تحقيق التراث المخطوط وأهميّته
“Manuscript heritage verification and its importance“
محمود الشوك([1])
تاريخ الاستلام: 27-2-2023 تاريخ القبول: 28-2-2023 تاريخ النشر 31-3-2023
الملخص: إنّ بيان أهمية تحقيق المخطوطات والجهود في ذلك، والإسهام في التشجيع على البحث في هذا المجال الحيوي، هو إحياء للتراث العلمي والحضاري لأمتنا الإسلامية، وحتى لا تندثر الجهود العلمية العظيمة التي قام بها علماؤنا السابقون في المجالات العلمية والبحثية المتنوعة.
Summary: Showing the importance of manuscripts verification and the required efforts, contributing in encouraging such an effort in this important field, Reviving scientific and civilisation heritage of our Muslim nation, So that the various scientific efforts and researches of our previous great scholars does not disappear.
مقدمة
الحمد لله الذي جعل التوفيق نعمةً على عباده، ومِنَّةً على أهل صفوِهِ وودادِهِ ، وجعل العفو خَلِيقاً لمن قصُر عن مراده، والاستغفار طريقًا لمن قصّر في سعيه واجتهاده، نحمده صاحب المِنَّة العظمى والفضل الأجل، ونستغفره العالم بكل عيب أو خلل، ونسأله سبحانه حسن القضاء، ونعوذ به جلَّ شأنه من السّلب بعد العطاء، نحمده سبحانه وتعالى، ونستهديه، ونتوب إليه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمد عبدك، ونبيّك، ورسولك النبي الأمي، سيد المرسلين، وإمام المعلمين، وقدوة الصالحين، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا عدد ما أحاط به علمك، ووسعته قدرتك، وخطَّ به قلمك، وأحصاه كتابك.
فإن الأمة الإسلامية لها ماضٍ تليدٌ وتاريخ مشرق، يدل على ذلك ما تركه لنا علماؤنا الجهابذةُ الأجلاءُ من تراث عظيم تزخر به مكتبات العالم في المشرق والمغرب، وهذا التراث يمثل حضارتنا العريقة.
ونظرًا لذلك فإنّ تحقيق هذا التراث له أثره العميق في حياة المسلمين؛ لأنّه بتتبعنا لقواعده وأصوله يوصلنا إلى غاياته وأهدافه المنشودة؛ لنستنير به ونجدد العهد معه، عساه أن يعود بنا إلى ما كان عليه السلف الصالح.
ولهذه الأهمية يجب حث الباحثين والدّارسين على أن يساهموا في حفظ هذا التراث فيزيلون عنه الغبار، ويخرجونه للناس في الصورة التي يرضون عنها ويسعدون بها؛ لما حواه هذا التراث من أحكام شرعية واتجاهات فقهية لها أثرها البالغ على حياتهم اليومية في إخراجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور العلم والمعرفة، ولما كان تراثنا الإسلامي الذي ورثناه عن أسلافنا يحوي نتاجًا فكريًّا ضخمًا، وما يزال الكثير منه لم ير النور بعد، وقد تعرض الكثير منه لعوادي الزمان ففُقِد، إما بسبب الغزاة للعالم الإسلامي كالتتار وغيرهم، وإما بسبب الإهمال وعدم العناية به من الآفات الطبيعية؛ لذا يجب حث الباحثين والدارسين أن يُولُوا هذا التراث اهتمامهم وألا يهجروا تاريخهم، فإنّ تاريخ الأمة ثروة فكرية لا تفنى، وكنوز علمية لا تنفد، تمنحنا الأصالة وعز الإيمان وشرف الانتماء.
يعيننا التراث والمخزون الحضاري في تشكيل الحاضر واستشراف المستقبل، واستئناف الحياة الكريمة في ظل مجتمع إسلامي تحكمه تعاليم الإسلام، وتوجه اقتصاده وفنونه وسياسته، أضف إلى أنّ المشاركة في إحياء التراث الإسلامي الذي هو سبب نهضة أمتنا الإسلامية في ماضيها، والذي نحتاجه لنهضتنا في العصر الحالي، والرّغبة المُلِحَّة والباعثة على الاطلاع على كنوز التراث الإسلامي، والإفادة من تحقيقها، ثم الوصول إلى شرف الإسهام في إبراز هذه الكنوز إلى حيز الوجود؛ للإفادة منها علمًا وعملًا، ثم إن تحقيق المخطوطات أكثر فائدة للباحثين من اختيار موضوعات مكتوبة بأقلام قليلي البضاعة، وهي أيضا خدمة للمكتبة الإسلامية التي هي في حاجة إلى هذه النفائس من كتب التراث الإسلامي، واحتياج المخطوطات الفقهية أيضا إلى النشر بصورة صحيحة ومنضبطة علمياً بعد أن ظلت حبيسةَ دُور المخطوطات لأزمنة طويلة، أيضا التعريف بعلمائنا وجهودهم، وبتراثنا الإسلامي العريق. ولعل أجل فائدة هي ما يلمسه القارئ وينتفع به لنفسه وللعلم، من خلال مباشرته للكتاب بعد خروجه.
أهمية تحقيق التراث:
لا شكّ في أنّ لتحقيق التراث المخطوط فوائد جمّة على أكثر من صعيد، وذلك استنادًا إلى الأهميّة الكبيرة التي يمثلها التراث، من حيث كونه معبّرًا عن هويّة الأمّة وثقافتها وروحها وفكرها، والرابط بين ماضي الأمّة وحاضرها ومستقبلها، ووسيلة مهمّة لفهم واقع الأمّة وأزماتها ومشكلاتها، ومن حيث قدرته على الإسهام في التغلب على التحديات التي تواجهها الأمّة. ومن هنا فإنّ الأمّة التي حباها الله تعالى برصيد عظيم من التراث المخطوط هي أكثر حظوة من الأمم التي تفتقر لهذا اللون من التراث، لأنها تكون بذلك قد قامت على أسس وقواعد وأركان من المعرفة والعلم والإبداع تؤهّلها لإحياء هذا الرصيد وتفعيله وتطويره والزيادة عليه. ولذلك فإنّ من ما يترجم به الاعتراف المهمّ بفضل هذا التراث وفضل هذا التميّز على الأمم الأخرى، بذلَ أقصى قدر من العناية به: جمعًا وصيانة وترميمًا وفهرسة وتحقيقًا ونشْرًا واستنطاقًا واستقراءً وإحياءً واستفادة منه إلى أقصى حدود الاستفادة الممكنة.
وعلى ذلك فإنّ أهميّة تحقيق التراث المخطوط تتمثل في ما يلي:
- إن تحقيق التراث المخطوط يوفّر مادّة معرفيّة متعدّدة المجالات ومتصلة بمختلف جوانب الحياة ممّا يصلح أن يكون منطلقًا وبداية لاستئناف البناء الحضاري، على ألّا تكتفي الأمّة بما وصل إليها من تلك المعارف.
- إن تحقيق المخطوطات يكشف لنا عن إسهامات الأمّة في الحضارة الإنسانية، فمتى كانت الأمّة تملك تراثًا ضخمًا من المخطوطات في الحقول العلميّة والفكريّة المختلفة فإنّ ذلك يدلّ على مقدار إسهامها في بناء الحضارات البشرية، ومتى قلّ حجم هذا التراث المخطوط أو كان منعدمًا فإنّ ذلك يدلّ على ضعف الجذور الحضارية لها.
ولولا تحقيق هذا التراث المخطوط، ونشره لما عُرف مقدار إسهام أيّ أمّة في الحضارات الإنسانية أو مكانة حضارتها بين تلك الحضارات.
- إن تحقيق المخطوطات ونشرها يسهّل ترجمتها إلى اللّغات المختلفة، وهو ما يساعد في انتشار محتوياتها والاستفادة منها عند الشعوب المختلفة، ولئن كانت حركة ترجمة العلوم والمعارف العربيّة قد بدأت في زمن مبكّر إبّان الحكم العربي للأندلس، إلّا أنّها شهدت نشاطًا أوسع بعد ظهور الطباعة، فقد ترجمت كثير من عيون التراث العربي في القرن التاسع عشر إلى اللّغات الأوروبية المختلفة، نتيجة جهود المستشرقين في تحقيق هذا التراث.
- إنّ تحقيق التراث المخطوط يكشف مسارات التبادل العلمي والفكري بين الأمم، وصور التأثر والتأثير في ما أنتجته العقول البشرية من مؤلّفات، فما كان لنا أن نعرف مثلاً تأثر فلاسفة العرب القدماء بالفلسفة اليونانيّة لولا تحقيق النصوص الفلسفية العربيّة، وما كان لنا أن نعرف تأثير رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي في الكوميديا الإلهية لدانتي لولا تحقيق مخطوطات أبي العلاء.
- إنّ توفير النصوص المحققة في مختلف ميادين المعرفة يتيح للباحثين في مجال اللّغة العربيّة قدرًا كبيرًا من المصطلحات العلميّة التي يمكن الاستفادة منها في التأليف والتعريب، ويسد الطريق على من يصرّون على استخدام لغات أجنبية في التدريس الجامعي تحت ذريعة عدم توافر المصطلحات العلمية باللّغة العربيّة. ومن ينظر في هذه النصوص يجدها زاخرة بالمصطلحات في علوم الطبّ والهندسة والفلك والرياضيات والفلاحة والكيمياء والفيزياء وغيرها.
- إنّ تحقيق النصوص يفتح مجالات واسعة للبحث والدراسات، وذلك للغنى الواسع لهذه النصوص بالقضايا الفكرية والتّاريخيّة والأدبيّة والنّقديّة والفلسفيّة والعلميّة، ولأهمية كثير من مضامينها التي تشكل معينًا لا ينضب من المسائل التي تحرّك الباحثين وتسترعي اهتمامهم.
- إنّ التراث المحقق للأمّة هو شاهدٍ مهمّ وراصدٍ لما شهدته الأمّة من تطوّر وتقلّبات، ومنعطفات في مسيرتها التّاريخيّة والسياسيّة والفكريّة والأدبيّة والعلميّة والعمرانيّة وسواها، ويستطيع الدارسون لهذه التطورات أن يحدّدوا اتجاه سير الأمّة في المستقبل في كلّ مجالٍ من هذه المجالات.
- إنّ تحقيق التراث المخطوط يكشف الطاقة الهائلة التي تختزنها اللّغة لجهة قدرتها على استيعاب كلّ العلوم والمعارف والتعبير عنها، ويوكّد أكثر عناصرها أهمّية ألا وهو هُويّة الأمّة، فهذه النصوص المحقّقة هي المستودع الذي يحتوي على مفردات اللّغة كلّها وأساليبها واستخداماتها، وتطوّر دلالاتها ومآلات كلّ مفردة من مفرداتها منذ نشأتها إلى اليوم، وبذلك تكون هذه النصوص المحقّقة هي المصدر الأساسي لمشروع المعجم التاريخي لهذه اللّغة.
- كما أنّ أيّ مشروع لقاعدة بيانات عالميّة باللّغة العربيّة على شبكة المعلومات العالميّة، لا بدّ له من الاعتماد قبل كلّ شيء على نصوص التراث المحقّق.
- إنّ تحقيق التراث المخطوط يشكّل حافزًا قويَّ التأثير للأجيال الجديدة من الباحثين، عندما يكتشفون عظمة ما بذل الأجداد من الجهود العلميّة الضخمة على الرّغم من صعوبة التأليف، والنّسخ وشحّ أدوات الكتابة وعدم وجود وسائل اتصال سريعة، أو تقنيات للطباعة والنشر كما هو الحال في هذه الأيّام (1).
إنّ عناية المستشرقين من مختلف الدول: إيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وهولندا، وروسيا، وغيرها وتحقيقهم للمخطوطات العربيّة ونشرها وترجمتها، هو دليلٌ على إدراكهم أهميّة التراث العربي المخطوط، ولما يحويه من قيمة علميّة ومعرفيّة كبيرة.
كما أنّ حرص الدول الاستعمارية إبّان استعمارها للدول العربيّة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على اقتناء المخطوطات العربية والاحتفاظ بها في خزائنها الوطنيّة، يعدّ دليلاً آخر على إدراك تلك الدول من أعلى مستويات قياداتها أهميّة هذا التراث العربيّ المخطوط، وما يتضمنه من حقائق ومعارف ومفاتيح لفهم العقل العربيّ والنّفس العربيّة والتاريخ العربيّ والعلاقات التاريخيّة وإسهام العرب في مسيرة الحضارة الإنسانية أخذًا وعطاءً.
كما أنّ هؤلاء المستشرقين أرادوا معرفة اللّغة العربيّة، وقواعدها ومفرداتها ومعرفة الدين الإسلامي والعقائد والعبادات، فسعوا إلى الاستفادة من محتويات تلك المخطوطات.
ومن أوائل المخطوطات العربيّة التي حققها المستشرقون كتاب الفلاحة لابن العوّام الإشبيلي (ت: ق6هـ) الذي حقّقه جوزيف بانكري وطبع في مدريد سنة 1802م، وكتاب شرح ديوان المفضليّات لأبي بكر الأنباري (ت328هـ) الذي طبع في أكسفورد سنة 1808م بتحقيق جارلس لايل، وكتاب شرح الحماسة للتبريزي (ت502هـ) الذي نُشر في لندن سنة 1860 م بتحقيق وليم رايت، وكتاب الاشتقاق لابن دريد (ت321هـ) الذي نشر في جوتنجن سنة 1854م بتحقيق وستنفيلد (2).
وأمام هذه الأهميّة البالغة لتحقيق التراث، فإنّه تقع على عاتق المحقّقين، ولا سيّما العرب منهم، مسؤولية عظيمة، من جهة التزام أعلى قدر من الدقّة وتحرّي الأمانة العلميّة والإتقان وعدم الإخلال بقواعد تحقيق المخطوطات وشروطه، فضلًا عن مسؤوليتهم في نفض الغبار عن المخطوطات النفيسة والقيّمة وتحقيقها ونشرها وجعلها بين أيدي الناس من الباحثين والدارسين والعلماء.
خاتمة
يتضح من خلال ما سبق ذكره أن علم التحقيق من أجل العلوم وأشرفها، جدير باهتمام من لدن الدارسين والباحثين، آن الأوان لتتكاثف جهود المؤسسات العلمية عبر العالم العربي الإسلامي، وأن تخصص له ميزانيات ضخمة، في سبيل إعادة الاعتبار للإرث العلمي الذي خلفه الأجداد في شتى المجالات، وبخاصة في مجال العلوم الشرعية وما يتعلق بها، وما يستمد منها.
ومتى كان للتراث العربيّ المخطوط هذه الأهميّة في حياة الأمّة العربيّة والتعبير عن هويّتها وشخصيتها وقدراتها وعظمة إنتاجها، فلا بدّ من بذل أقصى الجهود للحفاظ على هذا التراث وحمايته وصيانته وفهرسته وإتاحته للدارسين من أجل تحقيقه ونشره والإفادة منه في مواجهة تحدّيات الحاضر والمستقبل، وتحفيز الأجيال للبذل والعطاء والمنافسة في النهوض الحضاري.
الهوامش
1- للتوسع في هذه المسألة ينظر: أهميّة التراث العلمي العربي، أحمد فؤاد باشا، ص35، بين يدي تحقيق النصوص، عصام الشنطي، ص48.
2- التحقيق: لوازمه وبداياته، يحيى الجبوري، ص39-40.
المصادر والمراجع
1-أهمية التراث العلمي العربي، أ.د. أحمد فؤاد باشا، منشور ضمن كتاب: محاضرات دورة المخطوطات، ص19-44.
2-بين يدي تحقيق النصوص، أ.د. عصام محمد الشنطي، منشور ضمن كتاب: محاضرات دورة المخطوطات، ص53-59.
3-التحقيق: لوازمه وبداياته وآفاقه، د. يحيى وهيب الجبوري، منشور ضمن كتاب: تحقيق التراث- الرؤى والآفاق: أوراق المؤتمر الدولي لتحقيق التراث العربي الإسلامي، إعداد وتحرير: الدكتور محمد محمود الدروبي، منشورات جامعة آل البيت، 1427هـ،2006م، ص33-42.
4-تحقيق التراث- الرؤى والآفاق: أوراق المؤتمر الدولي لتحقيق التراث العربي الإسلامي، إعداد وتحرير: الدكتور محمد محمود الدروبي، (3 مجلدات)، منشورات جامعة آل البيت، 1427هـ،2006م.
[1] – طالب في مرحلة الماجيستير، كلية العلوم الإسلامية، جامعة إسطنبول، صباح الدين الزعيم، تركيا Mahmoud.chouk.91@gmail.com.
Mahmoud Chouk, Master Degree in Islamic Science, University of Istanbul Sabah Eddine Zaiem.