أسلوبيّة تشكّل صورة الوطن ودلالتها في قصيدة “الصهيل”[1] للشاعر قاسم حداد
فاتنة صبحي يزبك*
تدور معاني الوطن في قواميس اللّغة القديمة على أنّه «منـزل الإنسان ومحل إقامته»، ينظر لسان العرب م15ص 338 مادة وط ن، والقاموس المحيط ص 1598، وتضيف بعض المعاجم الحديثة «وإليه انتماؤه ولد به أو لم يولد» المعجم الوسيط ص 1085.
ولقد كان الوطن منذ فجر التاريخ، ولا يزال، قضيّة متجذِّرة في أعماق الوجدان، فإذا كان الجسد على اختلاف الأعضاء ووظائفها وعاء الرّوح الحافظة للحياة فيه، فالوطن هو وعاءٌ لأفرادٍ تواضعوا على محبّته، وإن اختلفوا فيها وبها، وإن كان البيت باعتباره مكانًا هو ركننا في العالم وكوننا الأوّل على ما رأى باشلار[2]، فالوطن هو ركننا الثّاني، والحاوي لكوننا الأوَّل، إنّه يحمل ماضينا ونعيش فيه أحلامنا، ويوميات حاضرنا.
والنَّظم في الوطن لم يبارح الشِّعر على مرّ العصور، وقد استأثر بنصيب وافرٍ من التّراث الشّعري العربي القديم عمومًا والحديث خصوصًا، لأنّ الشّاعر الحديث عاش همّ مجتمعه، وتأثّر بجملة من القضايا المُلحَّة في وطنه، وهو من خلال شعره، يؤسِّس لمشروع تغيير ينطلق من رؤية جديدة، “تتماهى مع الفعل تجاه الحياة وآفاقها الجديدة”[3].
- الشِّعر والشّاعر
قاسم حدّاد شاعر معاصر من البحرين، ولد عام 1948، شارك في تأسيس أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين “، تولّى رئاسة تحرير مجلّة كلمات التي صدرت عام 1987 ، وفاز بجوائز عديدة كما تُرجمت أشعاره الى عدد من اللغات الأحنبيّة، له تجربته الانسانيّة والجماليّة، يقول في الكتابة أنّها “إعلان بالغ الصدق والمجانية، بأنّ ثمّة حياة جديرة بأن تُعاش بالشرط الكوني والجمال والحرّية التي ستشكل الحلم الأبدي للإنسان، والشّاعر هو من بين الكائنات المعنية بالحفاظ على شعلة هذا الحلم متأجّجة ومحتفظًا بها في الشغاف”[4].
لن يرد الكلام على سيرة شخصه وتتبُّع مساراتها؛ ولكن اللّغة الشعرية بالاعتماد على الأسلوبية في قصيدته ( الصهيل زز الصهيل) هي المفتاح لمغالق شعره، ولتتبّع صورة الوطن في قصيدته ، ﻓ”العلاقة بين الشِّعر واللغة علاقة جدليّة، تجعل كلًّا منهما لازمًا للآخر وواجب الوجوب لنموّه ورقيّه”[5] باعتبار الأسلوب هو الشخصية والنص الشعري شفرة لغوية ذات نظام متداخل ومتشابك ، ينبغي فك رموزه ابتداء من الأصوات مرورا بالألفاظ والتراكيب ولكن لا بدّ من الإشارة إلى بعض أمور تدخل في صميم التجربة الشعرية، فهو شاعر وَسَم نفسه ﺑ”القلِق” وقد ضاق عليه الاطار التقليدي للقصيدة، فخرج على الحدود المقنّنة، ولكنه لم يخرج على الموسيقى، فقد اعتبرها الحاكمة للكون واستعاض – ﻛ”اجتهاد ابداعي”[6]– عن الإيقاع الخارجي بإيقاع داخلي، لكنّه على الرّغم من ذلك، لم ينفِ مشروعيّة بحور الخليل وأوزانه، ودعا الى عدم الاستهانة بما تتيحه اللّغة العربيّة من إمكانات لا متناهية، من حيث الخلق الموسيقي في النّص، فالموسيقى هي طبيعة أشياء العالم والحياة[7].
وإذا كان “الابداع يكمن دائما في ابتكار الطريقة لا في اجتياز الطريق”[8]، فإنّنا نرى شعره يتحرّك في فضاء لغويّ ويذهب الى كتابة حرّة، غير مأسورة بنوع ما أو حدود، يمتزج فيها الشعر بالنّثر، والقصيدة باللاقصيدة”[9]، وهي تعكس قوّةً شعريةً للغةٍ تبدو في معظم قصائده لغزًا، وتحمل طابع خيالٍ رامزٍ يحتاج تحليلًا وشرحًا عميقين، حتى لتكاد اللّغة عنده، تغدو كمستودع رموز يرمز بها الى أفكاره وعواطفه[10]، وقد لجأ في شعره الى الرّمز، ليعبُرَ نحو عالم يفرغ فيه قلقه وحيرته، ويعبِّر عن رؤياه وفق تجربته الشخصية، فالرّمز له يمثّل كشاعر حداثيّ، الرّغبةَ في النّفاذ الى خارج الواقع المفروض لبلوغ عوالم أكثر رحابة وصفاء[11].
الشِّعر الحقيقي مرتبط بالايقاظ[12] وقاسم حداّد ، بوصفه شاعرًا بحرينيًّا، اهتم مع غيره من شعراء نهضة البحرين بقضايا التحرّر في وطنه، فضمّنوه لفتة قوية من الواقع، واستطاعوا أن يحمِّلوا الشِّعر ما تؤمن به الجموع وتحياه، وضمّنوه مشاكل إنسان البحرين وهمومه[13]، لذلك لا نستغرب أنّ للواقع في قصائده، حضورًا لافتًا، لأنه يشكِّل نقطة الارتكاز في عالمها المعنوي، وأبرز ما قامت عليه هذه القصائد اضافة الى الايقاع والمعجم، هي الصّورة الشعرية، وما تحويه من استعارات وتشبيهات وكنايات ورموز.
سيميائية العنوان (الصهيل.. الصهيل)
يشكِّل العنوان إحدى العلامات السيميولوجية الإشهارية في القصيدة، ولعلّه ما يَسِمُها ويؤكِّدُها، وله دلالة مجازيّة إيمائيّة، قائمة على التضمين والإيحاء، وهو يفتح مجالًا لتساؤلات كثيرة: ما الصّهيل في النص ؟ وكيف يتبدّى ؟ وإذا كان العنوان والنّص يشكِّلان بنية معادلية كبرى: “العنوان: النص”[14]، فكيف تشكَّلت هذه البنية في قصيدة الصهيل وهل تكافأت وتناسبت ؟
الصهيل لغةً[15]، هو حدّة الصّوت مع بحّة وصلابة ، والصّهيل للخيل، ويُقال صاهل أي شديد الصّياح والهياج، أو بعير يخبط بيده ورجله، وهو في النّص حضرَ مصدرًا لا فعلًا، يتعالى على الزّمن وتحولاته، وهو فاعلٌ ومحرِّكٌ يتآلف مع الخطاب بدلالاته وايحاءاته وموسيقاه، ليشكِّلا جسدًا منفعلًا بكل حواسه. يتكرَّر كرنين صاخب عند نهاية كل مقطع، وكأنَّه استفزاز متسلّط على القارئ، استجاب لمنبِّه سبقه في المقطع، وله وظيفتان: إعلان ورغبة.
يستلهم النص الآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ }[16]، ولعلّ عنصر التّفسير يتعالقُ مع العنصر الدلالي للعنوان، وارتباطه بمضامين بالنّص، بحيث يبدو الصّهيل جموحًا، وصوتًا يُعلن ألَمًا وثورة، وتوقيعًا سمعيًّا يحقِّق رغبةً ، في ردِّ ظلم، أو حسمِ معركة. ويَلحظ المتلقّي في تكرارالكلمة مرّتين” الصهيل. .الصهيل” تناصًا مستترًا ، يتضمّن دعوة للقيام بالفعل ،وكأنَّ صوت استغاثة يتردّد، يتداعى الى أسماعنا، ويدعونا لادراكه. نُنصت له، فنلاحق أصداءَه ، ونحاول فكّ أفخاخه وشيفراته ، والتغلغل في كونِه الرّمزي لاكتشاف جزئياته، والتّفاعل مع لغته، علّه يُبلغنا ذاته ، ويفتح لنا مستغلقاته.
- تقطيع النص وهندسته :
يبدو النّص أثرًا أدبيًّا، التأم في انسجام مضموني، ربط أجزاء القصيدة، في تناسبٍ شكليّ بين المقاطع، وهذا التّناسب والانسجام، حقّقا التّناسق في البنية النّصيّة، المرتكزةِ على ثنائيّة الظالم والمظلوم، والتي تتحرّك ضمن إطار مشاهد، تنتهي بلازمة متكرِّرة، يفصلُ فيما بينها، سَكت أو بياض، لفِكرِ الكاتب الأثرُ الواضحُ في تكوينِ تماسكها، حيث لكلِّ مشهدٍ منها ملمحٌ لفظيٌّ ومعنويٌّ خاص.
واستنادًا الى المستويات، الايقاعيّ، والتركيبيّ، والمُعجميّ، نراها تتوزّعُ على تسع وحدات:
الوحدة الأولى (1 – 7): جنون السلطة – الوحش:
جــنٌّ يسكن الجـسد
كأن كل عضلٍ نافـرٍ ذئبٌ يطلع من الأعماق
حيث يتكوّن الإنسان
ويستوي تاجاً .. يبطش بسلالة الرعية ،
خارجـاً من طبيعته :
الوحش دليل الدم / هديل البوصلة
هذا هو الصهيـل
تتماسك هذه الوحدة بترادف معنوي للفظة وحش (جنّ – ذئب)، تتساوق مع لفظة (إنسان –تاج)، وأفعال (يطلع – يتكوَّن – يستوي)، واسم الفاعل (خارجًا) – ليتبدّى وحش السلطة، نافرًا في المقطع، من كل صوتٍ، وكلمةٍ، وجملةٍ، وتركيب.
الوحدة الثانية (8- 14): جوعُ السّلطة يتغذّى من هيكل الوطن:
جــوعٌ كاسرٌ يتـفصّد في صلصال الهيكل
لكأنك تلمح فضتـك الذهبية تنـتقـل ، كمشكاةٍ ،
من جسد النار إلى آنـية اللهب .
جـوعٌ كافـرٌ
مثل زئبقٍ يمنح الصدر شهوة الأوسمة :
غفلة اليقين / غـدارة البوصلة
هذا هو الصهيـل
نسقُ النّظم يتشابه والمقطع الأول، الّا أنّ الاستبدال يطرأ على مستوى الاختيار، والتأليف. الكلمة الأساس هي “جوعٌ”، وحركته تظهر، من خلال معجم دالّ على التغلغل والانتشار (يتفصّد، في، صلصال، الهيكل، تنتقل، من جسد – إلى آنية ، كمشكاة، زئبق، شهوة)
الوحدة الثالثة (15 -21) احتقان:
جــرس الماس يـنـهر الأرض
كي ترفع أحلامها عالياً مثل طفولةٍ في التـرك ،
فيما تشحذ العذارى أعضاءهن المكبوتة
لمكافأة الشهداء على ذهابهم الفاتن
وغواية كتيبة الغزلان لئلا تخطئ خطيئتها:
جـنـة الليل / خديعة البوصلة
هذا هو الصهيل
يُلحظ تغير في نسق الكلام، حيث يأخذ بُعدًا دالًّا على أرض خصبة بالاحتقان: (الماس، الأرض، طفولة في الترك،تشحذ، المكبوتة، غواية…)، يقابله معجم لا يبشِّر بتحوّل أو تغيير (تخطئ، خطيئتها،الليل، خديعة. .).
الوحدة الرابعة (22 – 28) نومٌ واستسلامٌ في المكان (المحراب، خريطة، مدن) :
جـنـةٌ تمزج ثلجة المحراب بحجارةٍ أكثر جمالاً وقدسيةً.
تـدل النائم على ذخيرة المخيلة
وتفتح الرقص في خريطةٍ مستسلمةٍ
فتبدأ مدنٌ تتـلفع بالذعر كأنـها العدو
هروباً من المستقبل :
شكيمة الحلم / اقتراح البوصلة
هذا هو الصهيل
هذا المقطع يتكامل معنويًّا مع المقطع السّابق، أولًا من خلال تكرار لفظة “جنّة”، وثانيا باستمرار العجز الذي يتبدّى في معجم اليأس: (النائم، ذخيرة المخيلة، مستسلمة، تتلفع، الذعر، العدو، هروبا من المستقبل، شكيمة الحلم…)
الوحدة الخامسة (29-37) :أحوال النفس الظالمة :
مشدوخٌ بشهوة الأسئلة وهي تنهض من المـذلـة ،
فيصاب بهيبة التهدج .
سناجبه تكنس القطيفة بفروها الأليف .
مضى عليه وقتٌ في نعمة الوعد
ولم يـرخ حواسه لسماع الكلام ،
ما إن تقال له الكلمة حتى يتفصّد النحـل من كتفيه
مثل بوصلةٍ تسأم مجد التيه / نجمـة المعسكر
هذا هو الصهيل
في هذا المقطع اعتمد الشاعر معجمًا واسعًا دالًّا على الغرور، والرياء، والعجب، والكبر: (جوخ، تهرأ، مشدوخ، شهوة، الأسئلة، المذلة، سناجبه، القطيفة، يرخ، يتفصّد،…)، وهو ما أدى الى تماسك الوحدة.
الوحدة السادسة (38 – 47) موتٌ وخوفٌ يحكمان البلاد:
جثـةٌ تمرح في ذاكرة الناس
مشمولةٌ بغنج المـؤامرات
موصولةٌ بجسدٍ يتـفـلت من تاريخٍ لـه موهبة الميزان
وغيبوبة الطريق .
جسدٌ لم يخـلـع درعه الأخير
مثل حصنٍ ساهرٍ يتبادل أنخاب الجليد في هدأة الوحشة
وما إن تـدير الجثـة رأسها ناحية المشهد
حتى يختلـج الكلام في الصدور .
أول الصوت / آخر البوصلة
هذا هو الصهيل
يلحظ في هذا المقطع استهلال بكلمة “جثّة”، يليها انتشار لمعجم دالٍّ على التشبّث بالحكم: (تمرح، ذاكرة، مشمولة، المؤامرات، موصولة، لم يخلع، درعه، حصن، أنخاب،. .)، ويقابله معجم دالّ على الخوف: (الناس، الوحشة، المشهد، يختلج، الكلام، الصدور…). تترابط الأسطر نحويًّا، ويعزِّز تماسك دلالتها سياقُ الكلام.
الوحدة السابعة (48 – 64): ضياع الطريق في جحيم يسمّونه بلادًا:
جـحـيمٌ يسمونه بلادا ً ،
حينـاً يقال له الوطن ،
وغالباً يحمله الشخص مثل خيطٍ من الأوسمة :
زينة الضريح . جنازة الأمل .
قيل إنه الوقت والمكان
يتراءى مثل الحلم فيما يكون وهما ً
يتمارى فلا تدركه البصيرة ولا يطاله الكلام
لن تعرف ما إذا كنت سيداً في هذا الجحيم أم عبداً.
ليس لك أن تقول باللغة
وما إن تقول بيدك حتى ينالك القصل
ففي الجحيم ، الذي لا تسبقه جنـةٌ و لا تـليه ،
أنت في المـهب
مزاج الريح يعصف بك
ومزيج الحرية يدفعك إلى التهلكة.
في المهب ، ترى إلى نفسك :
سيداً يهذي / رقيقاً يتملـكه الحلمة
هذا هو الصهيـل
الجملة الأساس تبدو كعنوان يحوي مرامي المقطع الدّلالية ، تتماسك الوحدة نحويًّا ومعجميًّا، فنلحظ دخول ضمير المخاطب المفرد متعيّنا به المواطن، وورود أفعال مضارعة في صيغة النفي بشكل كبير، تعزّز غياب الوطن: (لا تدركه، لن تعرف، ليس لك أن تقول، لا تسبقه، لا تليه)، يؤازرُها أفعال قولٍ في صيغة المجهول: (يقال، قيل)، وألفاظٌ وتراكيبٌ دالّة على ضبابية الرّؤيا، وضياع الطريق، ووهم الوطن: (جنازة الأمل، زينة الضريح، يتراءى، يتمارى، عبدا، القصل، المهب، مزاج الريح، يعصف، التهلكة، يهذي، الحلم…).
الوحدة الثامنة (65 – 76): بين أغلال اللغة ونار الكلام:
جمـرةٌ ، شهـقـة اللغة ،
وقيل إنها تميمة المـجـدف ممعنا ً في غواياته .
تهتاج ، فيبدأ النواح يوزع سرادقه
فضاءً يـزخر بأشباحٍ تـزعـم أنها الناس .
تئج مثل خبيئة العاشقة
يكتـظ بها الأسرى ويطيش لها عقل الطغاة .
قيل إنها كلام النار للغابة
وكلما جاء ماءٌ ، صـعد الأوار واشتعلت ضراوة النحاة:
جمرةٌ . نارٌ . كلمةٌ / لا نهائية النص
بصرةٌ . كوفةٌ . كتابةٌ / نهضة البوصلة
هذا هو الصهيل
تتماسك الوحدة بانتشار مُعجم دالٍّ على اللغة : (اللغة، الأسنان، الحنجرة، المجدّف، كلام،، النحاة، كلمة، النص، بصرة، كوفة، كتابة)، يقابله معجم يتعلّق بالنّار: (جمرة، تؤج، النار، الأوار، ضراوة).
الوحدة التاسعة (77- 86): وجودٌ مُغتصَب:
جنـسٌ يئن تحت عريشة اللذة
وأنتم حوله تطغون بقصباتكم المثقوبة
في عزفٍ مثل جوقةٍ
ينقبض و ينبسط يشد و يرخي
يشهق ويطاله شبـق الموج والجنون .
تطلبون لقصباتكم بهجة العظم لتخلطوها بفضة الهيكل
يتخبّط ويتلمّظ يختلج ويخرج ،
فتصابون بهلع المرأة في مخاضٍ وثكلٍ
مثلما تخضع جهات الروح للبوصلات الفاتكة
هذا هو الصهيـل.
يلفت تغيّرٌ بدخول ضمير المخاطب الجمع، إلى جانب ضمير الغائبِ، العائدِ الى السلطة، واستخدام مُعجمٍ جنسيٍّ، تتماسك به الوحدة وتتجانس: (جنس، اللذة، ينقبض، ينبسط، يشد، يرخي، شبق…).
- بنية النص الدّلاليّة :
تتألّف قصيدة الصهيل من 86 بيتًا، موزّعة في توازٍ لافتٍ على تسعة مقاطع، وكلّ مقطعٍ يتشكّل من خلال جُملِه الشِّعرية، مشهدًا قائمًا بذاته، يزخرُ بصخبٍ، تشترك فيه حواس الانسان، ويضجُّ بدَفقٍ لغويٍّ ظاهرٍ، يُحيل الى تعقّدٍ دلاليٍّ واضحٍ، تتراءى فيه الحركةُ، ويُسمَع الخطاب، فتتجاوز الصّورة حدَّها البيانيّ، وإن تأطَّرت في مقطع. وإذا اعتبر بعض النّقاد أنَّ الكتابةَ بالصّور هي بمثابة “المحوري الذي تُبنى عليه القصيدة المعاصرة بأسرها[17]، ففي كلّ مشهد من قصيدة “الصهيل” تتجمّع صُوَر دراميّة وصفيّة حسيّة، تجعل المتلقّي يتجاوز القراءة العاديّة للنّص، نحو امتلاكِ خبرةٍ حسيّةٍ فيه، وتُغريه للتسلّل الى نظامه المُغلق، بهدف القبض على المعنى الكامنِ في سمات التّعبير. وباعتبار”البنية الدلالية وكأنّها إدغامٌ تقديريّ، لكن بشكل كامل للفئات السماتية”[18] ،فهي تتمظهر في النص بين عالمين متقابلين (الظلم والعجز \الحرية والثورة)، وتتمرأى كمراجعة نقدية لاذعة للواقع، تعرض في عناصرها – تعبيرًا ومضمونًا – استبدادَ رجل السلطة، والقهروالمذلّة الذين يستهدفان الفرد، والجماعة كرعيّة (السلطة ǂ الرعية)، وتفتح الأعين على عيوب الحاكم، كما تُظهرالمشاعرَ المكبوتةَ في أعماق الانسان في لاوعيه ، وهي تتأرجحُ بين فعلٍ وردّ فعل، يتجلِّيان عند فاتحة كل مقطع في كلمة ، وعند نهايته في لازمة، تختصران ثنائيّة القصيدة، وعلى ضيقهما يفتحان أفق التّأويل على مداه: (جن، جوع، جرس، جنة، جوخ، جثة، جحيم، جمرة، جِنس) وبعدها: (هذا هو الصهيل)، ک(تشاؤم الفكر وتفاؤل الارادة) كما يعبِّر المفكر الايطالي الماركسي أنطونيو غرامشي Antonio gramsci[19]. الصّهيل في النّص هو الموقف المتجسِّد المتألِّم المناهض: ” وجودك في العالم يعني أن يكون جسدًا أو أن تتجسَّد”[20]، ويعبِّر عن طموحِ الانسانِ لتجاوزِ القيود، والبوصلةُ التي تتلازم معه، ما هي إلّا رمزٌ، ودليلٌ يهدي من ضلّ. بالصّهيل يفتحُ الحدود التي تفرضها دغمائية المقاطع بمضامينها ، للتّحرر من أُطر الزّمان والمكان البارزين فيها، كما يبتيّن ذلك من خلال المؤشّرات الدينامية التي تتماسك في النص، لتخلقَ مؤشِّرًا نهائيًّا، يتبدّى نداءً حادًّا للتّجاوز وللحرّية، وفِعلاً يستنهض العدالة لأنّ الكلام في نظر الكاتب الملتزم هو في مقام الفعل الذي يغيِّر العالم عندما يعرّي فيه نواقصَه، فالكشفَ يسبق إرادةُ التغيير[21]. الفعل وردُّ الفعل، كما جدل السّكون والحركة، ثم الاستسلام والاندفاع، وغيرها من تضادات في النّص، عبّرت عن ثنائية متبادلة (العجز/ الحرية)، حيث لا غلبة لواحدٍ على الآخر، بل هما يسيران في ثباتٍ تأليفيٍّ ودراميٍّ حتى آخر القصيدة.
- المستوى الإيقاعي
يرى فاليري أنَّ القصيدة هي ذلك التردّدُ الممتد بين الصَّوت والمعنى[22]، إذ إنّ الشِّعر، هو المنطقة التي تتحوّل فيها العلاقة بين الصَّوت والمعنى، من علاقة خفيّة إلى علاقة جليّة، وتتمظهر بالطريقة الملموسةِ جدًّا والاكثر قوّة[23]. في قصيدة الصَّهيل يشعر القارئ بموسيقيّة اللّفظة من الكلمة الأولى، لكنها موسيقيّة حداثيّة لا تعتمد الوزن أو التفعيلة عنصرًا أساسيًّا في الإيقاع، ولعلّه تحرّر جذريّ مما يسميّه كامو “السلسلة المكبِّلة” التي تلزمه كنظام بالخضوع للمعتاد والسائد، فهي كعنوانها، قد انحرفت عن النَّمط العادي والأطر المعروفة، متجسِّدةً في اللّغة بمستوياتها الدلالية والصّوتية، كخصيصة عبّرت عن طريقة الشَّاعر في رؤية الأشياء[24] ودفع الظليمة، بحيث إنّ لكلّ كلمة رَنينًا ماديًّا ومعنويًّا، ولها نكهة حسّيّة تثير القارئ ليتفاعل مع علاماتها السيموطيقية وإيماءاتها، التي هي مصدر لذائذ كثيرة[25] ، ولذّة قصيدة الصهيل أنّها جسدٌ بكل حواسه وذاكرته ، ينتقد ويصهل ويغوص في قضايا الحاكم والرَّعيّة، وإذا تأمّلنا القصيدة، نجدُ أنَّ موسيقاها ترتكز على بنية التكرار: (الصوتي، اللفظي، الجملي)، وعلى بنية التّوازي والتّوازن التركيبي ،وعلى تشاكل الاصوات وشدّتها:
التّكرار:
تناهى الى أسماعنا من النّص إيقاعُ تّكرار لفظي وصوتي تشكّل من :
- إيقاع الصّهيل عنوانًا ، ولازمةً متكررة:
تعتمد بنية القصيدة لما فيها من خصيصة وصفيّة، وشبكة معقّدة من الاحاسيس – التي ربّما قد خضع لها الشاعر في لحظة معيّنة – على الأصوات، وتبرز فيها خصائص تنغيميّة، للصّهيل الدور البارز في جوّها، وينسجم مع سياق العبارة، فتصدح الموسيقى من حروفها، كما يتجسّد المعنى بشكلٍ واضحٍ، حيث أنَّ جرسها الموسيقيّ، يجعل القارئ يتراسلُ معها ويتصوّر غرض الصوت المتجلّي فيها: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚقَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}[26]. صيغةُ لفظة” الصّهيل” لها مِزيةٌ صوتيٌّة ، يتجلّى في صَداها الّذي يهيمن طوال النّص، وتظهر قيمته الوظيفيّة في التّكرار أوَّلًا، وفي التّركيب ثانيًا الذي يبرز مقصديَّة الشّاعر ورؤيته. تتداعى كصوتٍ يطلب النَّجدةَ في فزع، أو إنقاذًا من رهبة، أو للاستعانة على العدوّ الظّالم، تصدح وكأنّها نتيجة خوفٍ نازلٍ، أو تشبُّث بالخلاص، ولا بدّ للقارئ أن يلحظ أنّ “إيقاع الكلمة يعتمد على توازن عناصرها القائم على مبدأ التعارض الثنائي”[27] ، فصوت الصّاد اللّثوي الصّفيري، قد صُنِّف شعوريًّا، لجمال صوته، ولما يثيره في النفس من إيحاءات، النقاءَ ،والبراءة،َ وقوّةَ الشكيمة، ونبالة روح فروسية[28]، ولما فيه من نبر وصخب واستعلاء، و”من أثرٍ مُشاهَدٍ يُرى،وهو الصعود الى الجبل والحائط”[29]، يتقابل مع الهاء المتّصف بالهمس، المتعلّق بياء المدّ بما فيها من خفضٍ وانكسار، يخلق صيغةً ثنائيّة، ترسم بفعاليّة دورًا في إيقاع النّص وموسيقاه، وهذا الإيقاع الممتدّ في استمراره وطوله، استقر وتمكّن في حرف اللام، ولقد ورد ” الصهيل “في تسعة مواقع من بين تسعة مقاطع، مترافقًا مع اسم الاشارة(هذا)، وضمير االغائب المفرد(هو) كمرجع و”إحالة”[30]. كان لترداد هذا التركيب (الإحالة + المحيل عليه)، التأثير الواضح من خلال سماته الصوتيّة والنبريّة التي تعبِّر عن فكرة الشاعر، وتعلن انفعالاته، بحيث تظهر كصرخةٍ حقيقيّةٍ للنهوض أو للاستنجاد، أوشعورٍ بالاختناق حدّ الصّراخ. وهو في كلّ مشهدٍ، يُحدث نغمًا يرتبط بانفعالٍ جديد، ورابطًا بين مقاطع القصيدة جميعها. “قال طاغور شاعر الهند: “حين أفكِّر في الغبطة التي تبعثها الكلمات في عِطفيّ، أدرك قيمة الدّور الذي يؤدّيه الجرس اللفظي والقافية في القصيدة، لأنَّ الكلمات تفئ الى الصّمت، ولكنّ موسيقاها تظلُّ ممتدّة، ويبقى صداها موصولًا بالسّمع”[31].
- ايقاع التّوازي التّركيبي، وايقاع البوصلة:
يرى النّقّاد أنّ للتّرجيع الصّوتي أثرًا واضحًا، في التّركيز في أهمّية دلالة الأمر لدى المتلقّي، ويطالعنا في الخاتمة تواز تركيبيي (مبتدأ + مضاف إليه \ مبتدأ + مضاف إليه)، يتضمّن تكريرًا لفظيًّا(البوصلة)، يحاول الشّاعر بها أن يرسم خارطة الطّريق، وأن يصوِّب المسار، و يوقظ النِّيام بجرسها، وبرنين الصّهيل بعدها، فيؤشِّر إليه، ويصوِّب عليه (هذا هو الصّهيل)، وقد صارا معًا كرنّةٍ موحَّدةٍ لافتةٍ، حلّت محلَّ القافية. هذا التّوازي أضافَ تماسكًا الى بنية النص، وكصوتٍ رئيس رسّخ الانسجام له، ثمّ كنغمةٍ وصفيّةٍ، جسّد المشاهدَ والصُّور، في ثنائية ضدّية واضحةً شكلاً ومضمونًا ،وممّا لاشكّ فيه أنّ لفاعلية التّضاد أبعادًا في اثارة إيقاع متميِّزٍ، مبنيٍّ على التّوتر، فكلَّما زاد التّضاد كَبُر التّوتر[32]، ومنه يتألّف خيالٌ موسيقيٌّ حسّي، يتسلّط على الحرف، وعلى الكلمة، وعلى التّركيب، يجذب خيالَ المتلقّي، فتصبح المخيِّلة وكأنّها خزانة المعرفة الحسية[33].
ج- إيقاع التكرار الصوتي لعتبات المقاطع وجرسه وإيقاع التجمّعات الصوتية
لمّا كانت”القوة التعبيرية للكلمة المنفردة، لا تتأتّى من معناها وحده، بل من طبيعة شكلها الصّوتي أيضًا… فإنَّ التّكرار الصّوتي يقوم بمهّمة الكشف عن القوّة الخفيّة للكلمة”[34]. ولقد خدم هذا التّكرار النّص، بما له من ملمحٍ أسلوبيٍّ لافتٍ فيه، منسجمًا ومتناسبًا مع بنية القصيدة الدلالية، زد على أثره الإيقاعي. ويلفت المتأمِّل في النّص الفاتحة المقطعية المتواترة كالتالي: جنٌّ..جوعٌ. جرسُ.. جنّةٌ.. جوخٌ.. جثّةٌ.. جحيمٌ. .جمرةٌ..جنسٌ. يترسّخ عند القارئ، أنَّ لهذه المتكرّرات تأثيرُ المتماثلات الصّوتية فيها وفيه، فقد شكَّلت إطارًا تنغيميًّا، وقيمةً دلاليًّة حتّى تمام القصيدة. بدأت الكلمات بصوت الجيم، وهو حرف شجريّ مستفِل مجهور شديد، صفتُه القلقلة ، ينحبسُ النّطق به لقوّته، وذلك لقوّة الاعتماد على مَخرجه، وله نبرةٌ قويٌّة[35]. هذا التّحليل الصّوتي، يتماهى مع مدلول الكلمات وشحنتها التّأثيريّة، وهو يعكس وَحشة المعنى وظلمه، يُضاف اليه تكرار التّنوين الذي هو لون من ألوان الإيقاع المؤثِّر في النفس، والحاملِ قدرًا كثيرًا من الرّنين الصّوتي، وهو يتبدى رنينًا صاخبًا كصخب الكلمات، بما توحي إليه من جنونٍ، وفقد،ٍ ورياء،ٍ وشهوة، يؤكّده التّكرار والتّوازن، فيتناسق إيقاعُه متلائمًا مع الموضوع، من حيث القوّة والجرس الصوتيُّ المدوّي، المنبثقِ من الألفاظ بحروفها، والخواتيمِ بشدّة جرسها، فكأنَّ الشّاعر أراد أن يرسم بذلك وجوده، فيستصرخ الحروف ، حتى تخرج بانسياب قويٍّ واندفاعٍ هادر، وإلى هذا يشير الشّاعر الصيني القديم “لوتشي” فيقول عن مهمة الشعراء “هم الذين يصارعون الوجود ليجبروه على أن يمنح وجوًدا، ويقرعون الصّمت لتجيبهم الموسيقى[36]. هذا الصِّراع يظهر بوضوح في نصِّ قاسم حدّاد، حيث بنية النص الايقاعيّة تتألّف من عناصر صوتيّة و إيقاعيّة متداخلة، بين جهر وهمس، تتَّصل اتّصالاً وثيقاً بالمعاني، كما تُبرز تعبيريّةُ الحروف وإيحاءها ،ولعلّ مردّ ذلك الى أنَّ مادّة الکلمة هى الحروف. وإذا كان العرب “جعلوا الصّوت الأقوى للفعل الأقوى والصّوت الأضعف للفعل الأضعف”[37] ، فقد سيطر على النّص إيقاع صاخب يتلاءم مع دلالة صوتية ،تحفَلُ بالرّنين القويّ لأصواتٍ كأنّها تنضح جهرًا وقوّة، وتبدو لها سيطرة بارزة تجذبُ السَّمع إليها.
والشاعر استغلَّ تكرار هذه الحروف أحسن استغلال، ومن الحروف الصّامتة المجهورة التي استخدمها، حرف العَين (عضل، الرعية، طبيعته، جوع، عاليا، العذارى، تتلفع، الذعر، يخلع، درعه، المرعوشة …)، وهو يتكوّن من تضييق الفراغ الحلقي من فوق الحنجرة، بحيث يُحدث تيارٌ هوائيٌّ، احتكاكاً مسموعاً في المضيق الحلقي، ويتذبذب الوتران الصوتيان في أثناء إنتاج هذا الصّوت، وهو صامت، فموي، حلقي، احتكاكي، مجهور المعنى، ويُسمع له صوت اندفاع الهواء بقوّة في الماء[38]. كما حرف القاف: (الأعماق، زئبق، اليقين، الرقص،، المستقبل، قلامة، جوقة، ينقبض…)، وهو صوت يصدر عن شقِّ الاجسام وقلعها دفعة[39]، ويفيد الشِدَّة، والاصطدام. هذه الحروف وغيرها مما ورد في النّص، أقيمت شحنتُها الموسيقيّة على مجموعها لا على إفرادها، وعلى تكرارها السّمعيّ والبصَريّ.
ولا يغيب إيقاع الهمس عن النّص أيضًا، والقارئُ سيلحظ سُلطة حروف (س/ ش/ ص/ ح/ ف)، بشكل غير اعتيادي بما لها من طاقة إيقاعية، ومن دويّ في النفس على همسها،(جوع كاسر يتفصّد في صَلصال الهيكل/ مزاج الريح يعصف بك/ سناجبه تكنس القطيفة بفروها الأليف/…)، يرافقها موسيقى متصاعدة من المبالغة التي تكوّنَ النبرُ فيها على الحروف المشدّدة، ممّا يعطيها جرسًا متسقًا ،ونغمًا صارمًا مشدَّدًا، يؤدّي مهمّة الإعلان الصّريح عن المراد في تأكيد الحقيقة (يتكوّن، غدّارة، فضّتك، يتفصّد، أعضاءهنَّ، جنَّة، التهدّج، حواسَّه، يكتظٌّ…)، زد على ذلك توالي حروف المدّ بفَيضها الشّعوريّ، يرافقها جناس ناقص في مواضع عدة، وتماثل في جمل متعدّدة (دليل، هديل، نافر، كاسر، صلصال، الماس، جوخ، مشدوخ، مشمولة، موصولة، ساهر، مزاج، مزيج،النواح، النحاة…)، أو قلب مكاني (يتفصّد، يتصفّد، الريح، الحرية،…)
لا ينفي إبراهيم أنيس عن المعنى، أن يتناسب مع معطيات الدلالة الصوتية التي “تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها”[40]. في الصهيل قام حدّاد باستنطاق اللغة بالإيقاع، والإيقاع باللغة، معتمدًا منظومة من العلاقات الأسلوبيّة والبنائيّة، بحثاً عن موسيقيّة تنبع من بنية النّصّ، ولا تستند على آليات الوزن، والقافية المعروفة، بل على تعالقٍ غير معلنٍ، بين الصّوت والدّلالة، على نحو جعل نصّه ذا خاصّية إيقاعيّة سهلة ممتنعة.
- المستوى المعجمي:
يقول الجرجاني: “النّظم والتّرتيب عمل يعمله مؤلِّف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها”[41]، أمّا الرّازي فقد ذهب الى القول، إنّ الألفاظ ما وُضعت للدّلالة على الموجودات الخارجيّة، بل وُضعت للدّلالة على المعاني الذّهنية[42]، والنص الأدبي يفرزُ أنماطَه الذّاتية، وسننَه العلاميّة، فيكون سياقَه الدّاخليّ هو المرجع لقِيَم دلالاته، حتى لكأنّ النّص هو معجم لذاته[43]، يحفل بالكثير من القرائن الحاليّة، والمقالِيّة التي تعطي الكلمة من المعاني، ما لا يرِدُ على بال صاحب المعجم”[44]، وله الدّور الأكبر في التوجيه نحو حقيقة المعنى، واستبعاد التكهُّن. وفي قصيدة الصَّهيل، يشتمل معجم الشاعرعلى معاجمَ عديدة، حقّقت اتساقًا للنّص من خلال استمرارية المعنى، وكان لها الدورالكبير في بناء الفكرة الأساسيّة للنص، عن طريق التّكرار لفظا ومعنى: (تكرار لفظي، ترادف) أولا، وعن طريق التّضام (تضاد، وحدة الموضوع) ثانيًا:
معجم الغابة :جنّ، ذئب، الوحش، الصهيل، هديل، كاسر،الغزلان، سناجب، النحل، أشباح، غابة، ماء، ريح
معجم الانسان: الجسد، عضل، الانسان، يتكوّن، الدم، صلصال،النائم، حواس، الشخص، البصيرة، الناس، العاشقة، الأسرى، الطغاة، النحاة، المرأة
معجم المُلك: تاجًا، سلالة، رعيّة، الأوسمة، هيبة، التهدّج، القطيفة، مجد، المؤامرات
معجم الطريق: البوصلة، دليل، التيه، نجمة، ناحية المشهد، البصيرة،المهب، جهات الروح
معجم اللغة: الكلام، تَقل، اللغة، قلامة اللحم، الاسنان، الحنجرة، النّحاة، بصرة، كوفة، كلمة، كتابة، النص
معجم المكان والسَكَن:
- مكان دنيوي: الهيكل، الأرض، المحراب، خريطة، مدن، الوطن، المعسكر
- مكان معجز: الجسد، جنة، جحيم
معجم (ظلم الحاكم/ تيه الرعية):
- الأسماء: جوع، شهوة، غفلة، تتلفع، تهرأ، يصاب، غدارة، المكبوتة، خديعة، مستسلمة، الذعر، العدو، هروبا، المديح، المذلة، التيه، المؤامرات، وهم،عبدا، القصل ، المرعوشة، الجنون ،هلع، الفاتكة…
- الافعال: يبطش، يتفصد، ينهر، تشحذ، يختلج، يهذي، يطيش، تطغون، تخضع…
معجم الموت: الشهداء، الجثة 2، الضريح، جنازة، النواح، التهلكة، ثكل
معجم النار: جمرة2، تؤجّ،النار2، الأوار، اشتعلت
معجم جنسي: شهوة 2، أعضاءهن، غواية، غنج، غواياته، جنس، اللذة، ينقبض، ينبسط، يشدّ، يرخي، يشهق 2، شبق تشكِّل اللغة النظام المركزي الذي يعبِّر عن كل المظاهر الثقافية، (الثقافي لا يقابله الجهل بل الطبيعي)[45] االتي تعني تحوّل الكائن، من الطبيعي الى واع بهذا الوجود، أما الوحدة اللغوية (التي تسمى اللفظ) فهي ظاهرة مزدوجة، ليس من جهة أنها تدّل على ارتباط بين ملفوظ أو مكتوب من جهة، وبين موجود خارجي من جهة أخرى – أي بين اللفظ والشيء –، بل هي ظاهرة مزدوجة بشكل أكثر تعقيدًا من جهتيّ الدّال والمدلول[46]. وفي بنية نصّ الصهيل، تتحوّل كل الكلمات الى علامات دالة في عملية السمطقة[47]، بحيث “يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقد السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا”[48]. وعن إدراك، وجّه قاسم حداد أحاسيسه التي تجلّت في ملفوظاتٍ، التأمت في صور استخلَصَها من “ذخيرة مخيِّلته”، لتعبِّر عن حاجاته المعتمِدة على ثنائية الواقع \ القيمة، كعلاقة جدلية، تفرز ماهيةً ووجودًا، شكّلت فواتحُ المقاطع مفاتيحَ لمعجم النّص، وطريقَ دلالاته:
(جنّ وجوع وجرس الماس وجنّة وجوخ وجثة وجحيم وجمرة وجنس)، ألفاظٌ تؤشِّر على جنوح الحاكم بأمر الشعب، وتؤطّر النّص في مشهد إرهاب فكريّ، وجسديّ، نظامُه الفظاظة والوحشيّة والاختناق.
النّص، وعبر مفرداته التى تتداخل علاقاتها، وتتآلف على اكتمال المعنى في سياقها، يشير الى الواقع من ناحيتين: ناحية الحاكم، في شكله الهستيريّ، المهيمِن والمستبدّ، وناحية المحكوم، كقيمة في شكله المستعبَد التّائه، والمذعور، والمغترِب.
هذا التمايزُ، لا ينفي التداخل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولكنَّه يُعطي بُعدًا وصفيًّا، من خلال المعجم لماهيّة كل منهما، ويُظهر سمات الدّيكتاتوريّة المطلقة، وكهَنوتية الفكر التي تفضي الى تثبيت الوعي النّاقص، وتأبيده[49].
“جوخ تهرّأ لفرط المديح
مشدوخ بشهوة الأسئلة وهي تنهض من المذلة”
من هذه الحقول نستكشف ايديولوجيّة النص، فبالنّظر اليها، وبالتّركيز على شبكة العلاقات فيما بينها لا المنعزلة، نرى السّياسة متخفيّة في ذاكرة الكلمات،، البانية لثنائيةِ الحاكم والرَّعية، فنلحظ الهيمنة لحيّز نظامٍ مستبدٍّ؛ معجمُ الغابةِ بمجمله يعود إليه، ومنه تتبدّى شريعة الغاب بعناصرها الشرسةٍ حاكمةً .
نرصد صفات الحاكم الذي ينتفي معناه الوضعي الحقيقي، ويتحوَّل الى قيمة استبدالية، تنسج داخل النّص شبكة من العلاقات المغايرة، مع كلمات مثل الذئب، والجن،وكاسر، وسناجب و ريح تعصفُ بمزاجها، وتقلِّبُ أمورالرعيّة، وفق ما تشتهي (مزاج الريح يعصف بك) وما ترغب، تجسّد الظلم أفضل تجسيد.
وحدها الغزلانُ المقترنة بالشهداء، كعلامة رامزة على خصبٍ وتجدّدٍ – قرون الغزلان تعاود الإنبات كل عام في الربيع وهي في المسيحية رمز للخصب الروحي[50] – تنجو. ولكنها تبقى في ظلِّ خطر انحرافٍ، أمام مغريات الواقع أو ضلال، لاقترانها بـ”غواية” ،ولتلازمها مع الخطيئة:
“…وغواية كتيبة الغزلان لئلا تخطئ خطيئتها”.
أما البوصلة كمضافٍ الى ألفاظِ تيهٍ وعجزٍ: (غدّارة، خديعة، الفاتكة…)، والتي يُفترض أن تمثِّل إشراق الاتّجاه، تخادع وتحوِّل الطريق عن المقصد القويم، ليبقى الشعب في المهبّ، تحرِّكه رياح النّظام، وترميه في مصير أقلّه غدر، وأوسطه فتك.
تكثيفُ الأفكار واضحٌ في السّطور، في مفرداتها ورموزها، وفي لا وعي مبدعها، “حيث اللاوعي متفلِّت على الدوام، ويعود في شكلٍ جديد، مختفّيًا وراء بلاغية اللغة، نتيجةً لرقابة الأنا الأعلى التي تمنعه من الظهور لأنه عالم الشّهوات والرّغبات”[51]
“جنّة تمزج ثلجة المحراب بحجارة أكثر قدسية وجمالا
تدل النائم على ذخيرة المخيلة
وتفتح الرقص في خريطة مستسلمة”
يعتمد الشاعر على مادّية اللغة، وعلى طاقتها الكامنة في التّكثيف، فيثيرُ من خلالها الأسئلة التي تثير عند القارئ الإشكاليات. يسعى بتعرية الواقع، الى هدم دغمائية الخوف الحاكم على الفرد بفِعل القهر، والغالبِ على العقل بفعل النّوم الذي هو من سلالة الموت، بل أشدّ منه فتكًا، كفعل إرادي يجمّد الفِكر، بعكس حقيقة الموت التي لا إرادة فيها.
الغلبةُ على العقل، تحصّنت بقداسة متجذِّرة،وأخذت مشروعيَّتها مما يسمى بالدّين، وهو مخروط رأسه المحراب[52]، قديم وراسخ في الأذهان، يكتسب من القدم صفة العراقة التي تضفي عليه مشروعيّةً، لا يجوز المساس بها أو الاقتراب منها، لأنّها مشروعيّة مقدّسة[53]، ولعلّنا وبالعودة الى مفردات المقطع الأوّل والتي شكَّلت فيما بينها، علاقةً وتوليفةً دلاليّة، تشيرُ الى جذور متأصِّلة التكوين لطبائع الاستبداد (الأعماق، يتكوّن، طبيعته).
“جثة تمرح في ذاكرة الناس
مشمولة بغنج المؤامرات
موصولة بجسد يتفلّت من تاريخ له موهبة الميزان وغيبوبة الطريق”
هنا مُعجم الموت يجعل الحاكم والوطن في خانة واحدة، فالحاكم جثّة، متعلِّقة بلفظتي ” ذاكرة ” و”تاريخ وسمه بالتيه والضياع، وكلاهما دلالتان على قدم الحدث. وبلحظ اسمي المفعول “مشمولة” وموصولة”، نتبيّن ديمومة الحال وتفشّيه، فهذه الجثّة كسيمة موت، تحييها المؤامرات، فلا تخلع درعها الأخير، لكي يبقى الحاكم صامدًا كنظامٍ، ويمرح كما يشاء في الأذهان رغم موته كفعل . ولكنَّه جثّة قادرة، تحرّك مسارَ الرعية بنظرة واحدة، وتخنق الكلام في منبته وتميته:
“وما إن تدر الجثة ناحية المشهد
حتى يختلج الكلام في الصدور
أول الصوت/ آخر البوصلة”
ولأنّ “تقاويم حياتنا قوامها الصّور”[54]، يصيرُ الوطن خيبةَ الحلم، وظلم التكوين (زينة الضريح وجنازة الأمل)، وجحيمُ الوجود الذي يتناوب معجم النار:(الجحيم، أوار، جمرة، النار) على إشعاله، ومكانٌ تؤرِّخ صور النص فيه، للقمع،وللألم، وللموت.
وحيث إنّ فعل الايجاد تحقّق في القرآن الكريم بفعل ” كن”، والبدء كان الكلمة في إنجيل يوحنا، فهذا يعني أنّ للكلام دلالة وجود وحرّية، إلاّ أنّ معجم اللغة في النص، بدا مغلولًا كما اليد المغلولة، ومصيرهما قصلٌ، في ساحِ حريقٍ لا يهدأ أوارُه، عبر معركة نحاة الكوفة والبصرة، الحاضرة في النّص حضورًا دلاليًّا وفكريًّا وسياسيًّا، تحيل الى تعصّب، وتمذهب، لا نهاية لهما .
وفي تسلسل منطقي، تصبح الكلمة مرعوشة، وعالقة في الحلق بين الأسنان والحنجرة، أو جمرة تشتعل نارَ فتنة، تشتدّ باستمرارٍ ضراوةُ أوارها، ومقابل ذلك يجعل الكتابةَ نهضةً للبوصلة ، ولعلّه في ذلك ،جعل الكتابةَ إعقالٌ، وتبصّرٌ، وخيار حياة، تلغي النّطق وتحلّ محلّه، تتقابل ومعارك كلاميّة، لا جدوى منها سوى تأجيج الفتنة، وإشعالها.
“وكلّما جاء ماء، صعد الأوار واشتعلت ضراوة النّحاة :
جمرة. نار. كلمة /لا نهائية النص
بصرة. كوفة. كتابة / نهضة البوصلة”
في معجميّة النص، الحاكم حاضرٌ بظلمه حركيًّا، ولكنّها حركةُ هيمنةٍ واستبدادٍ لا إنتاجٍ أو حياة ، فنرى الشاعر يتقنَّع في نصّه، وبالتحديد في المقطع الاخير، بقناع جنسيّ يتبدّى في معجم وافر، يأخذنا الى مشهدٍ يصدحُ صداه في نفس القارئ عنفًا ومعاناة، يصف وطنًا مغتصَبًا، يلاحقه الخوف من مقطع الى آخر، متغلغلاً في ثنايا الكلمات، بتعبير رمزيّ، وكأنّه على ما قال هوبس” نزوع الحياة الوحيد”، ولكنّه وفي الوقت عينه وبفرادة تفرض ذاتَها، يبدو وكأنَّه تجاوز للخوف، وإرادةُ اقتدار “أنا أكتب كي لا نخاف”[55].
لعلّ المعجم الجنسي، يعبِّر عن رغبة الشاعر في التّنفيس عن القهر المكبوت، كقوّة مقاوِمة، أو كغلالة رمزيّة تعوِّض عن رهابه، وتملأ نواقصَ وجوده الحقيقي ، ﻓ”الرغبات البشرية تتحقّق عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللّغة، فإذا ما عبّرت الرّغبة عن نفسها ضمن اللغة، كان ذلك بين السّطور وتكون مُمَثَّلة من طرف دوال تجهل الذات حتى أهميتها” [56]. يبرز جنون السلطة في صورة ذكوريّة تشتعل بشهوة السيطرة، وبسخرية لاذعة مبطَّنة، يرسمها كذُكوريّةٍ ناقصة (… قصباتكم المثقوبة). وإن كان “الهيكل العظميّ لا يفنى تماماً بل يمتدّ وجوده ملايين السنين”[57] ، فقد جعله النّص غائيَّةَ أذناب السلطة ومطلبَها: (تطلبون لقصباتكم بهجة العظم لتخلطوها بفضة الهيكل)، ولكنّها غائيّةُ لذّة، وغريزةُ شهوة، تنتهي بإحساسٍ كبيرٍ بالخوف، والألم (مخاض)، والموت (ثكل)، تُظهِرُ حاكمًا طالَه شبقُ الحكم، وفي ظلال هذه الأحاسيس، يختبئ هتك المحرَّمات.
“ما الجنس والموت إلّا لحظاتٍ حاسمةٍ، في حفلةٍ تُحييها الطّبيعة معبّرةً عن شوق الإنسان فرداً ونوعاً إلى الديمومة”[58]. ولكنّ الدّيمومة في النّص مختلفة، فالمهرّجون للملك، والعازفون للمشهد، يظهرون في نهايته، كخاضعين لأدوات القهر والقمع السلطوي، ولاتّجاهه الفكري المهيمن، ويبدو الخضوع متجذِّرًا، لأنه يطالُ الروحَ لا الجسد: (مثلما تخضع جهات الروح للبوصلات الفاتكة)، وباستبدال البوصلة بالبوصلات، وسَوقِها باختيار “الفاتكة”، تعمّقت سيادة التّيه، والضّلال، والتّضليل الذين أحيلوا في النص، الى مقصل القتل مجاهَرةً، في لحظة غفلة .
في المشهد تجسيدٌ للقمع الفكريِّ، المرتبطِ بالسِّياسيّ، أما الفرد أو المجتمع الذي يصفِّق للسلطة، ويشارك كشاهدٍ يطبّلُ لفعل الاغتصاب، فيتعرّض لأزمة روحية، وكأنه إدراكٌ واعٍ واكتشاف لخطيئته الفكريّة، لتظهرَ أزمة الواقع، وكأنَّها أزمةُ فكرٍ وثقافة، و أزمة أٌمّة تأبى الخروج على الوالي رغم فسقه وطغيانه.
وإغراقًا في إظهار طغيان الواقع، تبرزُ المرأة، كعلامةٍ سيميّةٍ استبداليّة، لدونيّة الانسان المحكوم، ضعيفةً لا حولَ لها بين المصفّقين لتفوِّق المغتصِب، والمرنِّمين له، في وطن مغتصَب (خريطة مستسلمة) لا يملك ذاته. أمّا الظّالم فيؤجّج نار الجنون ولَعًا بالسّلطة، ويطفئها بسيطرته على المشهد من خلال أفعال تحيل الى رموز جنسية، يوجّهها مبدعها، كنزعة غائية، رافعة للفتك وللعنف: (تطغون، ينقبض، ينبسط،يشد، يرخي، يشهق، يتخبط، يتلمظ، يختلج ويخرج…).
الصّهيل وحيدًا يجابه الظّلم، والخوف، بعدما لم يعد للمنطق سعةً في صدور الكلمات، من أشياء وأسماء ومُسمَّيات. غبنٌ يسيطرباستبدالاته على المتلقّي، بتأثير معجم ظلمٍ تجتمعُ فيه المُفارقات، والانحرافات، والعُقد، وفيه فعلُ القهر يتجلّى واضحًا في كل مُفردة – اسمًا كانت أم فعلًا-، تختزن في أعماقها معنى العبودية، والممنوع ، والنّظام الشمولي. والشّاعر عبر معجمه، يعيش في سطوة تجربة باطنيّة، نتجت لا محالة عن تعرّضها لمحكِّ الواقع، فأخرجها صهيلاً كحلٍّ لمآزقه، تناوبت سلسلة الدّوال، وخصوصًا التي ظهرت في شكلها الرّمزي ، على كشف عالم اللاشعور، وردِّه الى كلماتٍ يُفرِغ فيها الألم، فتشير أكثر ممّا تقول، وتصبح ملجأً للإفلات من الحقيقة الواقعيّة، الى بديل آخر، مفتوح على التّأويل.
- المستوى الصرفي – النحوي:
النّصّ هو مجموع علاماتٍ دالّة، وفي لسان العرب (مادّتا نصص ونسج) نجد أنّ النّص هو جعل المتاع بعضه على بعض، والنّسيج ضمّ الشيء الى الشيء فالأول تركيب والثاني ضمّ[59]، إلى ذلك فهو وحدة تتآزر جميع عناصرها لأداء غرضٍ واحدٍ[60]، ومن عناصرها الدّلالة النحويّة التي تحصل من خلال العلاقات النَّحوية بين الكلمات، وهي التي تستمِدُّ من نظام الجملة ومن ترتيبها ترتيبًا خاصًا[61]، فالنّحو يمدّ الجملة بمعناها الأساسيّ الذي يكفَل لها الصًحة والسلامة ويحدد عناصر معناها، ويكشف تركيبها.. أما التّصريف فهو تغييرٌ في بنية الكلمة لغرض معنوي أو لفظي[62]. ولانكشاف المعنى لا بدّ من نظرة توافقيّة بين النظم والبنية، ومثل هذه العلاقة تعمل على تعيين البنى الصرفيّة، لخدمة المعنى النّحوي[63].
نصّ “الصَهيل”، أثرٌ أدبيّ ذو بنية لسانيّة، تتحاور مع السياق المضموني تحاورًا خاصا[64]، يتعادل فيه شكل التّعبير مع شكل المحتوى، في تكافؤٍ بنيويّ وتعادلٍ دلاليّ، في جملة أحداث تؤطِّرها خمسة مقاطع، وكل مقطع يمثل جملة أدبية، وهي تختلف عن الجملة النحوية كونها قولًا أدبيًّا تحكمه عناصره، ولا تحدّه حدود النحو[65]. فيه يتعادلُ شكلُ التّعبير مع شكل المحتوى، وتتحكَّم فيه أفعال سلوكيّة، في سياق جملٍ نحويّة، تكوِّن المشهد، وتقوم بوظيفة الإنجاز المباشر لفعل تحقُّق بنية النص، القائمة في ثنائية ظلم الحاكم وظليمة المحكوم، وتمثِّل كل واقعة صورةً من صور الوطن المكلوم، في تتابعٍ يتناوبُ بين خطّي (الجملة الأساس مع باقي الأحداث)، وسَببي منطقي: (إحالة تكرارية ” هذا هو الصهيل “وظيفتها مفسرٌ لاحقٌ لسابقٍ).
طبيعة الأفعال والفواعل
الملاحظ في النصّ، أنَّ ترتيبَ الجُمل يَتبعُ خطّية حتميّة مستقلّة في كل مقطع، وأنّ ثمّة حركةً متّسقةً ومتوازيةً في سطور القصيدة، نابعةً من حركة الأفعال التي تعكس انفعالاتٍ، وتُصَوِّر تفاصيلَ داخليّة وخارجيّة لجحيمٍ يسمّونها بلادًا. عدد الاحداث يُطابق الى حدٍّ كبير عدد الأفعال، ويَظهر التّركيب النّحوي والزّماني سلسلةً من حلقات، تتَّصل الواحدة بالأخرى تصوُّرًا وحدوثًا . والزَّمن بكونه علامةً بها يدُلُّ على نفسه وبها يستدلُّ على غيره[66] ، له حضورٌ أساسيّ، فقد تساوق مع البنية التركيبيّة، وبه انتظمَ عالَمُ النص، حيث الصّيغةُ الطّاغيةُ هي المضارع، وهي سمة مميَّزة وواضحة، مُسندة في أغلبيّتها – بنسقيّة تسترعي الانتباه – إلى ضمير الغائب المفرد، فيظهر كسِتارة، تُحمَّضُ من ورائها صورة الحاكم، لتخرج مُشبعةً بالرّموز.
الأفعال المضارعة المُهيمِنة (يسكن، يتكون، يستوي، يتفصد، تهرأ، تنهض، مضى، يرخ، يتفصد، تمرح، يتفلت، تدر، يخلع يئن، ينقبض، ينبسط، يشد، يرخي، يشهق، يطاله، يتخبط، يتلمظ،)، هي في أغلبها أفعال تكرِّس حضورًا مريحًا السلطة، مع بروز ضمير الفاعلية مستترًا، يتحكَّم حضورُه في تحوّلات النص، كما في تحوّلات المكان، وقد وُظِّفا كلاهما- الفعل المضارع وضمير الفاعليّة – للتأشير على ديمومة مُلك واستبداد، يسيطر على الفضاء النصّي كما فضاء الوطن، علمًا أًنَّ باقي الأفعال – العائدة إلى غير الحاكم – ، وإن كانت في صيغة المضارع أيضًا (تلمح، تنتقل، تدل، تبدأ، تتلفع، تكنس، يتمارى، يطاله، تعرف، قيل، يكتظ ،. .) فهي في دلالاتها ومعانيها، وبما أُسند إليها، تشير الى تلقّ وانتظار، وعجز، واستجابة لغرائز السُّلطة، وهي تعزِّز سلبَ فضاء المحكوم ومأزق وجوده. حتى فعل “عَرَف” والذي ينتمي لحيّز الاقتدار ويتعلّق بالمواطن، فقد اقترن بلا النّافية، فعكس مناخ الضّياع والتّيه لإنسان الوطن.
مقابل الحضور القوي للمضارع، تتناثر في النص أربعة أفعال في صيغة الماضي (مضى، قيل 2، جاء، صعد) ، وعلى قلِّتها، تُضمرفي سياقها تعزيزًا لتموضع حاكم يتنعَّم بالمُلك . (مضى عليه وقت في نعمة الوعد…) .
يبدو النّص وكأنه وطنٌ، تجتاحُه أفعال الحاكم، وقد استوى تاجًا على عرش الظلم؛ فهو يبطش، يأكل ولا يشبع، يتسلّط على العباد، يُذِلّ، يُخيف، وفي نهاية النّص يتلذّذ بفعله؛ وأمّا الأفعال الناجية فهي لسناجبِه ، تكنسُ نِعَم عطاياه، أو تصفِّق لتزيده استمتاعًا، ويتجلّى ذلك في العدول إلى ضمير المتكلِّم الجمع في المقطع الأخير الذي يصيرُ فاعلًا كما ضمير الغائب. أما الشّاعر فغائب كضمير متكلِّم في النص، ولكنّه حاضرٌ في ذهن القارئ، من خلال خواطر واعية، تمتزج بأسلوب تقريريّ في قالب خياليّ، كأنَّه ينأى بنفسه عن كلِّ ما يحصل، له شهادة الرّؤية ولهم مجد التيه.
طبيعة الجمل
لا بدَّ لدارسِ النّص، أن يلحظَ، ويستشعرَ سلطة مخيّلة إسناديّة، تطغى على (الجملة الإسمية) و(الفعلية)، وعلى مجموع العلاقات التركيبيّة: العلاقة بين(المبتدأ والخبر)، كما العلاقة الإسناديّة بين (الفعل والفاعل)، وعلاقة (الإضافة)، و(الجار والمجرور)، فخرجت التّراكيب كما الكلمات عن مرجعيَّتها الواقعيّة، الى انتهاك التّوافق الدّلالي، نحو سياقات قادرة على الافصاح بالدلالة والتأويل : “جوعٌ كاسرٌ يتفصّد في صلصال الهيكل، جرسُ الماس ينهر الأرض، جثّةٌ تمرح في ذاكرة الناس، حصنٌ ساهر يتبادل أنخاب الجليد في هدأة الوحشة…”
بالنّظر الى المقاطع جميعها، نلاحظ أنَّ فاتحتَها جملةً اسميَّةً، خبرُها جملة فعليّة، وهو نسقٌ متوازٍ، يُظهر تكوين النّص الأساسي، كحركةٍ ضِمنَ قالبِ سُكون.و إذا ما أخذنا المقطع الأوّل كمثال، نرى أن إطار الثّبات في فاتحته المقطعيّة ” جنٌّ يسكن الجسد ” يتضمّن حركةً تخييليّة هي الفعل “يسكن “، ومعناه الإقامة والتَّموضع والإطمئنان، وهو إشارة علاميّة إلى تمكّن الجنون في نفس الحاكم. وبذلك يكون الفعل الرئيسي” يسكن” قد ظهر في المستوى الأول من بناء الجملة وفي البنية الزمانيّة، وبه يرتبط المقطع. يبدو ذلك أكثر ، من خلال توالي الأفعال ” يطلع ” ثم ” يتكوَّن ” و” يستوي “، ويبطش التي تشكِّل مكوِّنات صغرى، ينضوي كلّ واحد منها إلى مكوّن سابق انضواءً زمانيًّا، فيحيل كل فعل بزمانه على فعل آخر ويعبَّر عنه من خلال أدوات الربط الزمنية (و)، و(حيث) التي وردت في تركيب ظرفي(حيث يتكوّن الانسان) ،فبرزت كسيمة تعيِّن طبيعة نطفةِ أو بذرةِ التكوين، وقد امتزجَت بجنونِ السّلطة (جنّ) ولؤم السليقة (ذئب).
يتفاقم ثبات السّيطرة ليؤكِّده في نهاية المقطع اسم الفاعل ” خارجا “، العائد على فعل حركيّ، يتبعه ورود نقطتيّ الّتفسيرالرئسيتين، تليهما جملة اسمية يفصل بين مبتدئها وخبرها بياض (…………..: الوحش دليل الدم/ هديل البوصلة): في هذا اعلان صريح عن الهويّة النفسية لمن سبق وتكوَّنَ، ثم استوى تاجًا. . أما الصّمت الفاصل، فقد أخذ معناه مما يجاوره من كلمات ، قبل أن يذيَّلَ المقطع بصوتٍ ينفجرُ حدّة: هذا هو الصهيل.
الجمل وروابط المقاطع
النّص وحدةٌ كلاميّة، تقوم الدلالة فيه على شبكة العلاقات الرابطة بين جميع العناصر المكوِّنة له (صوت، لفظ، تركيب، جملة)، وليست الجمل وهي بنى قارَّة في الكلام[67]، إلاَّ الوسيلة الّتي يتحقَّق بها، وقد كان لغلبة الجمل القصيرة في النّص دلالةٌ وتأثيرٌ في نفس القارئ، تنقل احساس الرَّهبة، والحذر الذي رافق الشّاعر في نصِّه، وهو ينقل الأزمة المتشكِّلة والمتنقِّلة بسرعة من طور الى طور، في بنية تتلاءم وبنية الأفعال المتتالية، وكلاهما شكّلا (قصر الجمل والأفعال) تعادلاً، تجاوز التّعبير عن رغبةِ الشّاعر أو رؤيتِه، الى نقل تجربتِه بشكلها المُتكامل. وهو ينحرف عن القواعد التقليديّة للشِّعر، من حيث استقلال كلّ بيتٍ بمعناه، الى التّضمين بحيث يتعلّق كلّ سطرٍ بتاليه.
أهمّية النّص الذي بين أيدينا، أنه يُشكِّل وثيقةً، نتوسّل من علاماتها بظاهرها وباطنها المواقفَ والأحداث، ونرصُد من تركيب وحَداتِه، صورةَ حكمٍ تتجمَّع من مقاطع. كل مقطع يحيلُ إلى ما يليه عبر شكلين من الروابط:
- إحالة تكرارية إشارية قبليّة: هذا هو الصهيل
والإشارة هي “مفهوم لساني يجمع كل العناصر اللغوية التي تحيل مباشرة على المقام من حيث وجود الذّات المتكلِّمة أو الزمن أو المكان[68]، دلالتُها متعلِّقة بالمحتوى الإشاري، وتتّخذُ محتوى ما تشير إليه، وقد وردَت في النّص، ضِمنَ تركيب له دورٌ شديد الأهمّية، فقامت ومن خلال تكرارها، بدور التَّعيين وتوجيه الإنتباه الى الموضوع المشار إليه، والى المعنى المقصود، وقد تعلّقت دلالتها بما سبقها، فأحالت عليه مُحقِّقة مبدأ الاستمراريّة ، وإذا اعتبرنا المقطعَ وحدةً معنويّةً دالّة، يتشكَّل من جملة من الأحداث تجري في فضائه، فقد أتى الرّابط الإحاليّ ” هذا “، لينجزَ المعنى المتحقِّق من الأحداث في كل مقطع، باعتبارالإحالة رابطًا دلاليًّا ، مدَّ الجسور بين أجزاء النّص المتباعدة، وأكدَّ – كلازمة متكرِّرة – وحدة الموضوع، وقد آزره في ذلك، التّركيب الإضافي الذي يضفي منطِقًا شكليًّا تناظريًّا: (دليل الدم \ هديل البوصلة، غفلة اليقين/ غدارة البوصلة، جنة الليل/ خديعة البوصلة…).
- روابط خطّية في المقطع ذاتِه، تتنوّع بين روابط : وصل،وظرفية (زمني ومكاني)، وتمثيل، وتأكيد، وسببيّة: (حيث، فيما، حين، كأن، مثل، لكأنك، و، ف، مثلما، كي…)
هي في النّص بمجملها، تقومُ على الجمع وبناء علاقة منطقيّة بين الأحداث، يبدو الشّاعر منغمسًا فيها ، وهذا الانغماس يقطعه التّركيب النّحوي: “هذا هو الصهيل ” وكأنه طرقة عنيفة، تعلن حكمًا صدَرَ لا رجوع فيه، ليبدأ الشّاعر من جديد تركيبَ الصُّوَر، وضمِّها في نسَق مشابه، وصولًا الى اكتمال الصورة في المقطع الأخير .
“جنة تمزج ثلجة المحراب بحجارة أكثر جمالا وقدسية.
تدل النائم على ذخيرة المخيلة
وتفتح الرقص في خريطة مستسلمة
فتبدأ مدن تتلفع بالذعر كأنها العدو ”
نشهد في المقطع ترابطًا منطقيًّا، حيث يبدأ الحدَث من نقطة مركزيّة (جنّة)، لها ارتباط بمقطع سبقها، فبان المقطع وكأنّه استئناف بيانيّ توالت فيه المواقف، في تتابع كرونولوجي (وفق تقويم زمنيّ)، عملت أدوات الوصل على تنظيمه: تمزج…تدل. .وتفتح. .فتبدأ… أما غياب الرابط بين السطرين الأول والثاني، فهو لقوّة الارتباط بين الجملتين في المعنى الذي أغنى عن توسُّط الربط؛ وهذا الأمر ينطبق على المقاطع فيما بينها أيضًا.
التقديم والتأخير – التنكير – تنوع الصيغ الصرفية
من سمات النّص ظاهرةُ التّقديم والتأخير، ولوجودها أثرٌمهمّ، لا من أجل المحافظة على الإيقاع والتوازي، أو للمحافظة على البنية الشكليّة فحسب، بل هو خيارٌ أسلوبي ظاهرٌ، اتّبعه الشّاعر وسيلةً إبلاغيةً مَنَحت التّعبير قوَّةً في إيصال المعنى الى المتلقّي، ومفاجأة مِن نقض التّرتيب في الجملة، كما أكّدت مقصد الشّاعرفي الاعتناء بشأن ما بدأ به، فحوَّله عن مكانه.
يؤازر هذه الظّاهرة، تكثيف للنكرات التي تعود في معظمها الى الحاكم، وهي تبعث على التّساؤل عن مغزى حضورها، الذي يظهر كعلامات إخباريّة لا تتوخّى الحصر، تدلّ على قصد الشاعر المتمثِّل في الابهام، والغموض، والتّخصيص الذي يبعث في النّفس تأثيرًا ايحائيًّا متصاعدًا أغنى من التعريف، يتلاءم وبنية القصيدة الدلالية:
جوع كافر
…….
جثة تمرح في ذاكرة الناس
…………………….
جسدٌ لم يخلع درعه الأخير
ففي الجحيم،…………..، أنت في المهب
سيدًا يهذي
مزاجُ الريح يعصف بك
مزيجُ الحرية يدفعك الى التهلكة
سناجبُه تكنس الأرض
هذه بضعة أمثلة مما وردَ في النص من تقديمٍ وتأخيرٍ وتنكير ؛ ولِتَعَرُّف كُنهه، لا بدَّ من النَّظر إليه من جانب العلاقات بين المفردات في التّركيب ، ومن جانب طبيعة الخطاب ومن جانب السّياق أيضًا. فجوع كافر تركيب إسمي موسوعيّ الدّلالة، ينزلق فيه المعنى ليحيلنا الى ثبات جوع للسُّلطة ، يطيش له عقل الطّغاة، وحكم كافر لا رحمة في قلبه.
أما تقديم الفاعل على الفعل – وهو الغالب – أكّد في النّص حقيقة المقدَّم، وأظهر حالتَه المستحَقِّ إظهارها وإثباتها، وهي حالةٌ بدت سلبيّة، أكانَ من ناحية الحاكم، أم من ناحية المحكوم،من دون إغفال أهميّة التّلازم بين الكلمة المتقدِّمة والكلمة المتقدَّم عليها والتي هي فعل في أغلب الأحوال .
النَّص حافلٌ بالبنى الصّرفية المتعالقة مع المعنى، فالشّاعرُ لجأ الى استخدام الصِّفة المشبَّهة، واسم الفاعل، واسم المفعول، وبعض صِيَغ المبالغة في عدّة مواضع من النص: (صهيل، خارجا، الفاتن، الفاتكة، ساهر،المكبوتة ، مشمولة، موصولة، مشدوخ، مرعوشة، المثقوبة، غدّارة…) مستندًا في التركيب أحيانا إلى التّقديم والتّأخير أو الحذف. وهذه البنى بيَّنَت الى حدٍّ كبير حركةَ الّنص، وغايةَ الشّاعر من خلال إظهار طبيعة الحاكم العنفية والمحكوم المعنَّف. والمعلوم أن اسم الفاعل يدلُّ على الحدث والحدوث وفاعله، و قد لجأ إليه الشّاعر للتدليل على استمرارية مقترنة بحركة، وهو جاء منوّنًا “خارجًا ” ليدلّ على ثباتٍ وتمكّنٍ، وتغييرٍ سينقطع بخروجه، وبذلك تناسب المبنى الصّرفي مع التّركيب، من أجل اظهارالمعنى المراد.
لكلِّ بناءٍ صرفيٍّ معناهُ الذي يؤدّيه، والشّاعر عدَل عن الفعل “شدخ” و “شمل” الى اسمي المفعول: “مشدوخ ومشمولة “، وقد جاءا نكرَتين مع حذف المبتدأ – كوسيلة اتساق نحوي- أُضيف إليهما تنوينُ التّمكين الذي يحمل في ثناياه تأكيدَ الحدث ومفعوله، ويعبِّر عن مواقف ثابتة لا تغيِّرها الظّروف، أكثرَ من الفعل الذي يدلُّ على التَغيُّر والتَبدُّل. أمّا صيغ المبالغة، فلم تأتِ ضربًا في الزّيادة، بل لخدمة المعنى، فصيغة (غدّارة) تدلّ على علاقة بين الحدث والفاعل، وتومئ الى تكرارِ وقوعِ حدثِ الغدر وكَثرته. لقد تراكمت السِّمات الأسلوبية في نصّ الصهيل، مستفيدةً من التّقديم والتّأخير والتّنكير والإضمار لإظهار معالم صورة الوطن، وقد تولَّد عن ذلك خرقٌ للمعيار النّحوي، عبر تجاوزات نحويّة: (كلمات محذوفة، أفعال، وجمل قصيرة متدفِّقة…)، لعلّها كانت مقصودةً، أثرَت النَّص بشِعريّة خاصّة، مصبوغة بصوَر الظّلم والذّل والإستبداد .
- المستوى البلاغي
يرى النقّاد إلى الصّورة أنَّها ﺘﺠﺴﻴﻡٌ ﻟﻸﻓﻜﺎﺭ، ﻭﺍﻟﺨﻭﺍﻁﺭ النّفسيّة، ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻫﺩ الطّبيعيّة، ﺤﺴّﻴﺔً ﻜﺎﻨﺕ ﺃﻡ ﺨﻴﺎﻟﻴﺔً[69]. وﻴﺭﺴﻡ ﻤﻼمح نصّ ” الصهيل ” ﺃﺩاءٌ ﺒﻴﺎﻨﻲّ، تتراسل فيه ﺍﻟﻤُﺩﺭَﻜﺎﺕ ﺍﻟﺤﺴّﻴﺔ، مع ﺍﻟﻤُﺩﺭَﻜﺎﺕ ﺍﻟﻤﻌﻨﻭﻴّﺔ، في أشكال غريبة من الإسناد. ومن هذا التراسل – على غرابته – اتّحد المضمون والصورة، وشكّلا وسيلةً ،لنقل رؤية الشّاعر إزاء الواقع السّياسي في وطنه، وأداةً عكست فكرويّة السُّلطة والفرد معًا، في أداءٍ فنّي تجاوزَ التّجسيد والتّشخيص، وحضور الحواس، حتّى صارت الكناية عنصرًا فاعلًا، في بثّ الحيويّة، والحركة في الجمادات، وفي بناء الأسلوب وإنتاج دلالاتٍ، تسلِّط الضوء على مظاهر الواقع . والى هذا يذهب عبد القاهر الجرجاني إلى ذكر فضل الكناية فيقول: ” وكما أن الصِّفة إذا لم يأتك مصرَّحا بذكرها، مكشوفًا على وجهها، ولكن مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفخم لشأنها وألطف لمكانها، كذلك إثباتك الصفة للشيء، تثبيتها له إذا لم تلق إلى السامع صريحًا، وجئت إليه من جانب التّعريض الكنائي، والرّمز والإشارة، كان له من الفضل والمزية، ومن الحسن والرّونق ما لا يقلّ قليلُه ،لا يُجهل موضع الفضيلة فيه.[70]
يتنامى النّص كمكان يؤرِّخ للإنسان المعاصر، فالمكان هو الإنسان نفسه[71]، وهو يظهر كنشاط حركي مرتبط بسلوك بشري سلبي، يعكس حقيقة وجود الفرد والجماعة، في خصبٍ الكنايات، ومن الانزياحات الدَّلالية ، تشكِّل بؤرًا إيحائية، تتماسك وتلتحم بالموضوع الرّمزي، وتعمل على نسج معمار نصٍّ شعري، يعرض مضامينه في إطار صوريّ متعدِّد، كلّ صورة تُختصر في مقطع أو مشهد، يعرض قضيّة تنتهي بنتيجة، وكلُّ فقرة تتوفّر على ثنائية دلالية، لها منطق وعيها، وطريق ذاكرتها الذي يوصل الى نتيجة، تحيل الى حضور إرهاب فكريّ لسلطة لا تبدو قادرة، أو راغبة في التّحرر من إرهابها، وهذا الحضور السلطويّ، يؤكِّد غياب الانسان بسبب خضوعه.
يقول الله في كتابه الكريم: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}[72]، فالإنسان وهو موضوع الإدراك في الوجود، يتعرّف نفسه ويبحر إليها عبر مواقف صعبة تضعه في مواجهة الواقع، وفي النص يسجّل الشاعر تجربته الانسانية تسجيلاً حسّيًا، يتعامل البصر والسمع واللمس فيها، على اختراق المحجوب، والقبض على هموم الكيان، وتحدِّيات الحياة. وقد عبّرت سيمون دي بوفوار عن هذا المعنى بقولها :” إنَّ لكلّ تجربة إنسانية بعدًا سيكولوجيًّا خاصًّا، الباحثُ النظريُّ يحاول أن يستخلصَ من التجربة الإنسانية مُرَكَّبًا عقليًّا مجرّدًا، في حين أنّ الشاعر يعِّبر عنها تعبيرًا حيًّا عن طريق وضعها في سياقها الفردي الذّاتي… دون أن يفقدها صفة المعاناة الجماعية”[73]. وحيث إﻥّ ﻋﺎﻟﻡ ﺍﻟﺭّﻤﺯ أﻜﺜﺭُ ﺍﻤﺘﻼءً، ﻭﺃﺒﻠﻎُ ﺘﺄﺜﻴﺭﺍﹰ ﻤﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻭﺍﻗﻌﺔ[74]. فللخيال خصيصة فارقة، ميّزت القصيدة، كان المجاز مدخلها، والكناية مفتاح دخول دلالاتها، وفي الرّمز حقيقة بنيتها، ولقد ﺘﻭﺯّﻋﺕ ﺍﻟﺼّﻭﺭ فيها ﺒـﻴﻥ ﺘﺸﺒﻴﻬﻴّﺔ ﺤﺴّﻴﺔ، ﻭاﺴﺘﻌﺎﺭﻴّﺔ مكنيّة، ﻭﺭﻤﺯيّة معقّدة، تفرض إعادة ترتيبها وتنظيمها، قراءةٌ حسِّيةٌ للنّص، تحاورُ عالمه الدّلالي، وتخترقُ مستغلقاته.
“جنّ يسكن الجسد
كأن كل عضل نافر ذئب يطلع من الأعماق
حيث يتكون الإنسان
ويستوي تاجا…يبطش بسلالة الرعية
خارجا من طبيعته: الوحش دليل الدم \ هديل البوصلة
هذا هو الصهيل “
ﻴﺒﺩﺃ ﺍﻟﺸّﺎﻋﺭ ﺒﻨاء ﺍﻟﺼﻭﺭﺓ ﻤﻥ ﻭﺼـﻑ داخليّ، يتمظهر بتعبير انفعاليٍّ رمزيٍّ واستعاريٍّ حادٍّ، يكشف من البداية وقائعَ وحقائقَ همِّ وجود، و قلقِ مصير:
جنٌّ يسكن الجسد: في هذه الإستعارة المكنيّة، والإنزياح التّعبيري، تنافرٌ دلالي، جعل الشّاعر فيه من الجسد مكانًا مُعجَزًا، يسكنه الجنون، ليكون الملمحَ الأوَل لوجه هوس وجموح السُّلطة الذي سيتشكّل سطرًا سطرًا، ومن هذا الجنون وباختراع تشبيهيٍّ مهمّ، يخرج الذِّئب من الأعماق، وفي هذه الصّور كما في النّص كلِّه تتداخل الإستعارة والكناية والتّشبيه، لتُغنيَ مضامين الّنص بإيحاءات، وقيم إيمائيّة، تفتح للقارئ أفقًا من الصُّور المقموعة ، الوليدة بقهر من عمق الواقع المعاش.
الذّئب في التّوراة رمز بينيامين ثاني عشر ولد يعقوب « بينيامين ذئب يفترس، بالغداة يأكل غنيمة، وبالعشيّ يقسِّم السّلب»[75] هو رمز الشراسة والخبث، إنَّه يفتك ويُمزِّق ويفترس، فالخوف منه عام، وله مكانه في اللّاشعور الجماعي، “وعندما يتمازق الناس فيما بينهم ولو ظاهريًا، يرد التمثُّل بالحكمة اللاتينية: الإنسان ذئب على الانسان”[76] وهذا الذّئب يستوي تاجًا، كنايةً عن ملك، من حين تكوينه، يبطش بسلالة الرّعيَّة، والأمر غير مستغربٍ عند الشّاعر فهو” خارج من طبيعته” الحقيقيّة: وحش، بوصلة الدم لا تخطئ طريقها اليه فحيثما يكون الدّم يكون، {…قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء… }[77]
“جوعٌ كاسر يتصفّد في صلصال الهيكل
لكأنك تلمح فضتك الذهبية تنتقل، كمشكاة، من جسد النار إلى آنية اللهب.
جوع كافر مثل زئبق يمنح الصدر شهوة الأوسمة:
غفلة اليقين/ غدّارة البوصلة”
الخطاب الأدبي صوغ للّغة عن وعيٍ وإدراك[78]، وفي النَّص، تتواطأ المعاني المتخفِّية في الكلمات، على جعل المقاطع متماسكة غير منعزلة، تثير تساؤلَ القارئ وفضولَه، لتجميع المزيد من صُوَر ذاكرةٍ، أفرزتها علاقات البنية اللّسانية مع السِّياق المضموني، نتبلّغ منها ذاتَ النّص ومعناه: عندما يكون الذئب جائعًا يهاجم الانسان، وجوع الملك كاسر ينقض ويسيل(يتصفد: يسيل أو يتشقق، مادة صفد لسان العرب) في صلصال الهيكل، كرمز لمخلوق يتسلّل ويتغلغل داخل الانسان، ويأكل من ذاته ،ومن وجوده، ومن ثرواته، وإذا كانت طبيعة الحاكم وحشيّة، فوجود إنسان الشّاعر فضّة ذهبيّة، كمعدن غير معرَّض للفساد، يتنقَّل كمشكاة لا تنطفئ، بين أيدي جسدِ نارٍ، يأتي على الأخضر واليابس، ويملأ حطامه ورماده في آنيته. في هذه السطور يجتمع الصّلصال، والنار، والهيكل، والجسد، ككنايات متساوقة، تحيل الى المقطع الأول وترُدّ القارئ الى القرآن الكريم فيستلهم منه المعاني والأفكار: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}[79] فكأنَّ في الكلام تناصًا، يحمل علامات سيمية، تؤشّر على إنسانٍ مخلوقٍ من نار، طبيعته اشتهاء السُّلطة والشرّ والاستكبار، يبطش بإنسان الصَّلصال. ولعل النَّفخة العلوية، تتبدّى في النّص فضّة ذهبيّة، لا تفسد، ولا تهِن لضغط ظلمٍ أو لغواية {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[80]. زد على شرِهه ووحشيتِه، فهو خطّاء مغرور(كافر) } أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}[81] ، يشتهي المديح ، ويمنح نفسه وهْمَ الأوسمة (زئبق) وحقّ الأفضلية. طريقُه غدر، وتابعوه مصيرُهم الغفلة: غفلة اليقين/ غدارة البوصلة.
جوخ تهرّأ لفرط المديح
مشدوخ بشهوة الأسئلة وهي تنهض من المذلة
فيصاب بهيبة التهدج. سناجبه تكنس القطيفة بفروها الأليف
………………..
ما إن تقل له الكلمة حتى يتصفد النحل من كتفيه
مثل بوصلة تسأم مجد التيه
المدلول ليس دائمًا ذاته بالنّسبة الى الدّال ذاته ؛ يقول تايلارد: ” المدلول هو مفهوم، تمثيل عقلي الذي بصفته تلك، يرتبط بحالة معينة لمجتمع ما”[82]. فالسَّطر الأوَّل هو تعبيرٌ كنائيٌّ متعارَفٌ عليه، ويعبِّر عمّن ينافق ويتزلّف لشخص ذي صفة مرموقة، أو ذي حسب ونسب، وفيه إشارة إلى المنافقين أذناب الحاكم، يقبّلون أذيال ثوبه ويمدّونه بمشروعيّة وجوده، وهو مدووخ بجنون العظمة كمن ضُرب على رأسه (مشدوخ). عظمة تعلو وتتغذّى من عبوديّتهم وذلِّهم ، وهم – المنافقون – في ذات المقطع سناجب تكنس القطيفة. والسِّنجاب هو حيوانٌ قارضٌ ومعروفٌ بذاكرته القويّة، لمكانِ حفظ المكسَّرات والجوز، وهو في النَّص كناية عن المتزلِّفين الذين يعتاشون من البلاط (القطيفة)، ويتشاركون نهب ثروات الشّعب مع ملكهم وتكديسها. يتناوبون الفساد، هم بالتّزلف والمديح، وهو بالاستبداد والظلم.
“مضى عليه وقت في نعمة الوقت
ولم يرخ حواسه لسماع الكلام
ماإن تقل له الكلمة حتى يتصفد النحل من كتفيه
مثل بوصلة تسأم مجد التيه”
نرى في هذه السّطور صورةً كنائيّة، تكشف حتميّة واقع السُّلطة وكيف تعيش، فخلق الشَّاعر منها مع باقي أنسجة القصيدة حقيقةً، تقتحم الحاضر، وتصنع منه تاريخًا، نستقرئه في حاضرنا بكل مكوّناته. هومشهد نستشعره أمامنا، يعكس قدرة لغويّة فنِّية، يستوقفنا صغيرُ تعابيرها لأهمّيته، في احتواء بذرة النّص وعصبه، ﻓ”نعمة الوقت” تركيب استعاري، يشفِّر لبنية النّظام الفاسد، الذي يتناقل الحكم دون حسيبٍ ولا رقيب، غير عابئ بما يُقال، وإن سمع يستشيط غضبًا (يتفصد النحل في كتفيه)؛ فالنّحل دليل الحركة النَّشطة، وهو يتراسل وفعل يتصفّد بما يعنيه، على رسم حركة عنف غريبة ومخيفة، تلجم الأفواه عن الأسئلة ، لأنّ الظالم له أفانينه في زرع ألوان الخوف، ومنها دوغمائية الفكر، حيث نفي التساؤل عندما ينبغي التساؤل[83]، ضمانًا لاستمرارية الطغيان، ولأمان نعمة وقته، الذي لا وقت له، فهو خارج عن التّقويم الفيزيائي لديمقراطية الحكم، وتبادل السُّلطة.
جمرة، شهقة اللغة،
قلامة اللحم المرعوشة في مكان بين الأسنان والحنجرة
……………………….
………………………
فضاء يزخر بأشباح تزعم أنها الناس.
“يرى لاكان ((Jacques Lacan في اللّغة أنها شرط اللّاوعي، أمّا فرويد فيرى اللّاوعي شرط اللغة”[84] ولعلَّ ﺍﻹﺴﻘﺎﻁﺎﺕ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ على الواقع، ﺸـﺤَﻨﺕ ﺍﻟﺴﻴﺎﻗﺎﺕ اللغوية ﺒﺩﻓقٍ ﺸﻌﻭﺭيّ ، ﻓﺨﻴﺎل ﺍﻟﺸّﺎﻋﺭ جعل ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﺘـﺼﻭﻴﺭﻴّﺔ، توازن ﺒﻴﻥ ﺘﺠﺭﺒﺘﻪ ﺍﻟﺸّﻌﺭﻴﺔ، ﻭهموم ﺍﻟﻭﺍﻗﻊ. لذا ﻜﺎن الرمز والكناية، ﻭﺍﺴﻁﺔ ﻨﻘلٍ لرؤاه ومشاعره.
وبمثل هذه الصّورة التي تجلو الكناية بُعدَها، تنجلي صدمة التّعبير، عبر لذعِ جمرةٍ تُلهب الأحاسيس فتشهق اللغة. تتوالد في هذه السّطور، علاقةُ تجانس بين الجمرة، واللغة، واللسان، تُفضي الى التّعبير عن معاناةِ وألمِ التّعبير، وبفعل استبدال لفظة اللسان بقلامة اللحم المرعوشة، تأخذ الكلمات بعدًا دلاليًّا، يختزنُ انفعالاً مشوبًا بارتعاشة الكلمة قبل تفجّرها. يوحي الاستبدال بثِقله المعنويّ، فيفقد اللّسان معناه كقيمة معنويّة، ويصيرُ قطعةَ جمادٍ لا قيمة لها. وربّما كان “البياض” الفاصل بينه وبين الأسنان والحنجرة ، تأكيدَ تعبٍ ومخاضٍ عسير للكلمة قبل ولادتها، فتلتحم العناصر منسجمةً، على رسم قصور إنسانٍ مكسور، أسير الفكرة، صيّرته اللغة شبحًا في فضاءٍ لا تعريف، ولا هويَّة له.
الذّات الناطقة تكمن بكلٍّيتها في الصورة الشعرية[85]، وقد حاول قاسم حدّاد قولبةَ انفعالاته ورغباته اللامحدودة، في مقولات بلاغيّة، أطّرَها بما تسمح له حدودُ نصِّه. بدت القصيدة وعاءً مُلئ تكثيفًا تصويريًّا، ففاض كنايات رسمت صورًا شعريّة، عبّرت عن تجربة واقعيّة، يتفاعل معها القارئ، فقدرة الصّورة الشِّعرية على التواصل مع المتلقي هي ذات دلالة انطولوجية كبيرة[86]، نتلمّس عبرها متاعب الشّاعر، وعبء التسلِّط والخوف، ومظاهر التّخلف السّياسي الحاكم على أذهان الكيان الانساني، سلطةً وفردًا وجماعة.
خاتمة
في النّص المسكونِ بالتّضمينات، تواطَأ الحضور والغياب على تكوين ثنائية الظّالم والمظلوم. ما غاب حضَرَ في شكلٍ بلاغيٍّ رمزيّ، متعلِّق برغبات الشّاعر التي تنزع من خلال نصّه أن تتحقّق، “فالرغبة مرتبطة بإشارات طفلية لا تمحى… هي على علاقة مع الهوام، وتثيرها أحداث راهنة”[87].
في لغة قاسم حدّاد الشّعرية صوَر بلاغيّة مستجِدّة وغريبة، ودفقٌ لغويّ رافقه قدرة على التصرّف بالألفاظ، واللّعب بها، بما يتلاءم مع الخطاب في مجمل مستوياته، وهذا عزّز التّماسك ووحدة الموضوع. وفي لغته أيضًا خصوصيةٌ في البناء، تأتلف مع قلقٍ عنيفٍ، وعالَم أسرارٍ بُنيت تراكيبُه بكثير من الصّوَر والرّموز، يحتاج القارئ الى مفاتيحَ لغويّة، وثقافية تعينُه على فكّ مغاليقه. وأن يمتلك القارئ مفتاح لغته، يعني ذلك الإقامة الدّائمة حيث النّص يستدعي آخر، والحضور يستدعي الغياب، والمعنى يُحيل الى معنى له “ﻓﺎﻟﺘﺄﻭﻴل ﻻ ﻴﻘﺒل ﺍﻟﺜﻨﺎﺌﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ﻭﻫﻭ ﺇﺸﻜﺎل ﺍﻟﺸﺎﻋﺭالقلِق”[88].
قوم مبدأ الهوية على أنّ الموجود ذاته، أو هو ما هو عليه وحقيقته المعبِّرة عنه، وعادةً ما تصنع الأمّة أنظمتَها التي تكون رسمت بنيةَ وتشكُّلَ أنظمتها، وهي إن ارتبطت بالماضي، ِّ فهي في حقيقتها دافعٌ دائمٌ، للبحث عن صيغة أفضل لحياة الأمّة في المستقبل[89] ،والصّورة التي قدّمها قاسم حدّاد في نصّه ( الصهيل )، تتقابل وفيضًا لغويًّا مائزًا، تأتلف فيه ثنائياتٌ تختزل الوطن (مكانًا وزمانًا). وهي ثنائيات عملت على رسم ثنائية ضدّية أساسيّة (الواقع والرّؤيا)، صرّحت عن أزمة الانسان المُعاصر المحاصَر في واقعه المضطّرب، وعن قلقه الوجوديّ، في مكان ٍيجتمع فيه التاريخ، والثقافة، والسُّلطة، والشّعب – كلٌّ على طريقته -، على خلخلة بنيانه، واغتصاب طمأنينته، ولكنَّ حدّاد أيضًا، بأسلوبه وبأداته اللسانية يرسم – عبر الغياب تارة، وحضور الحلم تارة أخرى- صورة ” الوطن الرؤيا “.
لقد ظهرت للوطن عبر المكوِّنات الإيقاعية، والبلاغيّة، والمعجميّة، والتركيبيّة، وانتظامها في بنية دلاليّة أحالت إلى هشاشته، فبدا كيانًا مهشّمًا بفعل الاحباط ، والإرادة المكبَّلة باستبداد الحاكمين، في حالة موت سريريّ، والشّعب غائبٌ عن التّغيير إمّا خوفًا، وإمّا تمجيدًا وطمعًا، فالقسر والقهر والحرمان والاستبعاد بالرفض، حطّم في النص كلّ امكانية تأكيد الذّات واستقلاليتها،وبرز القلق الوجودي المعزَّزِ بفكرة غياب الأمن، واغتراب الذّات الشاعرة في الرّؤيا والأفكار. وما معارضةُ الوَسَط عبر المشاركة الانفعاليّة (ايقاعًا وكلمةَ وجملةَ وتركيبَا)، إلاّ تأكيدٌ للأنا المغتربة، وتحديدها من خلال الآخر، وبالتمايز عنه. والصّورة القاتمة لا تتعلّق بالحاضر وحده، بل تُخرج الماضي الأسود من وكره، كما تبسط ظلالها على المستقبل أيضًا، وفي موقف سلبيّ من الإرث التّاريخيّ، ومن الحاضر، يضعُنا في مواجهةٍ عنيفةٍ ،مع سُلطةٍ تستحوذُ على الوطن بالاكراه الجسديّ والفكريّ، وتمارسُ الحكم عموديًّا، ويَبرز خوف الكلمات وعنفها، وكأنَّه خوف الجماعة المُعنَّفة. وإذا كانت “القيم وتوجّهاتها تشكّلان مصدرًا للمشاعر والقيم الغائيّة التي تجسِّد جوهر وجود الكائن الإنساني، وتشكِّلان في الوقت نفسه مصدرًا للشّعور بالوجود”[90]، فهما وبعد تبصّر في الخطاب، تُظهران المشهدَ الوطنيّ ساح شكٍّ وريبة، وحضورَ أفعالٍ سلبيّة، تؤكِّد غياب الايجابيّ المأمول.
* طالبة دكتوراه في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم اللغة العربيّة وآدابها.
قاسم حداد ، الأعمال الشعرية (الجزء الثاني) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، ط1، ص328[1]
[2] غاستون باشلار Gaston Bachelard ، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت لبنان، ط2، 1984، ص 36(دار الجاحظ، بغداد، دط، 1980)
[3] أدونيس ،الشعر العربي ومشكلة التجديد، الأدب المعاصر، مجلة شعر، ص 179
[4] فتنة السؤال، تحرير سيد محمود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 2008، بيروت، لبنان، ص34
[5] أحمد أبو حاقة، الالتزام في الشعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط1، 1979 ص 373
[6] فتنة السؤال، م ن، ص 205.
[7] م.س، فتنة السؤال، أنظر ص 119 120،123.
[8] فتنة السؤال ص 118
[9] م.س، فتنة السؤال، في سؤال طرحه عبده وازن على الشاعر، ص 126
[10] ميخائيل نعيمة، الغربال، مؤسسة نوفل، د ط، بيروت 1972
[11] أنس داود، الاسطورة في الشعر العربي الحديث، ط1، المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع، ليبيا د. ت. ص 308.
[12] م.س، الماء والأحلام، ص35.
[13] أنظر دراسات في أدب البحرين، ص 240، 241، 243،244، قسم البرامج الأدبية واللغوية،معهد البحوث والدراسات العربية، 1975، دار غريب للطباعة 1975.
[14] م.س،جميل حمداوي،السيموطيقا والعنونة، ص106،وانظر: laghtiri1965.arabblogs.com/archive/…/1316123.htm منتدى المظلة، تاريخ النشر 🙁 2011 (-01-26 22 : 05:12-
[15] لسان العرب، مادة “صهل”
[16] الأنفال آية 60
[17] محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، سراس للنشر، تونس، ط1، 1985،ص92
[18] م.س، موريس أبو ناضر، اشارة اللغة ودلالة الكلام، ص 246
[19] ، اريك فروم، المجتمع السوي،، تر: علي مولا، ص 42
[20] جون ماكوري، الوجودية، تر:إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، عدد 58، 1982، ص 103-104
[21] جان بول سارتر، ما الأدب؟، دار غاليمار، سلسلة “دراسات”، باريس، 1948، ص: 28
[22] رومان جاكوبسون، قضايا الشعرية ، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، الدار البيضاء، دار تو بقال، ط1، 1988، ص 46
[23] م. ن ص 54
[24] محمد عبد المطلب، البلاغة و والأسلوبية ، الشركة العالمية للنشر ، القاهرة ، ط1، 1997، ا ص 273
[25] رولان بارت Barthes، لذة النص، ﺘر ﻓؤاد ﺼﻔﺎ و الحسين ﺴﺤﺒﺎن، ، دار ﺘوﺒﻘﺎل للنشر،المغرب، ط2، 2001، ص9
[26] القصص آية 18
[27] عبدالله الغذامي، الخطيئة والتكفير، (من البنيوية الى التشريحية )، المركز الثقافي العربي، ط7،2012، ص 25
[28] حسن عباس، خصائص الحروف ومعانيها، اتحاد الكتاب العرب، ص151
[29] م.س، تحليل الخطاب الشعري، ص33، عن ابن جني الخصائص (ج1، ص 65)
[30] “الإحالة “: هي أن يشير عنصر لاحق إلى عنصرٍ سابق في سياق النّص، وهي تركيب لغوي يشير الى جزءِ ما ذُكر صراحة أو ضمنًا في النّص الذي سبقه أو الذي يليه يليه عن :(ريما سعد سعادة، مهارات التعرف على الترابط في النص، مجلة رسالة الخليج العربي، العدد 7، ص 82)
[31] منتدى نوارس أدبية. www.nwarce.com
[32] كمال ابو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، دار العلم للملايين، بيروت، 1979، ص 49
[33] علي بن محمد الجرجاني، التعريفات، دار الكتاب المصري اللبناني 1991، ص 114
[34] كمال عبد الرزاق العجيلي، البنى الأسلوبية، دراسة في الشعر العربي الحديث، دار الكتب العلمية بيروت 2012 ص 90
[35] صبحي الصالح، فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، ط4، ص 279 -280 – 283
[36] علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة،مكتبة الآداب ، القاهرة ، ط4، 2002،ص11
[37] ابن جني،ج 1، ص65
[38] م.س عبد الاله الصايغ، الخطاب الحداثوي، ص 175
[39] م. ن. ص175
[40] إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الانجلو المصرية، ط5، 1985،ص 46
[41] م.س، الجرجاني، دلائل الاعجاز، ص 350
[42] الرازي، المحصول في علم الاصول، ج1، طه العلواني، جامعة الامام محمد، السعودية،ط1، 1979، ص 269
[43] عبد السلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، دار الكتاب الجديدة المتحدة ط5 بيروت 2006 ص90 عن كتاب: P.GUIRAUD: Essais de stylistique p 16 –p36
[44] تمام حسان، اللغة العربية مبناها ومعناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3، 1985،ص24
[45] نصر حامد أبو زيد، النص وسلطة الحقيقية ( إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة،) المركزالثقافي العربي، ط 4، 2000، ص 81
[46] م.ن، النص وسلطة الحقيقية، ص 79
[47] “السمطقة هي تحويل النظام اللغوي الى علامات سيموطيقية ضمن نظام آخر” م.ن ص 217
[48] م.ن، النص وسلطة الحقيقية،، ص 217، عن دلائل الاعجاز، تحقيق محمد محمود شاكر ص 262
[49] م.ن، النص وسلطة الحقيقية، ص65
[50] فيليب سيرنج، الرّموز في( الفن – الأديان – الحياة)، تر: عبد الهادي عباس،دار دمشق، ط1، 1992، ص 107
[51] فرويد، ما فوق مبدأ اللذة، تر: اسحاق رمزي، دار المعارف، مصر، ط5، 1994، ص 9-12
[52] علي شريعتي، العودة الى الذات، تر: ابراهيم الدسوقي شتا، الزهراء للإعلام العربي، ط2، 1993، ص213
[53] م.س، النص وسلطة الحقيقية ص 67
[54] م.س، باشلار، جماليات المكان، ص 39
[55] رولان بارت، لذة النص ،ترجمة فؤاد صفا والحسين سحبان، دار توبقال ، المغرب ، ص 51
[56] مصطفى المسناوي، جاك لاكان، الخيالي والرمزي، منشورات الاختلاف، ط1، 2006، ص 14
[57] جوزف لبّس “شذرات منتخبة من ايروسية باتاي” السبت 12 ابريل 2014 رابط http://nomene.blogspot.com/2014/04/blog-post_12.html
[58] جوزف لبس رابط. نفسه
[59] الأزهر الزناد، نسيج النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ص6، 1993 بي
[60] شكري عياد مدخل الى علم الأسلوب ، دار العلوم للطباعة والنشر، ط1، 1982،ص 76
[61] دلالة االالفاظ د. ابراهيـم أنيس /48
[62] ابن هشام أوضح المسالك ج 3، ص 302،
[63] صائل رشدي شديد ، عناصر تحقيق الدلالة في العربية( دراسة لسانية) ،الأهلية للتوزيع والنشر، ط1، 2005، ص 158
[64] م.س، عبد السلام المسدي، الاسلوب والاسلوبية، ص 90
[65] م.س، عبدالله الغذامي،الخطيئة والتكفير، ص83
[66] منذر عياشي، الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص 95
[67] م.س، الازهر الزناد، نسيج النص، ص 14
[68] م.س،الأزهر الزناد، نسيج النص، ص6
[69] عبد القادر القط، ﺍﻻﺘﺠﺎﻩ ﺍﻟﻭﺠﺩﺍﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺍﻟﻌﺭﺒﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭ، دار النهضة، بيروت، ص435
[70] م.س، عبد القاھرالجرجاني، دلائل الإعجاز، ص304
[71] عبد الإله الصايغ، دلالة المكان في قصيدة النثر، (بياض اليقين للشاعر أمين إسبر نموذجًا )، دار الأهالي، دمشق، 1999، ص 37
[72] النحل آية 78
[73] Simone de Beauvoir: L”Existanse et la sagesse des nations. ed Nagel. Paris 1949 p. 119 – 120
[74] ﻋﺯ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺇﺴﻤﺎﻋﻴل، ﺍﻟﺘﻔﺴﻴﺭ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﻟﻸﺩﺏ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻌﻭﺩﺓ، ﺒﻴﺭﻭﺕ، ط4، 1981،.ص 74
[75] تكوين 49 – 27
[76] الرموز، فيليب سيرنج، تر: عبد الهادي عباس، دار دمشق، ط1، 1992، ص110
[77] البقرة آية 30
[78] R. L. WAGNER: LA Grammaire francaise -1: p 69
[79] الحجر آية 32،33
[80] سورة الحجر آية 40
[81] سورة الاعراف آية 12
[82] م.س، الرموز ص 41
[83] م.س، المجتمع السوي، ص 66
[84] جان لاكان، اللغة الخيالي والرمزي، اشراف مصطفى المسناوي، سلسلة بيت الحكمة،منشورات الاختلاف، الجزائر ط1، 2006، ص 22
[85] م.س، باشلار، جماليات المكان، ص 26
[86] م.ن، جماليات المكان، ص 18
[87] جان لابلانش وج.ب . بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، ط4، 2002، ص 374
[88] ﻋﻤﺭﺍﻥالكبيسي ، ﻟﻐﺔ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺍﻟﻌﺭﺍﻗﻲ المعاصر، ﻭﻜﺎﻟﺔ ﺍﻟﻤﻁﺒﻭﻋﺎﺕ ﺍﻟﻜﻭﻴﺕ، ﻁ1،1982، ﺹ199
[89] الهوية وقضاياها، مركز دراسات الوحدة العربية، تقديم رياض زكي قاسم، بيروت، ط1، 2013، ص 23 – 24- 25 – 26
[90] أليكس ماكسشيللي ((Alex Macchielli، الهويّة ، تر:علي وطفة، دار الوسيم للخدمات والطباعة، دمشق، ط1، 1993، ص 51
لائحة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- العهد القديم – العهد الجديد
- أحمد أبو حاقة، الالتزام في الشعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط1، 1979
- أدونيس ،الشعر العربي ومشكلة التجديد، الأدب المعاصر، مجلة شعر ، عدد23، 1962
- اريك فروم، المجتمع السوي،، تر: علي مولا،دط،دت
- ابن جني،ج 1
- إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الانجلو المصرية، ط5، 1985
- الأزهر الزناد، نسيج النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان ، 1993
- تمام حسان، اللغة العربية مبناها ومعناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3
- جون ماكوري، الوجودية، تر:إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، عدد 58، 1982
- جان بول سارتر، ما الأدب؟، دار غاليمار، سلسلة “دراسات”، باريس، 1948
- حسن عباس، خصائص الحروف ومعانيها، اتحاد الكتاب العرب، 1998
- رومان جاكوبسون، قضايا الشعرية ، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، الدار البيضاء، دار تو بقال، ط1، 1988
- رولان بارت Barthes، لذة النص، ﺘر ﻓؤاد ﺼﻔﺎ و الحسين ﺴﺤﺒﺎن، ، دار ﺘوﺒﻘﺎل للنشر،المغرب، ط2، 2001،
- عبد السلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، دار الكتاب الجديدة المتحدة ط5 بيروت 2006 عن كتاب: GUIRAUD: Essais de stylistique p 16 –p36
- الرازي، المحصول في علم الاصول، ج1، طه العلواني، جامعة الامام محمد، السعودية،ط1، 1979
- رولان بارت، لذة النص ،ترجمة فؤاد صفا والحسين سحبان، دار توبقال ، المغرب ، ص 51
- شكري عياد مدخل الى علم الأسلوب ، دار العلوم للطباعة والنشر، ط1، 1982
- صائل رشدي شديد ، عناصر تحقيق الدلالة في العربية( دراسة لسانية) ،الأهلية للتوزيع والنشر، ط1، 2005
- صبحي الصالح، فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، ط4
- علي شريعتي، العودة الى الذات، تر: ابراهيم الدسوقي شتا، الزهراء للإعلام العربي، ط2، 1993
- عبد السلام المسدي، الاسلوب والاسلوبية
- عبدالله الغذامي،الخطيئة والتكفير،
- عبد القادر القط، ﺍﻻﺘﺠﺎﻩ ﺍﻟﻭﺠﺩﺍﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺍﻟﻌﺭﺒﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭ، دار النهضة، بيروت، دط، 1988
- عبد الإله الصايغ:
– الخطاب الحداثوي والصورة الفنية ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1999
– دلالة المكان في قصيدة النثر، (بياض اليقين للشاعر أمين إسبر نموذجًا )، دار الأهالي، دمشق، 1999
- ﻋﺯ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺇﺴﻤﺎﻋﻴل، ﺍﻟﺘﻔﺴﻴﺭ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﻟﻸﺩﺏ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻌﻭﺩﺓ، ﺒﻴﺭﻭﺕ، ط4، 1981
- علي شريعتي، العودة الى الذات، تر: ابراهيم الدسوقي شتا، الزهراء للإعلام العربي، ط2، 1993
- عبدالله الغذامي، الخطيئة والتكفير، (من البنيوية الى التشريحية )، المركز الثقافي العربي، ط7،2012، ص 25
- عبد القادر القط، ﺍﻻﺘﺠﺎﻩ ﺍﻟﻭﺠﺩﺍﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺍﻟﻌﺭﺒﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭ، دار الشباب، مصر، دط، 1988
- عبد الإله الصايغ، دلالة المكان في قصيدة النثر، (بياض اليقين للشاعر أمين إسبر نموذجًا )، دار الأهالي، دمشق، 1999
- علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة،مكتبة الآداب ، القاهرة ، ط4، 2002
- ﻋﺯ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺇﺴﻤﺎﻋﻴل، ﺍﻟﺘﻔﺴﻴﺭ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﻟﻸﺩﺏ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻌﻭﺩﺓ، ﺒﻴﺭﻭﺕ، ط4، 1981،.ص 74
- علي بن محمد الجرجاني، التعريفات، دار الكتاب المصري اللبناني 1991، ص 114
- غاستون باشلار ، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت لبنان، ط2، 1984
- فيليب سيرنج، الرّموز في( الفن – الأديان – الحياة)، تر: عبد الهادي عباس،دار دمشق، ط1، 1992
- فرويد، ما فوق مبدأ اللذة، تر: اسحاق رمزي، دار المعارف، مصر، ط5، 1994
- قاسم حداد : – الأعمال الشعرية (الجزء الثاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، ط1
- فتنة السؤال، تحرير سيد محمود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 2008، بيروت، لبنان
- كمال ابو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، دار العلم للملايين، بيروت، 1979
- كمال عبد الرزاق العجيلي، البنى الأسلوبية، دراسة في الشعر العربي الحديث، دار الكتب العلمية بيروت 2012
- محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، سراس للنشر، تونس، ط1، 1985
- موريس أبو ناضر، اشارة اللغة ودلالة الكلام، مختارات، بيروت، لبنان، ط1، 1990
- مصطفى المسناوي، جاك لاكان، الخيالي والرمزي، منشورات الاختلاف، ط1
- محمد عبد المطلب، البلاغة و والأسلوبية ، الشركة العالمية للنشر ، القاهرة ، ط1، 1997
- نصر حامد أبو زيد، النص وسلطة الحقيقية (إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة) المركز الثقافي العربي، ط 4، 2000
- ابن هشام أوضح المسالك ، المكتبة العصرية للطباعة وانشر، بيروت ط1، 2003
- منذر عياشي، الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998
- عبد القاھر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق مخمد الداية وفايز الداية، دار الفكر دمشق، ط1، 2007
- فيليب سيرنج، الرموز، تر: عبد الهادي عباس، دار دمشق، ط1، 1992
- L. WAGNER: La Grammaire francaise
- Simone de Beauvoir: L”Existanse et la sagesse des nations. ed Nagel. Paris 1949.
- جوزف لبّس “شذرات منتخبة من ايروسية باتاي” السبت 12 ابريل 2014 رابط http://nomene.blogspot.com/2014/04/blog-post_12.html
- nwarce.com منتدى نوارس أدبية