الكيان اللبناني تحوّلات الصراع وأزمات الحكم
1918-1943
طارق محمد سلامي([1])
المستخلص
على الرغم من تعدّد القراءات التاريخيّة للنشأة الكيان اللبناني، فإن هذه القراءة الجديدة قد تساعدنا على التعامل مع الحاضر بشكل ناجح، والتأسيس لمستقبل أفضل، فالمرحلة التاريخيّة التي ينطلق منها الباحث باتجاه الماضي تتطلّب منه القيام بمحاولة منهجيّة جادة لتأكيد الوظيفة الثقافيّة-الاجتماعيّة للتاريخ، بوصفه ممارسة فكريّة نقديّة تحليليّة للعناصر المنطوية في سياق تلك المرحلة وتوظيفها في خدمة الحاضر والمستقبل، وبمعنى آخر يجب أن تكون معرفتنا التاريخيّة جادة وموضوعيّة، وهذا لا يحصل إلا من خلال تفحّص النصوص ومقاربتها من خلال تفاصيلها الدقيقة، وإلقاء الضوء عليها بشكل جديد ومختلف ومثير للأذهان، فالكيان اللبناني بحدوده الحاضرة هو كيان حديث العهد في التاريخ، وعبارة لبنان لم تستعمل استعمالًا رسميًّا محدّد المضمون إلا بعد إنشاء المتصرفيّة اللبنانيّة، فالمعنيون حين حكموا مناطق لبنان الجنوبيّة عرفوا بأمراء الدروز لا بأمراء لبنان، وكذلك عرف خلفاؤهم الشهابيون بين 1697 و1841، ومع أن هؤلاء لم يكونوا من الدروز، إنما من السنّة الذين تنصّروا في ما بعد.
الكلمات المفاتيح:
1-الكيانات: الكيان هو شيء موجود في حد ذاته فعلا أو افتراضًا، https://ar.wikipedia.org/
2-الإثنيّة :هي فئة من الناس الذين يُعَرِفون بعضهم البعض على أساس أوجه الشبه مثل السلف، اللغة، المجتمع، الثقافة أو الأمة.[2] عادة ما تكون الإثنية حالة موروثة على أساس المجتمع الذي يعيش فيه الفرد. https://ar.wikipedia.org/wiki
3-إيدولوجيا:وتعنى حرفيا “كلمة” ولكنها تعني “دراسة” أو “علمًا”. https://www.aljazeera.net/.
4-الإقطاعيّة:قطاع Feudalism هو نظام من العلاقات الإقتصادية الزراعية، إذ تكون وسيلة الإنتاج الرئيسة الأرض، ملك لشخص واحد ويعمل الفلاحون في أرض هذا الشخص، الذي يسمى الإقطاعيhttps://www.marefa.org/.
5-التبشيريّة:هي جهد منظم لنشر الديانة المسيحيةMission”. Encyclopaedia Britannica.
6-الإرساليات: مصدر صناعيّ من إرسال، بعثة دينيّة تقوم بالتبشير والدّعوة للمسيحيّة تكثر الإرساليّات التبشيريّة المسيحيّة في أفريقيا. https://www.almaany.com/ar/dict/ar
Sammury :
Despite the multiplicity of historical readings of the Lebanese entity’s origin, this new reading may help us deal with the present successfully and establish a better future, the historical stage that starts From which the researcher in the direction of the past requires him to make a serious systematic attempt to emphasize the socio-cultural function of history, as a critical and analytical intellectual practice of the elements involved in the context of That stage and employ it in the service of the present and the future, in other words, our historical knowledge must be serious and objective, and this only happens through the examination of texts and their approach through its fine details, and shedding light on it in a new, different and mind-wrenching way, the Lebanese entity with its present borders is a new entity in history, the phrase Lebanon was not used in an official use of the specific content until after the establishment of the Lebanese Governorship . South Lebanon was known as the Druze princes and not the princes of Lebanon, their successors also knew the Shihabis between 1697 and 1841, although these were not Druze, but Sunnis who later triumphed.
KeyWords: 1. Entities: An entity is something that exists in itself by action or assumption, https://ar.wikipedia.org/
2.Ethnicity: It is a category of people who know each other on the basis of similarities such as ancestor, language, society, culture or nation. [2] Ethnicity is usually an inherited condition based on the society in which the individual lives. https://ar.wikipedia.org/wiki
3.Ideology: It literally means “word” but means “study” or “science”. https://www.aljazeera.net/.
4.Feudalism: The Feudalism sector is a system of agricultural economic relations, where the main means of production, which is land, belongs to one person and peasants work on the land of that person, who is called feudal https://www.marefa.org/.
5.Missionary is a systematic effort to spread Christianity.Encyclopaedia Britannica.
- Missions: An industrial source of mission, a religious mission that preaches and preaches Christianity Christian missionaries abound in Africa. https://www.almaany.com/ar/dict/ar
المقدّمة
شهدت مجتمعات الكيانات القطريّة في المنطقة العربيّة ومن بينها الكيان اللبناني نهضة فكريّة، وعلميّة أسفرت عن تحوّلات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة داخل هذه المجتمعات، وكان من أبرز تلك التحوّلات وأهمّها، إدراك الغرب حاجته لأسواق جديدة يستثمر فيها ويسوّق منتجاته إليها، وحاجة صناعته للمواد الأوليّة، الأمر الذي أفضى الى التنافس والصراع على المصالح ومناطق النّفوذ بين دول الغرب، التي بنت سياستها على تقسيم دولي جديد للعالم، على أثر انتقال عدوى مفهوم القومية الأوروبي الى مجتمعات مركّبة الهويّة، حافظت تاريخيًّا على جوّ من السّلم والتواصل بين شرائحها في ظلّ سلطات أمبراطوريّة، مثل النّظام الأمبراطوري البابوي القروسطي، والنظام الأمبراطوري العثماني الذي شكّل عقبة كبيرة في وجه أطماع الغرب ومصالحه الإستراتيجيّة في الشرق(1).
وقد احتلّت منطقة شرق الأدنى مكان الصدارة في طموحات الغرب الاستعماريّة، من حيث موقعها بين القارات، وما تمتلكه من قدرات وثورات ماديّة حيويّة، وما تمثّله طرقها البريّة ومرافئها البحريّة من أهميّة استراتجيّة، فمن أشهر طرق الشرق الأدنى وربما أخطرها شأنًا في التّاريخ، تلك التي تبدأ عند خليج الإسكندرونة( خليج أسيوس) وتنتهي عند غزّة في الجنوب، مرورًا بإنطاكية وجبيل وصيدا وصور، وهي الطريق التي سلكها الإسكندر المقدوني العظيم في زحفه نحو مصر(2).
ولما كانت الأمبراطوريّة العثمانيّة تتمادى تحت راية الخلافة الإسلامية، في تسلّطها على شعوب متنوّعة الانتماءات الإثنيّة والطائفيّة والمذهبيّة، فإنّ الغرب نفذ بمخططاته من خلال هذه التنوعات، مشجّعًا الصراعات والتناقضات في ما بينها ليحصل على معاهدات مع الدولة العثمانيّة تمنحه امتيازات تكرّس تدخّله في شؤونها وشؤون رعاياها، وكان مضمون هذه المعاهدات يدور حول تنظيم العلاقات التجاريّة والقضائيّة وقد نتج عنها ما يعرف بنظام الملّة العثماني (3)، الذي أتاح للرعايا العثمانيين من غير المسلمين الانتظام في طوائف مستقلّة يرعى شؤونها رؤساءها الروحيون، وأدى غالبًا الى إفساح المجال أمام تدخّل الدول الأجنبيّة في شؤون الأمبراطوريّة العثمانيّة وتفجير بناها المركّبة الهويّة، واتخذ الغرب من شعار حماية الطوائف المسيحيّة مبرّرًا لتدخّله، ليصبح الموارنة والكاثوليك في صف واحد مع فرنسا، والروم الأورثوذوكس مع روسيا، والبروتستانت مع بريطانيا (4)، وقد أدّت التدخلات الأوروبيّة على أثر حوادث العام 1860 بين الموارنة والدّروز في جبل لبنان، الى إنشاء لجنة بيروت الدوليّة بالاتفاق بين الدول الأوروبيّة وتركيا، والتي أسفرت اجتماعاتها عن إعادة توحيد الجبل وإدخاله في صيغة نظام حكم جديد عُرِف باسم متصرفيّة جبل لبنان أو بروتوكول جبل لبنان (5)، الذي شكّل نواة لتأسيس الكيان اللبناني في ما بعد، وبروز فكرة الانتماء الى الإطار الجغرافي-سياسي في الوسط المسيحي يستمد من الحماية الفرنسيّة وضعيّة سياسيّة دوليّة، فقد كانت سياسة فرنسا تقوم على مصالح اقتصاديّة واعتبارات معنويّة، وعلى الامتيازات التي رسّخت بتقدم الزّمن، والصداقة التقليديّة التي كانت تصلها بالأقليات الكاثوليكية والمارونيّة(6).
1. الحضور الفرنسي في الشرق
اعتمدت فرنسا على تسويق ثقافتها عبر تأسيس المدارس والمؤسسات التربويّة والدينيّة، التي تهدف الى نشر لغتها وإظهار عظمة حضارتها، ولتأمين مصالحها الاقتصاديّة عملت على تحسين مرفأ بيروت، ومدّت خطوطًا حديديّة تصله بمرافئ سوريا(7)، ولم ينس الفرنسيون أن يعززوا بين الأوساط اللبنانيّة الموالية لسياستهم خطابًا إيديولوجيًّا فئويًا، ساهم في إذكاء الحساسيات الطائفيّة والمذهبيّة والانقسامات الحادة حول الموقف من الوجود الفرنسي.
2. الوجود الفرنسي والأسلوب الاقتصادي
شهدت مدينة بيروت إنشاء بنية تحتيّة حديثة، وأنشأت فيها المدارس والمطابع ودور النشر، وأصبحت مركزًا لعدد من المؤسسات الصناعيّة والتجاريّة، ولما كان الغرب الاستعماري قوة قهر اجتماعي واستغلال اقتصادي، فقد أتت بعض مشروعاته العصرية في بلادنا، من مؤسسات إداريّة، وتعليميّة، وصحيّة، وزراعيّة، وشبكات طرق بريّة، وسكك حديديّة، ومرافئ بحريّة في خدمة مصالحه الاقتصاديّة، والسياسيّة والاستراتيجيّة في منطقتنا، وكانت أكثر الاستثمارات الفرنسيّة تمركزت في سوريا ولبنان في شركات المياه، والتّرومواي والكهرباء، والمرفأ، والغاز، وسكك الحديد، وشركة حصر التّبغ، والطرق، والمصارف، والمؤسسات الثقافيّة وغيرها (8). ووظّف الغرب مشروعاته في خدمة دائرة الاستهلاك الرأسماليّة من خلال تصريف سِلَعه وتوظيف رساميله، وعمد الى تدمير بنى الإنتاج القديمة في البلاد التي دخل إليها، مستغلًا نظام الامتيازات الأجنبيّة الذي منحته الدولة العثمانيّة لشركات أجنبيّة ذات تمويل كبير، خصوصًا الفرنسيّة منها. فقد كانت فرنسا قبيل حرب 1914 تحتلّ المرتبة الأولى في السلطنة العثمانيّة لجهة التوظيفات الماليّة (9). وهذا ما حدث بالفعل في متصرفيّة جبل لبنان، إذ تراجع النظام الإقطاعي، ومعه نفوذ الإقطاعيين الدروز، لمصلحة النموّ الرأسمالي والنّخب المسيحيّة الصناعيّة، هذه النّخب المسيحيّة التي أمّت بيروت من الشوف بعد أحداث العام 1860، ومن الشّام على أثر الخلافات الدينيّة التي قامت بين الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وأجبرت الكثيرين من الكاثوليك على ترك أماكن وجودهم في حلب وبعض المدن الداخليّة السوريّة هربًا من اضطهاد الروم الأرثوذكس لهم، وكان بين الهاربين فئة ثريّة من كبار التّجار الذين لجأوا الى لبنان، وقد ساعد وجودهم في تقوية اليقظة الأدبيّة القائمة بين الموارنة، كما ساعد في تدعيم مركز النصارى في البلاد وبعث الحركة التجاريّة فيها (10).
وشكّلت منطقة جبل لبنان ذات الأغلبيّة المسيحيّة سوقًا استهلاكيّة للسلع الأوروبيّة، ما أدّى الى نشوء فئة من الرأسماليين: المرابون، التجار، السماسرة، وأصحاب المصارف (دير القمر مثلًا) (11) ، ومن هنا برزت التفاوتات الكبيرة في توزيع الثورة النقديّة والرّساميل التجاريّة بين التشكيلات الطائفيّة المدينيّة، هذه التفاوتات الإقتصاديّة شكّلت عاملًا رئيسًا من العوامل التي أفرزت أشكالًا متباينة من أيديولوجيات العمل السياسي، التي بنتها الطوائف وقواها السياسيّة والدينيّة والإداريّة والاقتصاديّة الفاعلة، خصوصًا خلال مرحلة تفكك الدولة العثمانية، مرورًا بالعهد الفيصلي ومرحلة الانتداب، وصولًا الى مرحلة ما بعد الاستقلال، وقد استثمر الغرب هذه التفاوتات الاقتصاديّة والسياسيّة…الموجودة بين الشّرائح الاجتماعيّة والطائفيّة في خدمة مشروعه القديم الجديد في السيطرة والاستغلال، فقد كان الغرب الاستعماري قوة قهر إجتماعي واستغلال إقتصادي، وأتت مشروعاته العصريّة في بلادنا في خدمة مصالحه الاقتصاديّة والسياسيّة والاستراتيجيّة، منذ أن سقطت الدولة العثمانيّة، وسقط الشرق سياسيًا في الشرق، وصل الغرب بكل أدواته الفكريّة لإعمار الأرض وتسريع عمليّة الرشد الحضاري في المنطقة، وتبيين أنّ المراهنة لم تكن دقيقة، بل ساذجة، وسقطت المراهنة على الغرب الرأسمالي…المستعمر(12). وقد أنتجت التحولات الاقتصادية تحولاّت في البنية الاجتماعيّة للطوائف، تمظهرت في فروقات اجتماعيّة وثقافيّة بارزة، وقد بان ذلك جليًّا في تقليد طبقة أرباب العمل للملابس ولنوعيّة الحياة الأوروبيّة، وهذا ما لحقت به فورًا طبقة الموظّفين والتجار الصغار، ولم تلبث أيضًا البرجوازيّة المسلمة في بيروت أن لحقت بهذا الركب، وإن بنوعيّة من الحذر والدراية(13)، فقد كان طبيعيًّا أن يتأثر مسلمو بيروت بهذه التحولات، خصوصًا فئة التجار التي كانت تجمعها مع الداخل السوري مصالح اقتصاديّة تاريخيّة، ولكن تأثّرها ذاك لم يكن بالوتيرة نفسها التني درج عليها التأثر المسيحي، فكلا البرجوازيتين المسيحية والإسلاميّة، وإن جمعتهما مع الداخل السوري مصالح اقتصاديّة، إلا أنهما افترقتا لجهة الاختلاف بالسّمات الثقافيّة.
3. الوجود الفرنسي والأسلوب التعليمي الثقافي
لقد تجلّى التأثير الفرنسي من خلال النّفوذ الضخم لليسوعيين بين المسيحيين في المجال الثقافي، واهتمامهم بالتعليم واستعماله وسيلة للسيطرة الفكريّة(14)، إذ راحوا يروّجون لثقافتهم الفرنسيّة، محاولين دمج الشّعوب مع الفكر الإسلامي، فقد عدَّت فرنسا منذ البدء أن الوجود الثقافي حاسم في تقرير مصالحها الماديّة في المنطقة (15)، ولم يكن نشاط الفرنسيين التعليمي والثقافي يستهدف لبنان فقط، وإنما كان لبنان يشكّل نقطة الانطلاق لهذا النشاط في المنطقة، بالاستناد الى العلاقات التاريخيّة التي تربط بين مسيحييه وبين الغرب المسيحي، فقد كان اعتماد نصارى البلاد على الغرب ومودّتهم له سببًا في تقبّل أفكار أوروبا وطرائق حياة شعوبها(16)، الأمر الذي جعل من لبنان أشبه بممر تعبره التيارات الفكريّة الغربيّة الى الولايات الآسيويّة في الأمبراطوريّة العثمانيّة(17)، فما قامت البعثات التبشيريّة بدور دعائي فاعل في دعم الأهداف الفرنسيّة في الشرق وغاياتها، فقد كانت الإرساليات الدّينيّة، التي بدأت نشاطها في البلدان العربيّة الواقعة في آسيا الأماميّة منذ نهاية القرن السادس عشر، أداة مهمّة من أدوات التوسّع السياسي والأيديولوجي للدول الأوروبيّة، ونشط المبشرون المسيحيون بشكل خاص بعد أن تأسّس العام 1820 في بيروت مركز الإرساليّة الكنيسة البروتستانيّة الأميركيّة وإعادة تشكيل الإرساليّة اليسوعيّة في العام 1831 التي أصبحت شرعيّة مجدّدًا (18)، وكانت أغلبيّة المبشّرين الأوروبيين من الفرنسيين المرتبطين بالكنيسة الكاثوليكيّة، وتركّز نشاطهم التعليمي في الأوساط المسيحيّة التي عوّلوا عليها في إنجاح مشاريعهم، فأنشأوا المدارس التبشيريّة التي كان لولاية بيروت ومتصرفيّة جبل لبنان النصيب الأوفر منها (19)، الأمر الذي يسرّ التعليم فيهما “فحيث يكثر الأجانب والمرسلون تكثر المدارس والكتب، وحيث يقل عددهم تقل المعارف (19) ، واستغلّت المدارس التبشيريّة حريّة التعليم التي كانت تتمتّع بها للتأثير على عقول الناشئة، إذ أخذ المعلمون الأجانب يسعون جهد الطاقة الى استمالة تلاميذهم الى بلادهم. (20) وقد عبّرت فرنسا عن اهتمامها بالآثار الفكريّة عند العرب بإنشائها “مدرسة لتعليم اللغات الشرقيّة الحيّة في باريس العام 1795 (21).
4. الوجود الفرنسي والأسلوب الأيديولوجي
لم يعدم الاستعمار الغربي وسيلة من وسائل في سبيل تحقيق أهدافه في منطقتنا، حتى أنه اعتمد تسويق خطابات أيديولوجيّة زائفة تعزّز ثقافة الانعزال، والحواجز الثقافيّة والاجتماعيّة بين الطوائف والقوميات المختلفة، وكان الغرب قد بدأ بنسج علاقات خاصّة مع الموارنة منذ الغزو الصليبي ليوظّفها في ما بعد في خدمة مشاريعه التّوسعيّة في المنطقة، فمع الحكم الصليبي شعر الموارنة لأول مرّة بشيء من الذاتيّة غير المتعارضة مع الحكم الجديد والمدعّمة بعلاقات متشعّبة على الصعد التجاريّة والاجتماعيّة والدينيّة (22).
وانطلاقًا من تسويق فرنسا لنفسها أنّها حامية الأقلّيات المسيحيّة في الشرق، فإنّها توسّلت لهذه المهمّة التاريخ كمرجعيّة، انطلاقًا من سيادتها على الأراضي المقدّسة أيام هارون الرشيد، مرورًا بالحملات الصليبيّة التي جاءت الى الشرق تحت شعار تحرير بيت المقدس حتى انحدار هذه الحملات واستعادة بيت المقدّس من المسلمين، كذلك كان اهتمام المؤرخين الفرنسيين بالموارنة الذين انضمّ 3000 ماروني منهم منذ الحملة الصليبيّة الأولى الى جيش كوديفروادي بوين، ومن ثمّ مساهمتهم في الحملة على مصر مع” سانت لويس” الذي وصفهم لحظة مغادرتهم لفلسطين أنّهم جزء من الأمّة الفرنسيّة(23)، وها هو لامارتين يقول في رحلة الى الشرق ” إن الشعب الماروني يشكّل شعبًا على حدة في الشرق، نكاد نقول جالية أوروبيّة رميت بالمصادفة في وسط الصحراء، إنّها جالية مكوّنة تمامًا يمكن أن تكون لأوروبا على تلك الشواطئ الجميلة، إن المستقبل هنا هو أكبر منه في مصر(24)، ويعدُّ العام 1840 بداية المخططات الفرنسيّة لتحويل المناطق المسيحيّة، المارونيّة بالتحديد، في الإمارة الشهابيّة الى مركز إنطلاق لنفوذها في المنطقة السوريّة بكاملها(25).
وقد توسّل الفرنسيون لتمرير مشروعهم في الهيمنة على المنطقة، “تغريب الموارنة “الارتباط بالغرب” في موقعهم المشرقي بالذات، ورفض فكرة تهجيرهم التي برزت العام 1848، مع العمل على زيادة ارتباطهم باللغة العربيّة والعادات الشرقية على قاعدة دعم المصالح الفرنسيّة في تمدّدها، لا داخل المقاطعات اللبنانيّة فحسب، بل في الداخل السوري والعراقي برمّته، في مرحلة شهدت تفكيك بنى الدولة العثمانيّة كلّها(26)، وقد دلّلت البرقيّة التي بعث بها السّير هنري بولور، السّفير البريطاني في استنبول، بعد أحداث 1860، الى وزير خارجيّة بريطانيا اللورد ج.ا.س على نجاح الفرنسيين في تغريب الموارنة، وقد جاء في هذه البرقيّة” إذا نزل جيش فرنسي في بيروت فإن جزءًا كبيرًا من السكان الذين يعدُّون أنفسهم فرنسيين(موارنة لبنان) سينضم فورًا الى الجيش الفرنسي(27).
لقد شكّل كيان المتصرفيّة نواة لتأسيس الكيان اللبناني في ما بعد(28)، فنظريّة لبنان الوطن بدأت تدخل البنية الاجتماعيّة المسيحيّة مع اعتماد صيغة نظام المتصرفيّة في جبل لبنان، وتشكيل مؤسسات إداريّة تعمل في ظلّ سلطة المتصرف، ولتفعيل عمل هذه المؤسسات كان لا بدّ من تأمين العناصر البشريّة المؤهّلة، ولما كانت الطوائف المسيحيّة، وعبر مدارس الإرساليات المنتشرة في مناطق وجودها، قد سبقت المسلمين في تخريج الكثير من المتعلمين، فإنّ سلطة المتصرفيّة وجدت في هؤلاء ركيزة أساسيّة في تشكيل أجهزتها الإداريّة التي أصبحت مواقع نفوذ وإشكال ترق اجتماعي، وفي هذا الجوّ بالذات صيغت نظريّة لبنان الوطن وارتبطت، كمضمون اجتماعي بالحركة السياسيّة المارونيّة وقواها المهيمنة جغرافيًّا، بالجبل كنواة وطن… (29). فالتّعليم في مدارس الإرساليات تخطّى الدور التّعليمي التقليدي للمدرسة، ليصبح جزءًا من مشروع سياسي استعماري أجنبي يلتقي مع طموحات سياسيّة واتجاهات محليّة، أي أصبح للتعليم وظيفة أيدولوجيّة، فتحت ذريعة بعض الطروحات الملتبسة ذات الأبعاد الاقتصاديّة والسياسيّة الغربيّة والمحليّة، راحت القيادات والنُّخب المسيحيّة تطالب بإعادة لبنان الى الحدود الطبيعية التاريخيّة، والتي تنسجم مع الخريطة التي وضعتها للبنان قيادة الفرقة الفرنسيّة التي نزلت شاطئ جونية خلال فتنة 1860 بين الدّروز والموارنة، واستقبلها مشايخ وأعيان الموارنة استقبالًا حارًا، وقد قامت هذه الفرقة بوضع خريطة لدولة لبنان يقرأ في رأسها باللغة الفرنسيّة “خريطة لبنان”أنشأت بمعرفة الفرقة المقامة لوضع رسم البلاد في الحملة العسكريّة سنة 1861، أمّا الحدود فكانت كالآتي: البحر المتوسط غربًا بما فيه جميع السّواحل والثّغور، حتى سفح الجبل الشّرقي وجوار دمشق شرقًا، وبلاد الحصن وعكار حتى بحيرة حمص شمالًا، وآخر بلاد بشارة حتى بركة حولا جنوبًا(30).
لقد أدّت مصالح السياسة الفرنسيّة الدور الأساس في تبنّي فرنسا لمشروع لبنان الكبير، الذي جاء نظامه السياسي ليرسّخ فكرة” الكيانيّة اللبنانيّة” أو “الوطن الملجأ” التي أطلقها الأب لامنس، والتي استخدمها المؤرخون الموارنة لاحقًا مفصلة على قياس مشروع سياسي آخر، لم يكن القصد منه إلا تبيان حالة معيشيّة للطائفة المارونيّة في تعاطيها مع قوى حاكمة لا تشاركها في الدين، ولكن هكذا مشروع لم يكن يتوافق مع مصالح السياسة الفرنسيّة في تلك الحقبة في بلاد الشّام، لذا وجد الفرنسيون في البداية أن الانعزال في الموطن الملجأ لا مبرّر له، ويبقى الانخراط في مشروع سوريا كما تريده فرنسا، هو الحل العملي، ولكن بعد الحرب العالميّة الأولى، ونتيجة للانتفاضات المسلّحة التي قامت بوجه الفرنسيين، والتي رأوا فيها خطرًا على مخططاتهم التي رسموها في إطار سوريا الكبرى، إضطروا الى إعادة النظر في مشروعهم، ليتبنوا مشروع ” دولة لبنان الكبير” ومشروع الموطن الملجأ الذي يؤكّد على الخصوصيّة المسيحيّة ودولة لبنان الكبير أتت ذات طابع مسيحي بكل أجهزتها ومؤسساتها(31).
5. إنشاء دولة لبنان الكبير
أقرً مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو في 28 نيسان 1920 الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، وفي تشرين الأول جرى تعيين الجنرال الفرنسي هنري غورو مفوّضًا ساميًا وقائدًا أعلى للجيش فيهما، وقد كان لهذا الأمر وقع قوي على القوى الوطنيّة المناهضة للاستعمار، فراحت تعمل جاهدة للدّفاع عن الوطن، وراح ثوار العصابات المسلّحة ينشطون في مواجهة القوات الفرنسيّة على السّاحتين السوريّة واللبنانيّة، ما أجبر الفرنسيين على أن يتفقوا مع الأتراك على صيغة من المصالحة، الأمر الذي مكّن الجنرال غورو من سحب جيوشه من الجبهة التركيّة وحشدها على حدود سوريا الداخليّة (32)، فزحف بقواته نحو دمشق، حيث يُوجد الأمير فيصل مع حكومته العربيّة، وأحكم سيطرته عليها ما اضطر فيصل الى مغادرتها في نهاية تموز 1920، وذلك بعد انقضاء اثنين وعشرين شهرًا على دخوله إليها في الأول من تشرين الأول العام 1918، وأصبحت المنطقتان الشرقيّة والغربيّة تحت سيطرت الفرنسيين، فبدأ غورو الإعداد لتنظيمها سياسيًّا وإداريًّا، ولمواجهة الأحداث، أقدم الفرنسيون في شهر أيلول العام 1920 على إعلان إنشاء دولة لبنان الكبير، بعد ضمّ سهل البقاع وبيروت وجبل عامل وأجزاء من ولاية طرابلس الى جبل لبنان (33).
وقد جاء هذا الإعلان على لسان المفوض السامي الفرنسي الجنرال غورو، في قصر الصنوبر في بيروت أمام حشد من القناصل والوجهاء اللبنانيين الموالين لفرنسا، وبعض رموز الإسلاميّة وممثّلي الطوائف، خصوصًا البطريرك الماروني الياس الحويك، ومفتي بيروت مصطفى نجا، وقاضي قضاة الشرع محمد الكستي، وتصميمًا منه على التفريق بين لبنان وعمقه العربي، تعمّد الجنرال غورو مدح الفينيقيين والإغريق والرومان الذين تعاقبوا على أرض لبنان، من دون أن يشير الى العرب الذين ينتسب إليهم اللبنانيون، لا بل أشار الى العرب كأعداء للبنانيين في معرض تطرّقه لوقعة ميسلون، عادًّا أنّ فرنسا حاربت الجيش العربي من أجل اللبنانيين قائلًا ” فمنذ خمسة أسابيع أطلق جنود فرنسا العنان لآمالكم”(34) .
6. الرفض الإسلامي بالإلتحاق بالكيان اللبناني
وقف العديد من زعماء الطائفة السنيّة وقادتها ووجهائها ضدّ قيام دولة لبنان الكبير، وأبدوا رغبتهم في البقاء داخل الوطن السوري، فأبناء الطائفة الذين أصبحوا أقليّة ضمن مجموعة أقليات، ظلّوا محافظين على شعورهم بأنّهم أكثريّة، نظرًا لقناعتهم بالانتماء الى فضاء عربي وإسلامي أرحب في فضاء لبنان، ففي ظلّ الدولة الإسلاميّة ظلّ المسلمون العرب يعدُّون أنفسهم شعب الدولة حتى أثناء مطالبتهم المتأخّرة بالاستقلال الذاتي ضمن فدرالية عثمانيّة، لكنّهم بعد أن أدخلوا تحت سلطة ووصاية الانتداب الغربي، أحسّوا أنّهم فقدوا نفوذهم وسلطتهم، وتعرّضت ذاتهم التاريخيّة للتحجيم والانتقاص من أهميّتها، فهم بسقوط دولتهم الإسلاميّة التاريخيّة خسروا انتماءهم الحقيقي وهويّتهم القوميّة، والمسلمون السنّة الذين استقووا تاريخيًّا بالدولة الإسلاميّة التي هي دولتهم، تخوّفوا من تدخّل الفرنسيين وانحيازهم الصريح الى جانب المسيحيين، وهذا التخوّف من التدخّل الفرنسي، بما يفترضه ذلك من تبديل في الأسياد – من مسلمين ومسحييين، كان عنصرًا مهمًا، ولو أنه كان صريحًا، في حركة الحكم المحلّي في ذلك الحين(40)، ويمكننا أن نعيد رفض المسلمين للانتداب ولمشروع الكيان اللبناني الى أسباب عدّة، منها ما له بعد ديني طائفي، ومنها ما له بعد ثقافي وإيديولوجي، ومنها ما له بعد سياسي على صعيد المشاركة في السلطة ومؤسساتها الدستوريّة، على الرّغم من أننا لا نستطيع الفصل الحاسم بين هذه الأبعاد، إذ هي تداخلت مع بعضها في الكثير من المواقف، فالتمايزات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة انطلقت من اعتبارات طائفيّة، خصوصًا بعد أن أصبحت الطائفيّة أساسًا تنتظم من خلاله علاقات الطوائف في ما بينها، وعلاقة كل طائفة بالدولة ومؤسساتها، فحركيّة التطوّر التاريخي لتكوين الكيان اللبناني أكّدت أنّ العصبيّة الطائفيّة تجلّت كظاهرة مجتمعيّة ملتصقة بها عضويًّا، وتتمحور حولها سائر المعضلات من سياسية واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة وفكريّة (41).
على الرّغم من توحّد دولة لبنان الكبير جغرافيًّا، فإنّ اللبنانيين لم يتوحّدوا في الوجهة السياسيّة، وظلّت التيارات السياسيّة في لبنان، في حقيقتها تيارات طائفية كرّست الانقسام بين اللبنانيين وأبقت أسس لبنان هشّة، فالغزو الغربي الثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي، استطاع أن يخلق شبه قطيعة، ليس بين الأديان المختلفة، ولكن أيضًا بين المذاهب المختلفة في الدين ذاته، مقيمًا بذلك قاعدة الطائفيّة كنظام اجتماعي، فقد كان ذلك عاملًا في تحديد صورة المسلمين في ذهن المسيحيين وتحديد صورتهم في ذهن المسلمين(42)، وكانت نواة هذا النظام الاجتماعي قد تشكّلت مع إعتماد صيغة تمثيل طائفي لجبل لبنان عبر نظام القائمقاميتين الذي فسخ التعايش بين الدروز والموارنة، ولم تحاول دولة لبنان الكبير كدولة سياسيّة أن تتخطّى التوازنات الطائفيّة الطبقيّة لنظام المتصرفيّة، بل أكّدت على ترسيخها بدعم مباشر من عساكر الانتداب(43)، بالإستناد الى هذا الواقع، تكرّست الطائفيّة في لبنان، وغدت الأساس الأول الذي يقوم عليه وجوده، فقد تضافرت عوامل عدّة في بلورة الوعي الذاتي للطوائف المسيحيّة، فهي طوائف يستغرقها دائمًا الشّعور أنّها أقليّة مهدّدة، لذا ومع إنشاء دولة لبنان الكبير، ودرءًا منها لمخاطر زيادة عدد المسلمين في الدولة الجديدة فتصبح الغلبة العدديّة الى جانبهم، فإنّ أنصار الكيان اللبناني، بغلبة طائفيّة، عملوا على تحصين مواقع نفوذهم من خلال تثبيت هيمنتهم الفعليّة، فنشطوا وعلى رأسهم البطريركيّة المارونيّة في سبيل تأكيد هذه الهيمنة، مدعمين بموقف فرنسي ضامن لغلبتهم عبر تأكيده على ما سمي” بالكيان”، وذلك تطمينًا لدعاة الكيانيّة من جهة، وتثبيتًا لتجزئة سوريا في مقابل مطلب الوحدة (44)، ومع إنشاء دولة لبنان الكبير، أقدمت سلطات الانتداب على إجراء إحصاء عددي للسكان بناء على فرز طائفي بين المسلمين والمسيحيين، وعندما أظهرت نتائج الإحصاء أن هناك توازنًا عدديًّا بين الفريقين، خاف الفريق المسيحي من تأثير هذه النتيجة على امتيازاته ومصالحه وهيمنته، فراح يطالب بإجراء إحصاء جديد، وتدخّلت البطريركيّة المارونيّة بشدّة لدى السلطات لإجراء عمليّة إحصاء جديدة العام 1932 شمل سكان المدن بشكل رئيس، ولترجيح كفّة المسيحيين العدديّة، أدرِج أسماء المهاجرين المسيحيين المتحدّرين من أصل لبناني وغير المقيمين في لبنان (45)، وقد أفضى هذا الإحصاء الى تأكيد ملتبس للأكثريّة العدديّة للطائفة المارونيّة إزاء باقي الطوائف، وهذا ما أثار المخاوف والشكوك لدى المسلمين من تكريس هيمنة طائفيّة وشجّعهم على رفض الإلتحاق بدولة لبنان الكبير(46).
أ. البعد الثقافي للرفض الإسلامي
ترافق الحرمان الاقتصادي لفئات ومناطق لبنانيّة مع حرمان ثقافي، فقد سخّر الانتداب العامل الثقافي في خدمة أهدافه السياسيّة، فالمدارس التي أعدّت لنشر الثقافة والعلم والمعرفة كانت أداة تأثير سياسي وطائفي ليسهل من خلالها حكم البلاد، والإرساليات الأجنبيّة كان لها، عدا عن الغاية الثقافيّة، غاية تفوقها أهميّة، وهي غاية سياسيّة استعماريّة، وكانت تشجّع الطائفيّة وتخرّج تلامذة يجهلون العربيّة ويهيمن عليهم الروح الأجنبي، ويتنكّرون لكل صوت وطني أو قومي، وعمل الفرنسيون على حصر السلطات بأيدي خرّيجي الإرساليات الجزويتيّة (47)، الذين تبنّوا الدعوة الى قوميّة محلّية إقليميّة والى إنتماء لبنان الى ثقافة الغرب، الأمر الذي أثار الفريق الإسلامي ضد سياسة الإنتداب والقوى السياسيّة المهيمنة(48).
ومن الوقائع التي تدلّ على الحرمان الثقافي الذي مورس بحقّ المسلمين، أنه وخلال عهد الانتداب درجت السلطة على التمييز بين المسلمين والمسيحيين في مساعدتها المدرسيّة ” فقد تبيين أن أكثر المساعدات وزّعت على المدارس والإرساليات المسيحيّة (49)، وتشير محاضر مجلس النواب لتلك الحقبة الى الحيف الذي لحق بالمدارس الإسلاميّة، ففي الجلسة النيابيّة المنعقدة بتاريخ 28 نيسان 1934 أثار النائب خير الدين الأحدب هذا الأمر، وتبيين من خلال جلسة المناقشة مدى التمييّز بين الطوائف والمؤسسات الخاصّة لدى المسلمين والمسيحيين، فعلى سبيل المثال، كان البطريرك الماروني وحده يتسلّم مبلغ(2500) ليرة، بينما كانت جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة لا تتسلّم كلها سوى(400) ليرة في السنة(50)
ب. البعد السياسي للرفض الإسلامي
ظلّ الإنقسام قائمًا بين اللبنانيين حول مسألة الانتماء للكيان اللبناني ووصاية سلطة الانتداب، وعمل الفرنسيون منذ بداية وصايتهم على زيادة حجم الهوّة بين الفريق المؤيّد وأغلبيّته من المسيحيين، والفريق المعارض وأغلبيّته من المسلمين، فقد أوعزوا الى أنصارهم بنشر بيانات دعائيّة تحضّ الناس على تأييدهم، وقد جاء في أحد هذه البيانات ” لا حياة لنا إلا بفرنسا، فلنحيّ من أنقذ لبنان من بين براثن السفّاحين…”ملعون من لا يحبّ فرنسا وملعون من لا ينادي باسم فرنسا، حتى أن البعض ماهى بين فرنسا وبين نسبه وشرفه وحياته، فها هو لطف الله نصر البكاسيني الذي وصف نفسه ب “الماروني اللبناني”(51)، ولتأكيد تمسّكه بالوحدة مع سورية، واحتجاجه على إلحاقه بدولة لبنان الكبير، فإن فرق المعارض قاطع حملة التسجيل لإستصدار تذاكر لبنانيّة في عهد الجنرال غورو، ورفع مذكّرة الى الجنرال ويغان الذي خلف الجنرال غورو العام 1923، طالبه فيها بإعادة الوحدة مع البلاد السوريّة، فأهالي بيروت لم يوافقوا على ضمّ مدينتهم الى جبل لبنان الذي هو جزء من سوريا، ولا يجوز أن يفصل عنها، ومع ذلك لم يرغم على الالتحاق بالوحدة، لذلك فإنّ وجهاء المسلمين يطالبون بالانفصال عن لبنان الكبير، والالتحاق بسوريا على قاعدة اللامركزيّة (52).
الخاتمة
لجأ أميا إدّة، الذي كان رئيسًا للجمهوريّة في تلك الحقبة، الى التّشاور مع سلطة الانتداب لإيجاد وسيلة تجذب المسلمين نحو الدولة اللبنانيّة ومؤسساتها، فتُوصّل الى أن توكل رئاسة الوزراء الى مسلم، فكلّف خير الدين الأحدب وهو من طرابلس والوحيد الذي عارض المعاهدة الفرنسيّة – اللبنانيّة في البرلمان في 4 كانون الثاني سنة 1937، تشكيل الحكومة لتحلّ محلّ مجلس المديرين الذي ظلّ قائمًا طيلة مرحلة توقيف العمل بالدستور”، ومنذ أن قبل خير الدين الأحدب رئاسة الوزراء، أصبح هذا المنصب في الجمهوريّة اللبنانيّة من نصيب المسلمين السنيين(53)، وشكّل هذا الحدث نقطة تحوّل جذري في الموقف الإسلامي من الكيان اللبناني، فقد خفّت الدعوات الرافضة للانضمام الى الدولة اللبنانيّة واتّجهت اتّجاهًا جديدًا(54)، وأصبحت المعارضة تحصل تحت مظلّة الانتماء للكيان اللبناني من موقع فقدان المساواة والمطالبة بالعدالة بين اللبنانيين، وتراجع عن مقاطعة الإدارة الرّسميّة، وراح المسلمون يشغلون المناصب الإداريّة العائدة إليهم وفقًا لمبدأ النسبيّىة العدديّة لكل طائفة الذي لم يحترم تمامًا، لتتواصل مطالبة المسلمين بالحصول على حقوقهم في الوطن، وها هو مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة محمد توفيق خالد يصرّح أمام الجنرال ديغول العام 1942 في بحمدون، فيقول : نحن المسلمين لا ننشد إلا التمتّع باستقلالنا وكرامتنا الوطنيّة، وكمواطنين لا نريد إلا العدل والمساواة التامّة المعنويّة بيننا وبين أبناء الوطن(54)، لقد جاءت هذه المواقف في سياق المعادلات والظروف والأحداث التي شكّلت مقدّمة لانبثاق صيغة الميثاق الوطني الذي ربط بين الإستقلال عن فرنسا، وعدم الاندماج مع سوريا مع تعاون وثيق مع الدول العربيّة.
الهوامش
1-تيودورهانف، لبنان تعايش في زمن الحرب، ص98.
2-سليمان البستاني، عبرة وذكرة أو دولة العثمانيّة قبل الدستور وبعده، 1908، ص266.
3-علي المحافظة، الإتجاهات الفكريّة عند العرب في عصر النهضة 1798-1914
4-صابرينا ميرفان، حركة الإصلاح الشيعي، ص89.4
5-نزار رعد، معالم المعرفة الدينيّة وخصوصيّة الفكر الإسلامي الشيعي في جبل عامل، 1982، ص92. 6- زين نو الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولة سوريا ولبنان، ص20.
7- م، ن ص12.
8- تيودور هانف، لبنان تعايش زمن الحرب، ص79، 80.
9-حسن.خ.غريب، نحو تاريخ فكري وسياسي لشيعة لبنان، ج1، ص181-182.
10-محمد خير حسين الحجار، المدلول الطائفي لنظام الحكم في لبنان، 1943-1952، ج1، ط1، لامط، لات، 2002م، ص49.
11-فيليب حتي، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، ج1، بيروت: دار الثقافة، لات، ص 347.
12-محمد خير حسين الحجار، المدلول الطائفي لنظام الحكم في لبنان، م، س، ص55.
13- عصام خليفة، لبنان( المياه والحدود 1916-1975)، بيروت، لامط، 1996، ص10.
14-كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، ص: 170
15-سليمان تقي الدين، التطوّرالتاريخي للمشكلة اللبنانيّة، ص12.
16-هاني فحص، الإسلام والتنظيم العربي نحو تصحيح الإلتباس، ص50.
17-سليمان تقي الدين، التطوّر التاريخي للمشكلة اللبنانيّة، ص25.
18-كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، ص160.
19-زين نور الدين زين، نشوء القوميّة العربيّة، ص47.
20-ل.ن.كوتلوف، تكوّن حركة التحرّر الوطني في المشرق العربي، ص196.
21-عبد العزيز محمد عوض، الإدارة العثمانيّة في ولاية سورية 1864-1914، ص265.
22-كتاب حسر اللثام عن نكبات الشام وفيه مجمل أخبار الحرب الأهليّة المعروفة بحوادث 1860، مع تمهيد في وصف البلاد الجغرافي والسياسي، ط1، مصر، 1895، ص11.
23-سليمان البستاني، عبرة وذكرى أو الدولة العثمانيّة قبل الدستور وبعده القاهرة 1908، ص266.
24-علي المحافظة، الإتجاهات الفكريّة عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، ص33.
25-إبراهيم بيضون، الفاطميون والصليبيون، ص13.25
26-ميشال سيورال، دور مدينة ليون الفرنسيّة، ص68.
27-وجيه كوثراني، الإتجاهات الإجتماعيّة -السياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي، ص44.
28-مسعود ضاهر، الجذور التاريخيّة للمسألة الطائفيّة اللبنانيّة 1697-1861، ص244.
29-المرجع نفسه، ص263.
30- زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط ، ص32.
31-ياسين سويد، كتابة تاريخ لبنان الى أين، ص505.
32-النزاعات السياسيّة في لبنان،(جذورها التاريخيّة وتعبيراتها الأيديولوجيّة الطائفيّة)، صادرعن وكالة الإنماء الوطنيّة، ط1، ص15.
33-علي شعيب، كتابة تاريخ لبنان الى أين، ص213
34-خيريّة قاسمية، الحكومة العربيّة في دمشق، ص187
35-كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، ص209.
36-عدنان ضاهر ورياض غنام، مجلس النواب في ذاكرة الإستقلال اللبناني، ص91.
37-المرجع نفسه، ص79-80.
38-مصطفى بزّي، جبل عامل في محيطه العربي، ص97.
39-المرجع نفسه، ص98.
40-سليمان تقي الدين، كتابة تاريخ لبنان الى أين، ص181.
41-المرجع نفسه، ص598.
42-سركيس أبو زيد، سقوط السلطة المارونيّة، جريدة الأخبار، العدد192، ص14.
43-ستيفن هامسلي لونغرنغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي، بيار عقل، ط1، بيروت، دار الحقيقة، 1978، ص60.
44-محمد خبر الحجّار، المدلول الطائفي لنظام الحكم في لبنان، ص10.44
45-برهان غليون، المسألة الطائفيّة ومشكلة الأقليات، ص32.
46-مسعود ضاهر، الجذور التاريخيّة للمسألة الطائفيّة، ص33
47-مسعود ضاهر، تاريخ لبنان الإجتماعي، ط1، بيروت، دار الفرابي، 1974، ص116.
48-كمال صليبي، تاريخ لبنان الحديث، ص211.
49-حول مساعدات الحكومة اللبنانيّة للمدارس الخاصة.
50-مضبطة الجلسة العاشرة لمجلس النواب اللبناني في 28نيسان1934.
51-بيان”لا حياة لنا إلا بفرنسا” عام 1920، من بين مخطوطات محمد جميل بيهم، ، نقلاً عن حسان حلّاق، التيارات السياسيّة في لبنان،ص64.
52-حسان حلّاق، التيارات السياسيّة في لبنان، ص64-65، وقد رجع الباحث حلاّق الى المحفوظات محمد جميل بيهم الوثائقيّة.
53-حسان حلاق، التيارات السياسيّة في لبنان، م.س، ص81.
54-محمد توفيق خالد، بعض الخطب والمذكرات، بيروت، مطبعة الكشاف، ص4.
المصادر والمراجع
- إبراهيم بيضون، تاريخ بلاد الشام، إشكالية الموقع والدور في العصور الإسلامية، ط1، دار المنتخب العربي، 1997م.
- برهان غليون، المسألة الطائفيّة ومشكلة الأقليات، لبنان، دار الطليعة، ط 3، 1979.
- تيودورهانف، لبنان تعايش في زمن الحرب، ترجمة موريس صليبا، مركز الدراسات العربي – الأوروبي، باريس، ط 1، 1993.
- حسان حلّاق، التيارات السياسيّة في لبنان، بيروت، دار النهضة العربية، ط1،
- حسن.خ.غريب، نحو تاريخ فكري وسياسي لشيعة لبنان، ج1، بيروت، دار الكنوز الأدبيّة، ط1، 2000.
- خيريّة قاسمية، الحكومة العربيّة في دمشق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1982.
- زين نو الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولة سوريا ولبنان، بيروت، دار النهار للنشر، ط 1، 1971.
- زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط، لبنان، مكتب فؤاد دانيال للطباعة، ط 1، 1980.
- زين نور الدين زين، نشوء القوميّة العربيّة، دار النهار للنشر – بيروت الطبعة الرابعة 1986.
- ستيفن هامسلي لونغرنغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي، بيار عقل، ط1، بيروت، دار الحقيقة، 1978.
- سركيس أبو زيد، سقوط السلطة المارونيّة، جريدة الأخبار، العدد192.
- سليمان البستاني، عبرة وذكرة أو دولة العثمانيّة قبل الدستور وبعده، لبنان، مطبعة الاخبار، ط 1،
- سليمان البستاني، عبرة وذكرى أو الدولة العثمانيّة قبل الدستور وبعده القاهرة، لبنان، مطبعة الأخبار، ط 1، 1908.
- سليمان تقيّ الدين، “التطور التاريخي للمشكلة اللبنانية، مقدمات الحرب الأهلية”، دار ابن خلدون، بيروت، 1977.
- شاهين مكاريوس، كتاب حسر اللثام عن نكبات الشام وفيه مجمل أخبار الحرب الأهليّة المعروفة بحوادث 1860، مع تمهيد في وصف البلاد الجغرافي والسياسي، ط1، مصر، 1895.
- صابرينا ميرفان، حركة الإصلاح الشيعي، حركة الإصلاح الشيعي، علماء جبل عامل وأدباؤه من نهاية الدولة العثمانية إلى بداية الاستقلال، ترجمة هيثم الأمين، دار النهار للنشر، ط 1، 2003.
- عبد العزيز محمد عوض، الإدارة العثمانيّة في ولاية سورية 1864-1914، مصر، دار المعارف، ط 1، 2020.
- عدنان ضاهر ورياض غنام، مجلس النواب في ذاكرة الإستقلال اللبناني، بيروت، دار بلال للطباعة والنشر، ط 2، 1941.
- عصام خليفة، لبنان( المياه والحدود 1916-1975)، بيروت، لامط، 1996.
- علي المحافظة، الإتجاهات الفكريّة عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، وقفية الأمير غازي للفكر القرآني، ط 1، 2019.
- علي المحافظة، الإتجاهات الفكريّة عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، ط 1، 2022.
- علي شعيب، تاريخ لبنان، لبنان، ط1، دار الفارابي، 1990.
- فيليب حتي، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، ج1، بيروت، دار الثقافة، لات.
- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، لبنان، دار النهار، ط7، 1991.
- ل.ن.كوتلوف، تكوّن حركة التحرّر الوطني في المشرق العربي، دمشق، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ط 1، 1981.
- محمد خير حسين الحجار، المدلول الطائفي لنظام الحكم في لبنان، 1943-1952، ج1، ط1، لامط، 2002م.
- محمد خير حسين الحجار، المدلول الطائفي لنظام الحكم في لبنان، لبنان، دار العلوم العربية، ط 1، 2002.
- مسعود ضاهر، الجذور التاريخيّة للمسألة الطائفيّة اللبنانيّة 1697-1861، بيروت، دار الفارابي للنشر والتوزيع، ط 1، 1961.
- مسعود ضاهر، تاريخ لبنان الإجتماعي، بيروت، دار الفارابي، ط1، 1974.
- مصطفى بزّي، جبل عامل في محيطه العربي، بيروت، دار الأمير للثقافة والنشر، 1998.
- نزار رعد، معالم المعرفة الدينيّة وخصوصيّة الفكر الإسلامي الشيعي في جبل عامل، 1982.
- وجيه كوثراني، الإتجاهات الإجتماعيّة -السياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي، لبنان، مؤسسة بحسون للنشر والتوزيع، ط1، 1986.
المقابلات والدوريات:
- هاني فحص، الإسلام والتنظيم العربي نحو تصحيح الإلتباس، مؤمنون بلا حدودو للدراسات والأبحاث.
- مضبطة الجلسة العاشرة لمجلس النواب اللبناني في 28نيسان1934.
المواقع الالكترونية:
- النزاعات السياسيّة في لبنان،(جذورها التاريخيّة وتعبيراتها الأيديولوجيّة الطائفيّة)، وكالة الإنماء الوطنيّة،http://librarycatalog.bau.edu.lb
– طالب في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعةاللبنانيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة- قسم التاريخ-[1]