الشّاعر أحمد مطر والتّهكم من الحكام
د. صباح محسن كاظم([1])
تمهيد
ميز الشاعر العراقي المغترب الهارب من دفء الوطن بسبب بطش الطاغوت والدكتاتورية نحو بلاد الصقيع والغربة الذي اتخذ من لندن الملاذ الآمن… صفع، وبخ، أدان الظلم والإستبداد السياسي لذا طبع شعره بالتهكم… وقد درست شعره بموسوعة فنارات في الثقافة العراقية والعربية دراسات نقدية في الجزء الأول “أحمد مطر سوط على رؤوس الطغاة” الذي طبع ٢٠٠٩ دار الينابيع في سوريا.
المقدمة
ثمة اهتمام كبير في شعره منذ التّسعينيات وتتلقفه الأجيال سرًّا ضمن القصائد المهربة مثل الشّاعر مظفر النواب – رحمه الله – وقد كنّا نذهب خلسة للبريد لفتح الإنترنيت (الممنوع زمن البعث) وتدوين القصائد سرًا بعيدًا من الرقيب الأمني واستنساخها وتوزيعها لمن نثق بهم وبدورهم كذلك ينقلوها من مدينة لمدينة.
نال أحمد مطر الاهتمام الكبير والحظوة بعشرات الدراسات الأكاديميّة في رسائل الماجستير والدكتوراة… وفي لبنان أشرفت الناقدة الدكتورة خديجة شهاب على رسالة مميزة على طالب الماجستير نجاح حسين محمود – بعنوان (البنية الزمانية والمكانية في شعر أحمد مطر) دراسة أسلوبيّة، وقد كان الباحث متميزًا في أسلوبه حين طرح هذه القضية على بساط البحث الجامعي.
كتب بملخص الرسالة المميزة
تعدُّ البنية الزَّمانية والمكانية من البُنيات الأسلوبيّة المهمة، إذ يخضع النَّص الشعري للدراسة والتحليل من خلالها لمعرفة مدى استيعاب الشَّاعر لهذه التقنيات الزَّمانية والمكانية الحديثة التي جسدتها الأسلوبيّة، وقد هدفت الدِّراسة إلى التعرف على البنية الزَّمانية والمكانية في شعر أحمد مطر من خلال المنهج الأسلوبي، إذْ تناولت الدّراسة محاور عدّة، الأول مدخل للدراسة؛ الذي ضم التّعريف بالبنية الزَّمانية والمكانية، والأسلوبية وتقنيات الزَّمان والمكان، وتناول المحور الأول دراسة البنية الزَّمانية أنواع الزَّمان، وأبعاده وتقنياته المتمثلة في الاسترجاع والاستباق، والمحور الثاني للبنية المكانية المتمثلة في دراسة التَّشكيلات المكانية المختلفة، ودلالات المكان، وشعرية المكان من خلال الصُّورة، وجاء المحور الثالث لدراسة التقنيات السَّردية من تسريع السَّرد وإبطائه، والتَّواتر السَّردي، واستراتيجية بناء المكان، ثمَّ جاءت خاتمة الدراسة التي تضمنت النتائج والتوصيات المهمة. وقد خلَّصت الدراسة إلى أنَّ الشَّاعر أحمد مطر قد وظَّف هذه التقنيات من خلال النماذج المتعددة التي جاءت في متن الدراسة، “إذ مثلت هذه التقنيات الأسلوبية عاملًا مهمًّا ساعد الشَّاعر في الوصول إلى مبتغاه، وهو توعية المواطن العربي الذي يعيش واقعًا مريرًا من الحكّام الطواغيت، الذين نصّبهم الاستعمار ليحافظوا على مصالحهم، من خلال حكم الشُّعوب بالحديد والنار، وقد وظَّف أحمد مطر كثيرًا من أدوات الأسلوبيّة كالإيقاع والمفارقة الزَّمانية والمكانية والرمز والسخرية، وكلها من أدوات المنهج الأسلوبي في دراسة النَّصوص الأدبية، ولم يكن توظيف هذه التّقنيات من قبيل الصّدفة، بل كانت ناتجة عن وعي وإدراك من الشَّاعر؛ لغرض الوصول إلى عقل المتلقي وجعله يتأثَّر بما يدور حوله من مآسٍ وأحزان وآلام؛ لتبث فيه روح التَّمرد والثورة على هذا الواقع”. الجهد العلمي والبحثي القيّم منح المكتبة العربية دراسة شائقة، شاملة بتحليل البِنى الإسلوبيّة والبلاغيّة. بقراءة اعتنت بشاعرية “شاعر اللافتات” إذ كان الصوت الاحتجاجي الذي اشتهر في الوطن العربي لتقريعه النظم الوراثية بكل موبقاتها ، وقد أكد الباحث: في سياق الدِّراسات النقدية الحديثة لظاهرتي الزَّمان والمكان، سنقوم بخوض غمار هذا البحث من خلال النَّصوص الشِّعرية للشاعر العراقي أحمد مطر، ولعلَّ في هذه الدراسة فرصة لمعرفة المزيد من خصائص هذا الشَّاعر ومميزاته، وكذلك الكشف عن الثروة المكانية والزَّمانية التي تكتنز بها قصائده، والوقوف على الفنية والجمالية، من خلال العلاقات التي يرسمها الشَّاعر بين الأمكنة وغيرها من الأشكال السَّردية في النَّص، “فالمكان عندما ينتقل من مداره الواقعي الحياتي إلى مداره الفني الروائي أو الشّعري يمرُّ من خلال فضاءات نفسية وفكرية وفنية حتّى يصل إلى المدار الفني”، أمّا الزَّمان فهو الذي يحرك الأحداث داخل النَّص الشعري، وقد وظَّفه الشَّاعر أحمد مطر في دواوينه الشِّعرية واستخدم الألفاظ الدَّالة عليه، التي تحمل دلالات رمزية مثل: “الغروب، الليل، الصباح، الفجر، الرَّبيع، الشتاء”، وهذا “ما سنتحدث عنه من خلال قصائد أحمد مطر…”.
لاريب أن الباحث ومشرفته الدكتورة خديجة شهاب اطلعوا على الدراسات السّابقة لشاعر الرفض والاحتجاج فقدما للمكتبة العربية هذه الرسالة الوافية .. يؤكد الباحث نجاح محمود حسين.
مدخل إلى الدراسة
أولاً: نبذة في مفهوم البنية الشعرية
البنية في أبسط تعريفاتها هي: “كل مكون من ظواهر متماسكة، يتوقف كل منها على ما عداه، ولا يمكنه أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عداه” ، والبنية الدَّلالية هي بنية مهمة يبحث عنها المتلقي، فهي التي تقرب المعنى وتوضح الفكرة، وقد سماها بعض النُّقاد (بنية المعنى) والتي تنقسم إلى البنية الكلية للمعنى، والبنية الجزئية، فالمفردات والتراكيب والصور والأزمنة والأمكنة لها معان جزئية، وهي تصب في البنية الكلية لمعنى النَّص الأدبي، وإن كان النَّص قصيدة شعرية فلا بد من “مراعاة دلالة هذه المفردات والتراكيب والصور في أبيات القصيدة من دون الخروج عن بنية المعنى الكلية للنص.”
أ- البنية الزَّمانية
يتسم الزَّمان بسمة الغموض في تحديد مفهومه، فلا نستطيع الإمساك به، إنما نلمح أثره على وجوه الأشخاص وحركاتهم، ومظهر الزَّمن متداخل فهو زمن تاريخي واجتماعي ونفسي وصرفي ونحوي ودلالي، والزَّمن هو شعور نفسي معنوي، وهو يمشي جنبًا إلى جنب مع الحياة ممزوجًا فيها، فهو خط وهمي مجرد، ويمكن تصنيف الفنون زمنيًّا، والمقصود الزَّمن الروائي الذي يوظف في العمل الأدبي إذ يعطيه قيمة دلالية وفنية، والزَّمن هو الذي يظهر العمل الأدبي منظومة متتابعة من الأحداث، والزَّمن هو عنصر أساسي في تشكيل النَّص الأدبي، ” وهو أحد التقنيات الفنية السَّردية التي يُعنى بها النَّص الأدبي من خلال توظيفها في معمارها الفني، والإفادة من هذه التقنيات الزَّمنية كالترتيب والديمومة والتَّواتر”.
ب- البنية المكانيّة
“هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث، والعمل الأدبي الذي يفقد المكان يفقد خصوصيته، وقد تنوعت المصطلحات التي سُمي بها المكان ومنها: البقعة، الموقع، الفراغ، الفضاء، الحيّز، والمكان بشكل عام هو أحد الخصائص البنيوية المهمة، التي تعتمد عليها البنية السَّردية للنص الشعري، والمكان هو مكون من مكونات هُوية النَّص”.
ثانيًّا: نبذة في الدراسات الأسلوبية ونشأتها
فُسّرت الأسلوبية على وفق اتجاهات لسانية متعددة تنظر إلى اللغة من خلال تغيرها وتطورها، فالأسلوبية هي منهج حديث يعتمد على حال (المؤلف والنَّص والمتلقي)، وتنطلق من خلال جعل اللغة وسيلة للتعبير، ويتسع أفقها لتشمل الظواهر اللغوية جميعها، الأصوات والمعاني والتراكيب.
وتعرّف الأسلوبية أنّها: “بحثٌ عمَّا يتميّز به الكلام الفنيّ من بقيّة مستويات الخطاب أولاً، ومن سائر أصناف الفنون الإنسانيّة ثانيًا”، وربما تعدّ “دراسة للمتغيرات الّلسانيّة إزاء المعيار القاعدي” وترتبط جميع هذه التعريفات ببيان وجهة الدرس الأسلوب واهتمامه باللغة، والكلام، والبحث عمّا يتميز به الكلام، أو البحث عن دلالات الخطاب. يمكن تحديد مفهوم الأسلوبيّة مفهومًا عامًّا بتعريفها: “فرعا من اللسانيات الحديثة مخصصًا للتّحليلات التفصيليّة للأساليب الأدبية، أو للاختيارات اللغوية التي يقوم بها المتحدثون والكتاب في السياقات البيئات – الأدبية وغير الأدبية”.
مستويات التحليل الأسلوبي
للتحليل الأسلوبي مجموعة من المستويات، فالأسلوبيّة تعمد إلى دراسة الكلمة بمستوياتها كافة من صوتية، وتركيبية، ودلالية، وسنقف على ذكرها معرفين بكل واحدة منها.
- المستوى الصوتي
وهو المستوى الذي يهتم بدراسة الإيقاع الصوتي للكلمة، فالأصوات تُكسِب النّص إيقاعًا خارجيًّا وداخليًّا، فالخارجيّ يختصّ بالشّعر دون النّثر، والإيقاع الداخلي أيضًا الذي تعبر عنه أصوات الحروف وتكرار الكلمات وتضادها وغيره، كما أنَّه وهو يهتم بدراسة وظيفة الصوت اللغوي في الكلام عن طريق زيادة في الكلمة مثل العناصر الصرفية، ومن ناحية تقسيم الكلمة إلى مقاطع صوتية، وصفات كل مقطع أو عن طريق أدائه صوتياً، وما ينتج عن ذلك من نبر وتنغيم ووقفات وطبقة الصوت، وكل العناصر الصوتية التي تشارك في الدلالة وتؤثر في المتلقي.
- المستوى التّركيبيّ
يعتني المستوى التّركيبي بدراسة العلاقات النّحويّة بين الكلمات في الجملة الواحدة ثمّ وظيفة كلٍ منها، وخصائصها الاسلوبيّة كدراسة طول الجملة وقصرها وعناصرها من مبتدأ وخبر وفعل وفاعل إلخ. ويسمى المستوى التّركيبي بالمستوى النحوي الذي ” يُعنى بالإعراب والعوامل النّحويّة وقواعد تركيب الجمل: اسميّة، وفعليّة مثبتة، ومنفيّة وخبريّة، وإنشائيّة، ويدرس العلاقات بين عناصر الجملة وعلاقات الجملة بما بعدها وقبلها”. الوحدة الأساسيّة في هذا المستوى هي الجملة وهي: “وحدة إسناديّة تتضمّن مسندًا ومسندًا إليه يكونان عمدة هذه الجملة ويحقّقان المعنى المفيد ويجوز إلحاق العمدة بفضلات غايتها توضيح المعنى، وتحسين الكلام المركّب المفيد وهي نوعان فعليّة وإسميّة مثل قام زيد، زيدٌ قام”.
- المستوى الدّلاليّ
وعلم الدلالة هو علم يختصّ بدراسة الألفاظ ومعانيها ودلالاتها ” تعدّ الكلمة أصغر وحدة معنويّة في التّركيب اللّغويّ ومن شروط معرفة دلالة التّركيب معرفة دلالة كلماته وتأتي دلالة الكلمة من صياغة التّركيب، وبنيتها، والسّياق الّذي ترد فيه فلكلّ كلمة دلالة، وطريقة استعمال، وعلى أساس معرفة دلالة الكلمة في السّياق يتّوصّل إلى معنى التّركيب”. فتقوم الدراسة الأسلوبيّة بالبحث في المستوى التّركيبي من أجل الوصول إلى دلالة المعنى. تناول الباحث في ثنايا فصول رسالته للماجستير الزمان والمكان والاسترجاع لدى شاعر الحرية كما بنصه الشعري.
ومن الاسترجاع الخارجي أيضًا قول الشَّاعر أحمد مطر في قصيدة (الطفل الأعمى)
وطني طفلٌ كفيفْ
وضعيفْ
كان يمشي آخرَ اللّيل
وفي حوزَتَهِ
ماءٌ، وزيتٌ، ورغيفْ
فرآهُ اللِّصُ وانهالَ بسكّين عليهِ
وتوارى
بَعدمَا استولى على ما في يديْه
وطني ما زالَ مُلقى
مُهمَلاً فوقَ الرَّصيفِ
غارقاً في سَكَرات الموتِ
والوالي هوَ السكّيْن
والشَّعبُ نزيفُ
قد غرد “أحمد مطر” خارج المألوف والسرب إذ إن٩٠ في المئة من شعراء العراق كانوا يمجدون ويهتفون ويصفقون وقد صنعوا هالة للطاغوت على حساب دماء الشهداء والشعب يئن من الحصار وهذا ديدن كل منافق من يبيع دينه بدنياه الفانية لذا يُحسب الشاعر ضمن شعراء الحرية كمظفر النواب، يحيى السّماوي، أحمد الباقري، محمود البريكان وغيرهم من الأصوات الوطنية.
يُنذر الطغاة بسوء العاقبة كما بنصه المختار بتلك الرسالة العلمية
وفي قصيدة (ولاة الأرض) يقول:
طفحَ اللّيلُ..
وماذا بعد نورِ الفجرِ بعد الظُّلماتِ
حينَ يأتي فَجْرُنا عمّا قريب
يا طُغَاة
يتمنّى خَيْرَكُم
لو أنَّهُ كانَ حُصَاة
أو غُباراً في فُلاة
أو بقايا بَعْرَةٍ في أست شاه
لعمري إنّ تلك الدراسة تصلح للدكتوراه، وليس للماجستير، ولم أكتف بتلك القراءة، بل تحتاج إلى وقفة ثانية للفصول الأخرى بهذا البحث العميق، مجدًا للمناقشين والباحث لهذه الدراسة النقدية المهمة بزمن السطحية والرسائل الجامعية الركيكة التي هي إسقاط فرض للحصول على المكاسب…
[1] – د. صباح محسن كاظم، مؤرّخ وناقد، عضو إتحاد الأدباء والكتاب العراقيّين، واتّحاد المؤرّخين الدوليّ، صدر لي ٢١ كتابًا كتبت ٧١ مقدمةً، شاركت في ٧٥ كتابًا نقديًّا في العراق والوطن العربيّ.