتل عدة ضحايا في جريمة واحدة، أو الجرأة على قتل من هو من لحمه ودمه من دون رادع أو خوف، وأحيانًا يكون السبب الظاهري تافه ولا يستحق حجم ومستوى الجريمة التي وقعت. يهدف هذا البحث الى التطرق الى إحدى هذه الجرائم (الجريمة التي وقعت في مدينة بعقلين في العام 2020 والتي ذهب ضحيتها 10 أِشخاص، القسم الأكبر منهم لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالجريمة، أو بالأسباب الظاهرية لها) معتمدًا على منهج دراسة الحالة، وذلك بهدف التعريف، أولًا، بعلم النفس الجنائي ولو بطريقة مقتضبة، ومن ثَمَّ، ثانيًا، العمل على تحليل أو النظر الى الجريمة من ناحية علم النفس، في محاولة لقراءة الدّوافع الفعليّة للجريمة، وفقًا لمختلف نظريات علم النفس التي فسرت الجريمة ودوافعها، إضافة الى الإضاءة على أهمية وجود علم النّفس والسماح له بالتدخل في التحقيق في هكذا جرائم بما قد يساهم على معالجة الأسباب الجذرية لها فضلًا عن معالجة المرتكبين لها (لو دعت الحاجة) بما قد يساهم في منعهم من تكرارها
كلمات مفتاحية: علم النفس الجنائي – جرائم القتل الجماعي – الدوافع النفسية للجريمة – السلوك الإجرامي – المجرم – النظريات المفسرة للسلوك الإجرامي.
Abstract
In recent years, crimes have increased in Lebanon, especially those that occur between relatives or spouses, or those that are classified as mass murder, and despite the noticeable increase of this type of crime, no work has been done to analyze and study any of them from a psychological point of view, and psychology had no role in any of them to try to reach the real psychological motives that push a person to kill several victims in one crime, or the daring to kill his own flesh and blood without deterrence or fear, and sometimes the apparent reason is trivial and does not deserve the size and level the crime that occurred. This research aims to address one of these crimes (the crime that took place in the city of Baaklin in the year 2020, which claimed the lives of 10 people, the largest part of them has nothing to do with the crime or its apparent causes) based on the case study method, with the aim of ,at first, introducing criminal psychology, even in a brief way, and then secondly working on analyzing or looking at the crime from the point of view of psychology, in an attempt to read the actual motives for the crime according to the various psychological theories that explained the crime and its motives, in addition to highlighting the importance of the existence of psychology and allowing it to intervene in the investigation of such crimes, which may contribute to addressing the root causes of them, as well as treating the perpetrators (if needed) in a way that may contribute to preventing them from recurring.
مقدمة
يودع في السجون كل عام عدة ملايين من البشر في أنحاء العالم جميعه وذلك جزاءً للأفعال التي يتركبونها، وتُعدُّها المجتمعات التي يعيشون فيها أفعالًا إجراميّة، وفي مقابل هؤلاء، يوجد ملايين الضحايا الذين وقع عليهم الضرر بسبب هذه الأفعال الإجراميّة. يتناول هذا البحث واحدة من هذه الجرائم التي وقعت في مدينة بعقلين في محافظة جبل لبنان الجنوبيّ راح ضحيتُها عشرة أشخاص من الجنسيتين اللبنانيّة والسّورية وبينهم طفلين. يهدف هذا البحث الى مناقشة تفاصيل الجريمة، وتحليلها لمحاولة معرفة الأسباب الكامنة ورائها، ما هي الدّوافع النّفسيّة التي دفعت صاحبها لارتكابها، علّنًا نوفق في الوصول إلى بعض ما خَفِي حولها، وخاصة أنَّ التّحقيق فيها لم يرشح عنه أيّ شيء فعليّ وحاسم حتى تاريخ إعداد هذا البحث. سنتطرق أولًا، الى تفاصيل الجريمة وأكثر الأخبار أهمّية التي جاءت بصددها، مع الحسبان أنّه لم يكن هناك الكثير من التّفاصيل، ولم نتمكن من الحصول على الكثير من المعلومات عنها وبالأخص عن مرتكبها. وسنعمد ثانيًّا، إلى تحليل تفاصيل الجريمة لناحيةِ المحيط العام للجريمة (أي ما أحاط بها من تفاصيل من النّاحية الإعلاميّة، وتداولها وكيفية تعاطي الرأي العام معها)، ولناحية المرتكب نفسه بما توفر من معلومات عامة عنه وعن ظروف ارتكابه للجريمة وسياقها العام. لكن قبل الغوص في تفاصيلها وتحليلها لا بدَّ من التّطرق الى تعريف بعض المصطلحات، وبعض العناوين التي تساعد في فهم الإطار العام للبحث، والمرتكزات المهمّة التي اعتمدها البحث، بما يساعد في تحقيق أهدافه. ولا بُدَّ من الإشارة الى أنَّ مصادر المعلومات عن الجريمة هي مواقع إخباريّة مختلفة، تطرقنا فيها إلى المعلومات الواقعيّة والحقيقيّة التي وردت فيها، وتفادينا كل ما هو تحليليّ وافتراضيِّ وكذلك لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ التّحليل الوارد في هذا البحث هو بناءً لوجهة نظر عامة قد لا تمثل الواقع الحقيقيّ للأمور، كونه لم يكن هناك فرصة، بطبيعة الحال، لمقابلة مرتكب الجريمة، ومحاولة معرفة الجوانب الآتية:
- السّمات الشّخصية والخصائص الذّهنيّة لمرتكب الجريمة.
- تاريخه وماضيه المعيشيّ.
- الأسباب الحقيقيّة التي دفعته إلى ارتكاب هذه الجريمة.
القسم الأول : الجانب النّظريّ
- تعريف بعض المصطلحات
- الجريمة crime:هي سلوك ينتهك القواعد الأخلاقيّة التي وضَعت لها الجماعةُ جزاءاتٍ سلبيةٍ تحمل صفة الرّسميّة، أوهي السّلوك الذي تُحرِمُهُ الدّولة لما يترتب عليه من ضرر على المجتمع فتتدخل لمنعه بعقاب مرتكبيه.
- المجرم Criminal :هو الفرد الذي ينتهك القوانين والقواعد الجنائيّة في مجتمع ما ومع سبق الإصرار، أو هو الشّخص الذي يرتكب فعلًا غيرَ اجتماعي سواءٌ أكان بقصد ارتكاب جريمة أو لا، ويشمل هذا المعنى كل من ينتهك الأعراف أو يتصرف على نحو يخالف المعايير الاجتماعيّة.
- السّلوك الإجراميّ:هو أيّ سلوك مضاد للمجتمع وموجّه ضد المصلحة العامة، أو هو أيّ شكل من أشكال مخالفة المعايير الأخلاقيّة التي يرتضيها مجتمع معين ويعاقب عليها القانون. وباختصار إذا كانت الجريمة هي مسمى الفعل الإجراميّ، فإنّ السّلوك الإجراميّ هو ممارسة هذا الفعل.
- خصائص السّلوك الإجراميّ
أوضح «هول T.Hall» أنّ هناك سبعة خصائص لا بُدَّ من توافرها في الحكم على السّلوك بأنّه إجراميّ وهي:
- الإضرار، وهو المظهر الخارجيّ للسّلوك، فالسّلوك الإجراميّ يؤدي الى الإضرار بالمصالح الفرديّة أو الاجتماعيّة أو بهما معًا، وهذا هو الرّكن الماديّ للجريمة إذ لا يكفي القصد أو النّية بمفرده.
- يجب أن يكون هذا السّلوك الضار محرّمًا قانونًا، ومنصوصًا عليه في قانون العقوبات.
- لا بُدَّ من وجود سلوك يؤدي إلى وقوع الضرر، سواءٌ أكان إيجابيًّا أو سلبيًّا، عمديًّا أو غير عمديّ، ويقصد بذلك توفر عنصر الإكراه.
- توافر القصد الجنائيّ، أيّ وعي الفرد التّام بما أقدم عليه من سلوك إجراميّ ومسؤوليته عنه. إنّ الجريمة التي يرتكبها الإنسان العاقل، عن قصد ورغبة وتصميم، تختلف عن تلك التي يُكرهُ الإنسان عليها أو التي يرتكبها الطفل أو المجنون.
- يجب أن يكون هناك توافق بين السّلوك والقصد الجنائيّ. ويعطي هول Hall مثالًا على ذلك برجل الشّرطة الذي يدخل منزلًا ليقبض على شخص ما بأمر من القاضي أو المسؤول القانونيّ، ثم يرتكب جريمة أثناء وجوده في المنزل بهدف تنفيذ أمر القبض. فهذا الرّجل لا توجه إليه تهمة دخول المنزل بقصد إرتكاب جريمة، لأنّ السّلوك والقتل الجنائيّ لا يلتقيا معًا.
- يجب توافر العلاقة الفعليّة بين الضرر المحرم قانونًا وسوء التّصرف، حتى يمكن تجريمه. فالجانيّ لا يُسأل عن نتيجه فعله إلا إذا كانت هناك رابطة سببيّة بين الفعل والنتيجة.
- لا بُدَّ من نص يشرح العقوبة اتجاه الفعل المحرم قانونًا، وهذا هو مبدأ الشّريعة الذي يقرر بأنّه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصٍّ.
- علاقة علم النّفس بالجريمة
إنَّ الفرد الذي يعيش في المجتمع هو يلتزم بالعقد الاجتماعيّ – غير المكتوب- بينه وبين المجتمع. وهذا العقد يؤكد على تأمين المجتمع لحاجات الفرد وإشباع دوافعه، وعلى توفير السَّلام والأمن وفرص العيش اللائق. وفي المقابل، يلتزم الفرد احترام أنظمة المجتمع وقوانينه وأعرافه، ويعمل على بناء هذا المجتمع بقدر ما تسمح به طاقته.
إنَّ هذا العقد الاجتماعيّ بين الفرد والمجتمع، قائم على تبادل المنافع، إذ يؤدي المجتمع دوره حيال الفرد وفي المقابل يؤدي الفرد دوره حيال المجتمع. وبذلك يصبح معنى الجريمة، أنَّ أحد الأفراد أقدم على ارتكاب فعل مخالف لما تبناه المجتمع وأثبته في قوانينه، أو أنَّه امتنع عن أداء فعلٍ يطلب منه المجتمع أن يؤديه، وكأنَّ الجريمة هي شكل من أشكال الإخلال بالعقد الاجتماعيّ بين الفرد والمجتمع. وعلى هذا الأساس، فإنَّ مخالفة الفرد لهذا العقد غير المكتوب، هي جريمة ويستحق هذا الفرد العقاب لأجلها، والعقاب له ضوابط بالغة التّحديد حتى لا يقع على الفرد ظلمًا ما. إنَّ علم النّفس يرى أن احترام النِّظام الاجتماعيّ أمرًا أساسيًّا في تكوين الشّخص السّويّ، وأنَّ خرق هذا النِّظام هو أمر بالغ الخطورة ويجب مواجهته وعلاجه واحتواءه بشتى الأساليب، ذلك لأنَّ ما يهم الاختصاصيّ في علم النّفس أن يحافظ المجتمع على بنيته وعلى هيكله. لذلك يتفق علم النّفس مع القانون على هدف نبيل، وهو الحفاظ على النِّظام الاجتماعيّ، ويتجسد ذلك بصورة بالغة، في مقاومة كل ما من شأنه تدميرهذا النِّظام أو تحطيمه، لتكون الجريمة أكثرعوامل هذا التّدميرأهمّية. إنّ المفهوم القانونيّ للسّلوك الإجراميّ لا يتعارض مع المنظور السّيكولوجيّ للسّلوك السّويّ، لا بل هو يتفق معه. فالسّلوك الإجراميّ، والذي يتسم بعدة خصائص تم تناولها سابقًا، لديه تحديد قانونيّ صرف، يتماشى بوجه عام مع النّظرة السّيكولوجيّة التي تحدد السّلوك الاجتماعيّ المطابق للمثل والقيم والأخلاقيّات والتّقاليد. والعامل في الميدان النّفسانيّ، من أولى اهتماماته أن يحترم أفراد المجتمع القانون، لأنَّ هكذا احترام هو السّلوك السّويّ البنّاء، وهو الدّليل السّاطع على صحة نفسيّة الفرد. إنّ القانون وعلم النّفس يهدفان إلى صالح البشر. ومن العوامل المهمّة التي تحقق صالح البشر: استتباب القانون وإشباع حاجات الفرد. وبذلك يصبح أهل هذين المجالين، شركاء في هذه القضية . واستطرادًا للشرح، إليكم في هذا الاتجاه مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها:
- لماذا الجريمة؟ وهل السّلوك الإجراميّ هو عامل وراثيٌّ، أو عوامل اجتماعيّة سلبيّة واضطرابات نفسيّة تدفع المجرم إلى سلوك غيرّ سوي، أم أنّ الجريمة تحدث نتيجة تضافر العديد من هذه العوامل مشتركة مع بعضها البعض؟
- هل يُصنّف المجرمين من حيث خصائصهم النّفسيّة أو الجسميّة أو الاجتماعيّة؟ وهل يمكن تصنيف الجرائم التي يرتكبونها، تصنيفًا يساعد على فهم أسبابها؟ وهل هناك شخصيّة تتسم بمعاداتها للمجتمع وتخرق القانون، وما هي خصائصها؟ وهل هذه الشّخصيّة تقبل العلاج أو الرّدع أو ترفضه؟
ج- وبالاتجاه نحو الاحتياطي الاستراتيجيّ للجريمة، ونقصد به صغار المجرمين أو الأحداث، نسأل كيف يتم إنحرافهم ؟ وما هي العوامل التي تساعد على هذا الانحراف؟ وهل من وسيلة لعلاجهم وإعادتهم من جديد إلى الصّواب؟
د- هل ترتبط الاضطرابات النّفسيّة والعقليّة بالسّلوك الإجراميّ؟ وبمعنى آخر هل هناك أمراضٌ نفسيّة أو عقليّة بسببها يتجه المريض إلى ارتكاب الجريمة؟ وما هي أنواع الجرائم التي يرتكبها المرضى النّفسيون؟
ه- إذا كان بعض المصابين بالأمراض العقليّة قد يرتكبون الجرائم، فما مدى مسؤوليتهم عن أفعالهم الإجراميّة؟ وكيف يُتخذ قراراً بإعفائهم من المسؤوليّة الجنائيّة؟ وما مدى خطورة هذا القرار؟ ومن يتخذ هذا القرار؟ جميعها أسئلة تفصيليّة تشكل (إلى جانب أسئلة أخرى لم نوردها هنا كونها خارج سياق هذا البحث) الأسس التي بُني عليها علم النَّفس الجنائيّ بهدف الإجابة عنها، ولسنا هنا في صدد الإجابة عن هذه الأسئلة كونها من خارج موضوع بحثنا، بل كان الهدفً من إدراجها هو إدراك عملية تحليل السّلوك الجرميّ.
- تعريف علم النَّفس الجنائيّ وأهميته
إنّ المساحة التي يشترك فيها علم النّفس مع القانون هي المنطقة التي تمثل ساحة علم النَّفس الجنائيّ وميدانه. فعلم النَّفس الجنائيّ هو فرع من فروع علم النّفس التّطبيقيّ، وهو يهتم بدراسة السّلوك الإنسانيّ في إطار تعامل هذا السّلوك مع القانون. ويمكن تعريفه أيضًا أنّه فرع من فروع علم النّفس الذي يهتم بتطبيق المعارف النّفسيّة في المجال الجنائيّ أو الإجراميّ، أيّ تطبيق لمباديء علم النّفس في المواقف التي يتعامل فيها الإنسان مع القانون. إنّ الطبيب النّفسيّ والأخصائيّ النّفسيّ في المجال الجنائيّ، يساعدان في تشخيص حالات السجناء النّفسيّة والعقليّة، وفي العلاج، وفي تقرير مدى المسؤوليّة الجنائيّة لدى المجرمين من المرضى النّفسيين. كذلك يساعدان في تقديم الخدمات النّفسيّة المختلفة لنزلاء السّجون، وفي تأهيل أرباب الإجرام لكي يعودون أفرادًا صالحين في المجتمع. معنى ذلك كلّه أن الاختصاصيين في علم النّفس يمكنهم المساهمة في دراسة وعلاج مشكلة كبرى تعاني منها معظم المجتمعات، وهي الجريمة. كما يقوم هؤلاء الاختصاصيون في الجامعات ومراكز البحوث العلميّة، بإجراء الدّراسات المتنوعة حول الجريمة، بغية تقديم أفضل خدمة علميّة ممكنة لمن يعملون في المجال التّطبيقيّ لعلم النَّفس الجنائيّ. إنَّ هدف علم النَّفس الجنائيّ إقامة جسر يصل بين القانون وعلم النّفس. ويقوم علم النَّفس الجنائيّ على الإجابة على الأسئلة الرئيسة الآتية: إذا كانت القوانين هي سيادة الدّولة وعماد المجتمع وركن أساسيّ فيه، فلماذا يخرق النّاس القانون، وكيف نتعامل معهم، وما هي أنجع الوسائل العلاجيّة لإعادتهم الى الحاضنة الاجتماعيّة إن أرادوا؟ ثم ما هي أنجع الأساليب لمعاقبتهم إن أبوا؟
- مناهج البحث في علم النَّفس الجنائيّ
بما أنّ موضوع الدراسة في علم النّفس بفروعه المتعددة هو دراسة السّلوك الإنسانيّ سواءٌ في حالته السّويّة أو المرضيّة، فإنّه يمكن استخدام المناهج المتاحة كافةً عند دراسة السّلوك الإجراميّ وتوظيفها في الصورة المناسبة. وهناك ثلاث مناهج أساسية تعتمد في علم النَّفس الجنائيّ، وهي المنهج الوصفيّ والمنهج التّجريبيّ أو التّفسيريّ ومنهج دراسة الحالة. وبما أننا في صدد الحديث عن جريمة مرتكبها فرد واحد (حالة فردية)، فنحن سنعتمد في هذا البحث على منهج دراسة الحالة.
منهج دراسة الحالة
بما أن موضوع دراستنا في علم النَّفس الجنائيّ هو السّلوك المنحرف أو الإجراميّ، فإنَّ وحدة الدّراسة أو التّحليل تتمثل بالفرد، إذ يتجه البحث إلى تسجيل مختلف البيانات عنه، والتي يجب أن تشمل العديد من المعلومات التي ربما لا يكون الباحث في البداية قادرًا على تحديد أهميتها. ومن هذه المعلومات نذكر تاريخ المجرم بدءًا من حياته المبكرة في أسرته أو مع من قاموا على تربيته، والحالة الصّحيّة والعقليّة لأفراد الأسرة، ونوع العلاقات السّائدة بين أفرادها، والبيئة السّكنيّة، والمستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ للأسرة، والعلاقة بين الوالدين أو انفصالهما أو موت أحدهما أو كليّهما، وعدد أفراد الأسرة، والعلاقة بين الوالدين والأبناء، وعلاقة الأبناء ببعضهم البعض، والتّاريخ الدّراسيّ للمنحرف ومستوى تحصيله الدّراسيّ، وقدراته العقليّة، واستعداداته الخاصة، وميوله واتجاهاته وحالته الصّحيّة، وسماته الشّخصيّة، وغير ذلك من المتغيرات النّفسيّة والاجتماعيّة والبيئيّة التي تقوم بدور فاعل في الاسهام في نشأة السّلوك المنحرف أو استمراره وتفاقمه.
هناك مصادر عديدة يمكن أن نستقي منها المعلومات التّاريخيّة والآنيّة عند دراسة حالة المنحرف أو المجرم. ومن هذه المصادر المهمّة ما يلي:
- السّلوك الحاليّ للمنحرف أو المجرم، ويُعدُّ مصدرًا مهمًّا إذ يتضمن ملاحظة ميدانيّة للسّلوك والتطبيقات المختلفة من المقاييس والاختبارات النّفسيّة، والتّسجيلات العديدة للسّلوك أثناء جلسة تطبيق المقاييس.
- الوثائق الشّخصيّة للمنحرف أو للمجرم، وتتضمن الرّسومات والخطابات والصّور والموضوعات الحرّة والمذكرات الشّخصيّة ألخ…. وهي معلومات لها قيمه علميّة جيدة.
- السّجلات المدرسيّة والحكوميّة، وتتضمن كل أنواع السّجلات التي تقدمها الهيئات المختلفة التي تتعامل مع المنحرفين والمجرمين بدءًا بالسّجلات المدرسيّة ثم سجلات العمل وسجلات الشّرطة والقضاء ألخ.
- ذكريات المجرم أو المنحرف عن حياته، وفيها يُسأل المجرم عن ذكرياته الماضية بدءًا من طفولته وحتى اللحظة الرّاهنة. وبالطبع، فإنّ هذه المذكرات التي يسوقها المجرم أو المنحرف عن حياته، تختلف من ناحية الاكتمال والدِّقة واحتمال الخطأ فضلًا عما يقوم به هؤلاء الأشخاص من تحريف وتشويه للمعلومات سواء بصورة مقصودة أو نتيجة لعدم التّذكر الجيد.
هـ – معلومات الآخرين عن حياة المجرم، وتتضمن كل الآثار التي تركها المجرم أو المنحرف لدى من اتصل به في حياته وتعامل معه، والتي يذكرها الآخرون عنه.
- مصادر أخرى للمعلومات، وهي مهمّة، وتشمل دراسة الأباء والأخوة والأقارب والزّملاء والأصدقاء والبيئة الثّقافيّة التي نشأ فيها المجرم.
- النَّظريّات المفسرة للسّلوك الإجراميّ : هناك نظريات عدة حاولت أن تفسر السّلوك الإجراميّ، وتتفق كلّها في أنّ الجريمة أو السّلوك المنحرف مرجعه اضطراب معين في شخصيّة المجرم، ولكنّها تختلف في ما بينها بشكل كبير وشاسع في تحديد طبيعة هذا الاضطراب ودلالته في شخصية المجرم، وبالتالي في تفسيرها لدوافع الإقدام على ارتكاب الجرائم بصورها المتعددة. وتمثل هذه النَّظريّات البيولوجيّة منها، والاجتماعيّة، والنّفسيّة، والنّفسيّة الاجتماعيّة، وأخيرًا نظريّة المنحى التّكامليّ. وسيتم التطرق في هذا البحث، إلى كلّ منها وباختصار شديد منعًا للإطالة، وفي المقابل فإننا نجدها عاملًا مساعدًا في تحليل الجريمة التي نحن بصددها.
- النَّظريّات البيولوجيّة: تسجل هذه النّظرية مجموعة من المحددات في تفسير السّلوك الإجراميّ وهي:
- الخواص الوراثيّة التي ورثها المجرم عن أجداده (وراثة الجينات).
- المحددات التّكوينيّة (نمط البناء الجسميّ) عبر الرّبط بين أنماط بناء الجسم وارتكاب أشكال معينة من الجرائم.
- الاضطرابات الفيزيولوجيّة، كزيادة إفرازات الغدد الصّماء أو نقصانها أو في عمليات التّمثيل الغذائيّ، كلّها من شأنها أن تؤدي إلى ارتكاب جرائم.
- النَّظريّات الاجتماعيّة: تركز النَّظريّات الاجتماعيّة على دور العوامل الخارجيّة في نشأة الجريمة وهي:
- الفرص الفارقة: ويختصر هذا العامل أنَّ الأشخاص المنتمين للطبقة العاملة، يفشلون في تحقيق أهدافهم بنجاح عبر الطرق الشّرعيّة نظرًا لمعوقات مختلفة، فيلجأون إلى الطرق غير الشّرعيّة لتحقيق تلك الأهداف.
- التّفكّك الاجتماعيّ: وهو تناقض وصراع المعايير والأدوار الاجتماعيّة، ضعف آثر قواعد السّلوك ومعاييره، وأخيرًا أنهيار الجماعات وسوء أدائها لوظائفها، أيّ الخلل في البناء الاجتماعيّ من جهة وقصور الأداء الوظيفيّ من جهة اخرى.
- الصّراع الثّقافيّ: والذي يعني صدامًا بين عناصر ثقافتين، هذه العناصر الأكثر أهمّية وهي القيم والعادات والتّقاليد.
- النَّظريّات النّفسيّة: تشير النَّظريّات النّفسيّة إلى مجموعة من المحددات تشترك جميعها في أنَّ السّلوك الإجراميِّ هو نتاج لبعض الخصال في شخصية المجرم. وأكثر هذه المحددات أهمّية، ونذكر:
- أنماط التّفكير الإجراميّ: ويفترض هذا المحدد أنّ المجرمين لديهم طريقة خاصة بالتفكير إذ تحرّكهم مجموعة فريدة من الأنماط المعرفيّة التي تبدو بالنسبة إليهم منطقيّة ومتسقة في بنائهم المعرفيّ، بمعنى آخر هي سلوكيات طبيعيّة وفق منظورهم الثّقافيّ الاجتماعيّ، ومع ذلك فهي خطأ وفقًا للتّفكير المسؤول.
- اضطراب الشّخصيّة: يميل العديد من المنظرين إلى تفسير الجريمة على أنّها أحد أشكال اضطراب شخصية المجرم (شخصية ضد مجتمعيّة). ويشير هذا المفهوم إلى الأشخاص الذين يقومون ببعض الأنشطة الإجراميّة المتكررة، إذ إنّ أصحاب هذه الشّخصيّة لا يشعرون بالذّنب ولا بتأنيب الضمير، وبمعنى آخر فشلوا في بناء معاييرهم الأخلاقيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة السّليمة.
- التّفسيرات التّحليليّة النّفسيّة: بناءً للعالم النفساني فرويد – صاحب نظرية التّحليل النّفسيّ – أنَّ المجرم هو إنسان فشل في ترويض دوافعه الغريزيّة الأولى، أو فشل في جعلها أنماطًا سلوكيّة مقبولة. وبمعنى آخر فإنّ السّلوك الجرميّ هو نتيجة سوء تكيف الأنا أو الذّات العقلانيّة.
- التّفسير السّلوكي لأيزنك Eyzenk: وقد ربط السّلوك الجرميّ بأبعاد الشّخصيّة، والحديث عن ثلاثة أضداد مسؤولة عن التّباين في السّلوك، وهي الانبساط في مقابل الانطواء، العصابيّة في مقابل الاتزان الوجدانيّ، والذُهانيّة في مقابل الواقعيّة.
هـ – النَّظريّات النّفسيّة الاجتماعيّة: تفسر النَّظريّات النّفسيّة الجريمّة على أنّها سلوك متعلم يُكتسب من مختلف عملياّت التّفاعل الاجتماعيّ، وتؤكد هذه النَّظريّات أهمّية العلاقات والتّفاعلات المتبادلة بين النّاس وبيئتهم الاجتماعيّة، والتي تفسر سبب إقدام بعض الأشخاص من دون غيرهم، على ارتكاب السّلوك الإجراميّ. وتصنف هذه النَّظريّات إلى نوعين: الأول يشمل نظريات الضبط التي تفترض أنَّ بعض النّاس قد يسلك سلوكًا مضادًا للمجتمع إذا لم يتعلم على فعل غير ذلك، ولأنَّ دافع الانحراف هو موجود لدى الناس جميعهم وهو يبقى ساكنًا. والنوع الثاني يشمل نظريات التّعلم التي تركز في تفسيرها للسّلوك الإجراميّ على الآليات التي يكتسب من خلالها بصورة مباشرة السّلوك الإجراميّ.
- نظريات المنحى التّكامليّ: هو السّلوك الإجراميّ الذي يُعِدُّ أنّه جاء نتيجة كل النَّظريّات والعوامل السّابقة التي ذكرتها، مما هو بعيد من المنطق في أن تُفسر كلُّ الجرائم بنظريّة واحدة وبتفسير علميّ مقبول. إن فكرة العوامل المتعددة في هذا المنحى، هي التي تستقيم، إذ ليس من الممكن إهمال الجوانب الدّاخليّة التي تؤثر في أيّ جريمة، كما أنّ الفرد لا يعيش بمفرده بل هو يتحرك في محيط اجتماعيّ يؤثر فيه ويتأثر به. وتتحدث هذه النّظريّة عن عدة أبعاد نذكرها كالآتي:
- منحى الانحراف الشّخصيّ (بنظر القانون) نظرًا لفشل الفرد في التّوافق مع القييم والمعايير والسّلوك المقبول في المجتمع.
- منحى الصّراع القيميّ أيّ الصّراع بين القيم المختلفة في المجتمع (بعض من المجتمع يرى سلوكًا ما منحرفًا وغير مقبول بينما البعض الآخر يراه سويًّا ومقبولًا) بما يؤدي إلى ظهور السّلوك الانحرافيّ.
- منحى التّفكك الاجتماعيّ الناتج عن التّغير السّريع في هذا المجتمع والذي يؤدي إلى ظروف ومواقف جديدة تحتاج الى التّوافق معها، بعكس المجتمعات المستقرة نسبيًا.
- منحى البيئة الاجتماعيّة، إذ يكون لقيم المجتمع العرفيّة أهمّية في تفسير السّلوك الإجراميّ (ونذكر على سبيل المثال جرائم الشّرف في الأردن، والتي تغيب كليًّا في أميركا، إذ إن العلاقات العاطفية يسمح التعبير عنها في أميركا. ويحرم تجسيدها في الأردن وتعدُّ سلوك عار لا بد من غسله بسلوك عنيف).
- منحى العلاقات العائليّة، فعدم اكتراث بعض الأباء وتناقضهم في معاملة أطفالهم، وفشلهم في تعليم أبنائهم عواقب ومترتبات أفعالهم أو عدم الخبرة الكافيّة في كيفيّة التعامل معهم قد يؤدي في نهاية المطاف إلى سلوك إجراميّ.
- منحى التّكوين البيولوجيّ، تُظهِر السّجلات أنّ الذّكور أكثر تكرارًا لانتهاكم القانون وارتكاب الجرائم من الإناث، ولا يرجع ذلك إلى العامل الوراثيّ أو التنشئة الاجتماعيّة، بل إلى نمط الجسم الرّياضيّ للرجل.
- تصنيف المجرمين : يمكن تصنيف المجرمين بشكل عام وفق تصنيفين:
- التّصنيف الأول: المجرم العارض والمجرم المزمن (حسب تكرار الفعل الإجراميّ).
- التّصنيف الثّاني: المجرم سوي الشّخصيّة والمجرم مضطرب الشّخصيّة (حسب طبيعة شخصيّة المجرم).
القسم الثاني: الجريمة التي حدثت في بعقلين
- مصادر الخبر
منعًا لأيّ تحريف في المعلومات المنقولة عن المواقع الإخباريّة، سنعمد إلى ذكر الخبر كما ورد في أكثر من موقع مع الاقتصار فقط على المضمون الأساسيّ للخبر والمتعلق مباشرةً بالجريمة. كذلك لن نورد كلّ الأخبار والمقالات عن الموضوع نظرًا لكثرتها بل سنأخذ من الهام منها. وفي سياق التّحليل سنورد بعض المعطيات أو الملاحظات التي أخذناها من مواقع أخرى لم ندرج مقالاتها هنا.
- موقع إيلاف الإخباريّ
قتْلُ تسعة أشخاص لبنانيين وسوريّين، بينهم طفلان، الثلاثاء، في جريمة لم تتضح ملابساتها حتى الآن في بلدة بعقلين في جنوب شرق بيروت، وفق ما أفاد مصدر أمنيّ. وقعت جريمة مروّعة في بلدة بعقلين أدت إلى مقتل تسعة أشخاص، بينهم اثنان من البلدة: امرأة من عائلة التّيماني، وكريم نبيل حرفوش، وشخصان من بلدة عرسال وخمسة عمال سوريين. ولم تُعرف حتى الآن أسباب الجريمة، التي استخدم فيها بندقيّة «بومب اكشن» و«كلاشنكوف». في التفاصيل الأوليّة للجريمة بحسب معلومات غير مؤكدة أن (م. ح) وشقيقه (ف. ح.) هما وراء جريمة القتل إذ كان الهدف منها شخصًا سوريّ الجنسية للثأر منه. وبعدما عمد (م.ح) إلى قتل زوجته وأربعة سوريين، لحق به شقيقه لتهدئته فأرداه. وذهب في اتجاه منطقة زراعيّة، صودف وجود شخصين من عرسال يحرثان الأرض، وأعتقد أنّهما سوريان فأرداهما. ولاحقًا وبرفقة شقيقه صودف وجود شخص سوريّ آخر، فقتله.
- موقع ب.ب.س نيوز العربيّة
تمكنت شرطة بلدية عينبال بلبنان بالتّعاون مع الشرطة القضائيّة من توقيف مازن حرفوش المشتبه في ارتكاب جريمة بعقلين بعد العثور عليه مختبئًا في أحد منازل عينبال. وقد اعترف حرفوش الموجود حاليًا في مفرزة بيت الدين بقتله لأخيه الثّاني فوزي حرفوش قرب نهر بعقلين والأدلة الجنائيّة تتجه إلى المكان للبحث عن الجثة. ومنذ 18 سنة لم يهتز لبنان بمجزرة جماعيّة كالتي حدثت الثلاثاء الماضي في بلدة بعقلين، البعيدة 45 كيلومترًا من بيروت، وفيها أَقدَم مازن حرفوش على ذبح زوجته أم طفلتيه، سيرين وليانا البالغتين 6 و3 أعوام، وبعدها قتل شقيقه البالغ من العمر 27 عامًا، بطلقة على رأسه ببندقيّة صيد، كما قتل لبنانيين آخرين من بلدة مجاورة، ثم 5 سوريين بينهم طفلان، قبل أن يفر بوضح النّهار، وبرفقة شقيق آخر اسمه فوزي، يعتقد المحققون أنّه شارك بطريقة ما في المجزرة. التّكهنات عن الدّافع تشير إلى أن ما حدث كان غسلًا للشّرف، وذكر آخرون أنَّ القتل نتج عن خلاف عائليٍّ، لكن أحدًا لا يملك أيّ دليل، إلا بعد التّحقيق مع حرفوش الذي سدد طعنات نافذة إلى زوجته منال تيماني، البالغة 33 عامًا، ثم أجهز عليها ذبحًا في البيت، ربما لشدّة غضبه منها، أو ليتأكد أكثر من موتها، ثم غادر حاملًا معه بندقية صيد، فلحق به شقيقه الأصغر كريم بدراجته النّارية حين وجده يسرع إلى ورشة بناء مجاورة للبيت، ولما اقترب منه هشّم مازن رأس كريم بطلقة وقتله.
- موقع جريدة الشّرق الأوسط 23\4\2020
أوقفت القوى الأمنيّة اللبنانيّة فجر اليوم «مازن.ح» الذي ارتكب جريمة بعقلين يوم الثلاثاء الماضي وأردى 10 أشخاص؛ بينهم شقيقاه وزوجته، واعترف أنّه ارتكب الجريمة بدافع الشكّ في خيانة زوجيّة، من دون أن يمتلك أيّ دليل على فعل الخيانة. وذكرت معلومات أن شرطة البلديّة عثرت على الجانيّ في حديقة منزل بقرية عينبال في الشّوف (جبل لبنان)، وأوقفته بلا أيّ مقاومة قبل أن تسلّمه للقوى الأمنيّة التي اقتادته إلى مخفر «بيت الدّين» حيث خضع للتّحقيق. وأقرَّ مازن بفعلته، قائلًا إنه جهّز مسبقًا للجريمة بدافع شكوك انتابته حول خيانة زوجته له مع شقيقه، لكنّه لا يمتلك أيّ دليل على ذلك، ولم يفاتحها بالقضيّة، بحسب ما أفادت به المعلومات. واستهل جريمته بقتل زوجته منال التي تعمل مدرّسة في الجبل، وذلك بطعنها طعنات عدة أدت إلى وفاتها، قبل أن يستكمل تنفيذ جريمته مستخدمًا سلاح صيد. وتوجّه القاتل بداية إلى شقيقه فوزي الذي يتهمه بالخيانة، فقتله، وعاد للبحث عن شقيقه الأصغر كريم بهدف قتله بتهمة التّستر على خيانة شقيقه وزوجته له، وقتل عمالًا في ورشة ومزارعين في طريقه، ثم قتل شقيقه كريم أيضًا لدى العثور عليه.
د- سكاي نيوز العربيّة
أوقفت الشرطة البلديّة في بلدة عينبال بقضاء الشّوف في لبنان، مساء أمس الأربعاء، مازن حرفوش المشتبه فيه بارتكاب جريمة بعقلين، التي راح ضحيتها 10 أشخاص، بينهم زوجته منال وشقيقاه فوزي وكريم، وخمسة آخرون من الجنسيتين اللبنانيّة والسورية وطفلان. وانتشرت عند منتصف ليل الأربعاء، فيديوهات عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، تُظهر لحظة توقيف مازن الذي كان يتحدث إليه عدد من الأشخاص، وظهر أحدهم يقول له: “كنت طلّقتها.. شو عملت يا مازن”، ويسأله عن المكان الذي خبّأ فيه جثة شقيقه. وعثرت عناصر الدّفاع المدنيّ اللبنانيّ، فجرًا، على جثة القتيل العاشر في الجريمة عند ضفاف نهر بعقلين، وعملت على نقلها إلى “مستشفى بعقلين الطبيّ”، وذلك بحضور الأجهزة الأمنيّة المختصّة وإتمامهم الإجراءات القانونيّة اللازمة، وقد اعترف المشتبه فيه مازن بمكان وجود جثة شقيقه فوزي عند توقيفه. وأفاد رئيس بلدية بعقلين عبدالله الغصينيّ ، أنّه “عُثر على المشتبه فيه مازن، في حديقة فيلا في بلدة عينبال، وهي خارج نطاق بعقلين، واقتاده عناصر الشّرطة القضائيّة إلى مفرزة بيت الدّين للتّحقيق معه”. ولفت الغصيني إلى أنّ “المشتبه فيه، اعترف بقتل زوجته طعنًا بالسّكين في المنزل، عن سابق تصوّر وتصميم، ثم خرج من منزله وبيده بندقيّة صيد، أطلق منها النّار على شقيقه فوزي فأرداه قتيلًا بالقرب من النهر، وأخفى جثته لمجرّد الشّك بخيانتهما له، هو وزوجته، ومن دون أن يملك أيّ دليل على هذه الخيانة على حدّ اعترافه”. وقد عُثر على جثة شقيقه، فجر اليوم الخميس. كما قتل مازن شقيقه الثاني كريم، الذي يصغره سنًا، لأنّه أخفى عنه، على حدّ قوله، علاقة أخيه بزوجته. واعترف مازن بقتل الآخرين لأنّهم ظهروا أمامه وهو مسلّح، من دون أيّ دافع شخصيٍّ.
- تحليل الجريمة
لقد ذكرنا في بداية البحث أننا سنتطرق في عملية التّحليل إلى جانبين إثنين، ثنين إنانانننللللاااخإالأول محيط الجريمة إذا صح التّعبير، وما رافقه من رأيٍّ عام وتعليقات وتخمينات، والجانب الثاني المجرم أو الجريمة بذاتها، وهو تبويب جاء كنتيجة لما لُوحظَ من ردات فعل من الرّأيّ العام والإعلام اتجاه الجريمة والذي يستحق أن يتوقف عنده .
- على مستوى محيط الجريمة
كان لافتًا جدًا طريقة تعاطي الرأي العام والوسائل الإعلامية مع هذه الجريمة، وهو ما يستحق التّوقف عنده وإجراء البحوث النّفسيّة عليه، وذلك من خلال متابعة جرائم وأحداث أخرى ثم تحليلها، بهدف معرفة مدى تكرار وانتشار هذا النّمط داخل المجتمع اللبنانيّ، وما يعكسه ذلك من واقع هذا المجتمع، وجاءت هذه الملاحظات على الشكل الآتي:
- ربط الجريمة بالمكان الذي وقعت فيه: لو أردنا أن نبحث عن هذه الجريمة في المواقع الإخباريّة، أو عندما ندخل إلى المواقع التي تحدثنا عنها أوعند قراءة كيفيّة عنونة الجريمة في الجرائد، لوجدنا عنوانًا واحدًا وهو: “جريمة بعقلين”، أيّ ربط الجريمة بالمكان الذي وقعت فيه. إنّ عنونة الجريمة بهذا الشكل يوحي في اللاوعي الإنسانيّ وكأنَّ بعقلين بأكملها هي من ارتكبت الجريمة، وهذا فيه إحجاف وإساءة إلى هذه القرية، لأنَّ ربط الاسم بالمكان يؤدي إلى الرّبط الذّهنيّ بين هذه المنطقة وأهلها وبين الجريمة، وكأنَّه يُراد أن يترسخ في اللاوعيّ الإنسانيّ والمجتمعيّ هذا الجمع، وأن لا تُذكر هذه المنطقة إلا من خلال هذه الجريمة (لذا أدرجتُ الجريمة في هذا البحث تحت عنوان جريمة في بعقلين)، وهذا ما يقودنا الى الملاحظة الثانية : التعميم.
- التعميم: لقد وجدنا نوعين من التّعميم لدى البعض ممن تناول هذه الجريمة: الأول عندما ربط الجريمة باسم المنطقة وهو ما يؤدي إلى وصم المنطقة كلها بالجريمة، وبمعنى آخر وكأنَّ أهلها كلّهم مجرمون، وهذا الموضوع شائع جدًا في المجتمع اللبنانيِّ، ولا نعرف ما هي خلفياته النّفسيّة، حيث نجد مناطق أخرى وُصِمت بصفات معينة بناء على سلوكيات بعض من يعيش فيها. أمّا التّعميم الثاني فكان إرجاع دوافع الجريمة إلى الدّفاع عن الشّرف في العديد من المواقع والتّعليقات وكأنّ كل رجل يقتل زوجته يصبح الدّافع هو الشّرف والخيانة الزوجيّة.
- الحكم المسبق وتجلى باحتساب الجريمة جريمة شرف ومن بعض النُّخب والسياسيين حتى قبل أن يُقبض على الجاني ومن دون انتظار نتائج التّحقيق.
- تحويل الجريمة إلى ساحة منافسة كما كل حدث وفاجعة في لبنان وقبل أن يجف دم الضحايا، ففي مقابل عنوان جريمة الشّرف، انطلقت العديد من الجمعيات النّسائيّة التي انبرت للدّفاع والنّفي بأنّها جريمة شرف، أيضًا في عملية استباق للتّحقيق، وهو دور لا يقل سلبيّة عمن استبق التحقيق بوصفها جريمة شرف.
- الدّعوة المبطنة للنسيان: حيث كان من اللافت، على الرّغم من حجم الجريمة وفظاعتها وعدد ضحاياها الكبير، أنّه لم يُتداول فيها سوى لأيام ثلاثة بدأت بتاريخ الجريمة 21\4\2020، وآخر خبر أُدرِج عنها كان بتاريخ 23\4\2020، إذ لم يرد بعدها أيّ خبر عنها (على الأقل في المواقع الإلكترونيّة حتى للجرائد المطبوعة)، وكأنّها اختفت بفعل فاعل، أو كأنّها لم تكن موجودة، وكأنّ الشّعب والمجتمع اللبنانيّ أصبح مخدرًا يستسهل النّسيان، نظرًا لحجم الضغوط النّفسيّة التي يتعرض لها خاصة في ظل جائحة كورونا والوضع الاقتصاديّ المتردي (فهل نحن أمام عمليّة تحديد وتمييز وترتيب في الأولويات للمجتمعات البشريّة حيث غريزة البقاء تغلب كل الغرائز الأخرى). هي مجموعة من الملاحظات التي تستدعي، برأينا إجراء وتنفيذ دراسات نفسيّة، ونفسيّة اجتماعيّة معمّقة وحقيقيّة، لمعرفة الواقع الفعليّ لهذه «السّلوكيات» وحجم انتشارها، ومن ثم تحديد دوافعها وخلفياتها في المجتمع اللبنانيّ، ثم دراسة مدى تأثيرها على هذا المجتمع وطبيعة هذا التأثير.
- تحليل الجريمة بشكل مباشر
من المفيد التّذكير مجددًا أنّه لم يكن هناك إمكانيّة لجمع الكثير من المعلومات للوقوف أكثر على تفاصيل الجريمة إذ لم نستقِ المعلومات سوى من المواقع الإعلاميّة، فعلى الأقل كان من المفترض مقابلة المرتكب لمعرفة دوافعه، وسماته فضلًا عن القيام ببعض الاختبارات للوقوف على مدى سلامة صحته النّفسيّة (كما هو مفترض بناءً لمنهج دراسة الحالة الذي تحدثنا عنه سابقًا)، وعليه فإنّ التّحليل سيرتكز على هذه المعلومات التي توفرت، ومحاولة ربطها بما قُدِّم وكُتِب في مقدمة البحث.
1- السّياق الذي حصلت فيه الجريمة
- تصنف الجريمة ضمن جرائم القتل الجماعيّ Mass murderوالذي هو فعل قتل عدد من الأشخاص، عادة في وقت واحد أو على مدى مدّة زمنيّة قصيرة نسبيًا وعلى مقربة جغرافيّة أو في موقع واحد.
- دوافع الجريمة: اختلفت التّكهنات حول الدّافع، فالبعض قال إنّها جريمة شرف، وهو ما ردده المرتكب أيضًا لكن من دون أيّ دليل. وبعض المواقع قالت إنّها بسبب خلافات عائليّة من دون ذكر نوع الخلافات التي يمكن أن تؤدي إلى القتل طالما أن هناك، وفي أسوأ الأحوال، طريق الطلاق أو الهجران موجود ومتاح، (فهل نتحدث هنا عن أنماط التّفكير الإجراميّ وفقًا للنّظريات النّفسيّة للتّفكير الإجراميّ فاختار القتل بدل الطلاق؟). كما أورد أحد المواقع نقلًا عن والدة الزوجة أنّه قبل خمسة أيام، حصل خلاف بين الزوجة والقاتل أدى إلى خروجها مع طفلتيها من المنزل الزوجيّ إلى منزل أهلها، ثم توجه الزّوج إلى بيت أهلها واتفقا على عودتها، وعادت في اليوم التالي وهو اليوم الذي قتلت فيه.
في كل الأحوال نُفِيتْ جريمة الشّرف، ولم يظهر أيّ دافع لقتل الضحايا الآخرين، وكأنَّ هذه الجريمة وقعت من دون أيّ دافع، وإن كانت كذلك فإنّ هذا الأمر يزيد من فرضيّة الأمراض والدّوافع النّفسيّة.
- الجريمة لم تكن عرضيّة، أو بسبب حدث مفجر، بل هي متعمدة ومخطط لها مسبقًا كما ظهر من سياق الأحداث ومن اعتراف القاتل بنفسه، إذ قال إنه جهز سكينًا قبل عشرة ساعات، واستدعى أخيه الى النّهر بحجة رحلة صيد وقتله وفي ذلك دليل على التّخطيط وعن سابق التّصور والتّصميم.
2- حجم الجريمة وضحاياها
- قتل الزوجة: حصل الفعل بطريقة بشعة جدًا وعلى مرحلتين. أولًا عبر الطعن عدة طعنات ومن ثم الذبح وفي ذلك مؤشران: أولاً، طالما أن الطعنات المتعددة كانت كافية للقتل فلماذا الذبح، وكأنّه يريد بذلك قتل الضحية مرة ثانية، فهل هو مؤشر على كرهه للضحيّة؟ أم هو ناتج عن وجود شخصيّة إجراميّة تهوى القتل؟ أو أن نموذج الذبح هومتواترفي اللاوعي الجماعي؟. ثانيًا: لماذا اختير الذّبح الذي يُعدُّ من أبشع صور القتل لما فيه من تعذيب للضحيّة من جهة، ولما يحتاجه من قلب قاسٍ لدى القاتل ولبشاعة المنظر الذي تتركه هذه الطريقة في القتل من جهة أخرى. فإنْ كان الهدف من الذبح هو «القتل مرة ثانية» أو التأكد من القتل، فلماذا لم يكن بطريقة أخرى لا تكون فيها الصورة مؤلمة وبشعة؟ وهل اختيار هذه الطريقة هو أيضًا نتيجة لمشاعر الكره اتجاه الضّحيّة؟ أم نتيجة للتأثر بما شاهده عبر التلفاز من مشاهد ذبح قام بها تنظيم داعش، حيث كان التّفنن في القتل هو السّمة العامة لهذا التّنظيم؟ خاصة وأنّ مجتمعنا قد شهد في السّنوات الأخيرة العديد من الجرائم بهذه الطريقة. فهل نحن هنا أمام حالة ينطبق عليها نموذج نظريات التّعلم وفقًا للنّظريات النّفسيّة الاجتماعيّة في علم النَّفس الجنائيّ؟
- قتل الإخوة: هنا لا بد أولًا من معرفة طبيعة العلاقة التي كانت تربط المرتكب بأخويه وبعائلته بشكل عام. ويمكن أن نصنف العلاقة بين القاتل وأهله، بناءً للتّدرج الآتي: هي علاقة وطيدة وأخوية، أو هي علاقة جامدة وسطحيّة، أو هي علاقات مقطوعة، أو هي علاقة عدائيّة وكراهية، ولكن ما الذي يدفع إنسان إلى أن يصل بعلاقته بأخوته إلى حدّ القتل؟، مما يضعنا أمام سؤال حول نتاج التّفكّك الاجتماعيّ وفقًا للنّظريات الاجتماعيّة في تفسير السّلوك الإجراميّ. علمًا أنّنا في السنوات الأخيرة أيضًا سمعنا بالكثير عن جرائم قتل عائلية، والتي تستدعي دقَّ ناقوس الخطر على مستوى التفكّك العائليّ والمجتمعيّ.
- الضحايا الآخرين: بحسب التّحقيقات الأوليّة وما تسرب من أخبار فإنّ الضحايا الآخرين لا علاقة لهم بالجريمة لا من قريب ولا من بعيد، بل، وعن طريق الصّدفة، حدث التقائهم مع المرتكب الذي قتلهم من دون أيِّ سبب. فما الذي يدفع بالإنسان إلى قتل إنسان آخر من دون أيّ هدف أو أيّ مسوغ؟ لا بهدف السّرقة أو الانتقام، ولا للدّفاع عن النّفس، ولا حتى نتيجة إشكال أو سوء تفاهم، بل هو حصل، فقط وبكل برودة أعصاب وأدى إلى قَتَل سبعة أشخاص. والأسوأ في هذه الحادثة هو أنَّ من بين الضحايا، طفلان، كانا في وضعيّة الخوف والانكسار اللذين منعاهما من الهرب، (قتلا وهما يحضنان بعضهما خوفًا من المجرم بعد أن قتل والداهما)، ولم يشفع لهما. فهل يمكن القول إن هذا الفعل هو نتيجة:
- أن المرتكب وصل إلى مستوى من الانهيار النّفسيّ وفقدان الإحساس والوعيّ بالواقع نتيجة لهول ما ارتكبت يداه، ولم يعد يعي عواقب ما يفعل.
- أم أنّه وصل الى مرحلة من اللاعودة، بمعنى أن ارتكابه الجرائم الأولى أوصلته إلى مرحلة من التّفكير أن العقوبة واحدة والنتيجة واحدة بجريمة واحدة أو بعدة جرائم، فاستسهل القتل.
- أم أنّ ما حدث هو نتيجة لاضطراب في الشّخصيّة، كالشّخصيّة الضدّ اجتماعيّة أو الشّخصيّة السّيكوباتيّة الجانحة التي فشلت في تطوير معاييرها الأخلاقيّة والتي تمتلك ضعفًا في الضمير ولا تشعر بالذنب ولا بتأنيب الضمير، أو هو نتيجة لاضرابات أخرى بناءً للنّظريّات النّفسيّة في تفسير السّلوك الإجراميّ.
- أم أن الجريمة هي تعبير عن الصراع الداخلي للقاتل، وعن القلق الشديد الذي عانى منه؟ إن قتل الآخر هو نتاج عدم تحمل الفرد للقلق أو لأي إثارة، وأن يحصل قتل المحارم وأفراد الأسرة، إشارة إلى تضخم في حدة القلق أو الصّراع النّفسي.
- شخصية المجرم
لقد وجدنا أن هناك بعض التناقض في الإشارة إلى شخصيّة المجرم، فبعض المواقع أوردت أن المجرم كان خدومًا ومحبًّا، في ما أن البعض الآخر أورد أنّه كان ذو شخصيّة عدائيّة، ولكن الكل اتفق على أنّه كان ذو شخصيّة حادّة وعصبيّة وسريع الانفعال. وقد مرت بعض العبارات اللافتة على المستوى النّفسيّ، والتي تشير إلى احتمال أن يكون المرتكب مصاب بمرض اضطراب الشّخصيّة الحدّيّة، وقد ورد في أحد التّقارير المصورة أنّ المرتكب يكون فجأة ودودًا خدومًا لينقلب ومن دون مبرر إلى شخص عدائيّ. وربما هذا التّناقض في المعلومات حول شخصيته من الخدوم والمحب الى العدائيّ وحادّ الطباع، يصب في صالح اضطراب الشّخصيّة الحدّيّة وهو الأمر الذي يحتاج إلى التّحقق منه.
- كان من اللافت أنّ المجرم عندما سُئِل عن أسباب قتله للآخرين طالما أنّ دافعه يتعلق بالخيانة الزوجيّة، فما هو ذنبهم ، فجاء جوابه أنّه قتلهم من دون سبب، ثم قال: «شي وصار»، وهذا إن دل على شيء فإنّه يدل إمَّا على أنّه غير مبالٍ، ونعود للحديث عن شخصيّة سيكوباتيّة، وأمّا أنّه ما يزال تحت تأثير الصّدمة ولم يدرك حتى الآن معنى ومدى العواقب والآثار التي خلفها قتل كل تلك الضحايا. في المقابل، لم نعرف إذا ما كانت الجريمة هي الأولى له أم أنّه من النّوع المعاود.
- إن عبارة “شي وصار” تطلق بعد القيام بسلوك ذي درجة عالية جداً من العدوانية، ودرجة عدم تحمل أو لا تكيف عالية جدًا، وهي عبارة يصدرها الفاعل عندما يقترب مؤشر الإثارة إلى الصفر ويكون في مرحلة عدم القدرة على إيجاد تفسير أو سبب مقنع (حتى مع نفسه) لما أرتكبت يداه.
- أيضا إن عبارة “شي وصار” قد تصل بنا إلى لاوعي المجرم إذ تحاول أن تخبرنا أن ما حصل هو الطريقة الوحيدة التي يتقنها للتعبير عن نفسه ومشاعره وغضبه ، لعله لم يتعلم غيرها على مدى العمر الذي قضاه، وقد تعرض لكمٍ هائل من المشاهد الجرمية ولم يتعلم أيّ طريقة أخرى للتعبير عن غضبه سوى القتل.
4- المجتمع حيث حصلت الجريمة والتداعيات النفسية
وهنا نقصد به المجتمع ككل بكل أطيافه بدأً من المجتمع الصغير القريب من الجريمة أي أُسَر الضحايا، البلدية، وصولًا الى المجتمع الأكبر المتمثل بالوزارات والقضاء مرورًا بالإعلام والجمعيات الأهليّة. إذ إنّ هناك مجموعة من الملاحظات والأسئلة التي تطرح نفسها حول مدة تناول الحدث في الإعلام إذ إن الإجابة عنها تؤشر إلى حجم التّداعيات النّفسيّة التي يمكن أن تتركها هكذا جرائم.
- فما الذي يجعل مجتمعًا بأكمله، وبمكوناته وعناوينه وأطيافه كلها يسكت عن جريمة بهذا الحجم بعد مرور وقت قصير عليها؟ وإذا أفترضنا أن لكل طيف من أطيافه مصلحة ما في السكوت، فأين أهالي الضحايا وكيف يفسر سكوتهم وفق نظريات علم النفس؟
- كيف يمكن أن يفسر تكرار المسار التحقيقي نفسه في الجرائم معظمها وخاصة الجرائم المدوية الضخمة وتداعياته النّفسية على المجتمع، أي تناول الجريمة لعدة أيام ثم إغلاق الملف كليًّا من دون معرفة نتيجة ما توصل اليه التحقيق، إن كان توصل إلى شيء، فما هي دوافع وأسباب هذا المسار، وما هو العقاب الذي ناله المرتكب؟. إن معرفة أسباب الجريمة قد يساهم في منع تكرار جرائم مشابهة في المستقبل، ومعرفة العقاب الذي ناله المرتكب يمكن أن يشكل رادعًا نفسيًّا لغيره لعدم تكرار جرائم مماثلة.
- ما هو تأثير هذا الصمت، وتداعيات عدم إجراء تحقيق نفسي الى جانب التّحقيق القضائي، على اللاوعي الجماعي وعلى ابقاء السلوك الجرمي وعدم تطويره الى الافضل بما يفضي الى علاج او تدارك الحالات ومنع تكرار الجرائم المشابهة، وإلى زيادة حجم انتشار ثقافة القتل وانعدام الأمن؟
- هل هذا الصمت هو السّلوك اللاواعي لدى المسؤولين لتغطية الفشل في معالجة ومنع هكذا حالات، أو هو تقصد الفشل في علاج أو تدارك المشكلة هو أيضًا كنتاج للاوعي لدى المسؤولين لأن بقاء هذه الفوضى هو بقاء لهم؟
- هل إن هذا التعتيم سيؤدي الى التقبل المجتمعي لهكذا جرائم لكي تصبح عادية ومألوفة لديه فلا تواجه بأي رفض أو حركة مضادة ثقافية توعوية؟ أم سنكون أمام أسئلة حول مستوى القلق النفسي الذي يمكن أن يسببه الشّعور بعدم الأمان لدى أفراد هذا المجتمع؟
- الأخطر في هذه التساؤلات هو حجم ومدى تاثير هذه الجريمة على اللاوعي المجتمعي (الماكرو) من خلال التأثير على اللاوعي الفردي (الميكرو) لناحية إمكانية توجه المجتمع ككل من تعلم التعبير عن مشاعره وغضبه عبر هذه الطريقة كوسيلة وحيدة لم يتعلم غيرها، حيث يتحول هذا المجتمع البعقيلني ولاحقاً اللبناني مع مرور الوقت الى مجتمع مليء بالمجرمين المستقبليين، حيث كل فرد فيه سيكون مشروع مجرم مع وقف التنفيذ، بانتظار نضوج الظروف المناسبة لجريمته، قابل لأن يعبر عن مشاعر غضبه بنفس المستوى الذي شهدته الجريمة، وفق النظريات النفسية الاجتماعية المفسرة للسلوك الجرمي. وماذا عن مشاريع المجرمين المستقبليين، أي الاطفال والمراهقين، الذين أثرت فيهم هذه الجريمة فتعلموا إحدى أبشع الوسائل للتعبير عن مشاعرهم؟
- هل أن السياسي أو المسؤول الذي يعبر عن الجريمة أنها جريمة بعقلين، فإنّه في اللاوعي الذاتي يريد أن يطمس الوجه الثقافي للمنطقة في اللاوعي الجمعي، ويستفيد من موقعه السياسي لتعميم هذه النقطة لكي يمنع الرأي الآخر؟ فبعقلين منطقة سياحية ثقافية مهمة، فإذًا؛ عندما نطلق اسم بعقلين على الجريمة لتصبح جريمة بعقلين، فكأننا نريد طمس الهوية الثقافية لهذه القرية أو المدينة في اللاوعي المجتمعي، كي يبقى لهذا السياسي أو ذاك الرأي الأوحد فيها.
في الختام وبحسب السّياق الذي برزت فيه الأمور، فعلى الأرجح أن تكون قد تضافرت مجموعة من العوامل التي أدت إلى هذه الجريمة. فقد برز وجود محتمل لكل نظريّة من نظريات تفسير السّلوك الإجراميّ في هذه الجريمة، ولو أنّ هذا الوجود يحتاج إلى تأكيد بعد توفير كل المعطيات المطلوبة، وإن ثبت هذا الوجود نكون أمام نظرية المنحى الكليّ لتفسير السّلوك الإجراميّ التي تفترض أن السّلوك الإجراميّ هو نتيجة كل النَّظريّات التي ذكرتها. لقد طرحنا العديد من الاحتمالات والفرضيّات حول أسباب الجريمة ودوافعها وطريقة تنفيذها، وطرحنا من خلالها العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة، وهذه الأجوبة معظمها موجود في عقل المرتكب وبيئته ومحيطه، لذا فإنِّنا نحتاج الى جمع كمٍ كبيرٍ من المعطيات المباشرة من مسرح ومحيط الجريمة ومنها:
- معرفة تفاصيل الجريمة فعليًّا من خلال التّحقيق أو من قبل المرتكب لها مباشرةً.
- معرفة تاريخ المرتكب، النّفسيّ، والصّحيّ، والدّراسيّ، والسّلوكيّ.
- قدرات المرتكب العقليّة والنّفسيّة.
- معرفة طبيعة وعلاقة المرتكب مع أفراد العائلة (إخوته، أهله) وزوجته والجيران والمحيط، ورؤسائه وزملائه في العمل ونوعيتها.
- أسباب ترك العمل.
- معرفة حياته المبكرة مع أهله، والبيئة التي نشأ فيها، وظروف نشأته وتربيته، الأحداث غير الاعتيادية في حياته.
- طبيعة الخلاف الذي جرى بينه وبين زوجته في حال وجوده.
وللحصول على هذه المعلومات لا بدَّ من:
- الاطلاع على التّحقيق الذي جرى مع القاتل.
- إجراء المقابلات مع كل من ذُكِر في القضية، ومع القاتل نفسه، ومع أهل الزوجة المغدورة.
إفساح المجال لخضوع القاتل لبعض الاختبارات (خاصة الإسقاطيّة منها) التي تسمح بالتّعرف بشكل أدق على شخصيته، وإذا ما كان يعاني من أيّة اضطرابات في الشخصيّة.وأخيرًا يبقى لديّ تساؤل حول إذا ما كان يحتاج الأمر إلى تعريف القاتل على العواقب التي تركتها جريمته من عوائل منكوبة وأيتام، عبر مواجهته بالواقع الذي تركه ومعرفة ردة فعله في محاولة لاكتشاف إن كان ارتكاب الجريمة نتيجة انهيار عصبيٍّ أو نفسيٍّ أو أنّه حصل بدم بارد.
التّوصيات
أ- العمل على تطوير اختصاص علم النفس الجنائيّ وتوسعة مروحة تدريسه، وتحفيز الطلاب على متابعته بهدف تخريج اختصاصيين نفسيين، يساعدون في متابعة واكتشاف والمساهمة في معالجة أسباب الجرائم في لبنان وعواقبها، ما قد يُساهم في التّخفيف من أعدادها.
ب-إقرار علم النَّفس الجنائيّ كجزء تكوينيّ في بنية السّلطة القضائيّة، عبر إقرار إلزاميّة وجود اختصاصيٍّ نفسيٍّ في مسرح الجريمة، وفي التّحقيقات الجنائيّة في جرائم القتل، وكاستشاريّ نفسيّ في المحاكم إضافة الى تكليفهم بمتابعة الحالات الجرميّة البارزة كالقتل الجماعيّ أو قتل ذوي القربى وغيرها من إنواع الجرائم.
ج- القيام بأبحاثٍ ودراسات حول نِسب الجرائم المشابهة والمصنفة تحت عناوين عديدة مثل: عائليّة، من دون أسباب واقعيّة دامغة للقتل، القتل الجماعيّ، جرائم التّحرش الجنسيّ، سفاح القربى إلخ… والقيام بأبحاث حول مدى انتشار الجرائم في المجتمع اللبنانيّ وتبيان الجوانب المشتركة والمهمة فيها، والأسباب والدّوافع، والظروف المحيطة بها مما قد يساهم في علاج الأسباب الجذريّة لها.
د- دراسة مستوى تأثير الضغوط الاجتماعيّة والاقتصاديّة في هكذا جرائم، إضافة الى حجم التّفكّك الاجتماعيّ وحِدة تأثيره في حدوث مثل هذه الجرائم.
ه- إخضاع كل الذين ارتكبوا جرائم مشابهة من حيث عدد الضحايا وتصنيفهم وطريقة القتل، لاختبارات وجلسات علاج نفسيّ، للوقوف على مستوى سلامة صحتهم النّفسيّة، ولمعرفة الدّوافع الباطنية الفاعلة لارتكابهم هذه الجرائم من جهة، ومساعدتهم للتّخلص من الأسباب النّفسيّة (إن وجدت) المسؤولة عن أفعالهم من جهة أخرى.
و- وضع برامج تثقيفيّة توعويّة بالتّعاون بين الوزارات المعنيّة والوسائل الإعلاميّة، وتنفذ عبر ورش تدريبيّة وعبر برامج تلفزيونيّة واجتماعيّة أو عبر لقاءات مدرسيّة تتناول الزّواج والعلاقات الأسريّة والاجتماعيّة والتّرابط العائليّ.
ز- العمل على زيادة الاهتمام بالعلاج النفسي إذ يصبح اللجوء إلى العلاج النفسي واجب في اللاوعي المجتمعي.
- إعطاء اهتمام أكبر للجانب النفسي في الإنسان من خلال رعاية الدولة وإنشاء مراكز متخصصة شبه مجانية تعنى بالتشخيص والعلاج النفسي.
ط- بحث إمكانيّة إقرار إلزاميّة خضوع المقبلين على الزّواج لاختبارات نفسيّة محددة (كالزاميّة الفحوصات الطبيّة) لمعرفة مستوى سوائهم النّفسيّ من عدمه.
المراجع والمصادر
1- ربيع، محمد شحاته، جمعة سيد يوسف، معتز سيد عبد الله (1994). علم النَّفس الجنائيّ (الطبعة الأولى) الرياض: دار غريب للنشر.
- جريدة الشرق الأوسط (23\4\2020) ، استرجع من https://aawsat.com/home/article/2248946، الشرق الأوسط
3- الجمال، ريتا (23 أبريل 2020) “مجزرة بعقلين” في لبنان: 10 ضحايا وتوقيف المشتبه به، تم الاسترجاع من https://www.alaraby.co.uk/، العربي الجديد.
- سكاي نيوز عربية برنامج منصات (Apr 23, 2020) تفاصيل أكبر جريمة قتل جماعيّة في لبنان منذ 18 عامًا منصات، استرجع من https://www.youtube.com/watch?v=N3ybJujJgTU
5- شبكة سكاي نيوز العربية (22أبريل/ نيسان 2020). لبناني يقتل زوجته و8 أشخاص آخرين في بلدة بعقلين اللبنانيّة، تم الاسترجاع بتاريخ 5-1-2021 من https://www.bbc.com/arabic/world-52387851،BBC News \ عربية.
6- صحافيو إيلاف ( الأربعاء 22 أبريل 2020 – 05:14 GMT) جريمة مروعة في بعقلين اللبنانيّة تودي بحياة 9 أشخاص، تم الاسترجاع من https://elaph.com/Web/News/2020/04/1289805.html، إيلاف .
7- ليبانون 24 (21-04-2020 | 16:57) جريمة مروّعة في بعقلين ضحيتها 7 أشخاص (صور)، تم الاسترجاع من https://www.lebanon24.com/news/lebanon/695905، لبنان 24.
8- مرتضى، رضوان (الأربعاء 22 نيسان 2020) مجزرة بعقلين: جريمتنا ضد المستضعفين، تم الاسترجاع من https://al-akhbar.com/Politics/287474، الأخبار.
-[1]طالب ماستر 2 علم نفس chehab081274@hotmail.com-
[2] – أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة- قسم علم النفس majida_hatem@yahoo.fr