المنظومة القيميّة في “أبعد من كورا أبعد من أرارات” للكاتب “جورج مغامس”
The value system in “Beyond Kura, Beyond Ararat” by George Mughamis”
Dr. Salma Atallah د ـ سلمى عطالله)[1](
تاريخ الإرسال:7-4-2024 تاريخ القبول:19-4-2024
الملخّص:
إنّ رواية “أبعد من كورا أبعد من أرارات”، للكاتب “جورج مغامس”، قد تجاوزت فنّ الرّحلة إلى غاية أبعد وأسمى، إذ إنّها لم تقف عند حدّ التّرحال، بل أتت مطعّمة بمجموعة من القيم المتنوّعة الّتي أسهمت في إغناء النّسيج الرّوائيّ وتعزيز شأنه الإنسانيّ والإصلاحيّ التّقويميّ. وما المنظومة القيميّة الّتي نطقت بها هذه الرّواية سوى انعكاس لعمليّة التّأثّر والتّأثير الّتي نعاينها في الأدب… وهي ليست عبثًا أو صدفة أو عن طريق الإقحام المتعمّد الّذي يأبى الانسجام مع المتن الرّوائيّ، بل عفويّة تعبّر عن صدق الكاتب وجدّيته من نحو المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، والّذي بدا، في هذا كلّه، سائحًا ذا عين نقّادة، ما جعل روح النّقد الاجتماعيّ والتّعليقات السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة والحضاريّة والثّقافيّة والوجوديّة… الّتي أضفى عليها من روحه وثقافته، حاضرة في الرّواية، من خلال منظومة قيميّة واضحة المعالم، موجّهة إلى القارئ العربيّ بعامّة، واللّبنانيّ بخاصّة، الّذي يحتاج إلى توعية ثقافيّة تنتشله من الفساد الّذي يتخبّط فيه، والمادّيّة الّتي تشغل باله ووقته وجهده، والجهل الّذي يعانيه تحديدًا في المواطنة الصّحيحة… هذا القارئ الّذي ضرب بعرض الحائط الكثير من القيم المهمّة الّتي ما عادت تعني له الكثير في هذا الزّمن الغريب والمتبدّل… والّتي رأى “مغامس” أن الاستمرار في نسيانها والازدراء بها يشكّل خطرًا على هذا القارئ…
كلمات مفتاحيّة: فنّ الرّحلة، مسؤوليّة الكاتب، المنظومة القيميّة، النّقد الاجتماعيّ، الفساد والمادّيّة والجهل، التّوعية.
Abstract:
The novel “Beyond Kura, Beyond Ararat” by “George Mughamis,” has transcended the art of the journey to a farther and loftier goal, as it did not stop at the point of travel, but rather came infused with a set of diverse values that contributed to enriching the narrative fabric and enhancing its human, reformist and corrective values… The value system expressed in this novel is nothing but a reflection of the process of influence and impact that we witness in literature… It is not in vain, coincidence, or by deliberate interjection that refuses to be consistent with the narrative text, but rather spontaneity that expresses the writer’s sincerity and seriousness in terms of the responsibility placed on him, and who seemed, in all of this, to be a tourist with a critical eye, which made the spirit of social criticism and political, social, religious, civilizational, cultural and existential commentaries… which he added from his spirit and culture, is present in the novel, through a clearly defined system of values, directed to the Arab reader in general, and the Lebanese in particular, who needs cultural awareness to extricate him from the corruption in which he is floundering, and the materialism that occupies his mind, time, and effort, and the ignorance that he suffers, in true citizenship, in particular….
Key words:
Art of the journey; Writer’s responsibility; The value system; Social criticism; Corruption, materialism and ignorance; Awareness.
- المقدّمة
إنّ الأدب، بعامّة، هو انطلاق حرّ، تعبير عن حقيقة وواقع إنسانيّين. وهذا ما يجعل له أهميّته الإنسانيّة، ويجعله سجلًّا لما نراه ولما نختبره… وأدب الرّحلة هو فنّ نثريّ ذو صلة وثيقة بالتّاريخ والجغرافيا والاجتماع، غير أنّه يتميّز عنها كون كاتبه لا ينتقي موضوعاته وأفكاره من بطون الكتب والمخطوطات وهو جالس إلى مكتبه، بل يسوح في البلدان، دانيها وقاصيها، فيستقي مادّة التّأليف من الطّبيعة وما ومن عليها… فيصف ما يشاهده من أحوالها، ويدوّن ما تلتقطه أذنه من أفواه سكّانها، وما يصدر عنهم من حركات وسكنات، ويسجّل صورًا معبّرة عن حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم ونظمهم… ليخرج بملاحظات وانطباعات خبرها بنفسه وبتجربته الشّخصيّة…
“أبعد من كورا أبعد من أرارات” لـ “جورج مغامس” يمكن عدَّها من أدب الرّحلة. قام أسلوب الكاتب فيها على السّرد المشوّق والوصف الحيّ المتحرّك. وقد بدا فيها سائحًا ذا عين نقّادة، ما جعل روح النّقد الاجتماعيّ والتّعليقات السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة والحضاريّة والثّقافيّة والوجوديّة… الّتي أضفى عليها من روحه وثقافته وحمّلها بعض قيمه، تظهر بين ثنايا الكتاب بعفويّة وسلاسة، إنّما بوضوح أكيد، فيتجلّى الجانب الحضاريّ الإنسانيّ.
فهل يمكن لهذه القطعة الأدبيّة، تحديدًا بما حملته من مميّزات، أن تستوعب بين صفحاتها السّرديّة والحواريّة والوصفيّة منظومة قيميّة؟ لماذا هذا الاستيعاب؟ وإلى من تتوجّه به؟ أسئلة سوف نحاول الإجابة عنها، في هذه القراءة، من خلال قسمين: القسم الأوّل يعرّف بالقيم بعامّة، ويضيء على المنظومة القيميّة المنتشرة في “أبعد من كورا أبعد من أرارات”. في ما القسم الثّاني يعالج أسباب استيعاب هذه القطعة الأدبيّة للمنظومة القيميّة أو الهدف من هذا الاستيعاب، وإلى من هذه المنظومة موجّهة؟…
- المنظومة القيمية في “أبعد من كورا أبعد من أرارات”
إنّ سعينا للبحث بين صفحات “أبعد من كورا أبعد من أرارات” عن المنظومة القيميّة الّتي استوعبتها هذه الصّفحات، يدفعنا، أوّلًا، إلى أن نعرّج على تعريف القيم. فما هي القيم؟
إنّ القيم هي “أفكار عامّة ضروريّة لوجودنا وتطوّرنا، منها ما يرتبط بالصّواب والخطأ، ومنها ما يشعرنا بالخجل والفخر، ومنها ما يغذّي أحلامنا بمستقبل أفضل.”([1]) والقيم الّتي يمكن للأدب أن يحملها ويدافع عنها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، هي القيم الإنسانيّة، الإيجابيّة، المشتركة بين الدّيانات والحضارات والشّعوب، النّابعة من التّجارب البشريّة الفرديّة والجماعيّة، وربّما كان للأدباء دور في صياغتها لا في صناعتها… ويمكننا القول، بناء على كلام عالم النّفس السّويسريّ “بياجيه” (Jean Piaget)، إنّ الأديب لا يتعامل إجمالًا مع قيم من ابتداعه بل من اختياره. وسواء أكان اختياره حرًّا أم متأثّرًا بحاجات اجتماعيّة باطنيّة، فإنّ درجة تفاعله مع هذه القيم تبقى خاضعة لعوامل لا يمكن الإلمام بها أو التّحكّم في مسارها أو مآلها. فقيم الأشياء “تعلو وتهبط تبعًا لعلاقتها بالإنسان، وتبعًا لنظرته إليها. وهي لا تنشأ في الفراغ، ولا هي مجرّدة مطلقة ولا ثابتة، ولا أبديّة، بل هي، كما ترى الفلسفات الطّبيعيّة، جزء لا يتجزّأ من الخبرة الإنسانيّة الواقعيّة. والقيم، فضلًا عن ذلك، متغلغلة في سلوك الإنسان، وتنبع من نفسه ومن تفاعل رغباته مع الأشياء ومع البيئة الّتي يعيش فيها.”([2])
وفي رواية “أبعد من كورا أبعد من أرارات” منظومة قيميّة استوعبتها الرّواية بين صفحاتها، وقد جاءت لافتة للانتباه، متشعّبة، حاملة لمختلف جوانب الحياة وشؤونها وشجونها ووجوهها… متنوّعة بين قيم دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة وحضاريّة وبيئيّة ووجوديّة وثقافيّة… ولا بدّ من التّوقّف عندها ومعاينتها. فما هي هذه القيم الّتي اختارها “جورج مغامس” لتدخل في نسيج قطعته الأدبيّة؟
2-1 القيم الدّينيّة
إنّ الدّين كان ومازال، بالنّسبة إلى الإنسان، “قويًّا ومتأصّلًا في النّفوس منذ أزمان سحيقة في القدم. ويعدُّ تاريخ نشأته في الإنسان بعد تعلّمه النّطق والكلام، لذلك لم تتمكّن الأعمال الذّهنيّة من التّغلّب عليه إلّا قليلًا. وإذا ما تغلّبت عليه برهة من الزّمن، فلا يلبث أن يستعيد قوّته ونشاطه ويرجع كما كان، فيصبح السّيّد المطلق في تصرّفات الإنسان.”([3]) من هنا اهتمام الكثيرين به، ومن بينهم الكاتب الّذي أظهر، في هذا الكتاب، تأثّره بالدّين كما ثقافته في هذا المضمار ورأيه وتوجّهه، وذلك من خلال بعض القيم الّتي بثّها في بعض الصّفحات.
فهو يعلن، بكلّ وضوح، عن إيمانه بوجود الله. كما هو يؤكّد هذا الأمر من خلال تصريح مباشر أمام تزايد دعوات الإلحاد وإنكار هذا الوجود الإلهيّ: “الله… هو موجود. حقّا موجود… بوجوده قالت الأديان، وقِبلة وجوهنا هو الله. يقين بالحضرة الإلهيّة… هذا الحبّ الجمّ الّذي تنطق به كلّ ذرّة، كانت لخير البشر وكانت البشر”. (مغامس، أبعد من كورا، ص 74) و “مشيئة الله هي في كلّ حقيقة.” (ص 74) وبحسب الكاتب، “علينا قبل كلّ شيء أن نفيء إلى حمى الله… إلى حبّه الّذي به كنّا وكان لنا الكون.” وكأنّ لا سبيل لنا في ذلك إلّا بالعودة إلى الطّفولة، لذلك يقول الكاتب: “نحن مدعوّون وأبدًا إلى سبر معاني الطّفولة حيث شعلة الرّوح لا تخبو ولا تنطفئ تقيمنا من براءة الدّهشة ومبرّات الاكتشاف تبقينا على قرب من رحم الأم ورحمة الله.” (ص 77)
ونراه يتعمّق أكثر في الدّين فيتكلّم على الشّيطان وعلى ضرورة مواجهته وطرده، وأهمّيّة الاحتماء بالله الّذي ينجّي الإنسان ويقوّيه على هذه المواجهة: “مقاومة الشّيطان… طرد الشّيطان. مواجهة وليست اتجاهًا. فما من اتّجاه إلّا إلى الله. وإنّ من يلوذ بالله حقّا، يشيح حقًّا عن الشّيطان، فبالله يقوى، والله يقوّيه” (ص 74)…
ومن ثمّ ينتقل إلى المنحى السّلوكيّ، فيوجّه نظر المتلقّي إلى ضرورة الطّهارة والنّقاوة لأنّ “أنقياء القلوب أحبّاء الله” (ص 183)، ولأنّ “السّكوت عن الشّرور سافرة ومحجبة، مدعاة لشقّ المزيد من الطّرق إلى الجحيم فعلينا أن ننتبه وننبّه” (ص 77)
ولا ينهي كلامه على الدّين إلّا بالمرور على نقد رجال الدّين والخطابات الدّينيّة المنتشرة في كلّ مكان حول العالم، هذه الخطابات الّتي تمزج بين المشيئة البشريّة والمشيئة الإلهيّة، وتسعر نار التّعصّب: “المهمّ أن يعرف كلّ طرف حدّه فيقف عنده، فلا يختلط حابل المشيئة الإلهيّة بنابل المشيئة البشريّة. بيد من ينصّبون أنفسهم قوّامين على المصائر ديّانين للّضمائر… يتّخدون من أنفسهم في النّاس أربابا. ولعلّ هؤلاء من حيث يدرون أو لا يدرون، يصبحون كمطرقة وسندان وبينهما لا يُبالى بالّذي يُسحق. وما أقوله، له وقائعه الحمر، في التّاريخ القديم والحديث في الغرب وفي الشّرق. وهل أدلّ على ذلك من مثل ما يعاني منه العالم الإسلاميّ اليوم من تردّي مختلف الخطابات، ويقظة مختلف العصبيّات، والإقبال المحموم على مختلف أنواع العنف والقتل والتّدمير وفي وطيس هذه المعمعة، كم تبدو جماعات كأنّها انسحبت من التّاريخ لتبقى حيث هي، كما هي.” (ص 143) هؤلاء الرّجال، أو رجال الدّين الّذين يتّخذون من مناصبهم سبيلًا لكسب النّفوذ والثّروات: “وهل صلاح وإصلاح على يد الزنادقة الهراطقة، من تدثّروا الوعاظ، وفي جلودهم خطاطيف اللّواذع الضّواري، يتصدّرون المجالس يعتلون منابر التّقديس، يتّخذون لهم في مناطق النّفوذ مواقع للنّفوذ، ويكتنزون من السّلطات سلطة، ومن الأموال مالًا، يستهينون بفقر وقهر وأيّام تنزف على المذلّة، يتحكّمون بالأعناق… وكم يعبدون أوثانًا… كم يصيرون أصنامًا!… ما قد يبدو خيرًا على أيديهم هو كالطّعم يُلقى للطّير أو للسّمك، وما هذا إلّا من أعمال الشّيطان يزين لها تابعًا ومتبوعًا. من يُفيد ومن يَفيد: تواطؤ على الرّغبات والحاجات! وفي الغمرة الطّامية يُشكّ بأهل الصّلاح حقّا ويُرمون بسهام الاتّهام. وكم من صديق رُجم، رُذل، نُفي، دفن، أزهر ترابه.” (ص 77)
2- 2 القيم الاجتماعيّة الانسانيّة
يعرّف معجم “المنجد” المجتمع بأنّه “مكان الاجتماع”، وبأنّه “يُطلق مجازًا على جماعة من النّاس خاضعين لقوانين ونظم عامّة”. فما هي القيم الاجتماعيّة الّتي وردت بين طيّات كتاب “أبعد من كورا أبعد من أرارات”، وما هو المضمون الّذي تمحورت حوله؟
من أبرز ما دعت إليه قيم هذا الكتاب الاجتماعيّة هو ما يمكن أن يحسّن الخلق الإنسانيّ، وبالتّالي، حياة الفرد مع الآخر. فحسّ التّدبّر، والصّبر الّذي يُفترض، بحسب الكاتب، أن يكون له حدود، والالتزام الّذي هو من الاحترام… أيّ احترام (ص 29)، وعدم المكابرة لأنّ “ما من مكابِر إلّا وكابد” (ص 50)، والابتسامة الّتي هي خير واق من الأدواء، ولا داع للتّعبّس والنّكد (ص 61)، ولسان الإنسان الّذي يكون بحسب ما تعوّد([4])، وإضاءة شمعة الّتي هي أفضل من لعن الظّلام([5])، والعاطفة الّتي تثمر أينما زرعت([6])، وعدم الخيانة، خصوصًا “خيانة الأمانات، الّتي بلغت شأوًا بعيدًا… صارت فجورًا، ميلًا عن الصّدق والقصد الحميد، اجتراء على القبائح بلا هوادة”([7])…كلّها قيم اجتماعيّة وفضائل أخلاقيّة أصرّ “مغامس” على أن تتضمّنها رسالته الّتي شاءها لمتلقّيه في هذا الكتاب.
والكاتب، في هذا المجال، قد أطّر جدليّة الخير والشّرّ معتبرًا أنّ الصّراع بينهما هو منذ القدم (ص 83)، ورأى أنّه من المؤسف “أن تصرفَنا السّلبيّات عن الإيجابيّات، فنكره بدل أن نحبّ ونهدم بدل أن نبني وننبش أقبية وقبورًا، نفضح المستور بدل أن نرفع على عُمُد الرّسالة والبشارة منصّات منابر منائر لقيم الحقّ والخير والجمال…” (ص 74) كذلك قدّس الألم إذ “كلّ ألم في النّفس، في الرّوح، في الجسد، سيّد يأمر ونحن نستطيع.” (ص 20) وقدّس العمل معتبرًا أنّ علمنا بالشّيء لا يعني أنّنا نعمل به، مثمّنًا حسن التّلازم بين العلم والعمل (ص 21). كذلك الفطنة الّتي رأى دورها ومكانتها في حياة الإنسان كبيرين ذاكرًا: “قيل رأس الحكمة مخافة الله. إنّي أقول قياسًا رأس الحكمة طلب الفطنة. فلنطلب الفطنة في النّساء والرّجال فإن تبدّت لنا اطمأنّ قلبنا وتعقّل، لأنّ الفطن عاقل تمنطق باللّطف والحدس واستنارات القلب الودود” (ص 50)… وسخر من حبّ ليس في مكانه متسائلًا: “أيّ حبّ هذا الّذي يقضي على أقرب المقرّبين من عيلة وأصدقاء ورفاق بهم الخيانة والتّآمر والعداء والخذلان؟! هذا حبّ مرضيّ بل حبّ من في الغيلان تغتال مواليدها.” (ص 158)
وقد أعطى للوقت واحترامه فقرة كاملة لما له من قيمة في حياة الإنسان بمختلف وجوهها، فقال: “بتنا نعرف قولك في أهمّيّة الوقت للأفراد والشّعوب، وفي كيف أنّنا نسفحه ونهدره… نحن لا قيمة للوقت عندنا أو نبدله بأبخس الأثمان. ولذلك نُرجئ ونؤجّل ونسوّف ونماطل ونُخلف بالوعود وننكث بالعهود ونتأخّر عن المواعيد… لا نضبط عقارب ساعاتنا: لا على نظام، ولا على تنظيم، ولا على إنتاج وإبداع واختراع… نحترف الاستهلاك والاجترار والموت بين تكية وتقية وتبعيّة واتّكال على آلهة بلا قلب وعلى الغيب والأقدار.” (ص 182) كذلك للطّفولة، أعطاها أهمّيّة معتبرًا أنّ الصّحوة هي الّتي “تردّنا إلى حرّيّة البرّيّة وأفق يطلّ على الطّفولة… على حكاية جدّة وصورة… على قراءة في الغيم واستقراء أسطورة” (ص 114).
2- 3 القيم السّياسيّة
إنّها السّياسة… شاغلة النّاس خصوصًا اللّبنانيّين. فليس من لبنانيّ إلّا وتستهويه السّياسة. وكاتبنا، وإن كان في رحلة خارج لبنان، إلّا أنّ هموم السّياسة ومآسي وطنه لم تفارقه. فنراه يضمّن رحلته وما جرى فيها آراء ومواقف لم تخفِ قيمًا أراد أن يضيء عليها، وإن بأسلوب غير مباشر. فها هو ينتقد السّاسة وما يحصل في عالمهم من جشع وفساد ونهب وإرهاب وحروب وانقسامات واستباحة للقيم والأخلاق… قائلًا: “أما كفانا ما بنا من سياسيّين مرضى بالجشع، يقلقون علينا حتّى غفوة التّعب؟!” (ص 61) “هي فحسب السّياسات العوراء الخرقاء جوّفت الأنظمة والقوانين والشّرع واستباحت المعايير والموازين والأخلاق والقيم وضربت بعرض أبلساتها كلّ الأعراض…” (ص124) “ففسادها تلغو به الألسن، ويُزكم الأنوف! هذه مافيات وليست حكومات تنهب وتُرهب، فتستحق أن ترمى في هاوية…” (ص 173) فنحن “في مكان وفي زمان من الانحطاط الشّنيع، حيث الأبالسة…. في غير موقع ومقام من السّلطات قوّامون جبرًا وفرضًا زورًا وبهتانًا على أهل العلم والقلم وصنّاع الحضارات، وينصبون لهم المزاعم والخرافات أشراكًا وخيمًا…” (ص 186) “أمّا الحكيم الرّحيم المستقيم في سيرته والسّياسة، فمملكته ليست من هذا العالم.” (ص 152)
وينتقد الشّعوب غير الواعية والخاضعة لمستعبديها، فيرى أنّ “تأليه القادة دأب يدوم… وأنّه من المفارقات الأليمة أنّنا نؤلّه من يقبض على الرّزق والعنق!” (ص 152) لا بل يلعنها: “اللّعنة على شعوب تعبد مستعبديها تمجّد جلّاديها.” (ص 159) ثمّ يبرّر لها واقعها معتبرًا أنّ هذا هو “قدر الشّعوب الّتي تتوسّط قوى تغزو وتستعمر”. (ص36)
كما يعرّج على ما في لبنان من معاناة (ص87) ومن أخبار عن قتل وقتلة… (ص184) وعلى “ما كان في لبنان وكان في الخليج وما صار، وكيف هي الحروب تندلع والأحلاف تنعقد والنّاس تنقسم والإعلام منصّات أين منها الصّواريخ الموجّهة والصّواريخ المضادة”. (ص181) كذلك يعرّج على “جورجيا” وما فيها من تعصّب للأرثوذكسيّة ومن معايير غير سويّة للمواطنيّة: “المواطنيّة الجورجيّة ليست مكفولة لمن لا ينتمي إلى الكنيسة الأرثودكسيّة… مثل هذا الشّعور يقلقل الاستقرار الوطنيّ. عندما لا تكون الأهليّة هي المعيار، فهي العصبيّة والتبعيّة ما يسود”. (ص131)
وهو في هذا كلّه، لم يتوان عن تقديم حلّ يراه المخرج من الأزمة، مقدّمًا قاعدة رآها قاعدة ذهبيّة مفادها أنّ “الحاكم يكون من شعبه أو لا يكون، ويكون كشعبه أو لا يكون، ويعمل لخير شعبه: أمنه وأمانه… رفاهه ورخائه أو لا يكون ويقود شعبه… يقوده إلى أفضل وأجمل وأرقى أو لا يكون…” (ص151-152) مؤطّرًا ماهيّة العمل السّياسيّ الحقّ بأنّه “عندما نقرّر أن نعمل في السّياسة لا نعود نعمل لأنفسنا بل لسوانا.” (ص 163) وبأنّ “الشّعوب تحتاج إلى حكومات رشيدة، تصدقها القول والعمل في مصالحها”. (ص 173)
كما أنّه استحضر أحداثًا من التّاريخ عن “شهداء الإبادة… عمّن ذُبحوا وبُقروا وقُطّعوا بفأس وأُردوا بالرّصاص… عن مشرّدين ومنفيّين وعمّن ماتوا من الجوع والمرض.” (ص 29)… “عن نهب، هدم وحرق، وعن تنكيل، تعذيب واغتصاب، وعن انتهاك أعراض وحرمات…” (ص 30) واصفًا من جعل على لسانها هذا الكلام بأنّها “خير سفيرة لخير قضيّة” (ص 30)
2- 4 القيم الحضاريّة
والحضارة حضرت أيضًا في مشوار ترحاله الّذي اقتنصه فرصة لكي يعبّر عن وجهة نظره من نحو أمور حضاريّة مهمّة. فأطّر الشّعوب بتراثها والميراث (ص 121) وبالتّقاليد وبما ترى وتعتقد (ص 172)، معتبرًا أنّ هذا الوجه الحضاريّ هو الّذي يحدّد هويّة النّاس، ويمنحهم هذه الخصوصيّة الّتي تميّز شعبًا عن آخر. لكن، لم يفته أن يدعو إلى الانفتاح على الآخر، فسأل كلّ من ينزل بقوم أن يأكل من طعامهم ويشرب من شرابهم ويتعلّم من علومهم ويتأثّر بآثارهم ومآثرهم وما هم عليه من العادات، وإلّا فلن يعانق إنسانيّة في كوكب الإنسان… ولن يغتني بتجارب واختبارات وما صنعت أيدي الصّنّاع. (ص 41)
ثمّ انتقل إلى المدى الحضاريّ الأوسع الّذي يفصل العالم إلى شرق وغرب، ويسم كلّ طرف بسماته الخاصّة، فيتكلّم على الشّرق الّذي رآه شقيًّا، “يشقى بآلهة على مقاس الحكّام والكهّان.” (ص 34)، ولعلّة فيه لم تتح له إلى اليوم فرصة “ترسيم الحدود بين الانفتاح والانبطاح، وبلوغ حيزات الحياد البصير، الّذي هو حاجة حيويّة موضوعيّة… وواحة وئام بين ثقافات وحضارات.” (ص 159) هذا الواقع جعله يدعو، بالتّالي، إلى تغيير زاوية النّظر لأنّ “النّظر إلى الوراء يشدّ إلى الوراء والنّظر إلى الأمام يشدّ إلى الأمام.” (ص 53) وإلى التّركيز على نتاج القلم من علم وأدب وثقافة لأنّ “أمّة لا تشتغل بالقلم هي أمّة مغلوبة بدوسة التّخلّف والعدم.” (ص 187)
ولم يكتف بهذا الكلام الحضاريّ الشّامل بل عرّج على ذاته ليكشف ما تروم إليه هذه الذّات. فأشاد بحياة الرّيف وبحضارته ورام ترابه مشيرًا إلى التّحوّل الحاصل في حياته، قائلًا: “أنا أحبّ حياة الرّيف. أعترف أنّي لم أكن كذلك يوم كان الشّباب يعصف بجنباتي. يومذاك كانت المدينة: صحفها، كتبها، نواديها، مقاهيها، لياليها… فسيفساؤها الباهر، هي عشق الفؤاد ومنتهى الآمال. واليوم وقد مال بي العمر نحو التّراب الأوّل يهيج بي الحنين إلى عالم الأرياف.” (ص 113)
2- 5 القيم الثّقافيّة
ولم تمرّ الرّحلة من دون أن يبثّ فيها الكاتب بعضًا من آرائه الثّقافيّة وقيمه الّتي، بلا شكّ، يؤمن بها وبجدواها في تطوير الحياة الإنسانيّة، والّتي يصرّ على أن يكون أدبه حاملًا لها. فقد رأى أنّ “العلم في الصّغر (بوعي أو بلا وعي) كالنّقش في الحجر.” (ص 43) وأنّ “الآداب هي بساتين الفكر والشّعر والعادات والتّقاليد وسائر التّراث. فغدا تلك الألفباء سور وحصن وشرفة عالية للهويّة الوطنيّة.” (ص 39) وأنّ اللّغة هي “مدخل إلى الثّقافة، والثّقافة مدخل إلى السّياسة بل الثّقافة تصنع سياسة والسّياسة تصنع ثقافة؛ فهي دورة تدور: من اللّغة تبدأ، وإلى اللّغة تعود… إنّ اللّغة نبع ومصبّ.” (ص 36) وأكثر من هذا إنّ “اللّغة هي من الموادّ الحافظة للأوطان.” (ص 121)
2- 6 القيم البيئيّة
قد تكون البيئة، بحضورها في هذه الرّواية، هي الأكثر ملاءمة لأدب الرّحلة الّتي تتميّز بها هذه الرّواية، كون البيئة هي المجال الّذي تحصل فيه الأحداث والتّحرّكات والمشاهدات… فالكاتب الّذي يسوح في أرجاء هذه البيئة يجد نفسه مسؤولًا عن حمايتها والحفاظ عليها، لذا نراه يضيء على قيم النّظافة والحفاظ على المساحات الخضراء. فينتقد الإنسان الّذي يقطع “نسل الأخضر” ويسبّب تلوّثًا في البرّ والبحر والجوّ، تلوّث هو ” آفة هذا الزّمن الصّناعيّ الاستهلاكيّ الأرعن” (ص 158)، لا بل هو يعيب عليه هذا الأمر ويعتبره من الويلات… ينتقد الكاتب الإنسان الّذي “ينظّف قليلًا ويوسّخ كثيرًا، ولعلّه، بما يستهلك من طاقات الأرض بطيش ونهم، يُهلك هذه الطّاقات، يُفقر الأجيال ويورثها القفار.” (ص 158) ويلومه على ما سبّبه من تبدّل مناخيّ وتلوّث، هما “بالأسباب والنّتائج، يقوّضان مقوّمات الحياة السّليمة ومستقبلها، ولما يزل هذا الإنسان يفتك بالطّبيعة”. (ص 158) وقد شاء أن يجعل على لسان المرأة الجورجيّة الّتي تقوم بدور الدّليل السّياحيّ كلامًا فيه نقد للبيئة، ففي معرض كلامها مع السّيّاح قالت: “لا رحمة للطّبيعة ولا اقتصاد في مواردها ولا استخدامات رشيدة… نحن نعاني من التّلوّث في البحر الأسود بفعل التّقصير في معالجة المياه الوسخة، ما أضرّ كثيرًا برصيدنا السّياحيّ. وعن بحرنا حدّث ولا حرج فيه جمعت الجراثيم! والإنسان لو يدري يقتل شيئًا فيه كلّما قتل شيئًا في الطّبيعة. بيئة سليمة… إنسان سليم: طردًا وعكسًا، معادلة صحيحة وبسيطة”. (ص 164) أمام كلامها هذا استذكر الكاتب البيئة في بلاده، وبشاعة ما يحصل فيها وفداحته، قائلًا: “نخبرها عن حفائر الرّمل وكسّارات الحجارة في صدور الجبال!” (ص 174)، موجّهًا بهذا نقدًا مباشرًا لمن يشوّه بيئة بلاده…
2- 7 القيم الوجوديّة:
إنّ أغرب ما يمكن أن نفكّر فيه في أثناء تجوالنا وترحالنا في الأرض هو كلّ ما له علاقة بالحياة والموت من أفكار وقيم… إذ إنّ مباهج الجديد الّذي تلتقطه عين الإنسان، والمتعة الّتي يعيشها مع من يرافقونه في تجواله، قد تُلهيه عن أمور الواقع والوجود والمصير، وتبعده عنها أو إيّاها تنسيه… إلّا أنّ الكاتب، في “أبعد من كورا أبعد من أرارات”، قد استحضر ما هو أعمق من لذّة استكشاف الجديد، على الرّغم من استمتاعه بما يشاهد ويسمع، فرأى أنّ الحياة “تمضي سراعًا… تنقضي كأنّها بصر المنام. ولذلك لا يبقى لنا ومعنا إلّا ما نذكر… إلى حين يفسد عقلنا الخرف… وساعتئذ ما أرهب ما تكون السّاعة فيا للإنسان، هل يعتبر؟” (ص 80) كما رأى الحياة “ثمرة تُسفح فجّة أو حين تنضج…” (ص 169) وراح يستذكر “الشّباب الّذي ولّى، كيف كان لا يشبع ولا يتعب.” (ص 169) ولم يغب الموت عن أفكاره الّتي راحت تجول بعيدًا عن المكان والزّمان اللّذين كان فيهما، فوقف مستغربًا، ولربّما عاجزًا ضعيفًا، أمام العمر الّذي “تمضي سنوه سراعًا فما تكاد عناقيده تحلو حتى تُبتلى بالقطاف.” (ص 169)، كما أمام الموت الّذي “هو الغالب في النّهاية!” (ص 104)
أمام هذا الكمّ من القيم، لا يسعنا سوى أن نسأل: تُرى، ما كانت أسباب استيعاب رواية “أبعد من كورا أبعد من أرارات” لهذه المنظومة القيميّة اللّافتة؟ وإلى من هي موجّهة؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الجزء الثّاني من هذه القراءة.
- أسباب استيعاب هذه الرّواية للمنظومة القيميّة، والجهة المتوجّه إليها
في إضاءتنا على أسباب استيعاب هذه الرّواية للمنظومة القيميّة، كما على الجهة المتوجّه إليها من خلال هذه المنظومة، نكون كأنّنا نسأل مع الفيلسوف والرّوائيّ الفرنسيّ “جان بول سارتر” (Jean-Paul Sartre) في كتابه “ما الأدب؟”: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟
3- 1 لمن كتب “جورج مغامس”؟
لقد كتب “جورج مغامس” في رواية “بعد من كورا أبعد من أرارات” للقارئ العربيّ بعامّة، ولللّبنانيّ بخاصّة. هذا القارئ الّذي يحتاج إلى توعية ثقافيّة تنتشله من بؤرة الفساد الّذي يتخبّط فيه، والمادّيّة الّتي تشغل باله ووقته وجهده، والجهل الّذي يعانيه خصوصًا من ناحية المواطنة الصّحيحة والصّادقة والواعية… هذا القارئ الّذي ضرب بعرض الحائط الكثير من القيم الإيجابيّة الّتي ما عادت حياته تقوم عليها، وما عادت تعني له الكثير في هذا الزّمن الغريب والمتبدّل بشكل سريع… في هذا القارئ، تحديدًا، يحاول “مغامس” أن يوقظ قيمًا أخلاقيّة واجتماعيّة ووجوديّة وحضاريّة وبيئيّة وثقافيّة… بات الاستمرار في نسيانها والازدراء بها يشكّل خطرًا على حياة هذا القارئ العربيّ واللّبنانيّ…
صحيح أنّ “مغامس” كان يصف ما يحصل في رحلته وما يشاهده في بلد غريب كان محطّ سفره أو ترحاله، إلّا أنّ هذا البلد البعيد لم يكن “سوى قناع يحجب البلد الحقيقيّ. والغالب أن يدفع هذا القناع قارئ الرّواية إلى مقارنة الأوضاع التي يقرأ عنها بالأوضاع الّتي يعيشها وإلى تحليل أوضاع بلده”([8])، وإلى الخروج بالخلاصات اللّازمة الّتي تحثّ على التّغيير والسّير قدما نحو الأفضل… فالكتاب والقارئ “طرفان في قضيّة واحدة متلازمان. فالكتاب أيّا يكن موضوعه، هدفه أن يصل إلى القارئ. إنّه هذا الحوار الّذي يقيمه الكاتب بينه وبين الجمهور لغاية ما”… “وأيّا تكن غاية الكاتب أكانت التّأثير أو الإقناع أو الإعلام أو التّعزية أو التّحرير، بل وحتى لو كانت إحداث اليأس، فإنّ هدفه ومحطّ رحال حواره هو القارئ والجمهور.”([9])
3- 2 لماذا كتب “جورج مغامس”؟
لقد أراد الكاتب “جورج مغامس” في روايته هذه، ومن خلال المنظومة القيميّة الّتي بثّها بين حنايا الرّواية، أن يقدّم نظرته إلى العالم، أن يقدّم الأسلوب الّذي يراه الأسلم لعيش حياة فضلى مع الآخرين الّذين يشاركونه عالمه الأصغر، الوطن… إذ لا بدّ للأديب من “أن يتوقّف، من حين إلى آخر، ليطرح على نفسه أسئلة كهذه: ماذا أكتب؟ لماذا أكتب؟ لمن أكتب؟ كيف أكتب؟ من أنا الّذي يكتب؟… إنّ طرح أسئلة كهذه والإجابة عنها يظهران مدى الجدّيّة الّتي يتمتّع بها الأديب، ويشهدان على أنّه يتّخذ من الأدب قضيّة ينقل عبرها إلى من يقرأه الكنوز الّتي عاد بها من رحيله في عوالم التّجربة”([10])، مهما تنوّعت هذه التّجربة… والرّواية هي نوع أدبيّ قادر على أن يكون حاملًا لأسئلة الكاتب والمتلقّي المتنوّعة، على عكس ما يظنّ كثيرون يرفضون الرّواية و يرون فيها “أمزوحة وضياع قوى. وهم يجدون الحياة والتّاريخ أغنى من القصص، والعلم أكثر إثارة لهم، والفلسفة حافزًا أقوى للتّفكير”([11]) (دفاعًا 77). فالرّواية قد حلّت “بدرجة كبيرة محلّ الشّعر والمقالة، فورثت كلّ الأدوار الّتي كانت موزّعة على أنواع الأدب المكتوب، وفي الوقت نفسه،كلّ المسؤوليّات أيضًا. فالتّوعية الّتي تمارسها الرّواية أكثر أهميّة من الإقناع الّذي يمارسه النّصّ الفلسفيّ. الإقناع في الفلسفة يجري في شكل مغالبة تنتصر فيها وجاهة الحجّة وقوّة التّعبير. بينما الإقناع في الرّواية هو جزء من سينوغرافية الحوار، حيث وجاهة الحجّة وقوّة التّعبير لا تنفصلان عن سياق الحوار وطبيعة الشّخصيّات والمكان والزّمان والظّروف الخارجيّة وعن تأثير النّتيجة لاحقًا في تطوّر الأحداث.”([12]) فالرّوائيّ وتحديدًا إذا كان مثقّفًا، سيتولّى عمليّة التّوعية الثّقافيّة الّتي تضطلع بها الرّواية، فهو يحمل الهمّ الإنسانيّ ويوظّف كتاباته في خدمة قضايا مجتمعه، لأنّه يملك الشّعور بالمسؤوليّة عن الآخرين كجزء من إنسانيّة الإنسان، بعد أن حمّله العالم الحديث أعباء ثقيلة، فصار عليه أن يقلق لمعيشته ولمعيشة الآخر… وهو، أي الرّوائيّ المثقّف، يستطيع، بحكم طبيعة فنّ الرّواية الّذي يمارسه، أن يكون أشدّ تأثيرًا في النّاس من كاتب المقالة أو الدّراسة أو المحاضرة أو أيّ نوع أدبيّ أو علميّ آخر، لأنّ الرّواية لا تتوجّه إلى فئة محدّدة من المتلقّين، بل إلى كلّ المتلقّين من دون أيّ استثناء. يصف السّياسيّ والطّبيب الفرنسيّ “جورج كليمنصو” (Georges Clemenceau) الإنسان المثقّف أنّه “رجل قضيّة، يؤثّر في الرّأي العام، ويعزّز الأمل بالمستقبل”.([13]) فالثّقافة هي “الطّرق الّتي يوجدها أيّ مجتمع لتسدّ حاجاته الرّئيسة، ولتقوم بتنظيم علاقاته الاجتماعيّة.”([14]) أمّا الإنسان فلا يصبح مثقّفًا “إن لم يشغل الشّأن العام حيّزا من اهتمامه، وإن لم يكن له رأي في ما يجري حوله، وإن لم يكن انشغاله بالشّأن العامّ منطلقًا من فهم واضح لمبدأ المسؤوليّة الاجتماعيّة ومرتكزًا على قواعد مشتركة هي القيم الإنسانيّة”،([15]) ما يبرّر لنا وجود هذه المنظومة القيميّة في رواية “أبعد من كورا أبعد من أرارات”.
إنّ الرّواية الحقيقيّة نظرة جديدة إلى العالم والتّعامل مع النّاس. فحتّى لو قرأنا رواية “لا أحداث فيها، نجد لذّة أنّ ثّمة “أحدًا” فيها، إن لم يكن فيها حدث. هذا الـ “أحد” هو الكاتب الرّوائيّ. فكلّ رواية جواب عن السّؤال الأصعب الّذي يطرحه كلّ منّا: كيف التّصرّف مع الآخرين، وأصدقائنا، والعالم، مع محيطنا وما ومن فيه يعجبنا أو يخنقنا أو يزهقنا؟ بأيّ طريقة نواجه الآخرين لنفهمهم ونتحمّلهم ونحبّهم أو نكرههم؟ إنّ الرّواية عبرة وسلوك، قبل أن تكون حكاية أو وثيقة أو تسلية أو محاكاة الواقع.”([16]) هذا الواقع أسند إلى الرّوائيّ دورًا، فصار عليه أن يتسلّح بالشّجاعة ليقوم بهذا الدّور… وأن يتعامل مع فنّه بتهيّب لأنّه السّلاح الوحيد الباقي من أسلحة الأدب، وأن لا يستهين بالمسؤوليّة “لأنّها الصّوت المجانيّ الوحيد الّذي يرتفع دفاعًا عن القيم الإنسانيّة”.([17])
فالكاتب هو الرّجل الّذي يقول من خلف القناع ما لا يقال، أو ما لا يجرؤ عليه الآخرون، أو لربّما ما لا يعيه أو يعرفه الآخرون… وهذا القول أو الكلام هو “الكلام النّقديّ الّذي يتجاوز المسموح”([18]) والنّقد هو مراقبة الحاضر والتّمعّن فيه ومحاسبته ومحاكمته من أجل المستقبل، لكي يكون الآتي أفضل من الغابر… انطلاقًا من هذا الواقع، يغدو عمل الكاتب كفنّان مساعدًا للطّبيعة ومكمّلًا لها وساعيًا ليرتفع بها نحو مثالها الأعلى. وهذا ما عناه فيلسوف مدرسة الإسكندرية “أفلوطين” حين قال: “إنّ الفنّ لا يستعير جماله من الطّبيعة، بل من ارتفاعه بها إلى فوق ذاتها.” فعمل الفنّ أن يمثّل الأشياء أفضل ممّا هي عليه في الواقع لتكون أعظم تأثيرًا في النّفوس والعقول من حقيقتها.
بالإضافة إلى هذا، نستطيع أن نقول إنّ الكاتب “جورج مغامس”، ومن خلال هذه المنظومة القيميّة الّتي تتضمّنها روايته، أراد أن يعزّز هذه القيم وتحديدًا الإيجابيّة منها في حياة الإنسان في مجتمعه، وأن يدافع عنها، وإن بطريقة غير مباشرة، لأنّها محتاجة إلى هذا الدّفاع بسبب امتهانها، ووجود القيم المضادة المتعارضة معها، هذه القيم المتعارضة الّتي تبدو في زماننا اليوم، زمن العولمة والمادّيّة، هي الأكثر انتشارًا واعتناقًا… وليس بأمر غريب أن يحصل هذا الدّفاع لأنّ “الرّوائيّين والأدباء إجمالًا ليسوا أصحاب مصالح، وبالّتالي لا يجدون أنفسهم في تناقض مع القيم الإنسانية.فعالم الأدب والفكر هو عالم هذه القيم وهم حين يدافعون عنه إنّما يدافعون عن هويّتهم.”([19])
إذًا، إنّ جزءًا كبيرًا من عمليّة الكتابة هو تقويم، وعمليّة التّقويم “لا تتمّ في الفراغ وإنّما يقوم الفرد بها متأثّرًا بالمحيط الاجتماعيّ والثّقافيّ للمجتمع الّذي يعيش فيه، أي في الوسط الّذي ينشأ فيه وما يتضمّنه هذا الوسط من نظم اجتماعيّة وتقاليد وأعراف وعادات اجتماعيّة وأنماط وسلوك”…([20]) وقد جاء هذا التّقويم لابسًا لباس العفويّة والانسيابيّة في هذه الرّواية، بحيث تغلغل في صلب النّسيج الرّوائيّ وطبيعته، كي يتحقّق الهدف منه بشكل كامل ولطيف، وكي لا يأتي محتواه مجرّد وعظ أو تعليم مباشر، وهذا ما يمقته المتلقّي وينفر منه، وقد لا يقف عنده إطلاقًا…
- الخاتمة
يمكننا القول إنّ رواية “أبعد من كورا أبعد من أرارات” للكاتب “جورج مغامس” قد تجاوزت فنّ الرّحلة إلى غاية أبعد وأسمى، إذ أنّها لم تقف عند حدّ التّرحال في سبيل التّرحال، بل أتت مطعّمة بمجموعة من القيم المتنوّعة الّتي أسهمت في إغناء النّسيج الرّوائيّ وتعزيز شأنه الإنسانيّ والإصلاحيّ التّقويميّ. وهذا ليس بغريب، لأنّ الأدب، شئنا أو أبينا، يحمل رؤية اجتماعيّة، فهو “نشاط إنسانيّ قد يتأثّر بالمجتمع كما قد يؤثّر فيه.”([21]) وما المنظومة القيميّة الّتي نطقت بها هذه الرّواية سوى انعكاس لعمليّة التّأثّر والتّأثير الّتي نعاينها في الأدب… والكاتب لم يضمّن روايته هذه المنظومة القيميّة عبثًا أو صدفة أو عن طريقة الإقحام المتعمّد الّذي يأبى الانسجام مع المتن الرّوائيّ، بل جاءت عفويّة تعبّر عن صدق الكاتب وجدّيته من نحو المسؤوليّة الملقاة على عاتقه كأديب أو كعين ساهرة على المجتمع…
فهل تلقى هذه المحاولة الأصداء الّتي صبا إليها الكاتب؟… وهل يعود القارئ العربيّ واللّبنانيّ الّذي يتوجّه الكاتب إليه، إلى هذه القيمة القيميّة، فيعيد النّظر فيها ويفهم قيمتها ومدى حاجته إليها في هذا الزّمن الصّعب؟…
المصادر والمراجع
- المصدر
- مغامس، جورج. 2018، أبعد من كورا أبعد من أرارات، دار الإبداع، لبنان.
- المراجع
- إسكاربيت، روبير. ترجمة آمال عرموني، 1983، سوسيولوجيا الأدب، منشورات عويدات، بيروت.
- الحاج حسن، حسين. 1990، ط3، علم الاجتماع الأدبي، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت.
- الدّملوجي، فاروق. 2003، تاريخ الأديان: الألوهيّة وتاريخ الآلهة، الأهليّة للنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان.
- روى، كلود. ترجمة زغيب هنري، 1983، دفاعًا عن الأدب، منشورات عويدات، بيروت.
- زيتوني، لطيف. 2018، الرّواية والقيم، دار الفارابي للنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان.
- صعب، أديب. 2006، هموم حضارية في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة، دار النهار، بيروت.
الهوامش
-[1] منسّقة دائرة اللّغة العربيّة في جامعة سيّدة اللّويزة، وأستاذة اللّغة العربيّة وآدابها فيه.
Arabic Coordinator and Associate Professor Notre Dame University, Lebanon Email: abdallahsalma13@yahoo.com Phone Number – 9613756343
[1] – زيتوني، الرّواية والقيم، ص 89.
[2] – الحاج حسن، علم الاجتماع الأدبي، ص 197.
[3] – الدملوجي، تاريخ الأديان، ص 138.
[4] – المرجع نفسه، ص 64.
[5] – المرجع نفسه، ص 74.
[6] – المرجع نفسه، ص 120.
[7] – المرجع نفسه، ص 76.
[8] – زيتوني، الرّواية والقيم، ص 208.
[9] – إسكاربيت، سوسيولوجيا الأدب، ص 20.
[10] – صعب، هموم حضارية، ص 216.
[11] – روى، دفاعًا عن الأدب، ص 77.
[12] – زيتوني، الرّواية والقيم، ص 200.
[13] – المرجع نفسه، ص 17.
[14] – الحاج حسن، علم الاجتماع الأدبي، ص 268.
[15] – زيتوني، الرّواية والقيم، ص 9.
[16] – روى، دفاعًا عن الأدب، ص 78.
[17] – زيتوني، الرّواية والقيم، ص 222.
[18] – المرجع نفسه، ص 211.
[19] – المرجع نفسه، ص 8.
[20] – الحاج حسن، علم الاجتماع الأدبي، ص 207.
[21] – إسكاربيت، سوسيولوجيا الأدب، ص 23.