عالم “النّادرة الأدبية ” وفنّيتها في كتاب ” البخلاء ” للجاحظ
The world of “literary anecdotes” and its art in the book of “Al-Bokhla’”
by Al-Jahiz
Dr. Ali Ahmad Al-Ahmad د .علي أحمد الأحمد)[1](
تاريخ الإرسال،25-2-2024 تاريخ القبول : 5-2-2024
الملخص
جاءت هذه الدراسة للكشف عن نوادر الجاحظ في كتاب البخلاء وكيفية توظيف الحركة السردية، ليكن موضوعًا اجتماعيًا شائكا وجد صداه في فنون الأدب قديما وحديثا، جسده نموذجة الجاحظ من خلال كتابه البخلاء، مصورًا مختلف حالات البخل، من خلال القصص والحكايات والنوادر التي أوردها وفق تصوير دقيق واقعي، وحسي، ونفسي، واجتماعي، وفلسفي، وفكاهي، أخرج به كتاب البخلاء إلى مناهل وألوان التعبير الأدبي، وفقًا لما يخدم نصه، ولبيان ذلك قامت الدراسة على أثر تشكيل النص، والجملة الاستهلالية في النص، والجملة الحوارية في النصّ، إلى كيفية لغة الإقناع والتبرير والمقاصد الفنية والإقتصادية التي استنبطها الجاحظ، والأفعال وأثرها المتنوعة بنوادر النفس البشرية. وهو ما شكل فنيّة عالمه عالم النّادرة في كتاب البخلاء،أو مجتمع من المجتمعات إذ إنّها في الحقيقة تشتمل على كل ما يمكن أن يعبر به الإنسان عن فكرة، أو انفعال،أو موقف أو رغبة معيّنة، لذا أتى الجاحظ على ثقافة عصره، فكان فقيهًا متكلمًا،كما أسهم كخبير في علم النفس، والاجتماع في جعل العقل البشري يستنتج في كثير من قضاياه، وأفكاره، ما يشاء من المعلومات التي تساعدة على المشاركة، والتفاعل معالجًا القيمة الفكرية للحرية في عرض الآراء لميادين متنوعة في القضايا الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، ومنها قضية البخل والأجناس البشرية، ولم يكن الجاحظ غافلًا عن الدور الذي تؤدية وظيفة اللغة بالنسبة إلى المجتمع، فقد كانت لغته مرآة صادقة للقضايا، والهموم الاجتماعية، فحملت مضامينها كلّ ما كان يعنية المجتمع،من خلال جمع الجاحظ بين الصورة الواقعية والتخيلية، ففعل القراءة لا يتأثر بغرابة الصور التي مثلتها سلوكيات البخلاء وطرئق تفكيرهم وتعاملاتهم، مما انعكس على مظاهرهم الخارجية فانطبع أسلوب السخرية والتهكم بالقصص لإيصال فكرة معينة،ولتحقيق هذا الهدف اعتمدنا كتاب (البخلاء) ليكون ميدانًا لصناعة معجم للشخصيات السردية، وفق معايير وضوابط تستعين بالمنهجية التي تعتمدها النظريات السردية الحديثة،في مجال دراسة الشخصيات، وتساعد على قراءة الشخصيات من زوايا متعددة، وتخدم عددًا من المناهج النقدية، وتكون إضافة أساسية لحقل السرديات الأدبية في عالم الجاحظ الفكري…
الكلمات المفتاحية : نوادر البخلاء، الجاحظ، اللغة وكيفيتها، سلوكيات، المظاهر الثقافية، الطبائع، العادات، الحقائق، البيئة…
Abstract
This study aims to explore Al-Jahiz’s anecdotes in “The Book of Misers” and how he employs narrative movement to tackle complex social topics, resonating with both ancient and modern literary arts. Al-Jahiz depicts various cases of miserliness through stories, anecdotes, and vignettes, presenting them with accuracy, realism, sensuality, psychology, social commentary, philosophy, and humor. He breathes life into “The Misers,” infusing it with literary expression that serves its text. The study examines how Al-Jahiz shapes the text through introductory and dialogue sentences to achieve persuasive, justificatory, and artistic goals, shedding light on their impact on human behavior and psyche. Al-Jahiz presents a microcosm of society, where he expresses ideas, emotions, positions, and desires, reflecting the culture of his time as a jurist, orator, psychologist, and sociologist. Through a combination of realistic and imaginary elements, Al-Jahiz captures societal concerns, particularly on issues like miserliness and human behavior, using language as a sincere reflection of social issues. The study utilizes “The Misers” to create a narrative character dictionary, employing modern narrative theories to analyze characters from various perspectives and critical approaches, thereby enriching the intellectual world of Al-Jahiz…
Keywords: anecdotes of misers, al-Jahiz, language.
المقدمة
يزخر التراث العربي القديم بألوان الأدب وفنونه البليغة، التي مكنت من تقديم صور واضحة ودقيقة عن الحياة ومظاهرها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأدبية على حدّ سواء، فأضحت هذه الفترة من تاريخ الآداب العربية وفنونها إشعاعًا فكريًا قلّ نظيره في ذلك الزمان. ويعد الجاحظ أحد أسباب هذا الزاد الأدبي الوفير، حيث يعتبر من أعمدة الأدب العربي القديم، ومن الذين برعوا في إنتاجهم الأدبية والفكرية وتناولوها من جوانب قصصية وتاريخية،واجتماعية وفلسفية وأدبية : إذ ترك الجاحظ آثار تلك الثقافة الموسوعية في مؤلفاته التي وجدت صدى في الثقافتين العربية والأجنبية، لأجل ذلك آليت تناول أحد مؤلفاته، وهو كتاب البخلاء الذي يبين عن سعة اطلاع صاحبه، ومعرفته بطبائع البشر، ومعالجته للعديد من القضايا الإجتماعية في العصر العباسي منها: عالم النّادرة الأدبيّة… ذلك أنّنا لا نقصد دراسة الشخصيات من جهة المناهج النّقديّة المختلفة ؛ النّفسي أو الاجتماعي أو غيرهما من المناهج التي تُعنى بالشخصيات داخل النص، بل من جهةٍ أخرى يمكن أن تكون ميدانًا رحبًا، وفي الآن نفسه يمكن أن تقدم تصوّرًا منهجيًا لبنية الشخوص وبنية الحكايات نفسها، بعدها حكايات ٍأصليةً، سبق إليها الجاحظ، وأسس لها قبل غيره، لتكون ضربًا من النصوص ذات المميزات الخاصة في عالم النّادرة لا يزال كتاب “البخلاء ” للجاحظ وثيقة رئيسة يعود إليها الباحثون للتعرّف إلى كثير من الخصائص الاجتماعيّة والثقافيّة والنّفسيّة وطبائع الناس وعاداتهم وتقاليدهم… فلا سيمّا في الجوانب التي تهمّ الانسان في سلوكه العام. فالكتاب يحوي عالمًا شاملًا رحبًا، يعرض ضروب البخل واصناف البخلاء، في سياق يزخر بالحياة، ويشمل صورًا ليست أخبارًا عابرة، بل هي سياق قصصيّ واقعيّ يزخر بالحياة، وتعيش فيه نماذج إنسانية متنوّعة تخرج منها أبعاد الزمان والمكان في تحليل رائع يحيط بأبعاد النفس البشرية والسلوك الإنساني وبعرض مفعم بالامتاع الفني “([2]).
إنّ تناول آثار الجاحظ، كلًا على حدة، قد لا يبرز جماع فائدتها.. كذلك فإنّ لكتاب ” البخلاء “علاقةً حميمة بسواه من أقرانه، فيما خلفه الجاحظ من أدب متنوّع وعلم واسع وثقافة شاملة… كما أنّ جذوره ممتدّة في الواقع، في العصر الذي عاش فيه الجاحظ واستمدّ منه ثقافته وموضوعاته، “ما أتاح له إتمام معارفه الموسوعية وتثبيتها وإغناء عقله برصد العادات والتقاليد في الأوساط الجديدة “([3]) ولم يكتف الجاحظ بذلك. بل جاء برسالة ترد على البخل، وتنتصر للجود والإنفاق، والجاحظ في كل هذ يوضح لنا أنّه يختار والإضحاك فحسب، وإن كانت الفكاهة مقصودة ومُحتسبةً، إلا أنّها عفوية، وليست هي المحل الأول والمرتبة العليا من الإهتمام، فوراءها ما وراءها من مقاصد اللغة، وسبيل المعرفة، وأهدافها تتّجه إليها تحليلاته النفسية والفكرية، وكل هذا في نسيج يخفى إلا على المتأمل الغائص،الذي يريد أن يستغرق في أفكار الجاحظ ومقاصده، وفلسفته وطريقة عرضه للأفكار،وهو أمر لم يُيتح لأحد أن يدرسه حتى اليوم دراسةً شاملةً مستفيضةً تستخرج لنا ماهية تفكير الجاحظ، وطبيعة فلسفته ورؤيته، وهو ما شكل فنيّة عالمه وعالم النّادرة في كتاب “البخلاء”.
مفهوم النّادرة :
النّادرة فنٌ من فنون الأدب العربي القديم وهي في مفهومها:
اللغوي : جاء في لسان العرب “ندر : ندر الشيء يندر ندورا : سقط وقيل : سقط وشذّ… ونوادر الكلام تندر، وهي ما شذّ وخرج من الجمهور، وذلك لظهوره…”([4])
وفي معجم الوسيط يعرف النّادرة:”الطرفة من القول، وهو نادر أزمانه ؛ وحيد عصره جمع نوادر”([5]).
نلاحظ من التعريفين السابقين أنّ النّادرة هي ما شذّ من الكلام والقول وخرج عن القاعدة، كذلك الكلام القليل الذي لا يتكرّر إلاّ قليلا، وارتبطت النّادرة بالفكاهة والنكت والملح والطرافة.”العرب كثر عندهم هذا اللون في ثقافاتهم وظهرت عدّة كتب منها : نوادر جحا، نوادر ابن أحمر، نوادر أبي علقمة ” ([6]).
اصطلاحًا: والنّادرة أو الملحة أو الطّرافة “جنس أدبّي مخصوص ينزع منزع الطّرافة والفكاهة والضحك في الظّهر، أمّ في باطنها فهي نقد اجتماعي ّ يهدف إلى الإصلاح”([7]).
ويذهب شوقي ضيف إلى أنّ النّادرة ” الخبر القصير أو القصّة القصيرة التي تضحك”([8]).
وتحدّدها نبيلة إبراهيم أكثر فهي” تعدّها من أنواع الفكاهة وهي، الأقصوصة التي لا تطول إلى درجة الحكاية الهزلية ولا تقتصر إلى النكتة”([9]).في حين يذهب عبد الحميد إبراهيم إلى أنّها “ذات شكل يتعامل مع الأشياء في سطحها الظاهري، وبعفوية لا تغوص ولا تحلل ولا تشغل الصّراع”([10]) إلى جانب غايات أخرى، فقد انتشر ذكر النوادر في مجالس السمر والأسواق الأدبية، وفي مجالس العامّة وقصور الخلفاء، ومن ثم دخلت النّوادر مرحلة التدوين والتأليف، فاهتم الكثير من المؤلفين بتدوين ما يسمعونه من نوادر…
النّادرة إذًا فنّ قوامه القصّة القصيرة جدًا، وموضوعاتها مختلفة تتناول جوانب الحياة المتعدّدة، وأسلوبها هزلي في الغالب، وقد جمعت نوادر العرب في كتب كثيرة، أشهرها كتابات الجاحظ مثل كتاب البخلاء وقد جمعت كتبه الأخرى نوادر كثيرة…
عصر الجاحظ وتكوُّن عالمه:
إنّ جماع آثار الجاحظ يتصل إذًا، اتصالًا وثيقًا بالواقع. وإذا كان المستشرق الفرنسي شار بلاّ Charles pellat ) ([11]) يرى بأنّ” الجاحظ أثر من آثار البصرة “([12])، فإنّ آخرين يرَون بأنّه نتاج العصر بأكمله، وصوره تقنيّة واضحة للمجتمع العباسي عمومًا، وما آلت إليه الأحوال العامة في البيئة العربية.. ولا يمكنّ إغفال تأثير مدينة كبغداد في أصحاب البصرة ” البخلاء “، تلك المدينة التي قضى فيها أكثر من نصف سنيّ حياته وأنتج فيها معظم مؤلفاته، وعلى ذلك يصبح الدخول في تفاصيل ممّيزات عصر الكاتب ضربًا من المطابقة بين انتاجه وعصره. وكانت الحياة العربية منذ القرن الأول الهجري قد بدأت بالتعقيد، بعد أن تطعمت بعناصر أجنبية امتزجت فيها، وحملت إليها الكثير مما لديها من حضارة وتقاليد وعادات وفنون وآداب وأساليب حياة جديدة…
يستطيع الباحث في الشؤون السياسية أن يلمح التأثيرات السياسية المختلفة في الحياة العربية، خصوصًا في نهاية الحكم الأموي وعلى مدى زمن طويل من الحكم العياسي، حيث لاحظ الجاحظ تفكك العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، وبعدها عن طبيعتها الفطرية “فجاء أدبه أدبًا دسما غزيرًا مملوءًا بما يثير التأمل، ويبعث على التفكير والنظر”([13]) والتقدير على مستوى المكانة التي نالتها الثقافة العربيّة من زوايا متعددة…
ومنذ حكم الأمويين كانت شوكة الموالي تشتدّ وتقوى… الأمر الذي أدّى إلى بروزهم طرفًا رئيسًا في المعارضة السياسية ,” وهم الذين كانوا عنصرًا أساسيًا في ثورة المختار الثقفي الذي أيقظ فيهم الأمل واجتذبهم إليه”([14])، كما كانوا كذلك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجاج،” ووقفوا إلى جانب ثابت في حربه ضد المفضّل بن الملهب “([15]). وهم “الذين كرّسوا دعمهم للعباسيين ومكنوهم من الحكم بقيادة أبي مسلم الخرساني “([16]). الأمر الذي قوّى شوكتهم وجعلهم يبثوّن دعواهم ضد العرب في شؤون كثيرة سياسية واجتماعية وثقافية… حيث كانوا يظهرون مثالب العرب ويبخسونهم حقهم ويظهرونهم غير مستحقين لما وصلوا إليه، وهو ما أدّى إلى التنكيل بهم غير مرّة. بالإضافة إلى أنّ الحكم العربي في زمن العباسيين كان يشتدّ حينًا ليضعف أحيانًا كثيرة.
وكان تطور المجتمع العربي يؤدي، رويدًا رويدًا، إلى تكوّن طبقات اجتماعية تميّزت بحدة وأبرزها ثلاث: المالكون والبائسون الذين يعملون في الأرض ويقدمون على مرافق هؤلاء المالكين السادة، والعامة من العرب، “وهي الطبقة المتوسطة في المجتمع الجديد” ([17]).مع العلم أنّ الحدود بين هذه الطبقات قد عُبرت غير مرّة ولا سيّما البائسين الذين تغيّرت أوضاعهم إبّان القرن الثاني للهجرة، ونالوا الغنى ما جعل بعضهم يلتحق بالطبقة الوسطى. وكان للمال تأثير كبير في التشكيل الجديد للمجتمع العربي الذي غالى في انصرافه إلى الناحية المادية، فأصبح المال ميزان الرجال، وأخذ يتردّد في الأمثلة الجارية في بغداد:” المال مال وما سواه محال “.ولهذا توسّل الناس إلى المال بشتى الوسائل، لا يعفُّون عن محرم ولا يتوَّرعون عن خبيث ولا يعبأون أن يتخذوا من المعاني الكريمة أسبابًا يخادعون بها، حرصًا عليه وإجلالًا له، حتى ” أصبحت مظاهر الدين شركًا من شراكه “.. على حدّ قول د. طه الحاجري([18]).وقد زاد تيار اللهو والمجون هذه الظاهرة، ولا سيّما بعد أن تغلغل في بلاط بعض الخلفاء والقادة والأمراء… وهذا ما نجده في قصر الرشيد، وقد استخدم لأول مرة ابن أبي مريم المدني ” وكان مضحاكًا له محدّثاّ فكيهًا”([19]).
“إنّ الاهتمام بالمال أدّى إلى تفشي ظاهرة البخل في المجتمع، ولا سيّما في أوساط الطبقة البصرية المتوسطة “، كما يلاحظ الدكتور شارل بلاّ([20]). وهو ما لفت انتباه الجاحظ وجعله يؤلف كتابًا فيهم. على أنّ الأعصر العباسية كانت تغصّ بالمظاهر الثقافية في النواحي المختلفة.. وكانت هذه الثقافة مظهرًا من مظاهر الصراع الذي كان دائرًا بين الشعوبين وبين العرب،” وقد حاولت الشعوبية أن تنسب كلّ ثقافة إليها”([21]). ولم تكتف بذلك بل كان أصحابها يباشرون هجومهم المعادي للعرب على غير صعيد. فقاموا بحركاتهم القومية والدينية، وعملوا على تغذية الانشقاقات المذهبية، والحطّ من مقام العرب، ولا سيّما الاعراب سكان البوادي… فما كان من الجاحظ إلا أن انبرى للدفاع عن العرب مفنّدًا آراءهم، ومتحدثًا عن طبائع بعض هؤلاء الشعوبية، وكان كتابه ” البخلاء ” وثيقة ترد عليهم وتعكس الأمر، فإذا البخل فيهم وليس في العرب([22]). وهذا ما يعكس حدّة الصراع بين الفئات الاجتماعية التي تعيش جنبًا إلى جنب في مجتمع واحد ” نتيجة لإخفاق النظام السياسي في منح طبقات المجتمع العناية السليمة ووقوع جزء كبير من المجتمع المهمل المظلوم تحت ثقل أزمات اجتماعية حادة ناشئة عن ضعف المدخول وقلة الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والاجتماعية بوجه عام وإخراج هذا الجزء الأعظم من المجتمع من دائرة القرار السياسي”([23])، وهي من الاساليب البلاغية التي يستخدمها الأدباء والمبدعون في التعبير عن أفكارهم يدعو هذا الأسلوب إلى فرض التأمل والتركيز الذهني من اجل بلوغ المرام من فحوى الخطاب شعريًا كان أو نثريًا وكشف دلالات التعارض الثقافي بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي…
الجاحظ: تشكّل عالمه وتميّزه
في هذه الظروف نشأ عمر بن بحر بن محبوب المكنّى “أبو عثمان ” والملقّب بالجاحظ لبروز عينيه ونتوئهما. وقد ولد في البصرة حوالي السنة 160 ه – 775 م. من أسرة فقيرة الحال، لوالد كان يعمل جمّالًا عند بني كنانة، وهم من بطن مضر. لكن بعض المصادر تذكر أنّ هذا الوالد كان مولى لهم، وهو من أصل أفريقي أسود اللون… وهو أمر لم يثبّت، إذ إنّ المراجع والمصادر العديدة تجمع على أنّه من أصل عربيّ ولا جدال في ذلك.
نشأ ابنه عمرو، إذًا، في بني كنانة نشأة وضيعة، فقيرًا في ضيق من العيش، يرتزق من بيع السمك والخبز على ضفاف نهر سيحان الذي يمرّ وسط بلدته.
لكنّ الفقر حرمه الطفولة الهانئة، لم يحرمه من حدّة الذكاء وشغفه بالعلم، فكان يختلف إلى كتاتيب البصرة، كما هي عادة أهل زمانه، وإلى المساجد المنتشرة في البصرة، كما كان يقصد المكتبات وأسواق الشعر والحلقات العلمية والأماكن الثقافية الأخرى التي كان من شأنها أن تزيد في ولعه للعلم وتقدح عبقريته وتفتح ذهنه على آفاق المعرفة والأدب. وكان من الطبيعي أن يصادف في هذه الأماكن الكثير من نوابغ عصره، ويعبّ مما لديهم، ويثقل بها المعرفة، وكان في طليعة هؤلاء المسجديون ممن شهروا بعلم الكلام وقضوا معظم أوقاتهم في المساجد يتناقشون ويطرحون مسائل الشريعة الاسلامية. بالإضافة إلى المسائل المطروحة في الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية والمانوية والمجوس… وكان المنطق وسيلة بارزة في نقاشاتهم، والفلسفة طريقًا إلى المحاجّة. كما تعرّف إلى أبرز علماء عصره كالنّظام والأصمعي وأبي زيدان الأنصاري والأخفش، فأخذ عنهم الكثير، وأغنى ثقافته وجادلهم في أمور كثيرة، ولشدة ولعه بالعلم كان يكتري دكاكين الوراقين ليلًا، يبيت فيها ليطّلع على محتوياتها، من كتب نحوي علوم العرب والعجم. وما أن تنبّه إلى أمر بغداد العلمي حتى خفّ إليها فحقق أمنيته في الدخول إلى مملكة العلم والأدب والفلسفة والفقه والسياسة والاجتماع والتاريخ. وما كاد يبلغ من العمر أربعين سنة، أي على أبواب القرن الثاني للهجرة حتى طارت شهرته إلى الآفاق، وبلغ من المكانة العلمية والأدبية ما لم يبلغها سواه، فأخذ الناس يتحدثون بعلمه وكتبه ومآثره. وكان ركنًا أساسيًا من أركان المعتزلة، الأمر الذي أسهم في مشاركته مشاركة فعلية في الحركة الثقافية المتفاقمة في عصره، ويمكن القول أنّ الجاحظ سن اتجاهات فلسقية وصاغ أراء كلامية قائمة على ” نظام فكري محكم متكامل ينبغي ألا نجد اليوم أي حرج في وصفه بأنّه علمي فهو يعتمد في كثير من الحالات على التجربة الفعلية، والممارسة الميدانيّة “([24]).عاش الجاحظ ما يقارب المئة سنة، شهد أحداث القرن كلّه، وعاصر أحد عشر خليفة ( من المهدي حتى المهتدي ). وفي أيامه إشتدّ الصراع بين العرب والشعوبية في وقت كان الأعاجم يتقدّمون في نفوذهم السياسي على العرب، ويحاولون الازدراء بهم وبتاريخهم وأدبهم وقيمهم.
لم يتوقف الجاحظ عن طلب العلم. ولم يكتفِ بما يطالعه في الكتب، بل كان جوّابةً للآفاق، محبًّا للسفر. وهذا كان يعني الكثير له.حيث زار مدنًا وأمصارًا كثيرة مثل دمشق واللاذقية وحلب وانطاكية وبلاد فارس والروم ([25]).الأمر الذي أكسبه معرفة عميقة بأحوال تلك البلاد وطبائع أهلها وعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وأساليب عيشهم وفضائلهم ورذائلهم. وهي معرفة أغنت أدبه وعمّقت معارفه وزادته احترامًا ومكانة وصدقًا وقوة ثقة من أهل العلم والناس كافة. وهو زاد ذلك الرصيد موقفه من البلاطات وأصحابها، إذ لم تستهوه حياة القصور لأنّه كان نزّاعًا إلى الحرية تواقًا إلى التعبير الطليق عن كوامنه وأسرار علمه.ولهذا السبب استقال من ديوان الرسائل عندما عيّنه المأمون عليه… مع العلم أنّ الجاحظ، بسبب شهرته وغزارة كتبه استطاع أن يجمع ثروة مالية طائلة، فعاش في القصور واقتنى الجواري والخدم وعاشر كبار القوم علمًا وجاهًا ومالًا. وكانت له ضيعة باسمه ([26]).ولم تمنعه دمامة وجهه وقصر قامته ونفور الرائي من منظره أن يكون حَسَنَ المعشر، محبوبًا من الناس، قريبًا إلى قلوبهم، مطلوب الحضور، لما لديه من سعه علم وروح فكهة وسرعة بديهة وخاطرة، وقرب من الدعابة التي تضفي على المجالس أجواء أنيسة محببة من الناس كلهم، من أجل هذا اكتسب الكثير من الأصدقاء، من عامة الشعب ومن خاصتهم، من أديبهم وعاديّيهم.
ولم يمنع المرضُ الجاحظ من الحدب على تحصيله العلمي، ومتابعة الحركة الثقافية في عصره والكتابة في موضوعات شتى.. ” ذلك أنّ الروائي البارع هو الذي يمتلك ناصية اللغة ويحسن توظيف مفرداتها، وتراكيبها توظيفًا أدبيًا ساميًا، ويستثمرها في سياق تواصلية وتداولية ذات أغراض فنية وتعبيرية “([27]) فقد أصيب في الثلث الأخير من حياته بفالج نصفي ألزمه الفراش.. لكنه لم يقضِ عليه نهائيًا، ولم يمنعه من الاتصال بالعالم الخارجي. فكان بيته يغصّ بمحبّي العلم والأدب وكان في هذه الآونة يضع أهمّ كتبه “كالحيوان ” و”البخلاء “.
أمّا سبب موته فهو يُعزى إلى الفالج الذي لم يسعفه في الحركة، فكان عليه أن يتناول من مكتبته الكتب التي يحتاجها، ولعظم أعدادها وكبر تراكمها فقد انهارات عليه وقتلته عن عمر يبلغ ستًا وتسعين سنة، فتوفي في العام (255 ه – 869 م ).
ثمار العبقرية في عالم متنوّع:
يبقى الجاحظ علمًا من أعلام الفكر والأدب والعلم.. ومحطة رئيسة من محطات التقدم الانساني، ليس لعصره فحسب بل للبشرية جمعاء.. ونحن لا نبالغ إذا وصفناه هذا الوصف، فإنّ من عاصره أو جاء بعده يشهد له بهذه الشهادة. ولا تزال الكتب المكتشفة في مكتبات العالم ومتاحفها، وفي المكتبات الخاصة وفي المخطوطات المحققة، تبرز أهمية هذا الرجل وتضيف إلى مآثره أخرى تخلّصت من عاديات الزمن. كتب الجاحظ في كل شيء، في أعلام العرب الأوائل واللصوص والذئاب.. كتب في الكلام على صفات الله تعالى كما كتب عن الفتيان والحواري.. وفي القضاء والولاة وأمّهات الأولاد. كتب عن الامامة، كما كتب عن الحول والعور.. ([28]). وهو الذي قال فيه صاحب ” مروج الذهب “: ” لا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبًا منه. وكتبُ الجاحظ مع المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنّه نظمها أحسن نظم ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوّف من ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جدّ إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة”([29]). ولا غرو إذا قلنا عنه: إنّه دائرة معارف في عصره ولكنّها غير مرتبة.. كتب في العلم والفلسفة والأدب والاجتماع والسياسة.. وتناول الدين والطبيعة والعوالم والمخلوقات الحية والجامدة.. كتب في الأخلاق والعادات والطبائع والأجناس.. وأهم ما وصل إلينا من كتبه:” البيان والتبيين” و”الحيوان” و”البخلاء ” و”كتاب المعادن والفكر ” و” الرياضيات “و ” الأوقاف” و “والحرف ” و”الأصنام ” و”الديانات ” و”العبادات “و ” البخل”، وكتاب ” الصرحاء والهجناء ” و “والزرع والنخيل ” و”أقسام الصناعات ومراتب التجارات “و ” القحطانية والعدنانية ” و”ورسالة الفتيان ” و”رسالة الملوك ” و “رسالة التربيع والتدوير “و “الهاشميات “و” الدين ” و “الرد على المشبهة ” و “وطبقات المغنيّن ” و ” ورسالة الجد والهزل “و “كتاب الشعوبية “و ” كتاب الفتيا “و”كتاب صحيح النبوّة ” ” و”رسالة المعاد والمعاش ” و”الردّ على اليهود ” و” كتاب البلدان ” و ” كتاب النساء “….
وغير ذلك مما وصل إلينا وما لم يصل.. وتراوحت تآليفه التي بلغت مئة وسبعين كتابًا بين رسالة صغيرة وكتاب من مجلدات عديدة.
رحاب العدّة المعرفية ونبوغ المتفوّق
يتناول الباحثون الجاحظ مثلًا راقيًا من أمثلة السعة الثقافية، إنسانًا اتسع ذهنه لثقافات عديدة وهضم عقله العلوم المختلفة.” ولا ريب في أنّ ما تميّز به من ملكات خاصة، ومن دأب على تحصيل العلم، ومن طول عمر وما وفّر له العصر.. جعل منه أنموذجًا لامتزاج الثقافات كما يذهب أحمد أمين”([30])، ولعل وراء ذلك أسبابًا عدة؛منها ما يتعلق بالبعد الجمالي، ومنها ما يتعلق بالبعد المعرفي الذي تقدمه النصوص عن العصور والمجتمعات التي تعبر عنها وتمثلها، وغير ذلك من أبعاد…
إذًا ثقافة الجاحظ مصدرها أمران: شخصيته وما توافر له من ضروب المعرفة، بالإضافة إلى معاينته لكثير من المواقعات الاجتماعية. فشخصيته تختزن النبوغ المتجلي في الذكاء وقوة الذاكرة والمقدرة على الاستيعاب وحب العلم ودقة الملاحظة والصبر الطويل وسعة النظر والخيال وسلامة المنطق والقدرة على النقاش والتعليل والاقناع واستحداث الطارف من الأفكار.
تتلمذ الجاحظ على كبار علماء عصره من رواة ولغويين وأدباء ومتكلمين أمثال أبي عبيدة والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وخلف الأحمر وابن الاعرابي وأبي زيد الانصاري وأبي الهذيل العلاّف والأخفش والنّظام وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس وهشام بن الحكم وضرار بن عمرو وأحمد بن حنبل…
يمكن القول إذًا، إنّ مناهل فكر الجاحظ تتركز في:
1 – الرواة واللغويين.
2 – المتكلمين.
3 – المفكرين.
4 – الكتب: ويظهر حبّ الجاحظ لها في قوله في مقدّمة كتاب ” الحيوان “: الكتاب ” نعم الذخر والعقدة ونعم الجليس والعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الجليس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل…”([31]). أما جماع ثقافاته وامتزاجها، فيقول أحمد أمين فيها: ” تثقيف بالثقافة العربية من المِرْبَد، ومن علمائها أمثال الأصمعي وأبي زيد. وأتت له الثقافة اليونانية من طريق علماء الكلام ومشافهته لحنين بن اسحق وسَلمَويْه وأمثالهما، وحذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع وأخذه عن أبي عبيدة، وتوسّع في الثقافات كلها بما كان يقرأ من الكتب كلّها ” ([32]).
وهكذا فإنّ الجاحظ قد أتى على ثقافة عصره، فكان فقيهًا متكلمًا آنًا وأديبًا ناقدًا آنًا. وتراه أحيانًا راوية للأخبار والأشعار، وأحيانًا عالمًا في النبات والحيوان، إضافة إلى الجدل والمنطق، والمناقشة والكلام، والحرية في عرض الآراء. وكان للشعوبية والعروبية دورٌ كبيرٌ في تنمية ثقافته… ([33]).
إلا أنّ الثقافة الأهم أتت الجاحظ من معاينة الواقع، وتتبع مشكلاته واختلاطه بالجماعات والأفراد، والتوغل في بواطن النفوس، والرغبة في تحليلها، وإظهار خفاياها والكتابة عنها لتقدم نماذج تكون علائم دالة على الرقيّ حينًا وعلى الانحطاط الخلقي حينًا آخر.. وأبرز مثال على ذلك كتاب ” البخلاء”.
ولقد كانت الثقافة الدينية منهلًا رئيسًا من مناهل ثقافته وسلاحًا شهره في معالجة أبرز القضايا الانسانية ومنها قضية البخل،لذلك امتاز أسلوب الجاحظ بالموضوعيّة والشموليّة والنظرة المتعمقة، وهو حين يورد أسماء لشخصيات أدبية أو فلسفية يُعطي سردًا وافيًا عنها ويعرف بها للقارئ حتى تكون الصورة متكاملة الأجزاء أمامهُ…
فضاء البخل في أدب الجاحظ، أو عالم النّادرة ومضامينها:
تبدو قضية البخل رئيسة في أدب الجاحظ، وهي قضية لأنّها تشكّل قطب الرحى في مجتمعه. ذلك الذي كان يمور بالمشلات الاجتماعية وفي طلعتها الفقر والغنى وسوء الأحوال الاجتماعية وتركّز المال في أيدي قلّة من المنتقدين والتجّار والمرابين وبعض العائلات التي استحوذت عليه بطرق مختلفة أبرزها المصادرات والحروب والحيلة والدهاء والبخل ([34]). ومعلوم أنّ البخل منافٍ للطبيعة العربية في ذلك الزمن، فالقيم الجاهلية كانت تخضُّ على الكرم وإعانة الملهوف وتقدير واحترام الضيف والايثار.. وجاء الاسلام ليؤكد هذه القيم ويرغّب الانسان بالتكافل الاجتماعي ويجعل من الزكاة ركنًا رئيسًا من أركانه ويذم البخل وينكر الاسراف. وقال تعالى: ﴿ ولا تجعل يدكَ مغلولةً إلى عُنُقكَ ولا تبسُطها كلّ البسطِ فتقعُدَ ملومًا محسورًا ﴾([35]) ﴿… ولا تُبذّر تبذيرًا﴾ ([36])﴿ إنّ المُبذّرينَ كانوا إخوانَ الشياطينِ…﴾ ([37]).
بقيت هذه القيم الأخلاقية في العصور اللاحقة لدى العرب طبعًا فيهم وخصلةً من خصالهم..
لكنّ الاختلاط بالشعوب الأخرى ودخول فئات كثيرة أعجمية إلى المجتمع العربي أفرز أوضاعًا جديدة.. حتى أنّ الجنس العربي لم يعد صافيًا كل الصفاء بفضل التزاوج والمصاهرات والانتماء العام إلى المجتمع العربي.. وعلى الرغم من ذلك ظلّ العرب يتنكّرون للبخل ويحضّون على الكرم.. وكما في كل مجتمع تبقى بعض الفئات على هامش القيم.. بل تخلق لنفسها قيمًا خاصة بها ولا سيّما هؤلاء الذين يتعاطون بالمال ويكتنزونه بطرق مختلفة. ولا عجب أن قال الدكتور شارت بلاّ: “إنّ البخل الذي أنشأ الجاحظ عليه كتاب “البخلاء ” كان صفة بارزة للطبقة البصرية البورجوازية التي أثرت بفضل اقتصادها المفرط “([38])، لدراسة نفسية واجتماعية واقتصادية وتربوية للبخلاء الذين عاشرهم في محيطة ، وقد وصفهم وصفاً صادقاً جسد فيه واقعهم النفسي والاحتماعي بطريقة فكاهية هزلية .
وهو أمر يُلحظ في سياق التطور العام للمجتمع، أيّ مجتمع، حيث يؤدي بروز الطبقات الاجتماعية إلى تخلف أصحاب كل طبقة حول طبقتها، وينشأ عن ذلك مجموعة من القيم الخاصة بكل طبقة تصفها للدفاع عن مكاسبها وعن مالها وعاداتها وتقاليدها، وفي التحليل الأخير فلسفتها. وعندا يتحدث الجاحظ في كتاب ” البخلاء ” عن هذه القضية، قضية البخل، يتناول نماذجه من المجتمع أفرادًا حينًا وجماعات حينًا آخر.. الأفراد فيم يمثلون من شرائح اجتماعية والجماعات بما تصطنع لنفسها من فكر وقيم ومبادئ تؤثر في أفرادها: أطفالًا وشبابًا وشيوخًا.
من أجل هذا كانت قضية البخل بارزة في عصر الجاحظ.. وهذا لا يعني أنّها لم تشغل سواه من السابقين والمعاصرين واللاحقين… ففي الأدب العربي نعثر على هذا الموضوع في مواضع كثيرة، وإن كان الشاعر طرفة بن العبد في معلقته قد ذمّ البخل بقوله:
أرى قبرَ نَحّامٍ بخيلٍ بمالهِ كقبرِ غويٍّ في البطالةِ مُفْسِدِ ([39]).
وانّ زهيرًا بن أبي سلمى يتعدّى موضوع البخل بالمال ليصل إلى ذمّ البخل بالفضل بقوله:
ومَنْ يَكُ ذا فضْلٍ فيبخَلْ بِفَضْلِهِ على قومه يُستغنَ عنْهُ ويُذْمَمِ ([40]).
فإنّ التراث العربي بعد الاسلام حفل بهذا الحديث، وأُلفت الكتب حوله، ووَضَعَتِ المصنَّفات الكبيرة في بواطنها فصولًا عنه في سياق كلامها العام سواء عن السيرة والنوادر أم المرويّات الأخرى وكتب البلاغة واللغة والأدب والفن والتراجم وتاريخ البلدان والأعيان وأحوال المجتمعات..
ذلك ما نلاحظه في مؤلفات مثل ” الامتاع والمؤانسة ” لأبي حيان التوحيدي و” محاضرات الأدباء ” للراغب الأصفهاني و” والمستطرف في كل فن مستظرف ” للأبشيهي، و “المقامات ” لبديع الزمان الهمذاني والحريري و ” العقد الفريد ” لابن عبد ربه، و”ألف ليلة وليلة “.. وغير ذلك ممن ذكرهم الجاحظ في فاتحة كتابه ” البخلاء ” أو كتب عنهم. فهو يقول: ” وذكرّت مُلحَ الخزامي واحتجاج الكندي ورسالة سهل بن هارون وكلامَ ابن غزوان وخطبةَ الحارثي، وكلَّ ما حضرني من أعاجيبهم وأعاجيب غيرهم” ([41]).
لقد انتشرت مسألة البخل انتشارًا واسعًا في ذلك العصر… وكما يُفهم من كلام الجاحظ أنّ البخل لم يقتصر على العامة من الشعب، بل تعدّاه إلى الأثرياء وبعض القادة والأمراء، وحتى الخلفاء، لم ينجوا من هذه النقيصة.. يحكى عن عبد الملك بن مروان أنّه كان من أبخل الخلفاء حتى أنّه لقب برشح الحجر ولبن الطير، لصعوبة خروج المال من بين يديه. ولم يكن ابنه هشام أقلّ بخلًا منه.. ولشدّة الاهتمام بهذا الموضوع فقد أولاه الرسول (ص) أهمية بالغة وحاربه وبغّض الناس به وحضّ على الجود والكرم…
يروى عنه أنّه قال: ” السخيّ قريبٌ من الله، قريب من الناس، بعيد من النار. والبخيل بعيدٌ من الله، بعيد من الجنة، قريب من النار ” وأنّه خاطب عليًا بن أبي طالب (ر) قائلًا: ” كن سخيًا، فإنّ الله يحب السخيّ “…
ومِنْ تَصَفُّح كتاب ” البخلاء” تجد أنّ الجاحظ قد أنشأ كتابه على ظواهر عاينها، واستطاع من خلال رصده إيّاها أن ينفذ إلى دواخل البخلاء.فإذا بنا في مقدمة كتابه نقرأ تركيزًا على هذه الناحية أي الأساس النفسي للبخل، وهو ما يسمى اليوم بعلم النفس ( psyehlogie).. وهو أمر نلاحظه في هذا التكثيف لذكر السبب الذي جعله ينشئ كتابه. من ذلك هذا المقطع الذي يرد على لسانه، وهو يستعرض الموجبات لتأليف الكتاب: ” فبيّن لي ما الشيء الذي خبل عقولهم وأفسد أذهانهم وأغشى تلك الأبصار، ونقض ذلك الاعتدال؟ وما الشيء الذي له عاندوا الحق وخالفوا الأمم ؟ وما هذا التركيبُ المتضادُ والمزاجُ المتنافي. وما هو العناء الشديد الذي إلى جنبه فطنة عجيبة ؟ وما هذا السبب الذي خفي به الجليلُ الواضح وأدرِكَ به الدقيق الغامض ؟ “([42]).
وعلى هذا الأساس فإنّ الجاحظ قد تناول موضوعه وغاص فيه حتى أعماق شخصياته ونماذجه التي اختارها. وهو أمر ينفرد به عن سواه ممن كتب في هذا الموضوع فيما قبل عصره وإبّانه.. على أنّه قد أفرد كتابًا آخر أسماه ” المحاسن والأضداد ” تناول في فصل منه مساوئ البخل وفي آخر محاسن السخاء.فيه يتطور الحدث وضمنه يحدث النمو والتطور، وبه تعرف مراحل الزمن الفني([43])، والكتاب فيما يجمع عليه الدارسون هو منسوب إليه.. والفصلان عرضٌ لما قيل في الشعر العربي وبعض المدوّنات النثرية عن هذا الموضوع. ومما جاء في فصل ” مساوئ البخل ” ” النوادر الآتية:
” وكان أبو عيسى بخيلًا، وكان إذا وقع الدرهم في يده نقره بإصبعه، ثم يقول كم من مدينة دخلتها ويد قد وقعت فيها، الآن استقر بك القرار واطمأنت بك الدار، ثم يرمي به في صندوقه، فيكون آخر العهد به “.
ومن الشعر الذي جاء في فصل ” مساوئ البخل ” الأقوال الآتية:
قال أحد الشعراء:
لأبي نوح رغيف أبدًا في حجر دايه
أبدًا يمسحه الد هر بكم ووقاية
وله كاتب سرّ خطّ فيه بعناية
وقال آخر:
نوالك دون خرط القتاد وخبزك كالثريّا في البعاد
ترى الاصلاح صومك لا لنسك وكسر الخبز من عمل الفساد
أرى عمر الرغيف يطول جدًا لديك كأنّه من قوم عاد.
وقال شاعر آخر:
اللوم منك على الطعام طباع فعيال بيتك ما حييت جياع
وإذا يمرّ بباب دارك سائل حملت عليه نوابح وسباع
وعلى رغيفك حيّة مسمومة وعلى خوانك عقرب وشجاع.
وإذا كان الجاحظ حلقه مهمة في سلسلة من تناولوا قضية البخل، فإنّه قد بزّ سابقيه بمعالجته له.. مع العلم أنّه استند إلى هؤلاء السابقين ممن أوردوا في مؤلفاتهم شيئًا عن البخل. فهو يدور في الكتار المنسوب إليه ” المحاسن والأضداد ” نوادر عن هؤلاء، مثل قوله: ” وكتب أرسطاطاليس إلى رجل بشيء فلم يغفل، فكتب إليه: إن كنت أردت فلم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت ولم ترد فسيأتك يوم تريد فيه فلا تقدر “.
وفي العودة إلى من عالجوا قضية البخل نجد أنّها مسألة إنسانيّة توقف عندها الأدب والفلسفة والاجتماع.. لأهميتها على صعيد السلوك الفردي والاجتماعي.. فهي ظاهرة خطرة تكمن في النفوس وتؤثر في العلاقات الأسرية حيث يظهر الأب البخيل عقدة كأداء في وجه سعادته هو بالذات فيُحرم من كثير من ملذات الدنيا ويحيط نفسه بهالة الفقر والتعاسة وعشق المال… مقابل تكديس المال الذي لا يفيده بشيء. كما يظهر عقدة كأداء في وجه مصير أولاده وسعادتهم.. وهم الذين سيؤول المال المكدّس من طريق الشحّ والتقتير إليهم إنْ عاجلًا أم آجلًا.. وجلّ ما في الأمر هو سوء استعمال هذا المالَ من قبل فرد واحد.. كما يؤثّر البخل في العلاقات الاجتماعية والانسانية، حيث يحرم المجتمع من أفراده المبتعدين من الاسهام في دفعه قدمًا إلى من شأنها أن تهدّم من دون أن تبني..
يذكر تاريخ الآداب العالمية الكثير من المؤلفات التي توقفت عند قضية البخل..
من ذلك..
1 – في التاريخ القديم:
أسطورة ماتث: ( mythe) اليونانية وبطلها كريزوس ( gresus). وهو شخصية بخيلة بلغ بها التقتير حدًا أثار نقمة الآلهة وجعلها تحكم على سلوكه بأمر غريب، وهو أن تتحول الأشياء التي تطالها يداه إلى ذهب.. وبذلك يستطيع أن يستحوذ على الثروات المادية التي يريدها ,أن يصل ببخله إلى أقصى غاياته.. وهو برهان على أنّ اكتناز الذهب والأموال لا تجدي الانسان نفعًا في حياته..
2 – أسطورة الملك ميداس midas )) اليونانية أيضًا.. وبطلها الملك ميداس كما يشير اسمها.. شخصية محبة للمال وحريصة على جمعه، يصل به هذا الشغف إلى درجة يصعب العودة منها.. وهي أنّه يدعو الله أن يحوّل كلّ ما يلمسه ذهبًا.. يستجاب طلبه ويحوّل كل ما يصادفه إلى ذهب، فيدخل بذلك، كما كريزوس / مأساة إنسانية ووجودية من الصعب استحالة وقوعها.. وهي موعظة لكل من يجري وراء المال لهدف جمع المال فحسب.
3 – مسرحية بلوتوس plou tous )) لليوناني اريستوفان ( Aristophvan) كريميل Chremyle ) ). وهو أنموذج من نماذج البخل الذي يطرح في المسرح اليوناني بعدما طُرح في الأساطير. وتاريخها يعود إلى ( 388ق. م. ).
4 – مسرحية ” القدر ” لبلوت ( ploute) وبطلها البخيل اكليون ( Eelion) وقد كتب سنة (195 ق. م.).
وغير ذلك مما أثر عن الآداب القديمة.
في الأدب العالمي الحديث:
نجد مجموعة كبيرة من الأعمال الفنيّة تتناول موضوع البخل نذكر منها:
1 – ملحمة دانتي ( Dante) ” الكوميديا الالهية “.. وهي عبارة عن رحلة يقوم بها إلى الفردوس. ويصادف خلالها العديد من الأشخاص ومنهم البخلاء الذين مكانهم الجحيم. كتبها الشاعر دانتي بين سنتي ( 1300 و 1318 ).
2 – مسرح أريستو ( Ariosto ( ونختار منه مسرحيتين تعالجان موضوع البخلاء (العلبة المزخرفة ) ( Zeaffret) و ( شخصيات مفترضة ) ( Yes personages Supposees ).
3 – مسرحية كريستوفر مارلو ( Cristopher Marlow) ( يهودي مالطة) Rieliew of ) the. ( 1630 ).
إلا أنّ مسرحية ” البخيل ” ( Yanart ) لمؤلفها موليير في القرن السابع عشر تأتي في قمة هذه الأعمال. يعالج البخل بطريقة فنيّة كاريكاتورية حيث تجسّد في سلوك بطله أرباغون (Arpagon ) رجل في الثمانين من عمره مقتّر، له ابن في العشرين يحرمه من الثروة ويزاحمه على حبّ من يهوى وهي فتاة في العشرين من عمرها.. يثبت موليير Maliere في ملهاته هذه أنّ البخل يؤدي إلى الضحك والبكاء والشفقة في آن.. ويركز على النوازع الفردية للانسان في نوع من المهزلة التي ترقى إلى مستويات الفنّ الرفيع.. وهكذا يبدو مما تقدّم أنّ قضية البخل غير محصورة بمجتمع من المجتمعات ولا هي مقصورة على فرد بعينه.. بل هي قضية ذات شأن يصادفها الإنسان في السلوك الإنساني على مرّ العصور زمانًا ومكانًا…
بخلاء الجاحظ وعوالم المعرفة المنظّمة والملحوظة:
ما يميّز هذه المؤلفات الآنفة الذكر أنّها تتوسّل الفنون الأدبية لتبرزها ظاهرة البخل. استعملت الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والمسرحية والملحمة، وكانت نماذجها تحمل جانبًا من جوانب البخل، تدرسه وتتتبعه حتى النهاية.
ولكنّ ما نلاحظه في كتاب الجاحظ أنّه يحمل بين غلافيه قضية البخل في نماذجه وفي الشخصيات الفردية والجماعية. ألّفه لدواعٍ ملحّة من أحد أعيان البصرة يشير إليه الجاحظ بالتاء المتحركة للمخاطب ( تَ ).. فاستجاب أديبنا لدعوته.
إلا أنّ الممعن في مؤلفات الجاحظ كلّها ككتاب ” الحيوان ” ” والبيان والتبيين ” و ” اللصوص ” ( الذي فُقد فيما بعد من مؤلفاته ) و “التاج” و “البغال والحمير ” و” الصرحاء” و” الهجناء” و ” الديانات” و ” القحطانية والعدنانية ” و “رسالة القيان” و “رسالة الملوك” و “الرد على اليهود ” و ” كتاب البلدان” و ” كتاب النساء “.. يجد أنّه قصد إلى تقديم نوع من المعارف المنظّمة في شؤون الحياة كلّها.. أيّ أنّه يركّز على الظواهر البارزة التي تشكّل أمرًا رئيسًا من أمور المجتمع الذي كانت تمور فيه المتناقضات وتفرزه المشكلات، وفي طليعتها قضية خصائص الأجناس البشرية والحيوانية والنباتية.. وما لفت نظره قضية الأجناس البشرية وتحامل بعضها على الآخر. كما تحاملت الشعوبية مثلًا على العرب.
وهذا سبب وجيه يراه الباحثون. أي أنّ الصراع القومي الذي كان سائدًا في ذلك الزمن أملى على الجاحظ موضوعه فدفعه إلى الذود عن العرب وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم.. في وجه الأقوام الأخرى التي اتخذت من الافتئات على العرب سبيلًا للحطّ من قدرهم ايذانًا بإسقاط حقّهم في الحكم والريادة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وعلى الأخص الدينية التي مَنّ بها الله على العرب فجعلهم ﴿… خير أُمةٍ أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر… ﴾ ([44]) ﴿… والبغي بغير الحق… ﴾([45]). وهذه الأقوام لم تترك سبيلًا إلا واستعملته لذكر مثالب العرب والحط من قدرهم.. استعملته في الأدب شعرًا ونثرًا، وفي بثّ الأفكار الدينية غير السماوية كالزرادشتية والمانوية والمزدكية.. وبعض الأفكار الدينية الهندية القديمة.
وفي ردّ الجاحظ الهادئ من طريق كتابته مؤلفه البخلاء نرى الواقع يمور بالحقائق والمشاهد الحيّة والأمثلة المعروفة من الناس، بحيث لا يرقى الشكّ إليها فتأتي أدلّة دامغة على أنّ ما تقوله الشعوبية باطل وأنّ ما يثبته الكتاب ( البخلاء ) حقٌّ شائع…
والكتاب عبارة عن مجلّد واحد فيه مقدّمة طويلة تشير إلى أهميته، واستجابة صاحبه لدعوة أتته من أحد أصدقائه للكتابه في هذا الموضوع. كما فيه تسع وعشرون نادرة عن البخلاء والبخل ورجاله وأفعالهم، أوردها الجاحظ بأسمائها وأماكن تواجدها. هذه الأماكن كما وردت في الكتاب تبلغ ستين مكانًا موزّعة على ساحة الخلافة الاسلامية مثل: الأيلّة وأبو قُبس وإفريقية والألال والأهوان ( حرف الألف )، والباطنة والبصرة ( وردت في ثمانية عشرة موضعًا ) وبغداد ( خمسة مواضع ) وبلخ وبلعنبر 0 حرف الباء ) والجزيرة وجمران وجند يسابور ( حرف الجيم )، والحربية والحضر ( الحاء) وخرسان ( عشرة مواضع ) والخُريبة وخضرة ( الخاء )، ودجلة ( الدال) وربع الشادروان والرجام والرُّميثة ( الراء )، وسجستان وسندان وسرنديب ( السين )، والشام وشحر عمان ( الشين ) وطخفة ( الطاء ) وعبَّادان والعراق ( ستة مواضع ) ( حرف العين ) وغمدان وغول ( الفين) وفارس ( ثلاثة مواضع ) وفاس والفرات وفرغانة ( حرف الفاء ) والقادسية ( القاف ) والكرخ وكسكر والكلاّ والكوفة ( الكاف ) والمازح والميبر ومرو ( سبعة مواضع ) ومسجد ابن رغبان ومصر ومكة ومولتان ومهران ( حرف الميم ) والنجرانية ونطاة خيبر ونهر مرّة ونهر بط النيل ( حرف النون) والهند ( حرف الهاء ) ووادي الجحفة وواسط ( الواو ) واليمن وينصوب ( الياء)..
أما الأعلام الذين ورد ذكرهم في كتاب البخلاء فعددهم هو خمسماية وستة علماء.. والجدير بالذكر أنّهم ليسوا كلّهم من البخلاء، بل فيهم العالم الذي استشهد به الجاحظ لتثبيت حجته أو نقل نادرته.. ولقد أورد الجاحظ شعرًا لمعظم شعراء العربية، وقد وُجِدَ منهم تسعًا وتسعين شاعرًا. مع العلم أنّ اسم الشاعر الواحد قد يرد غير مرّة..
ودلالة على سعة ثقافة الجاحظ واطلاعه على اللغات الأخرى المعاصرة لزمنه فقد أورد مجموعة كبيرة من الألفاظ غير العربية. وقد جرى إحصاء الألفاظ الفارسية والهندية الواردة في الكتاب.. وقد بلغت مئة وسبعًا وعشرين لفظة، والجدير بالذكر أنّ معظم ما جاء في مضامين ما ورد آنفًا هو نوادر صُبّت بقالب فنّي قصصي.
في العودة إلى مضمون الكتاب نجد أنّ الجاحظ قد صوّر البخلاء وسلوكهم الخاص في التقتير والبخل. وهو من أبرز مؤلفاته الهادفة إلى النقد الاجتماعي والخلقي..
افتتح المؤلف كتابه بحديث مطوّل يبدي فيه رغبة صاحبه في وضع كتاب من هذا النوع.. وفيه يستجيب لهذه الرغبة، ويضع القارئ على مشارف مقصده، ويشدّهم إلى متابعته، ويزرع في المقدّمة أواخر العلاقة المتينة بينه وبين القارئ الذي سيجد فيه المتعة والفائدة واللهو والمعرفة.. وهو نوع من التشويق يعد الجاحظ فيه قارئه بأنّه سيفيد الافادة التامة إن صَبَرَ وأتى الكتاب على آخره. وأبرز ما طرحه الجاحظ في مقدمته عرض عام للأرضيه النفسية التي يقوم عليها البخيل، وأنّ البخيل إنسان لا يشعر ببخله ولا يدرك مدى خطورة فعلته وبشاعتها، وأنّه غير قادر على تقويم نقيضه إذا ما اكتشفها الآخرون فيه، فتراه يلجأ إلى الأعذار الواهية لتسويغ بخله وحسبانه نوعًا من الفعل المفيد حيث يعدّه من قبيل الاقتصاد المحصّن للانسان والمجتمع الذي يحتاجه في أيامه السوداء..
يستهلّ الجاحظ كتابه، بعد المقدمة، برسالة لسهل بن هارون ([46])، وقد أرسلها إلى أهله يدفع بها صفة البخيل عنه ويسوّغ سلوكه مقدّمًا براهينه لاقناعهم بأنّه ليس بخيلًا وإنّما هو يفعل ذلك بداعي الاقتصاد وهو أمر محبّب ويدخل في حيّز حسن التصرّف والتدبير..
ويقوم عمل الجاحظ على عنونة كلّ قسم من الكتاب بعنوان الشخص أو المنطقة التي يتحدث عن نوادر بخلها وشحّها.. ويأتي المراوزة في العنوان الأول بعد رسالة سهل بن هارون.. يذكر الجاحظ فيها أنّه يخصّ ” أهل مرو، بقدر ما خصّوا به ” ([47])، ويستفيض في ذكر نوادر عنهم تنمّ عن أساليب في الشحّ والتقتير، ويستهلّها بسؤال أيّ مروزيّ لضيفه إن كان تغدّى أم لا ” فإن قال نعم، قال: لولا أنّك تغدّيت لغدّيتك بغداء طيّب. وإن قال: لا: لو كنتَ تغدَّيت لسقيتُكَ خمسة أقداحٍ، فلا يصير في يده على الوجهين قليلٌ ولا كثيرٌ ” ([48])، ويمضي الجاحظ ذاكرًا النوادر عن أشخاص بعينهم من آل مرو مثل ابن أبي كريمة والكندي ودَيكة أهل مرو ومشايخهم وجماع عاداتهم وعبدالله المروزي.. حتى لا يترك نقيصة دالة إلى البخل إلا ويذكرها.. مؤكّدًا أنّ البخل طبع فيهم يتوارثونه جيلًا بعد جيل.. وهو لا يعفي أحدًا منهم أطفالًا ونساء وشبانًا وشيبًا.. حتى يأتي على آخرهم فيكون كلامه تفصيلًا مستندًا إلى أمثلة واقعية..
وينتقل إلى الحديث عنّ المسجديين ” ويسمّيهم أصحاب الجمع والمنع “، وهو ” مذهب عندهم كالنّسب الذي يجمع على التحابّ، وكالحلف الذي يجمع على التناصر. وكانوا إذا التقوا في حلَقِهم تذاكروا هذا الباب وتطارحوه، وتدارسوه التماسًا للفائدة، واستمتاعًا بذكره “([49]).
وهم شيوخ يتناوبون على الحديث، كل يروي نادرة تفيد موضوع الجمع والمنع.. وعندما يفرغ من حديثه يقول القومُ تعقيبًا: ” هذا بتوفيق الله ومِنه “([50]).
والجدير بالذكر أنّهم يتناوبون أسماء اشتهرت ببخلها أو حسن تدبيرها، كما يعتقدون.. وهم يُجلّون هذه الأسماء ويقدّرونها حقّ قدرها ويضعونها بمصاف المشاهير والروّاة.. من ذلك، الحديث عن مريم الصَّناع ومهارتها وتدبير أمورها وحسن معالجتها لما يطرأ عليها، كتزويج ابنتها وهي صغيرة السنّ وتجهيزها بما يليق بها، وكيف أنّها اقتصدت لتوفرّ لها ما تحتاجه في حياتها المقبلة.. وعندما يذكر الراوي خبر موتها ينهض الجميع للصلاة صلاة الجنازة الغائب لفقدها.. وشبيه بهذا، الحديث عن امرأة أخرى اسمها ” معاذ العنبرية ” وهي التي، كما وصفها أحد الشيوخ، ” لم أر في وضع الأمور مواضعها، وفي توفيتها غاية حقوقها، كمعاذة العنبرية “([51])، حيث تُهدى أُضحيةً فتحتار في معالجتها إلى أن تهتدي إلى طريقة ناجحة للاستفادة من كل شيئ يتعلق بالاضحية.. والغريب أنّ هذه النوادر تؤثّر في السامعين فيهللون ويكبّرون، أو يلعنون النسيان وسوء التدبير لأنّهم فاتتهم هذه الأساليب التقتيرية، حتى يقول أحدهم: ” لا تعلم أنّك من المسرفين حتى تسمع بأخبار الصالحين ” ([52]).
ينتقل الجاحظ بعدها إلى عنوان جديد: ” قصّة زبيدة بن حُميد “، ثم إلى ” قصة ليلى الناعطيّة ” و ” أحمد بن خلف ” و” خالد بن يزيد ” الذي بلغ في البخل، وفي كثرة المال المبالغ التي لم يبلغها أحدٌ ” ([53]).. وغير ذلك كثير، فهو يروي أيضًا عن أبي جعفر والخزامي والحارثي والكندي ومحمد بن أبي المؤمَّل والثوريّ وابن العّقديّ وأبي سعيد المدائني والأصمعي وأبي عُيينة والتعقفي وابن التوأم.. بالإضافة إلى العناوين التي ترد عامة مثل ” طُرقٌ شتى “.. يتبيّن من ذلك أنّ الجاحظ قصر كتابه على موضوع واحد هو البخيل، وذكر طرائقه بواساطة العيان والتجربة..وهو منوّع ضمن وحدة موضوعه، يضيف الكاتب كلّ مرّة صفة جديدة للبخلاء، حتى لو جُمعت فإنّها تعطي فكرة واسعة عن كل ما ينم إلى البخل بصلة..
وقد يتوّهم القارئ، عندما يسند الجاحظ نادرته إلى أحدهم، أنّ هذا الأحد هو الذي قال كلّ شيء.. وهذا غير صحيح، لأنّ الجاحظ عندما يقصّ يكتب بأسلوبه ويستعمل وسائله الخاصة في تدبيج المقالة والنّادرة.. فإنّنا لا نحسّ بغير الجاحظ يحّثنا ولا نؤخذ بأسلوبه إلا لأنّه هو الذي صاغه بجاحظيته المعروفة في أسلوب السهل الممتنع.. وهكذا يغدو الجاحظ ناطقًا باسم الأسانيد التي عاد إليها يغوص إلى الأعماق ويستخرج خصائصها، ويضع نادرته معنى وشكلًا، يوجهها كما يهدف إلى مقصده من روايته، لذلك كان الجاحظ أستاذ الثقافة في النصف الأول من القرن الثالث، وكان مجده الأدبي الذائع يعصف بمجد كل أديب، يدوي في كل أفق، ويرن صداه في سمع كل كاتب وشاعر ،وخطيب ([54]) وعلى ما يبدو فتن الجاحظ بأسلوبه وأدبه وثقافته الواسعة جل العلماء والأدباء، فذاع صيته وأصبح حديث النقاد حنى بعد وفاته…
مدارات النّادرة ومضامينها في كتاب ” البخلاء ” في قالب قصصي:
لدى تصفّح كتاب ” البخلاء ” يخال للبعض أنّه كتاب وضع بهدف الهزل والتسلية والمتعة الاضحاكية وحسب.. وأنّ غايته عبثية تعكس روح الجاحظ التي بثها في جلّ كتبه.. وهؤلاء ينطلقون من أنّ الجاحظ لم تكن لديه أخلاقية أو إصلاحية من تقديم نماذجه. وهذا ما يؤكده أنّ المؤلف عرض هذه النماذج وأنطقها بإسهاب لتتحدث عن محاسن البخل وفوائدة، وأنّه ضرب من ضروب الاقتصاد وحسن التدبير.. وقد ظهرت الشخصيات عقلانية، تحلل وتقدّم الأدلة والبراهين والحجج على مال تذهب إليه.. وهي عاقلة متحابة متضامنة فيما تقوله، قريبة من الواقع، صاحبة نكتة وروح خفيفة، وعلى العموم أعطاها الجاحظ حقَّها لتكون في نظر الناس عاقلة صالحة تدافع عمّا تذهب إليه..
والجاحظ عندما يقدّم هذه الشخصيات وقد نجحت في أداء دورها وإبلاغ رسالتها، فذلك لأنّها تدين بمذهب خاص وثرى هذه الآراء، ومن الضروري أن تصنع حولها دنيا قائمة بذاتها وتقنع الآخرين بطريقة عيشها.. وهي خصائص لازمتها ونمّت عن تجاربها وسط مجتمع متنوّع ومضطرب وكثير التبدّل والتغيّر. فكان لزامًا عليها أن تحمي نفسها من دوامّة القلق وغوائل الأزمات والمشكلات التي تعصف بالمجتمع.. لذلك كانت منطقية ومنسجمة مع نفسها، ويتفق أغلب الباحثين مع بارت على شمولية السرد واتساع مجاله ، فروبرت شولز يذهب إلى أن السرد ” يمكن أن يُروى شفاهاً ، أو من دون كتابة ، أو تمثله مجموعة من الممثلين ، أو ممثل واحد … أو يمثل كمتوالية من الصور البصرية ،بكلمات أو بغيرها ، أو كتيار من الصور المتحركة بأصوات وكلام وموسيقى، ولغة مكتوبة أو بغيرها ” ([55]) . وتضيف الباحثة شلوميت ريمون إلى السرد ، كذلك ، التقارير الإخبارية ، والمسلسلات الهزلية ، والرقص ، والقيل والقال ، والجلسات الخاصة بالتحليل النفسي ( [56])، ما يدل على أن السرد خارج قيود الزمان والمكان ، ولا يأخذ شكلاً واحداً ، وإنّما له تشكلات متعددة . وعلى ذلك يغدو السرد : الطريقة التي يختارها المبدع أو الروائي ليقدم بها الحدث ، أو أحداث المتن الحكائي …
إلا أنّ هذا الرأي، أي رؤية البعض الجانب الهزلي والعبثيّ من كتاب البخلاء وحسب، غير جدّي وغير نهائي.. لأنّ، المتأمل في جماع الكتاب وهدفه، وفي أسلوب الجاحظ الساخر والمتهكم من شخصياته وتضخيم مميزاتها حتى الانتفاخ والكاريكاتورية يظهر خلاف هذا الرأي..
ويقول الدكتور جميل جبر معلقًا على بخلاء الجاحظ: ” فكأنّني بالؤلف شاء أن يُظهر، بشكل تهكمي بارع، حقارة البخلاء ليعظمّ سخاء العرب من طريق مقارنة النقيضين “([57]).
وفي سؤاله هل كان الجاحظ بخيلًا ؟ يجيب الدكتور، محمد عبد المنعم خفّاجي قائلًا: ” لا، بل إنّه ليدل دلالة قاطعة على سخريته من البخل ومذاهب البخلاء وآرائهم الجدلية العجيبة.. ” ([58]).
وفي التقدير أنّ الجاحظ، في جلّ مؤلفاته التي تربو على المئة والسبعين، عالم توخّى تحرّي الحقيقة من طريق تشريح المجتمع وإظهار مثالبه وحسناته.. وهؤلاء البخلاء، ليسوا إلا شريحة من شرائح المجتمع الواسع الممتدّ على مساحة شاسعة من الأرض، والمحتوي مزيجًا كبيرًا من العناصر القومية المختلفة.. الأمر الذي جعل بنيته في التنوّع والاختلاف ما يوحي للعالم والمفكر والفيلسوف والناقد والأديب بكثير من الموضوعات، لا لتصويره وحسب، بل لإظهار الخلل فيه وتقويم مسيرته، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي.. والجاحظ في أثره، البخلاء، إنّما هو عالم مدرك للحقيقة وما يمور في الواقع…فالجاحظ كان عميق الفهم للشعر وطريقة صياعته، وقد ذهب الجاحظ لتبني اللفظ كأساس لبراعة الشعر وبلاغته إلى أن اعتقاده بأن اللفظ لا يسرق، حيث أن المعاني مشتركة بين الجميع فللجميع خواطرهم وأحاسيسهم والتي قد تتشابه.
ولكن براعة الشاعر تكمن في طريقة التعبير عن هذه المشاعر ويظهرها بأحسن الألفاظ وأفضل الصور، كما أكد الجاحظ على مدى أهمية الصورة الشعرية بل أنّه قال أنّ الشعر قائمًا في الاساس على الصورة الشعرية، فهي نتاج لتخير أفضل الألفاظ كما أنّه يقوم بصياغتها بطريقة محكمة، ومن زاوية ثانية أعمق، فإنّ البخلاء هم لسان حال يعبر عن الأوضاع الاجتماعية والإقتصادية في المجتمع، فمن خلالهم تتكشف البنى العديدة لنسيج الحياة في أي عصر كان.
وفي الظنّ أنّ كتابه هذا هو من قبيل إكمال الصورة التي بدأها وقطع أشواطًا كبيرة بها في مؤلفاته الأخرى.. فأظهر جماعة البخلاء فئةً اتخذت لنفسها منهجًا خاصًا في التفكير والتدبير والسلوك.. وجعلت منه مذهبًا شبه متكامل، واقتنعت به، وسوّغت له بالعلم والمنطق والحيلة والذكاء.. حتى ليخال القارئ أنّه أمام فلاسفة يسوّغون أفعالهم وطرق تفكيرهم.. وهو أمر ملفت للنظر في مجمل الخريطة الاجتماعية.. ولدى إقبال الجاحظ على طرق هذا الموضوع كان يعي هدفُه، فيحلّل ويدقق ويكون أكثر واقعيةً خدمةً للأمانة العلمية واستكمالًا للسمة التي امتاز بها وهي أنّه عالم، لذلك تستمد حركيّة النص في النّادرة فعاليتها ضمن كتاب ” البخلاء” للجاحظ من عدّة جدليّات حسب طبيعة النّادرة ومضمونها، وحسب البنية الفنيّة التي صيغت عليها، من ذلك على سبيل المثال جدلية البخل والكرم ([59])فيضع الجاحظ وجهًا لوجه الظّاهرتين في صراع داخلي وخارجي مباشر، أو جدليّة التخّفي والانكشاف، والظاهر والباطن إذ تنتهي النّادرة بانكشاف أعماق البخل في شخصية البخيل…
دراسة كتاب “البخلاء ” بمعزل عن بقية كتبه تبدو ناقصة… إذ من الخطأ تناول آثاره كلاّ على حدّة… فنقول بعالمِيته في مكان وننكرها في مكان آخر.. وفي ” مجتمع للدرهم شأنه في وزن القيم، كان من الطبيعي أن يؤدي التهافت على المال إلى أقبح الوسائل: من مخاتلة، إلى خيانه، إلى التزلّف، إلى كذب، إلى غدر، إلى وشاية، أو نميمة، وإلى صغارة تنحط بمستوى الانسان ” ([60])، فيغدو البخيل مُسوّغًا عند طائفة من الناس، ومع أنّه عادة مرذولة، لكنّه يبقى أقلّ خطرًا من بقية النقائض.. ولا سيّما أنّ الجاحظ يجعل من بين نماذجه البخيلة فلاسفة ومفكرين وأدباء وشعراء أمثال سهيل بن هارون والكندي وعبدالله بن هارون العروضي الشاعر..
من أجل ذلك كلّه فإنّ لكتاب البخلاء المدارات التالية في نوادره:
1 – المدار النقدي الاجتماعي:
من الواضح أنّ كتاب ” البخلاء ” وثيقة اجتماعية، لا تعود إلى البخلاء، وحسب، بل إلى أمور أخرى تنتج عن البخل وعن بعض الممارسات الاجتماعية في إطار الجري وراء المال، في مجتمع كثُر فيه المستثمرون، ذلك أنّ حكام المناطق كانوا يفيدون من سلطانهم ليفرضوا الهدايا على الرعية بانتظام، وأنّ الموظفين كانوا يسيؤون استعمال وظيفتهم بدافع الجشع إلى المال، وأنّ الأوصياء ما كانوا ليرتدعوا عن نهب ثروة القصر، بينما المفروض أن يحرصوا عليها من نهب الغير، فصحّ فيهم قول المثل السائر ” حاميها حراميها “، وحتى” القضاة كانوا يسخّرون العدالة لأهوائهم ومطامعهم ” ([61]). وهذا ما نجده في حديث خالد بن يزيد ([62]) مولى المهالبة في وصيّته لابنه ينبهه إلى ضرورة المحافظة على المال الذي جمعه، ويوصيه بعدم الاسراف، ولا سيّما أنّه جمعه من طريق الحيلة والدهاء والاستغلال واغتنام الفرص واقتناص المناسبات والكدية ([63]).. فهو يقول في هذا الحديث عن مغامراته في جمعه ماله: إنّي قد بتُّ بالقفر مع الغُدل وتزوّجتُ السَّعلاة ([64])، وجاوبتُ النّسناس، وصحبني الرّئيُّ، وعرفت خُدَعَ الكاهن وتدسيس العّراف وإلى ما يذهب الخطّاط والعيّاف وما يقول أصحاب الأكتاف، وعرفتُ التنجيم والزّجر والطَّرقَ والفِكر “. إلى أن يقول عن جمع المال: ” لا يُجمع مثلهُ أبدًا إلا من معاناة ركوب البحر، أو من عمل السلطان، أو من كيمياء الذهب والفضّة.. فإن سلكتَ سبيلي صار مال غيرك وديعةً عندك وصرتَ الحافظ على غيرك… ” ([65]).
إذًا، الكتاب، عمومًا، فيه صورة لطائفة من طوائف المجتمع العباسي، تجعل هدفها جمع المال وتقيم سطوتها وأمجادها عليه، فيغدو بذلك محورًا رئيسًا من محاور حياتها، وتغدو المحافظة عليه استكمالًا لهذا المحور، فكما ينبغي المحافظة عليه ينبغي المحافظة على الحياة.. ” لم أحمد نفسي على جمعه، كما حمدتها على حفظه ” ([66]).
جمْع المال مُساوٍ للنفس ومن ثم للحياة.. فانظر أيّ مجتمع يلمّ شتات نظرية البخيل.. من أناس أسقطوا كلّ القيم الايجابية وانبروا يقدّمون أنفسهم على أنّهم أصحاب الجمع والمنع ” الذين يرون أن نموّهم جسديًا ونفسيًا وحياتيًا هو نموّ المالّ لديهم، يقول خالد بن يزيد لابنه: ” فأول ما وقع في روعي أنّ مالي محفوظ عليّ، وأنّ النمّاء لازمٌ لي وأنّ الله سيحفظ تحقبي من بعدي.. ” ([67]).
وإذا كانت الحياة بأكملها مساوية لهذا المذهب ” الجمع والمنع “، وتكديس الثروة بلا طائل، واستحداث فلسفة لإدخال الدرهم إلى الخزينة، أو إلى إخراجه في أولى وسائل الاستثمار الشخصي القاضي لوأد النمو الاجتماعي وإيقافه…
والاستثمار ميدان فسيح، يبدأ بهذا الجمع من أشخاص واقعين عايشهم الجاحظ، وأقام بينهم وناقشهم واستمع إلى طرقهم.. هؤلاء يوظفون أموالهم في الايجار، تمامًا كما هو سائد في أيامنا هذه.. يكفي للتدليل على ذلك قول الجاحظ في قصّة لنادرة الكندي: ” نزلنا في دار الكندي أكثر من سنة نروّج له الكراء، ونقضي له الحوائج ونفي له بالشرط. قلت: قد فهمت ترويج الكراء وقضاء الحوائج، فما معنى الوفاء بالشرط ؛ قال: في شرطه على السكان أن لا يخرجوا عظمًا، ولا يخرجوا كُساحةً. وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحلبى في بيته. وكان في ذلك يتنزّل عليهم، فكانوا لطيبه وإفراطِ بخله وحُسنِ حديثه يحتملون ذلك ” ([68]). وغير ذلك من الشروط والممارسات التي كان المستأجر يلقاها من المؤجرّ البخيل.. كزيادة الايجار إذا ما زاد عدد الأشخاص، أو نزل على المستأجر ضيف طارئ، لأنّ ذلك سيجعل البيت المأجور أكثر استهلاكًا للبناء والماء… ” فكم من حائط قد تأكّل أسفله وتناثر أعلاه واسترخى أساسه وتداعى بنيانه من قطرِ حُبّ ورشح جرّة، ومن فضل ماء البئر ومن سوء التدبير.. ” ([69]). وإذا ما حصل تأخير دفع الايجار يصبح اللجوء إلى الحاكم أمرًا محتومًا. ومن استثمار هذا المال أيضًا قضية الاقراض والتسليف وهو غالبًا ما يتم بضمانه وشروط قاسية في طليعتها الربى الفاحش وإذلال المستقرض وإحاطته بنوع من الريبة والشكوك طمعًا في إخضاعه وربطه بالمقرض. نجد ذلك في قصة الأصمعي عندما أتاه أحدهم يريد مالًا لأجل محدد، فبادره الأصمعي بالحجج والبراهين، الأمر الذي يكره المستقرض على الاستمرار في فعلته. ومن الاستثمار أيضًا، ما نجد في قصة الأصمعي، فيما يتعلق بالتجارة، فهو يحتال على المشتري ويدّعي الخسران له والربح للمشتري، حتى يأتي على آخر حيلته في ابتزاز المال ([70]).
ومن أساليب الجمع والمنع أيضًا التسوّل. وأصحابه كثر في عصر الجاحظ وقد عرفوا بالمكدّين أو أصحاب الكدية.. وهم يتبعون طريقة من الاستثمار خاصة عن التسوّل واللصوصية والشعودة والشطارة.. وقد أدار الهمذاني معظم حديثه عليهم وعلى أساليبهم المتنوّعة التي يحتالون بها على الناس لاستخراج الأموال من جيوبهم.. وها هوذا الجاحظ يجعل من بخلائه نماذج لهؤلاء المشرّدين، جوّابي الآفاق ينتحلون الأعذار، ويتزيّون بأزياء مختلفة، ويتلبسون إلتباسًا مختلفًا.. فتارة هم أصحاب عاهة ووعاظ وشيوخ.. وتارة أخرى هم ضيوف منافقون لصوص.. أحيانًا هم أذكياء يحتالون على السذّج والمساكين لابتزازهم ماليًا، وأحيانًا أخرى هم أمراء وقادة يستحلّون آخذ المال مضفين على عملهم صفة الشرعية.. وهذا ما نجده في رسالة خالد بن يزيد الوصية لابنه حيث يسرد عليه الوسائل والطرق التي جمع بها ماله.. وهي ليست إلا الأساليب المذكورة آنفًا ” ([71]).
والمكدّون يقبلون على أعمالهم بحيل مختلفة ولهم أسماء تناسب الحيلة التي يستعملونها.. فهناك الكاغاني: وهو الذي يدّعي الجنون والحنق والانفعال، ويقوم بأعمال تنمّ عن انحراف عقله كي يغطّي وسيلته في ابتزاز المال ” حتى لا يشك أنّه مجنون لا دواء له، لشدّة ما يُنزل بنفسه، وحتى يُتعجّب من بقاء مثله على مثل علتّه “.
وهناك القرسي الذي يدّعي أنّه مصاب بعاهة أزلية في ساقه أو ذراعه أو أحد أنحاء جسده.. ” يعصب ساقه وذراعه عصبًا شديدًا، ويبيت على ذلك ليلة. فإذا تورّم واختنق الدم، مسحه بشيء من صابون ودم الأخرين، وقطر عليه شيئًا من سمن، وأطبق عليه خرقة، وكشف بعضه، فلا يشك من رآه أنّه به الأكُلة، أو بلية شبه الأُكلة “.
وهناك المخطراني المتزيّي بزيّ ناسك متعبد، يتصنّع الوقار، يرافقه من يتولّى الحديث عنه.
والبانوان الذي يجعل من كلمة ” بانوا” ( يا مولاي ) على لسانه، وهو يمدّ عنقه من الباب الذي يشحذ من أهله.
وهناك المشعب، وهو الذي ينزل العاهة بالمولود كي يجعله أداة من أدوات التكدّي.
والمستعرض، وهو الذي يدّعي الصلاح والحياء والخفر، ويعرض للمارة خفية وهمسًا مخافة أن يلتقي بأحد معارفه فيسمعه فيفتضح أمره، والمزيديّ ” الذي يدور ومعه الدريهمات، ويقول: هذه دراهم قد جُمعت لي في ثمن قطيفة، فزيدوني فيها رحمكم الله. وربّما احتمل صبيًّا على أنّه لقيطٌ. وربّما طلب في الكَفَنِ ( أي طلب مؤازرة في المال لدفن عزيز ).
والمعدّس: الذي يقف على الميت يسأل في كفنه، سواء أكان الميت إنسانًا يريد له هذا الكفن، أو حيوانًا فقد صاحبه عونه. والكعبيّ: نسبة إلى أبي بن كعب الموصِليّ عريف المكدّين بعد خالويه، والزكّوري الذي يطلب خبزًا صدقةً على سجين أو على سائل..
والعوّاء: وعمله يرافقه صوته العالي بسوئه حينًا وجماله حينًا آخر، أما الإسطيل فهو الذي يجعل من عينيه مطية للشحادة، فيحاول أن ينزل بهما أو بأحدهما سوءًا ما حتى يُظنّ أنّه أعمى أو أعور أو بهما ماء” ([72]).
وعلى العموم فإنّ هؤلاء المتسولين أو المُكدّين على جانب كبير من المعرفة والحذق والذكاء والحيلة.. جوّابو آفاق، مشرّدون سريعو التنقّل والتبدّل، ملمّون بالطبائع عارفون للخبايا النفسية وميولها، حاذقون في فهم الشخصية.. يتحلّون بنوع من الشجاعة والبطولة، عالمون بالأوساط الاجتماعية المختلفة غنيّها وفقيرها. أصحاب منطق وحجّة.. عارفون بالوسائل، مدبرون لأمورهم.. ذربو اللسان أقوياء البيّنة.. لديهم ثقافة عالية..
والجاحظ في البخلاء نقّادة اجتماعي.. فهو إنّما يسوق الأمثلة المكثّفة عن البخل كي يظهر الخلل الاجتماعي في مثل هذه النماذج. وما يُجمع عليه الدارسون من أنّ مواقف الشعوبية هي التي أملت على الجاحظ أن يختار هذه النماذج، ممن يشكّلون علاّمات فارقة في خصائص غير العرب.. فهو يصوّر حديثي العهد بالنعمة وتأثير المال في سلوكهم.. ومن نماذج الجاحظ رجل اسمه خبّاب مزدكي أحلّ الحرام وأشاع في المجتمع نوعًا من الثقافة المغايرة للتي كانت سائدة فيه ” ([73]). وهو أمر ركّز عليه الجاحظ وأظهر سوءات البخل الاجتماعية وخطورة هذا النهج الموصل إلى نتائج سلبية على الفرد والمجموع، وعمومًا على الاخلاق الاجتماعية.
والمؤلف لا يكتفي بذكر مطوّلاته عن البخل وأنواعه ونوازعه، بل يضيف دائمًا إلى شخصية البخيل شخصية أخرى هي الحشرية أو ما يسمى بالطفيلية.. وهم أولئك الذين يعلمون أمر البخيل وحرصه وتشدّده في المال، لكنه لا يربأ بنفسه أن يندسّ في منزل بخيل، أو يتعمّد ملاقاته في الطرقات، ويصطنع المناسبات للاجتماع به، أو الحلول عليه ضيفًا، لعلمه ببخله أولًا،وبكثرة ماله ثانيًا.. والجاحظ يصف هذا الطفيلي ” إمّا بالدلالة عليه بعبارة واحدة يعبر ببراعة فائقة عن سلوكه وأسلوبه: الدلاّك، المقوّر، النثّاف، وأما برسمه بالتفصيل في معرض نادرة كما هو الحال في نادرة قاسم التمَّار.. ” ([74]).
وهذا الطفيلي في نظر الجاحظ لا يقلّ خطرًا عن نماذج بخلائه، فهو بالإضافة إلى طفيليته بخيل أيضًا، وأكول وشديد الحركة ولا يراعي قوانين النظافة، ما يهمه هو إدخال أكبر كمية من الطعام إلى جوفه. ينقل هذه العادات السيئة إلى أبنائه ” ([75]).
ولعلّ البخل يكون أهمّ حديث اجتماعي يورده الجاحظ في كتابه.. فبالإضافة إلى الوقائع المختلفة عن نماذجه، هؤلاء الذين انتقاهم من المجتمع وعايشهم. نجد صورًا عن حياة الطبقة المتوسطة في المجتمع الاسلامي إبان القرن الثالث للهجرة. ذلك أنّ الجاحظ انتقى بخلاءه من الموسرين والمثقفين الذين اعتمدوا البخل في حياتهم ودافعوا عنه بشتى الوسائل والطرق. مستعملين معطيات العلوم الكلامية في الجدل لتكون تطبيقًا في حياتهم العملية. استعملوا ثقافتهم بوجوهها كافة، لا سيّما الدينية منها. فنراهم يضمنون كلامهم المزيد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، أملًا منهم بإضفاء الشرعية والصحة والصواب على ما يذهبون إليه. وهم بذلك يصنعون فلسفة اجتماعية للبخل، حيث يبدو غريزة من غرائز النفس وأمرًا عقليًا ممنطقًا. حتى لتخال نفسك أنّك أمام صراع أزليّ لا ينتهي بين حبّ التملك وإرادة الحياة الطبيعية.
ولم يكن فعل الجاحظ هذا من دون دراية وتخطيط، بل كان ردّة فعل إقتصادية لما كان يجري في الواقع. ففي سياق التكوّن للمجتمع الجديد كانت تنمو توجهات اقتصادية جديدة، قوامها الحرص على جمع المال والامتناع عن بذله في أيّ سبيل، في ظلّ غياب خطط اقتصادية اجتماعية توقف زحف الفقر والجوع. وتدعم المبادئ والقيم الدينية التي بدأ تأثيرها يغيب عن سلوك الناس، لذلك بدأ المجتمع يشهد نموّ فئات اجتماعية تعيش على هامشه تأخذ منه ولا تعطيه. فهناك حديث عن الغجر، وبالتحديد يذكر الجاحظ ” الزط ” ([76]). في كلامه على خالويه المكدّي لابنه عندما يَعُدُّ الحيل التي اتبعها في جميع ماله، يقول: ” سل عنيّ صعاليك الجبل وزوافيل الشام وزطّ الآجام… “([77]). والجدير بالذكر أنّ هؤلاء الزطّ هم أنفسهم الذين يستعملون وجوه الحيلة لأخذ المال من الناس بالطرق المختلفة…
وهذا التنوّع في أدب الجاحظ في كتاب البخلاء دلالة عميقة إلى معارفه الشاملة والمتنوعة بالأوضاع الاجتماعية. فقد جمع بين النزعتين الأدبية والاجتماعية في نطاق السياسة التي وضع كتابه من أجلها، وهي الردّ على الشعوبية ودفع بلاهم عن العرب. فكان أدبه موضوعًا لا يحفل كثيرًا بالذاتية التي درج عليها الأدب العربي في ذلك الزمن. إلا أنّ الدارس هذا الكتاب يجد بعض الدوافع الشخصية للجاحظ أملت عليه تحبير موضوعه عن البخل الذي هو صفة عامة من صفات الشعوبية في عصره. وهذا لا يعيب الكاتب، إذ لا بدّ من مؤثرات تؤثّر فيه فتدفعه إلى معالجة الموضوع الذي يراه ضروريًا ونافعًا لمجتمعه. ولعلّ نزعة الجاحظ الفنيّة هي التي حفزته لمثل هذه الكتابة، كما يذهب الدكتور طه الحاجري ([78]). في مقدمة كتاب البخلاء الذي حقّق نصّه وعلّق عليه. وعلى العموم فإنّ بخيل الجاحظ هو نموذج إنساني، فيه من الواقع الاجتماعي أكثر مما فيه من التنظير والتخيّل. فهو يعيش في زمان ومكان محدّدين، ويحمل من السمات ما بدينه من الطبع والفطرية التي تنطق على سجيتها، ولا تستحي بمزاياها ولا ترعوي عن بثّ خطاباتها ومفرداتها وتعابيرها الخاصة، كلّ حسب الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، سواء أكانت فئة التجار أم الفقهاء أم اللصوص أم الأطباء أم المكدّين أم الفرسان أم المتنفذين والولاة والموسرين بعامة. يجمع البخل هؤلاء فيمضون في عرض مزاياه. فإذا هو عالم قائم بذاته، مفصول عن العالم الخارجي، يتعامل معه بشكل ابتزازي ينتزع منه المال والأخلاق الحميدة. ويستحلّ قيمه الاجتماعية ليقزّمها ويختزلها مقيمًا دعائم عالمه الخاص مسوغًا وجوده بطرق شتى، جاعلًا منه طبعًا مقبولًا، أحيانًا يعظ به وأحيانًا أخرى يظهر فوائده لائمًا المجتمع على عدم اتباعه.
وبخيل الجاحظ بخيل في كل شيء وعلى كل شيء، على نفسه أولًا وعلى الآخرين ثانيًا. تراه في حركة دائمة يستنفد الافادة من كل ما يحيط به، لا يعطي أبدًا بل يأخذ دائمًا. يجب أن يكون ضيفًا إلى الأبد. يستعجل الفائدة لنفسه ويحجبها عن الآخرين الذين قلّما يلتقي بهم في داره، وأن التفاهم فيه فليبتزّهم أو ليضع لهم الحجج لعدم إضافتهم. وإذا فعل وقدّم لهم شيئًا فليتظاهر بالكرم، أو لدفع تهمة البخل عنه، أو للوصول إلى غاية في نفسه. يحدوه في ذلك حساب دقيق للحوادث العظيمة والوضيعة. ميّال دائمًا إلى الشك والريبة في الآخرين ممن يتعمّل لقاءهم أو يصادفهم في تجاربه. عارفٌ بالطبائع والنفوس يتصرّف عن دراية، يستعمل هذه المعرفة المنوّعة لبلوغ أوطاره.. كارهٌ للاجتماعات التي لا يستفيد منها، محبٌّ للقاء أمثاله ممن يتداولون في شؤون البخل ونوادر البخلاء وآخر أخبار الجمع والمنع.. إنّه بذلك يصنع تراثًا للبخل يبرزه في أيّ مكان حريص عليه مورثٌ له، يتداول والآخرون بكيفية تزيينه وابرازه بالصورة الأفضل. ولقد أجاد الجاحظ في ابراز صورة جمال القبيح في القيم من طريق سخريته وتضخيمه لظاهرة البخل، ذلك كلّه في قالب فنّي خاص راج في عصره، وهو القصص والنوادر.
2 – المدار الأدبي: الفنون الشاملة ” والنّادرة ” القصصية النافذة.
يتوسل الجاحظ الأدب ليدخل إلى المجتمع من الباب الواسع. ولا ريب في أنّ القضايا الاجتماعية كانت على مرّ الزمان همًّا من هموم الكاتب.. والجاحظ في تصدّيه لهذه المشكلة شحذ قريحته الفنية وعبقريته الأدبية ليعالج هذا الموضوع الخطير، ففاز بالناحيتين الاجتماعية والأدبية.
وإذا كانت الآداب الحديثة تبرز الخصائص الانسانية والاجتماعي والسياسية في نطاق الأجناس الأدبية من قصة ورواية وسيرة ومسرحية، فإنّ الجاحظ في كتابه ” البخلاء ” قدّم نصوصًا نموذجية في جنس أدبي خاص نسميه ” أدب النوادر”.. وربما كانت التسمية مجحفة بالجاحظ، لكننا لا نريد أن نسقط خصائص الفنون الأدبية الحديثة على أدبه. فلكلّ عصر أجناسه الأدبية وأساليبه التعبيرية التي بواسطتها يوصل فكرته. وعلى الرغم من أنّ الكثير من الباحثين يطلقون اسم الأقصوصة على نادرة الجاحظ، فإنّني أؤثر أن تبقى على ما أطلق القدماء عليها وهي نادرة.. وهي ميزة أدب القصص في ذلك العصر، مع الحسبان أنّ نصّ هذه النّادرة يصلح في الكثير من ميّزاته لأن يكون مسرحيًا.
أما خصائص هذه النّادرة فهي تعود، في معظمها، إلى أسلوب الجاحظ ودربته الفنية، وإجادته في الحبكة القصصية، وترتيب حوادثها، والقدرة الفائقة على تقديم معلوماتها في قالب حكائي مشوّق يقوم على رصد الظواهر، وتتبعها وتقصيها حتى تبلغ مداها من الاحاطة والافاضة والاستيعاب والطرح.. وأبرز ما تتميّز به هذه النّادرة في كتاب ” البخلاء ” للجاحظ ما يلي:
أ – وحدة الموضوع: وهو أمر يميّز الكتاب بمجمله وموضوعه الأساسي البخل.. كما يميّز النّادرة الواحدة التي يدور موضوعها أيضًا حول البخل.. نجد ذلك في ” حديث خالد بن يزيد ” لابنه.. وهو حديث يبدأ بتعريف خالد هذا من قبل الجاحظ، وبعنوان مفصّل عن هدف النّادرة التي يروي عنها، ثم يورد المؤلف تعريفًا مسهبًا عن صاحب الحديث وبعض مواقفه في البخل ورأيه فيه ومعرفته إيّاه، وهي معرفة واسعة وشاملة وعميقة، ثم ينتقل الحديث إلى وصيّة خالد لابنه وفيها عرض لضروب البخل عنده والوسائل التي جمع ماله بواسطتها والحيل التي اتبعها بتفصيل دقيق يحيط بكل جوانب ” خالد ” واهتماماته في حياته كلها، حتى يصل إلى إرشاد ولده إلى الطريقة التي يحفظ فيها المال، والسبل التي يضيف إليه بها المزيد حتى يكثر ويتعاظم.
ب – التكثيف: وهو ميزة القصّة العصرية، إذ نرى الجاحظ يحشد في جمل قصيرة جملة من المعلومات، ولا ينتهي إلاّ وقد ألمَّ بجوانب حياة خالد وضروب تعاطيه مع موضوع البخل، كاشفًا عن دواخل نفسه غير هيّاب من قول الحقيقة.
ج – الحوار: وهو حيوي، مشوّق غير مملّ. يستسلم القارئ إليه ويلتقط أنفاسه، ولا يزال على هذه الحال حتى يأتي على آخر النّادرة، وهو حوار يقدّم المعلومة تلو الأخرى… بتلاوين وأشكال مختلفة تنتقل من الخطاب إلى الجواب، إلى الدهشة وإلى السرد والكشف عن النوازع الداخلية.. وهو حوار ملازم للمواقف، وهي مواقف لكل أنموذج: للفقيه والعالم والمتكلم والزاهد والمتصوّف واللص والكدّي وقاطع الطريق والمحتال. يحمل التلاوين المختلفة، فهو حزين في موضع، هادر صاخب في مكان وهادئ ورزين في آخر. يختار من المفردات والعبارات الملائم للمشهد، يعيشه القارئ ويلم بدقائقه وتفصيلاته، لا يختلف عن الوسط الذي ينشئه الجاحظ فيه.
د – البيئة : والبيئة واضحة المعالم. فإذا كانت في المساجد نُقِلَت إلينا عوالمها وأبعادها ومساحاتها وأشكالها وأوضاع الناس فيها ومستوياتهم، وإذا كانت في مرو ( خرسان )، ظهرت صورها بأماكنها المختلفة. إذا البيئة واضحة، وهي متنوّعة بتنوّع المكان الذي يجري فيه الحدث. وهو عبارة عن مدينة أو قرية أو حيّ أو محلّة.. أو هو، بصورة أدق، وأصغر، منزل أو غرفة فيه، أو جامع أو طريق أو بستان أو مطبخ.. نجد هذه الأمكنة مجسمّات حسيّة للجدران والسقوف والأدوات المنزلية وأنواع المآكل وطرق طبخها وكيفية استعمالها وموقف الناس منها.
وهي بيئة متحرّكة، أي متعلقة بالحدث وشخصياته وهوّياتها ومنازعها ومشاربها وعاداتها. وهي لا تقتصر على الانسان وحسب بل يشارك فيها الحيوان طباع الناس وعاداتهم (ديك أهل مرو ).
وهو مكان ممتلئ بالناس حينًا ( المدن والقرى والأسواق والمحافل والمساجد… ) أو غير آهل إلاّ بالقليل كالجبال والصحارى والبراري والأدغال..
ه – الزمن: هو زمن الجاحظ وعصره. زمن يستقي منه الجاحظ موضوعه، يبحث عنه في إطاره المكاني المتنوّع.
والنّادرة، كلّ نادرة على حدة، لها زمنّها الخاص وهو زمن حدوثها، سواء أكانت في الليل أم في النهار، عند الغروب أم عند الظهر. لكنه زمن عام متشابه في معظم النوادر، يحمل سمات العصر، ويمتدّ على مدى الحادثة حتى يستوفي الكاتب الموضوع… هو زمن قد يطول أو يقصر، متعلّق بطول الحادثة وقصرها.. قد يمتدّ لسنوات أو ينحصر في دقائق، إلاّ أنّه في كثير من الأحيان زمن مكثّف يختزل الحوادث، يوظّفها الراوي لابراز نقيصة البخل.
و – تقوم النّادرة :على الوصف الدقيق والتصوير الحيّ. فهناك ذكر للأسماء والأنواع والأجناس، وهناك رصد للحركات وإمعان في الهيئات. ففي نادرة ” يوم الرؤوس ” نجد هذه الوثائق، يثبتها الجاحظ دلالةً على صدق تصويره وحسن تقريبه للصور التي لا تحتاج إلى كدّ الذهن للتعرّف إليها. لذلك نعثر على مقطوعات تصويرية حيّة مضحكة ومؤسفة في آن.. فعين البخيل تتبع اللقمة كيفما اتجهت، ويده تلتقطها بسرعة، وحلقه يغصّ لدى رؤية الآكلين. فانظر إلى هذه الصورة التي يرسمها الجاحظ للبخيل الشره حين يتناول طعامه: فإذا شرع في بالأكل ” ذهب عقله ” وجحظت عينه، وسكر، وتربّد وجهه، فلم يبصر ولم يسمع… ما أكل تمرًا إلا استفّه سفًا وحساه حسوا، لا رمى نبواة ولا نفى عنه قشرًا “. أما عن قطعة اللحم فيقول الجاحظ مدققًا في أكل البخيل لها: ” ثم لا يزال ينهشها طولًا وعرضًا ورفعًا وخفضًا حتى يأتي عليها جميعًا.. ” أما البخيل الذي يخاطب الدرهم الذي يلقاه: ” كم كيس قد فارقت، وكم من أرض قد قطعت. لك عندي أن لا تعرى. أسكن على اسم الله في مكان لا تُهانُ فيه ولا تُذلُّ ولا تُزعج منه. اتلف شيئًا نبذل فيه النفس بأكلة أو شربة ؟ لا والله “…!
هذه الصور تمتاز بالوضوح والتتبع والتقصّي. حتى لكأننا أمام مشهد متكامل يجيد الجاحظ نقله إلينا، بألوانه وأطواله وأبعاده حتى لا تفوتنا حركة ولا تغيب عنّا التفاته..
وهو تصوير يؤدّي الزمن فيه دوره فيضفي عليه لونه الخاص.. كما يبرز المكان فيه بكل ما يحويه.. تصوير عمادة الخيال الجاحظي الذي يبقى مشدودًا دائمًا إلى الواقع المعاش.
ز – التشويق : ويكاد التشويق يكون الميزة الرئيسة في هذه النوادر.. فيبقى القارئ في شوق لمعرفة المزيد عن صاحب النّادرة وسلوكه.. يتبع الحادثة حتى النهاية من غير ملل.
وهو تشويق مرتبط بالفائدة.. فيه من المعلومات والمعارف الشيء الكثير عن طباعهم وعاداتهم وتقاليدهم ومشاربهم المختلفة..( أهل خراسان مثلًا ).
ص – الاستنتاج : والاستنتاج العام الذي يمكن أن يكون من خلال العرض السابق لنوادر البخلاء هو أنّها واقعية، بدليل مواقعة الجاحظ للناس في أماكنهم ومعايشتهم في زمنهم ونقله حوادث عنهم لا يدخلها الريب.. وهي واقعية لا تبتعد كثيرًا من الواقعية الحديثة في الأدب العربي، والقائمة على الانتقاد وتصوير المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة.. واقعية الجاحظ متأتية من رصد للحدث في مواطنه الخاصة وفي أزمانه الحيّة.. كما هي متأتية من رغبة الجاحظ في نقل عاهة البخل المتأصلة في بعض الطباع وأثرها الخطير في أفراد المجتمع كافة.. هي موقف عام من البخل يتضمن معنى سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا..
ج – القصص: وإذا كان القَصَصُ الحديث يقوم على أساسين في الشخصية ظاهرها وباطنها.. فإنّ نوادر الجاحظ تحفل بمثل هذا التحليل لدواخل الشخصيات. حيث نلاحظه يتوغل في أعماق النفس، وذلك العالم المجهول الذي قلّما تناولته الأقلام في ذلك الزمن، ليخرج كوامن نماذجه بأسلوب ساخر فيه من الجدّية والواقعية الشيء الكثير…
والقارئ الكتاب يجد أنّه أمام بحث في الطبائع الانسانية كناحية البخل ونقيضها الكرم.. نرى ذلك في الحوادث المختلفة المأثورة عن البخلاء، وفي عاداتهم ومواقفهم من البخل في حلّهم وترحالهم، وفي حيلهم وأساليبهم المختلفة… في طعامهم وشرابهم واستضافتهم للآخرين وحلولهم ضيوفًا على آخرين أيضًا.. وفي معالجتهم لجمع الدراهم وتناول الطعام وفي تدبيرهم وحرصهم وتعاملهم.. تظهر لنا طبائعهم في العواطف المختّلفة، في الغضب والانفعال والفرح واللهفة والاشتهاء..
ولعلّ الأحاديث المختلفة الواردة على لسان هؤلاء البخلاء تكون كاشفة عن دواخل هذه الشخصيات: عن نفسيتهم وطرق تفكيرهم في اهتماماتهم..
وهذا التحليل النفسي يدخل في باب أدب الطبائع الذي أجاد الجاحظ فيه، ليس في ” البخلاء ” وحسب بل في بقية كتبه.. فهو لم يترك شريحة اجتماعية إلا وتحدّث عنها.. بل تجاوز الانسان ليبلغ الحيوان، فيتحدّث عن طبعه ( غريزته ) وسلوكه وعاداته في مصنفه المهم كتاب ” الحيوان “.
وهكذا يصل الجاحظ إلى نتيجة أساسية وهي أنّ البخل يجعل من النفس منطلقًا له وميدانًا رحبًا يعرض فيه فصوله وأنواعه في مجتمع أضحى البخل مذهبًا له، أنصاره ومريدوه.. وهو من أعراض النفس الإنسانية، ألقى رحله في عصر الجاحظ ليكون موضوعًا يخلّد صاحبه.. بفضل ما اكتشفه في أهمية البخل الذي لا ينحصر في رجل بل يتعداه إلى أفراد أسرته، يورثهم إيّاه ليصبح طبعًا من طبائعهم.. فهو كالمرض ينتقل بالعدوى ويؤثّر فيمن حوله.. والبخيل يعلم أحيانًا أنّ بخله عادة ذميمة فيحاول نفيه عنه بتظاهر الترف والسخاء.. كما يعلم أنّه لِيُتِمَّ مهمته عليه أن يركن إلى الريبة فيمن يتعاطى معهم.. ويجد لنفسه المسوّغات التي تدفع عنه سوء طبعه.. لذلك اغترف من العلم ليحمي بخله، وآمن بالله ليستر سوءته، وتظاهر بأهمية الامساك عن الاسراف بغية موقفه.. وإلى الجدل للدفاع عن مذهبه..
ف – السخرية والتهكم: وهي سمة من سمات الجاحظ في معظم كتبه. وهي في البخلاء بارزة، يدلّ إليها أسلوب وطريقة تناوله هؤلاء البخلاء. فما من نادرة إلا وتوحي بذلك.. وهذا ما يفسّر، في معظم الأحيان، عدم لجوئه إلى التعليق على نماذجه وسلوكهم.. والسخرية هنا ملازمة للاضحاك.. وهي من سمات الجاحظ أيضًا. فإذا كان “واهب الخمسماية” لأخيه يظهر كريمًا، ولو نظريًا، فذلك لأنّ الجاحظ يوسع من دائرة سخريته به فيضيف إلى البخيل إضحاكه من كلمات هذا الأخ الواهب لأخيه المعدم..
وهو لهو وإضحاك يجمعان المتعة والفائدة في آن واحد. ويجد القارئ أيضًا في كتاب “البخلاء” كثيرًا من الفوائد التاريخية والاجتماعية والنفسية..
وهو كتاب غنيّ يجد فيه المؤرخّ والأديب والعالم النفسي واللغوي والباحث الاجتماعي.. وطره بفضل ما يحتوي من حقائق. إلا أنّ الفائدة الكبرى والمتعة الكامنة في الكتاب لا تتأتي للقارئ إلا إذا جال نظره فيه.. وهو يغنيه ويوسع مداركه ويوقعه على الأثر الجليل الذي تركه أبو عثمان بحر بن محبوب الجاحظ. هذا الأثر الذي رأى فيه كثيرون شبيهًا للقصة العصرية القصيرة فراحوا يستخرجون أسسها ودلائلها منه، ليجدوا في النّادرة عناصر القصّ الذي انتقلت إلى العالم فيما انتقل من تراث العرب نحا أدباء عالميون نحوه وجعلوا قصصهم ملائمه لواقعهم.. هذه القصص التي تُرجمت أيضًا إلى العربية بحللها الجديدة، لتثبت أنّ الثقافة ليست ملكًا لأحد، وأنّ التراث الانساني هو ملك للبشرية جمعاء.. تأخذ ما يلائمها وتضيف إليه معطياتها الجديدة.. وهذا حقّها، كما كان حقّ الجاحظ في استيعاب ما كتب عن البخل سابقًا ليشكل عنده موضوعًا مركّزًا بمثل هذا التركيز. أما المسرحيّون فقد دأبوا على قراءة نصوص الجاحظ خصوصًا ” البخلاء “، وحاولوا أن يستخرجوا منها نصًّا مسرحيًا يقوم على الخصائص العامة التي يقوم عليها فن الدراما الحديثة، وربما القديمة، أي فيما قبل عصر الجاحظ.. وكانت الملهاة هي الفن القريب من هذه النصوص – النوادر. ولعلّ الحوار والمواقف المختلفة والحركات المتعددة والأشكال المختلفة التي احتوتها النّادرة الواحدة، هي التي أوحت هذا التفكير لدى بعض المسرحيين، ولا سيّما في استخراجهم عناصر الاضحاك الناتجة عن التهكم والسخرية..
وأول ما يلفت النظر في تناول النّادرة على أساس أنّها نصّ مسرحيّ ( وهذا نوع من الاسقاط لا ينبغي محاسبة الجاحظ على التقصير فيه )، أنّ الشخصيات التي نعيش معها في ” البخلاء ” تمثّل مذهبًا اجتماعيًا له مسوّغاته وقوانينه الخاصة وطرقه المغايرة لمِا تعارف عليه الناس.
وهي شخصيات تختزن الاستعداد للخروج عن الأنظمة والقوانين التي تسنّها الدولة، ويتواضع عليها المجتمع، ويرسم لها الحدود والآفاق التي تحدُّ من سلوك الفرد في جوانب، وتمنحه الحرية في جوانب أخرى.. وهذا القانون لم يوضع من قبل المشرّعين إلا لتنظيم المجتمع وايجاد علاقات طبيعية ترضي الأغلبية الساحقة من الناس. وبخيل الجاحظ، وحده الخارج عن هذه القوانين والنظم بما يستنّه لنفسه من قيم مادية ومعنوية، ومن ضوابط لا تخدم في النهاية سوى قلائل وجدوا مصالحهم فيها. وهي مصالح خاصة لا يرتضيها الضمير الاجتماعي، ولا تقرّها الأديان ولا السياسات المختلفة. ويمكن القول: إنّ هذه الفئة خارجة عن قوانين الطبيعة والسلوك الانساني في أمر صحيح ينبغي الوقوف عنده. لذلك كانت هذه الشخصية غير مستقرّة، وفي قلق دائم متأتٍّ من بنيتها النفسية أولًا، ومن حذرها الدائم من القوانين العامة الاجتماعية، ومن الأموال التي جمعتها ومن أساليبها الملتوية التي تتبعها..
عرض الجاحظ هذه الشخصيات في صور من الحركة الدائمة والتنقّل السريع من حالة إلى أخرى.. وكان ذلك يقتضي استعمال الفن لهذه الشخصيات في أمور الثقافة وحسن التصرّف لبلوغ الأدب. وفي هذا العرض تبرز بعض السمات التي تقربها من الأسلوب الفنيّ المسرحي.
فالحركة التي نلاحظها على البخيل، وهو يؤدي دوره، تجعل غايته دعم المسوّغ الذي يأتي به ليقنع سامعيه. وفي هذه الحركة نلمح إشارات مضحكة حينًا ومأساوية حينًا آخر. والمرء إنّما يضحك من المفارقات والتناقضات،ويأسف لها إنْ كانت تنمّ عن موقف حزين مأساوي، وفي كلا الأمرين ثمة حركة، وهي مقصودة من الجاحظ. هي صورة للبخيل وهو يؤدي دوره، تمعن في رسم هدفه، وهو التأثير في الآخرين ومثل هذا كثير. يلجأ إليه الكاتب لتزداد سخرية القارئ من الشخصية. وقد اعتمد الكاتب الفرنسي موليير ( Molier ) هذه الطريقة، فكانت حركات هارباغون ( Harpagon ) في مسرحية ” البخيل “( yauart) تدلّ إلى تأصل هذه الطريقة في هذا النوع من المسرح اللاهي.. فعندما يقول أرباغون للسارق أرني يديك، فيمدّ الآخر كفّيه دلالة إلى فراغهما، يقول هارباغون أرني الأخرى، ويقصد ظهريّ الكفيّن، إنّما تكون غاية موليير من ذلك الاضحاك من الحركة، والكشف عن نفسية البخيل الحذرة التي لا تقتنع بالظاهر بل تتعقبه إلى الداخل أو ربما إلى اختراع أشياء ليست موجودة في الحقيقة. وعندما يطلب المعدم من أخيه الغنيّ أن يمدّه بالمال فيرفع هذا الأخير يديه عاليًا وينادي بأعلى صوته يا ناس: هل الذي يكون لديه خمسماية ألف دينار ويعطي أخاه منها النصف يكون بخيلًا ؟ وهو يفترض أنّه لو كان معه هذا المبلغ لأعطاه النصف. إنّها حركة مسرحية تؤدي عدة أمور في آن واحد: أولها عدم التلاحم والتعاطف بين الإخوة، وثانيها البخل، وثالثها إقناع الناس بهذه الحركة بعد اسماعهم رأيه بأنّه يحب أخاه ويتكرّم عليه. وفي ” البخلاء ” الكثير من هذه المواقف، فالأسواري النهم نراه ينقض على عيسى بن سليمان ليخطف اللقمة من يده والمتجهة إلى حلقه ليستولي عليها ويدسّها في جوفه. وماسح الجبنة يعلّق قطعتها ويمسح الخبز بها مسحًا. بينما الآخر يعلّقها ويكتفي بها بتمرير الخبز بعيدًا منها حتى يدوم بقاؤها زمنًا أطول. ومعاذة العنبريّة تروح وتجيء وتضرب كفًا بكف لتستجيب لحركتها الداخلية وقلقها من أنّها لا تستطيع تدبير ما تبقّى من فضلات الذبيحة عندها. ويبهت الشيوخ لدى سماعهم بنوادر عن البخل لم يتوصلوا هم إليها، بينما غيرهم كان يتوسلها.
والشكل لدى بخيل الجاحظ له أهميته. فهو دائم تغيير الشكل. لكل موضع شكله ولكل وسط ملابسه وطريقته في الكلام، فأحيانًا نرى الشيخ المعمم ذا الجلباب، وأحيانًا نراه شحاذًا بثياب ممزّقة بالية يستدرّ بها عطف الناس. وأحيانًا نجده ذا عاهات مختلفة وأحيانًا أخرى سليم البدن. وهذا يصحّ على الشكل الخارجي، أمّا الداخلي فهو كثير، وربما تكون النوادر كلّها في الكتاب تنم عن هذا الشكل الذي هو في طبع البخيل. وإذا ما تأملنا في حكاية ” ليلى الناعطية ” فإنّنا نجد الشكلين معًا، فإنّها من فرط بخلها ظلّت ترقع كساءها حتى فقد لونه الأصليّ لكثرة ما أضافت إليه من رقع بألوان مختلفة.
أما الحوار فقد كان أداة طيّعة في يد الجاحظ ليقدّم شخصياته. وهو حوار يكاد يكون مناسبًا لكل طريقة من طرائق البخل. يكشف عن الدواخل وينير للقارئ جوانب كثيرة من جوانب نفسية البخيل، سواء أكان هذا الحوار مضحكًا أم كان جادًا. وهو في الأحوال كلّها ساخر متهكّم. وهو حوار يستعمل فيه الجاحظ ضروب البلاغة والبيان والبديع، ولا سيّما عندما يتخاطب البخلاء، أو يخاطبون ضيوفهم، أو من يدعونهم فجاءةً إلى تناول الطعام.
وكما في المسرح، تتوافر في النّادرة بعض الوحدات التي تحدّث عنها وأضفو فنّ المسرح: وحدة الموضوع ووحدة المكان ووحدة الزمان ووحدة الحدث.. وهي تختلف من نادرة إلى أخرى.. وهذه قد تطول أو تقصر لكنّها في الأحوال كلّها لا تخلو من موضوع يحمل حكاية عن بخيل، ولا بد من مكان يجري عليه الحدث ولا الزمان الذي يبني عليه الجاحظ هيكل نادرته.
على أنّ هذه النوادر تحمل ملامح من فنّ المقامة التي أجاد فيه كلٌّ من بديع الزمان الهمذاني والحريري.. وإذا كانت المقامة تأخذ من التكدّي عنصرًا رئيسًا لتركيبها وبنيتها، فإنّ نادرة الجاحظ في البخلاء تتوسّل هذه الطريقة وتعرض للكثير من وجوه الدعائم التي تقوم عليها عملية التكدّي. فهناك تقارب في رسم الشخصية الأفّاقه الأفاكة التي تدور مع الليالي كيفما تدور وتتلبسّ الزيّ المناسب كي تسّطو على أموال الناس وتبتزّهم، وتدّعي العلم والمعرفة، وتتخذ من عملها حرفة تعليمية حينًا، ووعظية حينًا آخر. ومن مغامراتها سبيلًا إلى جمع المال واقتناصه بالسبل كافة. ذلك هو حال أبو الفتح الاسكندري وأبو زيد السروجي. كما هو حال خالد بن يزيد وخالويه وأبي سعيد المدائني وتمّام بن جعفر في أدب الجاحظ.
” والبخلاء ” على كثرة أساليبهم في فلسفة البخل يقدّمون في تلك المقطوعات الصغيرة والكبيرة بعض الفوائد العامة للناس.
فهناك النصائح الطبيّة، حيث نرى البخيل يغلّف بخله بفوائد صحية تعود على الناس بالخير والصحة والعافية، من ذلك ما نجده في ” قصة الثوري” ([79])الذي يقدّم لعياله الفوائد الصحية من نوى التمر: ” لا تلقوا نَوَى التمر والرَّطب، وتعوّدوا ابتلاعه وخذوا حلوقكم بتسويغه، فإنّ النوى يَعقِدُ الشحمَ في البطن ويدفئ الكليتين بذلك الشحم.. “.
كما في الكتاب أحاديث مطوّله عن وجوه الاستفادة من بعض المآكل خصوصًا تلك التي ترمى ([80]) كما فيه عرض لكثير من المعلومات التاريخية والدينية ([81])، والنصائح والوصايا العامة ([82]).. وأحاديث مستفيضة حول المقارنات بين البخل والكرم ومنها القول: ” وحدّثني الخزامي والمكّي والعروضيُّ قالوا: سمعنا اسماعيل يقول: اوليسَ قد أجمعوا على أنّ البخلاء في الجملة أعقل من الأسخياء في الجملة؟ ” ([83]).
وغير ذلك كثير من الأمور التي يعثر عليها القارئ في كتاب ” البخلاء “. ولعلّ قراءة الكتاب تغني بكثير من الأمثلة والدلائل التي أُشير إليها في سياق البحث وأُضيأت جوانب كثيرة فيها، فنجد المتعة والفائدة ترافقان النوادر من البداية حتى النهاية.
الخاتمة: تضافرت جهود متواصلة في هذه الدراسة، لتقديم رؤية أكاديمية شاملة، وشافية، وذلك عن طريق استنطاق كتاب البخلاء،ولعل وراء ذلك أسبابًا عدة ؛ منها ما يتعلق ببنيته الحكائية الفريدة، ومنها ما يتعلق بالبعد الجمالي، ومنها ما يتعلق بالبعد المعرفي الذي تقدمه النصوص عن العصور والمجتمعات التي تعبر عنها وتمثّلها، وغير ذلك من أبعاد…
ومن أهم كتب السرد القصصي التي نالت مكانةً مرموقة في الثقافة العربية الإسلامية كتاب ( البخلاء) للجاحظ؛ ذلك أنّه يقع على حد بين الثقافتين العامة والخاصة، ومن البديهي أنّ الجاحظ كان يلتهم كل الكتب التي تقع تحت يده فأخذ في تعلم تاريخ وأدب الفارسيين واليونانيين في الكتب التي نقلت إلى العربية ( [84]) فالجاحظ كاتب أصيل في الثقافة المركزية العربية، وتحظى كتبه بمكانة خاصة لدى المنتمين إلى هذه الثقافة، وفي الآن نفسه فإنّ موضوعات كثيرٍ من كتبه انشغلت بعامة الناس منهم؛ ككتابه (البرصان والعرجان والعميان والحولان)، وكتابه عن ( فصل السودان على البيضان) وكذلك كتاب البخلاء، وذلك التقدير على مستوى المكانة التي نالها في الثقافة العربية الإسلامية، غير أنّ هذه المكانة وذلك التميز لا يعنيان أنّ كتابات الجاحظ نالت ما تستحق من اهتمام، فلا تزال بحاجة إلى مقاربات كثيرة من أوجه عدة… لعل أحدها الوجه السردي، وهذا ما حدنا إلى توجيه العناية إليه، ليكون كتابه ( البخلاء) مادةً لموضوع البحث على الرغم من كثرة الدراسات التي بنيت عليها، والجاحظ أراد بالمزاح النفع ، ولنا من ذلك أن نستنتج أن كتابه لم يكن مجرّد قصص للتسلية العابرة ، بل قصد شيئاً من وراء الإمتاع وهو النفع ، بحيث صار المزح جدّاً والضحك وقاراً . ونخال أن أبا عثمان استعان بالدُّعابة والُملح ليطرح بعض أفكاره الناقدة أحياناً . والنقد مِلح الأدب ، ومن دأب الأديب الحقّ أن ينقد ، ففي النقد تتجلّى مهارته وتزكو مواهبه الفنيّة والإنسانيّة،يعني ذلك ، نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية لوسائل وتقنيات معينة ([85]) إنّ صفة الناقد الاجتماعيّ نتلمّسها عند الجاحظ في غير موضع من مؤلّفاته . فهو قد عايش مجتمعه وعاين أبناء عصره مليّاً ، لذا نجد أنّ انفعاله الاجتماعيّ شديد بارز، وأن نقده لهذا المجتمع أمر ملازم لقلمه ، ولكن هذه الصفة تبدو محتشدة خلال كتابه البخلاء في مجمله. ويُفضي الكلام بالجاحظ إلى رأي ٍنرى فيه ضوءاً هادياً ومفتاحاً ذهنيّاً لفهم الغاية التّي من أجلها وضع كتابه البخلاء .وهو المغموس بالأدب تعاطياً له ونقداً لفنونه لهذا نجده يلتفت إلى ناحية : “إنّ الحواس لتخطئ وما يشفيني إلاّ المعاينة وما الحكم القاطع إلاّ للعقل “ ، لذا الجاحظ يتحرّك في عالم خاص وآخر عام، يرينا تضاعيف هذا العالم في مرحلة غنيّة بالعطاء الثقافي والحضاري والعمراني والأدبي، وازدحام الناس وتنوّعهم وتوزّعهم على المشارب المختلفة والأمم المجتمعة، والسياسات الرعناء من جهة والمحبّة للبناء من جهة ثانية، والفئات الاجتماعية المختلفة والنفوس الحائرة: القويمة والمتكسّرة، والمسارات الملتوية حينًا والقويمة حينًا آخر. والابداع الانساني في غير مجال: في الفلسفة والعلم والأدب والثقافة عمومًا، لذا لِمَ ألف الجاحظ كتاب البخلاء ؟ يذهب الباحثون في تعليل ذلك مذاهب شتّى .ومن الباحثين من يذهب إلى أنّ الجاحظ لم يكتب نوادر البخلاء على غير نهج ؛ ولا سلك في وضعها مسلك جاهل بسنن التنادر بل كان توليدها عليما موفيا لشرائطها محيطاً بكل ما يكفل للنّوادر حسن الموقع عند من يتقبلها ([86]) فيرى بعضهم أنّه إنّما انقاد إلى هذه الفئة بدافعٍ من نفسه المِراح ، التي تهتزّ للساخر من الأمور ، وتقهقه في داخيلتها لكل طريف في هذه الحياة ، وترى في الُمزاح عوناً كبيراً ومحبّة مجلوبة. ويرى فريق آخر أن الجاحظ ، وقد رُمي بالبخل ، يودّ هذا إذا صح ما رُمي به …! وأن ينفض عنه هذه الشُّهوهة ، وذلك بتزين أصحابها ، وأجراء الحُجج والبراهين المقنعة على ألسنتهم ، وتحبيبهم إلى الناس ،ولكن ، أليس يُغنينا عن أمثال هذه الاستنتاجات ، أن نعود إلى الكتاب نفسه ، ونمعن النظر فيما ورد ، من أفكار رشيدة ، وتفاصيل هموم السياسيّة وحضاريّة تتقاطع مع الموضوعات الاجتماعيّة…؟ فالجاحظ في كتابه على الشعوبيّة ينبع من موقف سياسيّ، حتى إنّ معالجته لموضوع البخل نفسه لا تخلو من هذا الغرض ، لأنّه أتى في مطلع كتابه على بخلاء مَرْوَ ثم أدار الحديث مطولاً على نوادر أهل خراسان في هذا الميدان ، التي تتتّسم أيضاً في بُعد حضاريّ في كتاب البخلاء .ومن خصائص الجاحظ في أسلوبه الدعابة والفكاهة والتنادر والسخرية والتهكم ، وتلك أمور تخف على نفس القارئ وتستهويه ، ولها محل رفيع في آداب الأمم الحية ، ولكن أدبنا لا يزال ينقصه شيء كثير منها ، والجاحظ في هذا الباب فرد لا يصارعه أحد، والجاحظ يكره التكلف كما يكره الإسفاف ، ويعجب بالطبع السليم كما يعجب بالفكر الثاقب .
وإن كان البحث قد أضاء على فنّ قصصي كان ما يزال في بواكيره الأولى، وهو فنّ النّادرة القصصية الذي أسهم الجاحظ في بلورته، في زمان معيّن ومكان التقت فيه الحضارات والثقافات والابداع والأخلاط والأفكار.. فإنّ الجاحظ يعدّ من الروّاد الأول في مجاله، خصوصًا إذا أُعيد جهد الجاحظ إلى زمنه، من دون اسقاط المستجدات العصرية عليه، ولعل من شأن هذه النتائج وغيرها ، مما هو مبثوث داخل البحث ، أن يكون سبيلًا إلى الكثير من قراء وعشاق العربية ،وتخدم الدارسين والباحثين المهتمين بهذا الحقل المعرفي لرسم مؤشراً لتطور وظائف وبلورة الطبيعة الفنية في سبيل تحقيق الهدف من كتاب بخلاء الجاحظ ميدانًا لها …
المصادر والمراجع :
أولاً : الكتب المقدسة
القرآن الكريم
ثانيًّا: المصادر والمراجع :
1- البخلاء الجاحظ، فاروق سعيد، دار الآفاق الجديدة، بيروت ، 1992
2- شارك بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسمراء، تر، ابراهيم الكيلاني، ديوان المطبوعات الجامعة، الجزائر، 1985
3- إبراهيم شعلان، النوادر الشعبية المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الفاهرة مصر، 2012
4 – شوقي ضيف، الفكاهة في مصر، دار الهلال، القاهرة، مصر، 1958
5- نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، مكتبة غريب، القاهرة ، 1981
6- عبد الرحمن محمد الربيع، نوادر البخلاء، دار الشروق، القاهرة، 1999
7- شارل بلاّ، مستشرق فرنسي، 1914 – 1992، عضو في أكاديمية النقوش والآداب الجميلة، فرنسا، من دراساته حول الجاحظ : الجاحظ في بغداد وسرّ من رأى، الإمامية في مذهب الجاحظ، الجاحظ والأمم المتحضرة والعقائد الدينية
8 – الجاحظ ومجتمع البصرة، شارك بلاّ، ترجمة ابراهيم الكيلاني، دمشق 1961 [1]
9- الجاحظ البخلاء، طبعة العوامري، مقدمة
10- الخوارج والشيعة، يوليوس فلهوزن،( 1844 – 1918 ) باحث ومستشرق ألماني، وهو صاحب الفرضية الوثائقية، ألف الكتاب الشهير ” المملكة العربية وسقوطها “، 1902، ترجمة عبد الرحمن بدوي، نشر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1928
11- تاريخ الطبري…
12- الفتنة الكبرى، طه حسين، دار المعارف بمصر، 1951
13 – مقدمة ” البخلاء “، تحقيق طه الحاجري، دار المعارف بمصر، 1958
14- الجاحظ ومجتمع البصرة، شارل بلاّ ، ترجمة ابراهيم كيلاني
15 – العصر العباسي الأول، عبد العزيز الدوري، نشر دار المعلمين العالية، بغداد، 1945
16- “البخلاء” بشرح وتعليق محمد التونجي، دار الجيل، بيروت، 1993
17 – هويدا صالح، الهامش الاجتماعي في الأدب، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015
18- ” مروج الذهب “، المسعودي ..
19- الحيوان، كتاب الجاحظ
20- البخلاء، المقدمة بقلم، محمد التونجي
21- مقامات بديع الزمان الهمذاني، وخصوصًا المقامة المغيرية.
22- الجاحظ وجتمع البصرة، شارل بلاّ، ترجمة ابراهيم الكيلاني
23- كتاب ” البخلاء”، الجاحظ، دار الجيل، بيروت، 1993
24 – سالم المعوش، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، لبنان، بيروت، 1990
25- عبد الكريم، المضحك في كتاب البخلاء، دار الوفاء، بغداد، 2013
26 – السيمياء والتأويل ، روبرت شولز ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، نر : سغيد الغانمي ، 1994
25- سردية النص المسرحي ، بيداء محي الدين الدوسكب ، دار الشؤون العامة ، 2006
26 – الجاحظ ومجمع عصره، جميل جبر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1958
27- أبوعثمان الجاحظ، محمد عبد المنعم خفّاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973
28- قصة المروزيّ والعراقيّ، البخلاء ص
29 – جميل جبر، الجاحظ ومجتمع عصره
30 – فاروق سعد، الجاحظ، البخلاء
31- البخلاء، الجاحظ، قصة ثمّم بن جعفر
32- طه الحاصري، كتاب البخلاء للجاحظ، حقق نصّه وعلقّ عليه، من المقدمة، دار المعارف بمصر، ذخائر العرب،
( د. ت.ط)
33 – أحمد عزت ، فلسفة الأخلاق عند الجاحظ ، أتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 2005
34 – تقنيات السرد في النظرية والتطبيق ، آمنة يوسف ، دار الحوار للنشر وللتوزيع ، سوريا ، 1997
35- مقدّمة كتاب ” البخلاء ” تحقيق طه الحاجري
ثالثًا:المعاجم
36- جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور : لسان العرب، مج 5 ( ن د ر ) دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003،
37- إبراهيم مصطفى وأخرون، معجم الوسيط، دار الدعوة، القاهرة، مصر، 1972
38- سهل بن هارون بن زاهبون ( أوراهون) أبو عمرو الدستميساني ( ت 215 ه ) لُقب ببزرجمهر الاسلام لشهرته بكتابة القصص. فارسي الأصل، اشتهر بخرسان وعلا مقامه بخدمة الرشيد. كان من -39-الخطباء والشعراء الشعوبيين له مؤلفات كثيرة. كان الجاحظ من المعجبين به. أنظر أخباره في: البيان والتبين ، معجم الأدباء،
رابعًا : المجلات
40- عبد الواحد التهامي العلمي، تجنيس النادرة، مجلة شهرية ثقافية، العدد 142، عمان
41- حمدان، عبدالرحيم، اللغة في الرواية، ” تجليات الروح ” للكاتب فحمد نصار، مجلة الجامعة الاسلامية، المجلد، 16، العدد الثاني، 2008
خامسًا : الرسائل الجامعية
42- محمد الصغير بناتي، البلاغة العربية، أصولها النظرية، أطروحة دكتوراه دولة في البلاغة العربية، مخطوطة جامعة الجزائر، جوان، 1993
43 – ضحى الاسلام، أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت (، د. ت. ط.)
44- طانيوس فرنسيس، المواقف الانتقادية في أدب الجاحظ أطروحة محفوظة في الجامعة اللبنانية، اُعدت لنيل شهادة الدكتوراة اللبنانية، بيروت، 1991
سادسًا :الدواوين
45 – ديوان طرفة بن العبد بشرحه وقدّم له مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1987
46 – ديوان زهير بن أبي سلمى.
علي أحمد الأحمد، أستاذ مساعد محاضر في الجامعة اللبنانية ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، الفرع الخامس ، دكتوراة لغة عربية ، مشرف على رسائل الماستر ومناقش رسائل الماستر والدكتوراة. -–
Assistant Professor ,Lecturer at the Lebanese University , Faculty of Arts and Humanities ,Branch V, PhD in Arabic Language ,Supervisor of Master’s Theses and Discusser of Master’s AND PhD Theses Email: . aliahmadnaser2@gmail.com.
– البخلاء الجاحظ، فاروق سعيد، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط 6، 1992، ص، 44 [2]
– شارك بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسمراء، تر، ابراهيم الكيلاني، ديوان المطبوعات الجامعة، الجزائر، ط،1، 1985 ص، 19 [3]
4- جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور : لسان العرب، مج 5 ( ن د ر ) ط 1، 1414/2003م دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص، 233، 234
– إبراهيم مصطفى وأخرون، معجم الوسيط، ج 1، دار الدعوة، القاهرة، مصر، 1972، ص، 910 [5]
– إبراهيم شعلان، النوادر الشعبية المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الفاهرة مصر، 2012، ص 15 [6]
-عبد الواحد التهامي العلمي، تجنيس النادرة، مجلة شهرية ثقافية، العدد 142، عمان، ص 67 [7]
– شوقي ضيف، الفكاهة في مصر، دار الهلال، القاهرة، مصر، 1958، ص 14 [8]
– نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، مكتبة غريب، القاهرة، ط 3، 1981، ص 227 [9](
– عبد الرحمن محمد الربيع، نوادر البخلاء، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1999، ص 7 [10]
11- شارل بلاّ، مستشرق فرنسي، 1914 – 1992، عضو في أكاديمية النقوش والآداب الجميلة، فرنسا، من دراساته حول الجاحظ : الجاحظ في بغداد وسرّمن رأى، الإمامية في مذهب الجاحظ، الجاحظ والأمم المتحضرة والعقائد الدينية
– الجاحظ ومجتمع البصرة، شارك بلاّ، ترجمة ابراهيم الكيلاني 1 – دمشق 1961 [12]
– الجاحظ البخلاء، طبعة العوامري، مقدمة، ص، 9، [13]
الخوارج والشيعة، يوليوس فلهوزن، 1844 – 1918 باحث ومستشرق ألماني، وهو صاحب الفرضية الوثائقية، ألف الكتاب الشهير ” المملكة —-العربية وسقوطها “، 1902، ترجمة عبد الرحمن بدوي، نشر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1928 م، ص، 211 [14]
– تاريخ الطبري، ج 8، ص، 10، وما بعدها [15]
– الفتنة الكبرى، طه حسين، دار المعارف بمصر، 1951، ص،103 وما بعدها [17]
– مقدمة ” البخلاء “، تحقيق طه الحاجري، دار المعارف بمصر، 1958 م، ص، 24 وما بعدها [18]
– الجاحظ ومجتمع البصرة، شارل بلاّ ، ترجمة ابراهيم كيلاني، ص، 13 [20]
– العصر العباسي الأول، عبد العزيز الدوري، نشر دار المعلمين العالية، بغداد، 1945 م، ص، 48 [21]
– “البخلاء” بشرح وتعليق محمد التونجي، دار الجيل، بيروت، 1993، ص، 10، 11 [22]
– هويدا صالح، الهامش الاجتماعي في الأدب، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، ص، 54 – 55 [23]
23- محمد الصغير بناتي، البلاغة العربية، أصولها النظرية، أطروحة دكتوراه دولة في البلاغة العربية، مخطوطة جامعة الجزائر، جوان، 1993، ص، 261.
– ضحى الاسلام، أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 10، د. ت. ط. ص، 387، ج 1 [25]
– راجع في هذا المجال كتاب الحيوان للجاحظ، حيث تجد هذه المعلومات مبثوثة في أماكن متفرّقة. [26]
27- حمدان، عبدالرحيم، اللغة في الرواية، ” تجليات الروح ” للكاتب فحمد نصار، مجلة الجامعة الاسلامية، المجلد، 16، العدد الثاني، 2008،
ص 104.
– ضحى الاسلام، ج 1، ص، 388 [28]
– ” مروج الذهب “، المسعودي، ج 2، ص، 344 [29]
– ضحى الاسلام، ج 1، ص، 386 وما بعده[30]
– الحيوان، الجاحظ، ج، 1، ص، 28 وما بعدها. [31]
– ضحى الاسلام، ج، 1، ص، 387. [32]
– البخلاء، المقدمة بقلم، محمد التونجي، ص، 17 [33]
– هذا ما تطرحه بعض مقامات بديع الزمان الهمذاني، وخصوصًا المقامة المغيرية[34]
– القرآن الكريم، سورة الإسراء: الآية، 29 [35]
-القرآن الكرين، سورة الإسراء: الآية، 26 [36]
-القرآن الكريم، سورة الإسراء: الآية، 27 [37]
– الجاحظ وجتمع البصرة، شارل بلاّ، ترجمة ابراهيم الكيلاني، ص، 13 [38]
– ديوان طرفة بن العبد بشرحه وقدّم له مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1987، ص، 26 [39]
– ديوان زهير بن أبي سلمى. [40]
– كتاب ” البخلاء”، الجاحظ، دار الجيل، بيروت، 1993، ص، 23 [41]
– سالم المعوش، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، لبنان، بيروت، 1990، ص، 319 [43]
– القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية، 110 [44]
– القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية، 33 [45]
45- هو سهل بن هارون بن زاهبون ( أوراهون) أبو عمرو الدستميساني ( ت 215 ه ) لُقب ببزرجمهر الاسلام لشهرته بكتابة القصص. فارسي الأصل، اشتهر بخرسان وعلا مقامه بخدمة الرشيد. كان من الخطباء والشعراء الشعوبيين له مؤلفات كثيرة. كان الجاحظ من المعجبين به. أنظر أخباره في: البيان والتبين، 1 / 30، معجم الأدباء، 4 / 258.
– أنظر الفزني : عبد الكريم، المضحك في كتاب البخلاء، دار الوفاء، بغداد، 2013 [54]
– السيمياء والتأويل ، روبرت شولز ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، نر : سغيد الغانمي ، ط ، 1 ، 1994 ، ص، 103 [55]
– أنظر ، سردية النص المسرحي ، بيداء محي الدين الدوسكب ، دار الشؤون العامة ، 2006 ، ص، 21 [56]
– الجاحظ ومجمع عصره، جميل جبر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1958، ص، 17 [57]
– أبوعثمان الجاحظ، محمد عبد المنعم خفّاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ص، 310 [58]
– أنظر قصة المروزيّ والعراقيّ، البخلاء ص، 22 [59]
– جميل جبر، الجاحظ ومجتمع عصره، ص، 28 [60]
– جميل جبر، الجاحظ ومجتمع عصره، ص، 28 [61]
– وهو فارسي من الموالي، من أصحاب الكدية ومن أتباع الملّهب بن أبي صفرة. [62]
– البخلاء، إبتداء من ص، 80 [63]
– البخلاء، ص، 82، 83، 84، 87. [65]
– تجد تفصلًا عن هؤلاء في ” حديث خالد بن يزيد ” ابتداء من ص، 80، ولا سيّما الصفحات: 89، 90، 91، 92 [72]
73- طانيوس فرنسيس، المواقف الانتقادية في أدب الجاحظ أطروحة محفوظة في الجامعة اللبنانية، اُعدت لنيل شهادة الدكتوراة اللبنانية، بيروت، 1991، ص، 86،
– فاروق سعد، الجاحظ، البخلاء، ص، 83 [74]
– البخلاء، الجاحظ، قصة ثمّم بن جعفر، ص، 181 [75]
– وهم جماعة من الغجر أو النور كما نسميهم اليوم. [76]
– البخلاء، الجاحظ، ص، 86… وصعاليك الجبل، قصاع الطرق، وزواقيل: لصوص، وزطّ الآجام، النور المشرّدون. [77]
75- طه الحاصري، كتاب البخلاء للجاحظ، حقق نصّه وعلقّ عليه، من المقدمة، دار المعارف بمصر، ط 4، ذخائر العرب، ص 23
( د. ت.ط)
– البخلاء، ص، 202 (طرف شتى ). [83]
– انظر ، أحمد عزت ، فلسفة الأخلاق عند الجاحظ ، أتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 2005 ، ص، 51[84]
– تقنيات السرد في النظرية والتطبيق ، آمنة يوسف ، دار الحوار للنشر وللتوزيع ، سوريا ، ط 1، 1997 ، ص ، 28 [85]