مقدمة كتاب الله بين الأديان والفلسفة
د. صباح محسن كاظم([1])
تمهيد
من طفولة البشرية وريادة الوجود الإنساني كان السؤال حول الاعتقاد بوجود الخالق بفهم البيئة البدائية، ومايحيط بالإنسان من ظواهر لذلك تعدد الإيمان بالآلهة الصنميّة ؛ والظواهرية حسب المدركات العقلية ، ثم التطور العقلي التدريجي مع طبيعة الوجود، ثم بعثة الأنبياء والرسل لتوحيد الألوهية والعبادة الواقعيّة، تبدأ رحلة المعرفة العلمية وكل مايتصل بالعقل والقلب والجوارح حول الإحساس بالدّين الملازم لوجودنا البشري .. تدخل الفلسفة وتتعدد الأسئلة ينفتح العقل على آفاق وفضاءات الجدل بالمعرفة الوجودية التي يدور فيها الجدل بين المؤمنين وسواهم ، فالمؤمنين بخالق الوجود الحق المطلق عقيدتهم راسخة بوجود الله، وصنف آخر يرى آراء أخرى حاول الباحث الرصين الجاد والشاعر المهندس أحمد مانع الركابي باستدلالات تاريخيّة وعقليّة بروح معاصرة وببحوث شائقة لتأكيد الإيمان بالله ليس إلا مخاضات بشرية بالحضارات الريادية ليومنا المعاصر جسّد ذلك بكتاب قيّم .
من الميثولوجيا للاهوت : مرت القراءات التاريخية برؤى وإطروحات حاولت تثبت المعيار التاريخي ّ والمعرفيّ في استقصاء تاريخيّ للمعتقدات الدينية من الميثولوجيا إلى الأسطورة..
وقد برزت نظريات عدة بفهم حركة التاريخ وتفسير الأحداث التاريخية كالنظرية الهيكيلية –هيغل- يؤكد الذهاب إلى ماوراء الأحداث بحثًا عن الفكرة الباطنيّة للتاريخ. وعدَّ التاريخ شيء متعقل وأن أصل الأحداث ميتافيزيقي. .في ما النظرية الماركسية تؤكد : أن التاريخ يسير نحو هدف إنشاء مجتمع لاطبقي ، وأن العوامل الاقتصادية هي العوامل المحركة للتاريخ . وكانت رؤية المؤرخ الفرنسي غوستاف مونو “التاريخ هو إعادة تمثيل الحياة البشرية السابقة كما هي”
فيما ذكر المؤرخ الأمريكي هنري جونسون : “التاريخ بمعناه الواسع هو كل شيء حدث في الماضي ،أنه الماضي نفسه مهما يكن هذا الماضي “فيما يرى الألماني رانكة “لايقصد بالتاريخ إلا أنّ يصوّر ماحدث بالضبط في الماضي”
بينما المؤرخ الإنكليزي كولنفوود يؤكد: ” التاريخ هو استحضار للتجربة الماضية “. بينما بعض المؤرخين المسلمين لهم آراء تحدد كما قال سبط ابن الجوزي: “التاريخ هو مرآة الزمان ” الحنبلي ” أخبار من ذهب ” فيما حدد مسكويه :”تجارب الأمم”.
أرى بقراءة معمقة للتاريخ أن أسباب الحوادث التّاريخيّة من الميثولوجيا لليوم يؤثر في دوافعها عدة جوانب :
النّفسي – الديموغرافي- الاجتماعي –الاقتصادي – والعامل الاجتماعي الجمعي بالتأثير بالسلوك العام وصناعة الأحداث..سواء أكانت أحداث تاريخيّة عابرة أو مؤثرة بحركة الإنسان والاعتقاد الديني، وهو تجارب وثمار الحكمة نتعلم ونعلم منها . من عصر التوحش والبدائية والأساطير إلى توحيد النبي إبراهيم الخليل –عليه السلام- والتدرج بالصعود الحضاري الإيماني برسالات الرسل والأنبياء والكتب السماوية للوصول للحقائق بالإيمان بخالق الوجود الله.
منهجية أحمد مانع الركابي : من خلال كتابه الأول تتضح معالم المسارات والأهداف والاشتغالات المعرفيّة والفكريّة والتاريخيّة التي يتحرك بها الكاتب والشاعر أحمد مانع الركابي للوصول للحقائق الإيمانيّة بعد رحلة طويلة من التقصي من العبادات الطوطمية إلى التوحيدية ، ومناقشة الاعتقادات بمجمل الحضارات التي مرت ببلاد الرافدين والحضارة المصرية والفارسية وغيرها.
الجهد العلميّ الذي تقصاه الباحث الركابي بحرص من كتابه “الميثولوجيا ورحلة العقل نحو اللاهوت” الذي صدر العام 2020 عن منشورات أحمد المالكي كتبت مقدمته د-أحلام الحسن 1- ص 7: مقدمته د-أحلام الحسن – إذ تقول([2]) : ” …ليس كتابا تاريخيّا بقدر ما هو كتاب تثقيفي يقدم نظريات ورؤى وحقائق يخاطب العقل ويرد الشبهات، يبحث حول فلسفات تاريّخيّة للأمم السّالفة والعصور التي ما قبل التاريخ والأساطير ….” لعلّ الغوص في تفسير الظواهر بين الأسطورة والعقيدة يخضع إلى تجليات الكشف من خلال دراسات أنثروبولوجية لفهم الاشتباكات، والالتباسات والرؤى بين الديانات الوثنية والتوحيدية وهي رحلة محفوفة المخاطر لا يخرج من ألغامها إلا من أدرك ببصيرة الخلاص من الفخاخ. فبعد قراءة كتابه ” الله بين الأديان والفلسفة والعلم”
أجد أنّه أجتهد بالمثابرة بتحقيق الرؤى التاريخية لفك الاشتباكات والرؤى التي نقلتها المصادر والدراسات بكافة أنوعها، هذا ما يحسب “للركابي ” فقد حدد بمؤلفاته “الميثولوجيا ورحلة العقل نحو اللاهوت” 2020 وكتاب “تجليات الاسطورة ورواسبها في الثقافة المعاصرة “2021 الأرضية الفكرية التي فصل من خلالها بين الأساطير والتوحيد ؛ من خلال وضع معايير لفهم حركة الأديان وطبيعتها منذ البدايات الأولى لوجودها حيث أكد بالفصل الأول من كتابه الثاني([3]) :
” معظم العلماء يفصلون بين الدين والسحر ويعدُّون أنّ السحر سبق الدين؛ وعندما يئس الإنسان من طقوس السحر لجأ إلى الدين. وأنا أرى ذلك غير دقيق؛ لسبين الأول أنّ أي دين يتكون من معتقد، وطقس، وأسطورة تعبّر عن مفهوم يوضح مرتكزات المـعتقد. فالسحر مبني على معتقد وهو أن هناك قوى تؤثر في الطبيعة وهو بهذا المعتقد يترجم إيمانه الداخلي بتلك القوى التي يحاول أن يؤثر بها عن طريق قيامه بمجموعة من الطقوس. إذ وجود المعتقد والطقس يؤكد على أن السحر بأنواعه يمثل دين فيه الآلهة غير مشخصة…” بتلك الحفريات المعرفية من السومريين ورؤاهم للوجود واعتقاداتهم يوضح كل المراحل الاعتقادية بتفصيل لجغرافيتها والأسس بالاعتناق، ابتداءً بالنظرية السومرية التي وجدت مقاطعها موزعة بين عدد من الأساطير.
وهو في ما تقدّم يستطلع ويعتمد على رأي الآثاري فراس السّواح بالقول:
لا توجد هناك أسطورة تخص خلق الكون عند السومريين ولكن توجد مقاطع من أساطير خلق الإنسان تشير لمراحل خلق الكون، ففي أسطورة خلق الإنسان من أصل نباتي نجد المقطع الآتي:
قد أسرع (الإله إنليل) لفصل السماء عن الأرض، وقد أسرع لفصل الأرض عن السماء.
وفي أسطورة أخرى نجد مقطعا آخر: في جبل السماء والأرض (أن_كي) أنجب (أن) أتباعهُ الأنونانكي.
وفي مقطع آخر: بعد أن أبعدت السماء عن الأرض، فصلت الأرض عن السماء، وتمّ خلق الإنسان، وأخذ الإله (أن) السماء وأنفرد الإله (إنليل) بالأرض، وأخذ الإله (کور) الإلهة (أرشكيجال) غنيمة([4]) فراس السواح مغامرة العقل الأولى .
وفي هذا السفر الجديد يناقش قضايا جوهرية في صلب الإيمان بموجد الوجود وواجب الوجود
فيما تواصل بمنحى الجدل بمشروعه الجديد “الله بين الأديان والفلسفة والعلم” يتعمق بدراساته ويكمل مشروعه الفكريّ بالخوض بلجج وغمار وأمواج التاريخ والفلسفة والعقائد والرؤى المتباينة بالإعتقادات لِيقدم للمتلقى زادًا معرفيًّا بوضوح يخلو من التعقيد والتشويش لصعوبة المراد الفلسفي بتوضيحه، لكنّه أجاب بهذا الكتاب إجابات تاريخيّة ومنطقيّة وحجاجيّة استدلالية اتسمت بالعمق المعرفي الشّامل بأبعاد خاضت بها البشرية من خلال العلماء والفلاسفة وطلاب الحقيقة الجدال المستمر. كما وضح ذلك بالمقدمة بالقول :”إنّ مادة هذا الكتاب تأتي مكملة لمادة كتبابي الأول:” الميثولوجيا ورحلة العقل نحو اللاهوت”، والثاني: “تجليات الأسطورة ورواسبها في الفكر المعاصر”. إذ إنّ هذين الكتابين شكلًا الأرضّية للمباني الفكرية التي تتعلق بالأسطورة ونشأتها وطبيعتها، وكيف أنّها تمثل السلم الطبيعي لتنامي الوعي الإنساني وتكامله عبر التاريخ. فقد حصل عبرهما تَتبّع حركة الوعي الإنساني ورصد النزعة الدينية منذ النشأة الأولى للإنسان البدائي وصولا لأعتاب الفلسفة والعلم الحديث. أفكار هذا الكتاب تحركت عبر تلك الأرضية سالكة طريقا محددا لرصد ظاهرة التصوف وجذورها الحضارية عبر معتقدات تلك الشّعوب …” … لاريب إن القرآن الكريم رسم ملامح الوجود البشري من آدم والتطور الحضاري من خلال الرسالات السماوية إذ يؤكد الفلاسفة على أن الوجود الإنساني قائم على دعامتين 1- الإستخلاف 2- التمكين وقيمة وجودنا بإيماننا لاتصمد كل الرؤى التي تشكك بخالق الوجود وموجده أمام الحقائق التاريخية والعلمية … ينطلق المؤلف أحمد مانع الركابي من التفكير السومري بوصف الرّيادة الحضارية كما أكدها جميع الانثروبولوجيين والآثاريين بوجودنا البشرية حيث يحدد : بوجودنا البشرية حيث يحدد([5]) “.. أرى أن العقل الإنساني البدائي حينما طوّر اللغة من الإشارة إلى المقاطع الصوتية ذلل العقبة الأولى أمام المسير نحو ركب الحضارة. فبواسطة اللغة تشكل العقل الجمعي الذي يعبر عن تطلعات الجماعة في إنشاء مجتمع يسوده التعاون والتفاهم من أجل مواجهة قوى الطبيعة وما فيها من مخاطر تهدد وجوده. فحصل التعاون في صيد الحيوانات الكبيرة، وأخذ الإنسان يتجمع في الكهوف والمرتفعات؛ لمواجهة الضواري ليلا ومن ثم السكن قرب الأنهار ومصادر المياه إذ تتوفر فرص الصيد والنباتات التي يتغذى عليها أحيانا. وشيئًا فشيئًا اكتشف الزراعة وتدجين الحيوانات ومن ثم قام ببناء القرى الصغيرة التي أخذت تتطور تدريجيًّا حتى أصبحت مدن كبيرة بمرور الزمن. هذا التطور يتطلب قوانين تنظم حياة المجتمع “… سمة الباحث الجاد بهذا الكتاب التأني بالطرح، مناقشة مختلف الآراء التي يتفق معها أو يتعامل معها بتجرد من بدء الخليقة والحضارة السومرية والبابلية والآشورية والديانات الزرادشتية، والنظريات التي فسرت الوجود من دارون للفلاسفة الغرب …كذلك مسيرة المعرفة الربانية لدى الأنبياء آدم ونوح وموسى وعيس ومحمد –صلوات ربي عليهم – وقضية جوهرية التصوف من الإمام علي بن أبي طالب –عليه السلام- إلى من سار بمنهجه وزهده ..
الجانب التاريخي ركز عليه بالفصل الأول بشروحات مستفيضة ناقش عدة موضوعات :
مفهوم الدين، الدين في مراحله الأولى،الدين عند الانسان البدائي، النزعة الدينية، المعتقدات السومري،الوجود عند السومريين،حقيقة الكون عند السومريين ، الأساطير السومرية، الحياة والمعنى، طبيعة الآلهة السومرية، طبيعة الشر، عقائد ما بعد الموت، العالم الأسفل، الجزء الثاني من الأسطورة، مدارات الأسطورة، فلسفة خلق الإنسان عند السومريين، أسطورة البعث السومرية، البغاء المقدس ،آلهة المدن السومرية الديانة البابلية، أسطورة الخلق البابلية، الآلهة البابلية، البغاء المقدس البابلي، الصراع بين العالم السفلي والعلوي أسطورة البعث البابلية…ثم رحلة بالتصوف بالفصل الثاني من الأساطير السّومريّة والكنعانيّة واليونانيّة والمسيحيّة والدياانات الأخرى ليركز بالفصل الثالث على الفلسفة وأبعادها ومريدها وإطروحاتها عند سقراط والمشائين ومعظم الفلاسفة بالعصور المختلفة، ليستمر بالفصول الأخرى باستعراض الفلسفات ونظرتها للوجود .إنها رحلة علمية تعزز الوعيّ التاريخيّ والفكريّ قدمها المؤلف على طبق من ذهب للمكتبة العراقية والإنسانية.
[1] – مؤرخ وناقد صدر لي 20 كتابًا وكتبت أكثر من 66 مقدمة وشاركت بأكثر من 75 كتاباً نقدياً بالعراق والوطن العربي
[2] – انظر كتاب : الميثولوجيا ورحلة العقل عبر اللاهوت / أحمد مانع الركابي , ص7
[3]– انظر كتاب : تجليات الأسطورة ورواسبها في الثقافة المعاصرة/ أحمد مانع الركابي, ص15
[5] – انظر كتاب: الله بين الأديان والفلسفة والعلم/ أحمد مانع الركابي ,ص17