تجلّيات التناصّ الديني في شعر إبراهيم العجلونيّ
Manifestations of religious intertextuality In the poetry of Ibrahim Al-Ajlouni
Fadwa Mostafa Moughnieh فدوى مصطفى مغنيّة([1])
الملخّص
يسلّط البحث الضوء على دور الثقافة التراثيّة عند الشاعر المعاصر، إذ عالج الباحث ظاهرة التناص في الشعر الدّيني وكيفيّة تقبلها كثقافة مشدودة إلى العمق الإنساني، ومصطبغة بالوجدانيّة، والرؤية الشاعرة الصادقة ببعدها الرسالي.
الكلمات المفتاحيّة: التناص، الإنجيل، القرآن الكريم
Summary
The research sheds light on the role of traditional culture for the contemporary poet, as the researcher dealt with the phenomenon of intertextuality in religious poetry and how to accept it as a culture drawn to the human depth, tinged with sentimentality, and the sincere poetic vision with its missionary dimension.
Keywords: intertextuality, the Bible, the Holy Quran
مقدمة البحث
ارتبط الدين بالوجدان الإنساني ارتباطًا وثيقًا عبر العصور والأجيال، ولا يخفى ما للدين من أهمية في حياة الناس لما له من علاقة بعواطفهم، وليس هناك عاطفة أقوى من عاطفة الدّين. من هذا المنطلق يوظف الأديب تراثه الدّينيّ ضمن إنتاجه الأدبيّ واعيًا أو غير واعٍ مباشرًا أو غير مباشرٍ منيرًا في القراء مشاعرهم الدينيّة بغية تلقي استجابة أكثر من قبلهم. فالتناصّ الدينيّ يمثل المرجعيّة الثقافيّة والمخزون الذي يرجع اليه الشّاعر، وتتعدد المرجعيات الثقافيّة للنّص الدينيّ فقد يكون يهوديًا، مسيحيًا أو إسلاميًا. ويكون التناصّ الدينيّ إما مباشرًا كالاقتباس اللفظيّ أو غير مباشر كالاقتباس المعنويّ. فكيف يستطيع الشاعر أن يحشد صورًا موحية ومؤثرة في الوضع الإنساني المعاصر؟ وإلى أيّ مدى يساعد التناص في إلقاء الضوء على موروثاتنا الدينيّة؟
تُعدّ الكتب السماويّة من روافد القصيدة الحديثة المهمّة من ناحيتي الشكل والمضمون لما تمتاز به من خصوبة في هذين الجانبين ([2]) إذ يحاول الشاعر من خلال التفاعل مع تلك االظاهرة الدينيّة أن يوظف حضور قداسة النصّ الدينيّ في الوجدان للتأثير في المتلقي.
لذلك “عكف الشاعر في العصر الحديث على امتصاص الثراء الدلالي للموروث الدينيّ من خلال محاوراته لشخصياته، واستثماره لقصصه ومواقفه النفسيّة والإنسانيّة، وإعادة كتابتها من جديد في نتاجاته الفنيّة بصورة تعبر عن قضاياه ورؤاه المعاصرة”([3]).
التناصّ مع الإنجيل: لقد عرفت الدلالات المسيحية طريقها الى القصيدة العربيّة الحديثة بشكل لافت ابتداءً من العام 1975. ودامت هذه الظاهرة حتى السنوات الأولى من الستينيّات مع بدء شاكر السياب والبياتي([4]). “وما إن اختفت الدلالات المسيحيّة من نصوص القصيدة الحديثة التي ظهرت في العراق ولبنان حتى ظهرت من جديد في القصيدة الفلسطينيّة الحديثة، فقد احتلت هذه الدّلالات مكانًا بارزًا في النصّ الشعري الفلسطيني واكتسب نكهة خاصة بها رسّخها طعم المعاناة التي ذاقها الفلسطيني من تشريد واحتلال لأرضه”. ([5]) “شكّل التناصّ ظاهرة عامة في الشّعر في الأردن وفلسطين. فكثر توظيفه حتى أنك لا تكاد تجد شاعرًا قد تجاوزه أو أهمله، لا من الشعراء التقليديين ولا من شعراء الحداثة على تفاوت في ما بينهم في مستوى التوظيف ودلالته وعمقه ومدى انسجامه وضرورته في النصّ الشعري”([6]).
وبناءً عليه فإنّ توظيف الشاعر المسلم للرموز المسيحيّة يعود إلى الارتباط الوثيق لمعاناة الفلسطيني مع معاناة المسيح في فلسطين حتى غدا عيسى المسيح يمثل في أدب المقاومة الفلسطينية رمزًا للقديس والفلسطيني الذي يعاني ظلم الاحتلال.
لذا نجد أن شعراء هذه المرحلة تغصّ بالتناصّات الدّينيّة التي تجسد موقفهم من قضية الصراع الطويل مع العدو المحتل والتي ترمز إلى الوطن السليب الذي ينتظر أحباءه أو فرسانه أو أبطاله الذين سيفكون أسره ويحررونه من الاحتلال. ومن أجل هذا، فإنّ العجلوني يغوص في الوجدان الدّيني الشرقي في قصيدته “القيامة”، مستفيدًا من التراث المسيحيّ الذي تعجّ به الذاكرة الفلسطينيّة المصلوبة على أوجاعها وإهمال العالم إيّاها، يقول في قصيدته القيامه:
لم يبقَ الآن سوى الأحزانِ، وفيضٌ من شوقٍ ظمآنٍ، ودمعُ عاصٍ في الأجفانِ
لم يبقَ أمامك إلا الله، وليس سواه، ولا إله إلاه، فصمّ فرح على النيرانِ
واخلعْ نعْليك كما بالوادِ، وغذ القصّ على الأوْرادِ
الآن الآن يموت الموت، يفوت الفوت، وتورق أذرعة الأكفان
الآن يقوم لمجد الله مسيح الأرض، وتهزج بالفرح الألوان
هُنا الفقراءُ هنا الشعراءُ، هُنا الأوطانُ الموؤوداتُ، هُنا الأحرارُ هُنا العبدانُ
وهُنا تِسوّدُ وجوهُ القومِ، وتبْهتُ ساداتُ البهتانِ
للأبيضِ والأحمرِ منهم، للقاتلِ والمقتولِ، سينتصبُ الميزانُ
لا فخر اليوم ولا أنساب ولا أحساب ولا أعوان
لا يجزي بالإحسان الله سوى الإحسان ([7])
النصّ الشعريّ- وعنوانه قصيدة القيامة- على إيقاع “فَعِلُن” الجائز فيه “فَعْلُنْ”، وهو الإيقاع الأسرع بين أقرانه، فهو قادر على الإيحاء بمعانٍ كثيرة كالقوّة، والفخامة، والحزن، والرتابة، والحنين، والخوف… ففي قوله:
الآن، الآن يموتُ الموتُ، يفوتُ الفوتُ، وتورقُ أذرعةُ الأكفانِ
نلمح تسارعًا وتناسقًا لفظيّين شأنهما إضافة إلى التصاق المعنوي في “يموت الموت، يفوت الفوت” التأكيد على أنّ التعلّق بالله أتى ثماره. وموت الموت والانتصار عليه مفهوم إنجيلي مسيحيّ معروف.
يستمدّ موت المسيح هذه الفاعليّة الخلاصيّة من مواجهته للعدوّ القديم للجنس البشري وانتصاره عليه، ومنذ حياته الأرضيّة كانت تبدو علامات هذا الانتصار في المستقبل، عندما كان يعيد الحياة للموتى”([8]). وفي ملكوت الله الذي أنشأه، إذ كان الموت يتقهقر أمام من كان القيامة والحياة”([9]). وأخيرًا واجهه في عقر داره، وانتصر عليه في اللحظة التي كان يبدو الموت فيها أنه قد هزمه، ونزل إلى الجخيم بكلّ سلطان، ليُخرج منه من شاء؛ إذ بيده مفاتيح الموت والجحيم([10]). ولأنّه ذاق الموت كلّله الله بالمجد([11])، وحقّقت هذه القيامة من الأموات ما كانت الكتب المقدّسة تنبّأت عنها([12]) الآن ، وقد خلّصه الله من أهوال الجحيم وفساد الهاوية، أصبح واضحًا أن الموت فقد كلّ سلطانه عليه([13]). وبالفعل عينه أبطلت قوّة إبليس المتسلّط على الموت([14]). لقد كان هذا أوّل ثمر لانتصار المسيح: ” تواجه الحياة والموت في مبارزة هائلة. مات سيّد الحياة، ولكن بقيامته تملّك إلأى الأبد”([15]).
إن كان الأمر كذلك، فكلّ كفن تمطٍّ وامتداد، وكأنّه يريد أن يتخلّص من سباته ليعلن انبعاث ميّته. وما أشبه مدّ الكفن أشلاءه بالذراع تدفع تراب القبر عمّن كان فيه مدفونًا. الذراع نفسها مورقةُ مخضرّة. هو الربيع يحيي الأرض بعد موتها.
الآنَ يقومُ لمجدِ اللهَ مسيحُ الأرضِ، وتهزجُ بالفرحِ الألوانُ
وهنا الفقراءُ، هنا الشعراءُ، هنا الأوطانُ الموؤداتُ، هنا الأحرارُ، هنا العبدانُ
يؤكّد السطر الأوّل موت الموت وانتصار الحياة نصرها المؤزّر بشخص المسيح، لكن لا المسيح السماويّ الجالس على عرش السماء عن يمين القدير([16])، ولكن مسيح الأرض، مسيح الفقراء والشعراء والمحرومين والأحرار والعبيد. المسيح الذي جاء ثورةً على الماديّة([17]) ليعتق الإنسان من عبوديّتها المقيتة.
وترتبط كلمة “الأرض”في “مسيح الأرض” بكلمة “الأكفان” السابقة، ارتباطًا يضعف أن يكون اعتباطيًا؛ تدلّ دلالة التزاميّة بالتراب.
حضور الإنجيل إذًا؛ بصورته الوجدانيّة ذات الخصائص الآلاميّة والخلاصيّة معًا في شعر العجلونيّ له دوره المميّز في استحضار الانفعالات المطلوبة تكوينًا لمتلقٍ متفاعل مع القضيّة، ومستعد للقيام بما يجب عليه فعله لتغيير الحال.
التناصّ مع القران الكريم: لم يكن القدماء من النقاد والبلاغييين وغيرهم يختلفون في أن تنمية ملكة اللسان لدى الكتاب والشعراء إنما تكون بحفظ القرآن الكريم والأخبار والأحاديث النبوية والشعر القديم، بل ويكون أول ما يقومون به ذلك، قال ابن خلدون: “فإذا سبق ذلك المحفوظ الى الفكر وكثر، وتلونت به النفس، جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور”([18]).
ومن هذا المنفذ فإن جوهر التناصّ حاضر عند الشاعر في شكل ألفاظ، وأفكار كان قد التهمها في وقت ماضٍ لتمكث في ذاكرته التي تعمل عملها الخلاق، فيتكون عندئذ معجم قرآني لديه، وما أن تاتي لحظة تكوين الإبداع الشعري يكن ذلك المعجم طوع تجربته وانفعالاته، فيطفو على أعماله من غير تكلّف.
وعلى غرار ذلك نجد العجلوني قد نهل من لفظ القرآن وأسلوبه في بعض أسطر القصائد المتناصّة معه، وكان الشاعر يحاول قصدًا الاقتراب من تلك اللغة الساحرة المؤثرة، ولا سيما أن القران كلام الله ما يعني أن للفظة سمات خاصة، ومعظم كلامه لايدرك إلا بالتأمل لمعرفة معالم الإعجاز والبيان فيه، فتكون العبارة مبعث قوة وجمال في آن معا، ففي قصيدته قيامة يقول:
“لم يبقَ أمامَك إلاّ اللهُ، وليس سواهُ، ولا إله إلاّهُ، فصم فرح على النيرانِ”
عند التوجّه إلى الماضي باستعمال الفعل المضارع المجزوم يُريد الشاعر مِن قارئه أن يتلقّى نصّه تلقّي المسلّم به، المفروغ منه. وهذا التسليم مطلوبٌ بذاته لأنّ ما يليه سيكون شديدًا على القارئ قاسيًا، وقد يدفعه إلى أن يرفضه ويتملّص منه. النفي والاستثناء في قوله: “لم يبق أمامك إلاّ الله” أشدّ وقعًا وتأثيرًا ممّا لو قال: “قد بقي أمامك الله وحدَه”؛ فهو اليأس التامّ المبرم مِن كلّ شيء إلاّ من الله. لفعل “لم يبق” فاعلٌ مضمرٌ هو المستثنى منه. هذه الفاعليّة تخبر أن كلّ شيء تخلّى عن المخاطب، وكأنّ الأشياء لها تلك الإرادة على التخلّي. وبهذا تكون “لم يبقَ أمامَك إلاّ الله” جملة تحمل للمتلقّي اليأس والقنوط، وترسم لوحةً سوداء قاتمة إلا مِن شعاع وحيد، ساطع ومضيء: كلّ شيء تخلّى عنك وأهملك إلا الله. ويكون المعنى الباطن دعوةً مفادها: توجّه إليه سبحانه.
تجنّب الشاعر خبر “ليس” في قوله: “وليس سواه”، ليترك للقارئ أن يضع المفردة التي يوحي بها انفعاله ويفترضها شعوره: وليس سواه ربًّا، وليس سواه قادرًا، وليس سواه مخلّصًا… هذا الإهمال المقصود لخبر “ليس” لم يكن تحت وطأة الحاجة الشعريّة ومراعاة الرويّ بين كلمتي “الله” و”سواه” فحسب، إنّها التعاطي المفتوح بين الشاعر وقارئه في ساحة النصّ؛ إذ يلقي الشاعر مِن مفرداته وتراكيبه ما يريد، ويفسح للقارئ أن يضيف بين الفراغات المعنويّة واللفظيّة، ليكون التكامل التامّ بينهما. هذا التكامل يُعطي للقارئ مساهمته، التي ستخلق بدورها في القارئ شعوره بالانتماء إلى القصيدة؛ لأنّها في جانب من جوانبه صنيعته هو.
ثمّ يأتي قوله: “ولا إله إلاّه” ليتمّم التأكيد على ما أسلفه، وليجعل مِن كلمة “إله” حلاًّ أكثر احتمالاً لما سبق مِن “وليس سواه”. الألوهيّة كلمة تحمل العظمة المطلقة والقدرة التي لا حدّ لها. والقدرة هذه قمينة بأن تكون ملجأ لمَن تخلّى كلّ شيء عنه.
بثلاث جمل إذًا يقترح الشاعر انفعالًا مفعمًا باليأس، طافحًا بالأمل. اليأس مِن كلّ شيء، والأمل بخالق كلّ شيء. أمّا الألفاظ (إفرادًا وتركيبًا) فدينيّة بامتياز: الله. ولا إله إلاّ الله. هي تذكير بما لدى القارئ مِن مقدّس لا يمسّ مقدّس يمثّل الدعامة الأمتن للهُويّة الشخصيّة،لأنّه يجيب عن الأسئلة الفلسفيّة الحاضرة أبدًا، والقلقة دائمًا في الإنسان العاقل: مِن أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ جواب الدين دافع للقلق الوجدانيّ، مانع مِن الاضطراب في الفكر، وإن خالف أحيانًا المُعتاد في عوالم الطبيعة أو قواعد المنطق.
لا يُغفل- إلى هنا- عن الطابع الجنائزيّ للبيت الأوّل. إيقاعه المشدود إلى أعلى بكثرة حرف “الألف” فيه يشي بالانفعالات التي أرادها الشاعر مِن قارئه.
كلمة “النيران” تأتي مِن القاموس الدينيّ كغيرها. النار هي العقوبة المعروفة في عالم الحساب تعبيرًا عن اللعنة الإلهيّة والطرد مِن ساحة الرحمة. جاء استعمال العقوبة بلفظ “النيران” الذي هو تسمية بسيطة للمادّة المعروفة عوضًا مِن اسم “جهنّم” أو “الجحيم” الدينيّين؛ لأنّ هذا اللفظ يحمل السذاجة الموحية ببداهة ما سيجري وحقيقته غير المناقش فيها. كما سيكون افتتاحًا لرويّ حاكم لأبيات القصيدة.
هل سيكون مجديًا التعلّق بالله بعد أن تخلّت الأشياء جميعًا عنك؟
تنبسط الطمأنينة مع البيت الثاني بقوله: “واخلعْ نعلَيكَ كما بالواد”. تجذبك الكلمات مِن فورها إلى ما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾([19]) خلع النعلينِ إذًا لكون المخاطب المأمور به في أرض مقدّسة. إنّه حرمٌ إلهيّ، ومَن ذا لا يأمن في حرمٍ إلهيّ؟! أراد الشاعر لهذه الطمأنينة ألاّ تأتي بصورة الوعظ صريحة باللفظ بل تركها تنبثق مِن نفس القارئ عند استعادته للنصّ الأصيل المقدّس؛ لأنّ الثقة به أعظم وأشدّ مِن الثقة بالندّ في الإنسانيّة.
أمّا التخفيف في كلمة “بالوادي” فمُعتاد في اللسان العربيّ، وهو تقديم للتناسب في الرويّ مع ما يلحق: “الأوراد”. ثمّ يُردف الشاعر قائلاً: “وغذِّ الرقصَ على الأوراد”. لكأنّهما الرقص والوِرد الصوفيّان الدلالة الحافّة بكلمة “الرقص” تأخذ بمتلقّيها إلى السرور والطرب. فهل هو الطرب بالقَبول، والحلول في الوادي؟ هل حقًّا نزل الفرَج؟
وبعد أن يتناول العجلوني” موت الموت” المستخلص من المأثور المسيحي يعرّج على مفهوم آخر ذي مكانة رفيعة في الوجدان الإنساني، وهو المساواة أمام العدالة الإلهيّة العظيمة:
هُنا الفقراءُ هنا الشعراءُ، هُنا الأوطانُ الموؤوداتُ، هُنا الأحرارُ هُنا العبدانُ
وهُنا تِسوّدُ وجوهُ القومِ، وتبْهتُ ساداتُ البهتانِ
للأبيضِ والأحمرِ منهم، للقاتلِ والمقتولِ، سينتصبُ الميزانُ
لا فخر اليوم ولا أنساب ولا أحساب ولا أعوان
لا يجزي بالإحسان الله سوى الإحسان.
فالأحرار، والفقراء، والشعراء، وكل المظلومين ينتظرون ثوابًا يعوّضهم حياة الحرمان والمعاناة والفقر التي سلّطت عليهم في الحياة الدنيا، أما سادات البهتان والزيف والرياء والظلم والقتلة فسيقتص منهم ميزان سيئاتهم. فهذا يوم لاحسب فيه ولا نسب ولا أعوان، إنه يوم الإنصاف والعدالة الأبدية “لا يجزي بالإحسان الله إلا الإحسان”([20]).
برع “العجلوني” هنا في مزج التناصّ القرآني بالقصيدة الحاضرة إيقاعًا وفكرًا. فجاء التناصّ مباشرًا وصريحًا كما في قوله🙁 تسود وجوه) و(لا يجزي بالإحسان الله سوى الإحسان)، وتناصّا غير مباشر مع القرآن الكريم إذ نجد التلميح حاضرًا في قوله: (لا فخر اليوم ولا أنساب ولا أحساب ولا أعوان) فهنا تلميح إلى يوم القيامة إذ يرسم الشاعر جوّا هلعًا مخيفًا ليوم القيامة مستمدًا من أجواء الآيات التي وصفت هذا اليوم المخيف، فيعيد توظيف بعض الآيات من مثل ﴿يوم يفرّ المرء مِن أخيه (34) وأمّه وأبيه (35) وصاحبَتِهِ وبَنيهِ (36)﴾([21]). فقد أعاد العجلوني صورة يوم القيامة في قصيدته من وحي صورها في الموروث الدينيّ، ولكنه ركز على أمور محدّدة متعلقة بالوضع الإنساني المعاصر لعلّ أحدًا يتّعظ لتخفيف الظلم والقمع والشقاء الذي يستفحل يومًا بعد يوم.
كما عبّر الشاعر عن هذا المعجم القرآني في قصيدته رثاء البطل واعدًا إيّاه ما وعد الله سبحانه عباده الصالحين، المضحيّن بأنفسهم في سبيل أعلاء كلمة الحق، والمجاهدين دفاعًا عن الوطن المسلوب حقه، المهدور دمه، فمن الاقتباس من القرآن الكريم قوله وهو يعدّ هؤلاء الأبطال بجنان الفردوس:
إن كان حقًا فالفراديسُ العًلا مأواك فاهْنأْ ذاك فوْزُ السّاعي
حبيتَ في غرفِ الجِنانِ فإنّما بالحقّ نلْتَ، وبالشّبا اللّماعِ ([22])
فما تقدّم يشير إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾([23]). وفيها يخبر الله عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوهم في ما جاؤوا به أنّ لهم جنات الفردوس. وقوله سبحانه خالدين فيها أي مقيمين، ساكنين فيها لا يبغون عنها حولًا، أي لا يختارون غيرها ولا يحبون سواها.
وقد “أكّد تبارك وتعالى أنّ المؤمنين المصدقين به وبرسله وآياته: كانت لهم جنات الفردوس نزلا”في يوم القيامة، فهي مثواهم الذي يخلدون فيه ويتنعمون ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى. ” وقيل هو أطيب موضع في الجنة، وأفضلها. فالمؤمنون الذين كانت أعمالهم صالحة هم أصحاب أعلى درجات الجنات ومنازلهم في الفردوس، يكونون خالدين فيها يعيشون أبدًا إلى ما لا نهاية يبغون عنها حولًا([24]).
والجدير بالذكر هنا أيضًا أن الحديث الشريف تناول مفهوم الفردوس بما له من أثر في نفوس المتلقين، إذ إن الإنسان بفطرته ينتظر جزاءً وثوابًا يحثه على القيام بالأعمال الخيرة فعن النبي صلى الله عليه وآله: الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس([25]).
يرى الشاعر ما يحيط بشعبه من أسباب الموت والفناء، فيرى فيها الكثير من العِبَر والدروس المستقاة من شخصيته المجبولة بالقيم والمبادىء المستمدة من العروبة بما فيها من سلوك الفارس العربيّ الذي اشتد عوده وثقلت موازينه، فآمن بالبطولة التي رسم القرآن معالمها وحدد مصيرها في الدنيا والآخرة، فكان أن رأى روح البطل تحيا خالدة في أرفع المنازل وأرقاها. ما يجعلنا نقول إن الاتساع المعرفي عند الشاعر دعم فكرته وعزز الشاهد الذي يقنع القارىء ويحثه على السير في طريق واضحة المعالم بينة النتائج.
نلتمس في القصيدة نفسها؛ ثقافة العجلوني الدينيّة المتأثرة بالمفاهيم القرآنية والمعاني التي بدورها تؤثر في المتلقي الباحث عن العلاقة بين الله والإنسان، والمجتمع، والمتعطش لمعطيات هذه الثقافة التي تستمد كيانها من القرآن على أساس وحدة الفكر والقيم، فالشاعر في قصيدته رثاء البطل يكشف عن وجهة نظره في رؤيته إلى البطل الذي يرى فيه أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذين معه، هذه الأخلاق التي تحدث عنها القرآن الكريم في سورة الفتح:
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾([26]) فالشّاعر حاكى هذا المعنى الذي رأه في البطل المتحلّي بهذه الصفات قائلًا:
نجمُ هوى، صُبْح ثوى، فتأمّلي يا نفسُ هل للفخرِ مِن دواعي
أوْدى المُجيرُ إذا استجارت حُرّةٌ ومضى مَسْكنًا رَوْعَة المرتاعِ
القائدُ الندبُ الصبورُ المُرتجى لكريهِهِ والمُنْتخى لقراعِ
تعرِفُ الأعداءُ سطْوةَ بَأْسِهِ وَيراهُ ذو القُربى الرفيقَ الراعي([27])
نجمٌ هوى، عبارة تذكّر بمطلع سورة النجم( والنجم إذا هوى)([28]) للدلالة على هول الأمور وأعظمها، فالله سبحانه أقسم بالنجم إذا سقط، وفي ذلك إشارة إلى رفعة مقام النجم، وعظيم شأنه. والشاعر في استخدامه هذه العبارة، إنما رمى إلى تصوير حال سقوط البطل، وكأنه في رثائه هذا ينبئنا بمصاب جلل طال أرفع الناس شأنًا وأكثرهم نفعًا. فراح ينعيه بتعبير مجازي يؤكد حقيقة أمره، فرسم بذلك صورة إيحائيّة للمتلقي، تهدف إلى بيان عظمة المرثي.
اقتدى البطل عند العجلوني بأخلاق الرسول (ص) التي أكدها القرآن الكريم، ورآها في أبطال تلك المرحلة، فعبّر عنهم كما عبّر الله سبحانه عن الرسول (ص) وأصحابه الخلّص الميامين من المهاجرين والأنصار تاكيدًا يجزم أنهم بأكمل الصفات، وأجلِّ الأحوال، فهم أشداء على الكفار الذين لم يروا منهم إلا الشدة والغلظة ” ومعنى الأشداء الغلاظ الشداد لا يعصون الرسول ما أمرهم (رحماء بينهم) أي متعاطفون ومتلاطفون في ما بينهم ( مثلهم في التوراة وفي الإنجيل ) أي هذه الصفات العجيبة الحسنة هي صفتهم في كتاب موسى وصفتهم في كتاب عيسى، يعني إن لم تقبلوا فاسألوا أحبار اليهود ورهبان النصارى، فهم يخبرونكم أنّ هذه الصفات كلها صفات -محمد صلى الله عليه واله وسلم – وأصحابه الخلص وهي مسطورة في التوراة والإنجيل([29]).
ومن هذا المنطلق ندرك أنّ شاعرنا يمهد الطريق لتجارب حية عاشها النبي(ص) لتتحول في تفكير القارىء إلى مخطط عملي مصدره القرآن الكريم الذي يعدُّ” وثيقة حية للحوار الهادىء العميق، ومستندًا تاريخيًّا رائعًا لكل العقائد والأساليب الحياتيّة المتبعة… ، ليثبت للإنسان في مدى الحياة أن الإيمان المنفتح على الحياة هو سبيل الإسلام للوصول إلى حياة الناس من خلال أفكارهم وقناعاتهم الذاتية”([30]).
خاتمة البحث
من خلال ما تقدم نجد أن العجلوني عمد في فكرته إلى معنى مستوحى من القرآن الكريم ليهزّ حرارة الإيمان في الأعماق بأسلوب جعلنا ننهل الفكرة من مصدر صاف لم يعلق به التغيير والتحريف، ليلتقي بذلك طهر الوسيلة مع نقاء الغاية، فتنسجم بذلك طبيعة الأسلوب مع روحية الهدف التي تتجاوز نظرية التثقيف والمعرفة لتعيش في واقعنا وتؤثر فيه وتتاثر به، ذلك لأنها تمثل الدين الذي يؤمن به الناس الذين يعيشون في هذا الواقع.
يتكامل بهذا عند الشاعر العجلونيّ استثمار التراث الديني الشرقي الملتف حول قيم واحدة، سواء أكان تراثًا إنجيليًا مسيحيًا، أم قرآنيًا مسلمًا، للنهوض بالتلقي من عالم مأنوس ومسلّم به لكونه دينًا سماويًا، نحو حاضر أفضل.
الهوامش
[1] – طالبة في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة- قسم اللغة العربية وآدابها. Fadwamoghnieh@hotmail.com
[2] -زيد مظفّر الحلي، التناص الديني في شعر محمود درويش، الانترنت، موقع الحوار المتمدّن، العدد4320
[3]– البنداري وآخرون، التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر، مجلّة جامعة الأزهر في غزة، المجلّد 11، العدد2، 2009م، ص 243
[4]– سرجون كرم، الدلالة الدينيّة في الشعر الفلسطيني، الانترنت، شبكة المعلومات السورية القومية الحديثة.
[5]– كرم، الدلالة الدينية في الشعر الفلسطيني، ص2.
[6]– أحمد الزغبي، التناص نظريًا وتطبيقيًا، مؤسسة عمان للنشر،2000م، ص 134. ”
[7]– إبراهيم العجلوني، الأعمال الأدبيّة، دار ورد الأردنيّة للنشر والتوزيع ط1، 2009م، ص 135.
[8]– كما في متّى9: 18، 25، ولوقا 7: 14-15، ويوحنّا 11.
[9] -ينظر: يوحنا 11: 25
[10] -الرؤيا:1: 18
[11] -عبرانيّون 2: 9
[12] -كورنتس15: 4
[13] -رومة 6: 9
[14] عبرانيّون 2: 14
[15]– مراسيم عيد القيامة في الطقس اللاتيني. منقول بتصرّف عن معجم اللاهوت الكتابي، ط4، بيروت، دار المشرقـ 1999م، ص 785
[16] -فقال له عظيم الكهنة:” أستحلفك بالله الحيّ لتقولنّ لنا هل أنت المسيح ابن الله ؟” فقال له يسوع :” هو ما تقول، وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير وآتيًا على غمام السماء”. متّى 21: 12-13
[17] – ثمّ دخل يسوع الهيكل وطرد جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل، فقلت طاولات الصيارفة ومقاعد باعة الحمام. وقال لهم: ” مكتوبُ: بيتي بيت صلاة يًدعى، وأنتم تجعلونه مغارة لصوص”.متّى 21: 12-13
[18]– عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، م.س، ج218، ف 57.
[19]– القرأن الكريم. طه الأية 12.
[20]– إشارة إلى قوله تعالى: ﴿هَل جزاءُ الإحسانِ إلاّ الإحسانُ﴾ القرآن الكريم، الرحمن، الآية 60.
[21]– القرآن الكريم، عبس.الآية، 34- 35- 36
[22]– العجلوني، الأعمال الأدبيّة، دار ورد الأردنيّة للنشر والتوزيع، ط1، 2009م، ص139.
[23] -القرآن الكريم: الكهف، الآية 107-108.
[24] -محمّد الشيزواريّ، الجديد في تفسير القران المجيد دار التعارف للمطبوعات بيروت لبنان ط 1985 ج4، ص368 .
[25]– المرجع السابق, ج4, ص368.
[26]– القرآن الكريم: الفتح، الاية29.
[27] – العجلوني، الأعمال الأدبيّة، دار ورد الأردنيّة للنشر والتوزيع، ط1، 2009م، ص135
[28] -القرآن الكريم: الفتح، الآية 29
[29] -شبزواريّ، الجديد في تفسير القران المجيد ، ج 6، ص 469.
[30]-محمد حسين فضل الله، أسلوب الدعوة في القرآن، دار الزهراء، بيروت- لبنان، ط 1986م، ص 9-10.
المصادر والمراجع
الكتاب المقدّس
القرآن الكريم
- ابراهيم العجلوني، الأعمال الأدبيّة، دار ورد الأردنيّة للنشر والتوزيع،ط1،2009م.
- البنداري وآخرون، التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر، مجلّة جامعة الأزهر في غزة، المجلّد11، العدد2، 2009م.
- زيد مظفّر الحلي، التناص الديني في شعر محمود درويش، الحوار المتمدّن، العدد4320
- سرجون كرم، الدلالة الدينيّة في الشعر الفلسطيني،لانترنت، شبكة المعلومات السورية القومية الحديثة.
- معجم اللاهوت الكتابي، ط4، بيروت، دار المشرقـ 1999م.
- محمّد الشيزواريّ، الجديد في تفسير القرآن المجيد دار التعارف للمطبوعات بيروت لبنان ط 1985.
- محمد حسين فضل الله، أسلوب الدعوة في القرآن، دار الزهراء، بيروت- لبنان، ط 1986م.