قراءة في كتاب النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان
للدكتور عليّ زيتون
زهراء الموسويّ[1]
أودّ أوّلًا التعبير عن امتناني للمشاركة في هذا البحث عن كتاب النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، لأستاذي الناقد الكبير الأستاذ الدكتور عليّ زيتون. وإنّه لشرف كبير لي يضعني أمام مسؤوليّة الكلمة والنقد.
سيعالج هذا البحث كتاب النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، من منظار الناقد الدكتور عليّ زيتون، وكيفيّة تحليله لرؤية الأديب إلى العالم المرجعيّ من خلال بعض القصائد التي اختارها. وقبل العروج إلى الكتاب الذي بين أيدينا لا بدّ من مقدّمة صغيرة اتطرّق فيها إلى تعريف الأدب، والنقد، والنقد الأدبيّ، وأخيرًا نقد النقد.
الأدب هو أحد أشكال التعبير الإنسانيّ عن مجمل عواطف الإنسان، وأفكاره، وخواطره، وهواجسه، بأرقى الأساليب الكتابيّة التي تتنوّع من النثر إلى النثر المنظوم إلى الشعر الموزون، لتفتح للإنسان أبواب القدرة على التعبير عمّا لا يمكن أن يعبّر عنه بأسلوب آخر. يرتبط الأدب ارتباطًا وثيقًا باللغة فالنتاج الحقيقيّ للغة المدوّنة، والثقافة المدوّنة بهذه اللغة تكون محفوظة ضمن أشكال الأدب وتجليّاته التي تتنوّع بتعدّد المناطق، والعصور، والأزمنة، ومنها ما قاله وليم هازلت: “إنّ أدب أيّ أمّة هو الصورة الصادقة التي تنعكس عليها أفكارها”[2].
ويعرّف مفهوم النقد بوجه عامّ: “إنّه دراسة وتفحّص الأقوال والأفعال، والحكم عليها, وتمييز السلبيّ من الإيجابيّ”[3]. فهو الفنّ المتعلّق بدراسة الأنماط الأدبيّة، ومقارنتها بغيرها من الأعمال، وقياسها وبيان القيمة فيها, وهذه الدراسة يقوم بها شخص متخصّص يعرف باسم (الناقد)، وهو يمتلك الموهبه التي تمكّنه من القيام بعمليّة النقد الأدبيّ، حيث يتمكّن من التفحّص، والتمعّن الدقيق، ومن ثَمَّ اكتشاف المظاهر السلبيّة، والإيجابيّة الظاهرة منها والخفيّة, وكذلك تعرّف الجمال الخفيّ، والظاهر، والقدرة على إدراك الفروق التي لا يمكن أن يدركها غير المتخصّصين، ويشترط الباحث لتكوين هذه الكشفيّة عند الأديب توافر الثقافة العالية المحيطة بعصره، ومجتمعه، وأن يثير في وجه تلك الثقافة أسئلة محرجة، ومثل هذه الأسئلة هي ما يجب أن يتنفّس بها نتاج ذلك الأديب الكبير، فيُكشف لنا في قراءة أعماله عن قلق معرفيّ إنسانيّ تاريخيّ كفيل بإنتاج أدب خالد.
فالنقد الأدبيّ هو قراءة الناقد لرؤية الأديب إلى العالم المرجعيّ، وهذه الرؤية تكون معمّقة وحياديّة، تكشف لنا الإيحاءات، والرموز في العمل الأدبيّ، ونقد النقد هو قراءة ناقد النقد لرؤية الناقد إلى العالم المرجعيّ في تحليله لرؤية الأديب.
بدأ الدكتور عليّ زيتون كتابه بمقدّمة، تحدّث فيها عن نظريّة النصّ عند الغرب، والنصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، ليكون لدينا نصّ شعريّ مقاوم، لا بدّ من أن يكون هناك فعل مقاومة، إذًا الأمر يتطلّب قبل الحديث عن النصّ الشعريّ المقاوم، الحديث عن نشأة فعل المقاومة، والظروف التي أدّت إليه.
تحدّث أوّلًا عن النكبة الفلسطينيّة بأنّها الشعلة الأولى لنشأة المقاومة اللبنانيّة الحديثة، لأنّ قيام الكِيان الإسرائيليّ على التراب الفلسطينيّ أو اللبنانيّ، يعدّ ولادة للمشروع الغربيّ الذي يهدف إلى الهيمنة والصراع على الدول العربيّة. وقام بتحديد النصّ الشعريّ المقاوم الأوّل وهو نصّ خليل حاوي، ومن الأسس التي عدّها ضروريّة ليعدّ النصّ نصًّا شعريًّا مقاومًا، هي أن يكون النصّ المختار معبّرًا بفنّيّته عن المقاومة اللبنانيّة، سواء عبّر عنها في عزّ قوّتها، أو في حال وهنها، عادًّا بذلك أن الحياة ليست عزيمة دائمة، ولا صفعًا مستمرًّا.
يرى الدكتور عليّ زيتون أنّه ليس من السهل تحديد النصّ، وذلك بسبب تعدّد الحقول المعرفيّة التي يجادلها النصّ، وتعدّد زوايا الرؤية إليه من زاوية ثانية. فإن كان العقل العربيّ قارب طبيعة النصّ من خلال التفسير والتأويل مستنبطًا الأحكام الشرعيّة التي يفرضها النصّ القرآنيّ، وذلك ما عرف بعلم الأصول، هذا العلم الذي تطرّق إلى التحليل اللغويّ، والنفسيّ، والاجتماعيّ، والتاريخيّ، ولكن من دون أن يسجّل موقفًا تحديديًّا لطبيعة النصّ. أمّا المدارس الغربيّة فقد اعتزّت بأنّ كلّ خطاب يتمّ تثبيته بواسطة الكتابة هو نصّ، لذلك نشأت لديهم ثنائيّة (الشفويّ والمكتوب)، فما هو مكتوب مختلف بطبيعته عمّا هو شفويّ، واتّفق على ذلك ريكور، وبارت. بينما تتحكّم بالنصّ الشعريّ المقاوم ثنائيّة (الانتصار الكبير، والأحداث الداخليّة التي سبقت هذا الانتصار)، وبذلك يرى د. زيتون أنّ المكوّنات الواقعيّة هي المركز الأساسيّ التي يقوم عليها النصّ المقاوم، وليس شرطًا أن يكون نصًا مكتوبًا، بل أن يكون فعلًا موجودًا.
أمّا فيما خصّ علاقة النصّ باللسان ووفقًا للقاعدة العلميّة السويسريّة “فإنّ منتج اللسان مضطر إلى الولادة المستمرّة”[4]. والولادة المستمرّة تعني أنّ النصّ المُنتَج بات مستقلاًّ عن اللسان بمعنى آخر، هناك عوامل أخرى، غير اللسان، تدخل في عمليّة إنتاج النصّ، ومن هذه العوامل نذكر التجربة الحياتيّة ببعديها التاريخيّ، والاجتماعيّ، أي العمق المعرفيّ، وهذه المعرفة تعطي أي دال في النصّ قيمة دلاليّة فتتكوّن لدينا ثنائيّة (النصّ واللسان)، عند كلّ من كريستيفا ورولان بارت. ويأتي بول ريكور بثنائيّة ثانية هي (الشفويّة والكتابيّة)، بحيث تصبح الكلمات قائمة بذاتها ولذاتها، ولا تحيل لخارجها، أي إحالة هذه الكلمات بدالّها ومدلولها إلى الحضن الذي انبثقت منه. أمّا رأي ديجك فقد عرضه الدكتور عليّ زيتون قائلًا أنّ ديجك يرى أنّ ميدان علم النصّ يشمل ميدان اللسانيّات خصوصًا. وبهذا فهو مختلف مع الثلاثة الآخرين حول ثنائيّة (النصّ واللسان)، لأنّ النصّ عنده ممثّل حديث لعلم البلاغة، وعلم البلاغة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسلوبيّة، مسجّلًا بذلك موقف اتّصاليّ بالنصّ، وهذا الهمّ الاتّصاليّ من جهة، ودراسة الملفوظ لا التلفظ من جهة ثانية، جعله يختلف عن زملائه الثلاثة، ويلحقه بمدرسة التحليل البنيويّ، متأثّرًا بالسياق البرغماتيّ. والبرغماتيّة ” تنظر إلى النصّ على أنّه فعل كلاميّ، أو سلسلة اتّصال كلاميّة”[5].
أمّا سارتر وبوصفه فيلسوفًا، فلم يبحث عن علاقة اللغة بالنصّ، وإنّما على علاقة اللغة بالناثر، وعن غاية الناثر ممّا يكتب. فغاية الناثر، أن يطّلع القارئ على شيء ما يقع خارج اللغة، “فالنثريّ جوهره نفعيّ”[6]. واللغة هي الأداة للتعبير، وهي شيء مستقلّ عن التفكير، أمّا الشاعر الذي هو على عكس الناثر، فلغته هي الغاية بحدّ ذاتها، فتصبح الكلمة عند الشاعر “هي الشيء نفسه”[7]. فلا تحيل إلى شيء يقع خارجها، فتصبح هي الغاية والوسيلة. ولا بدّ من استخدام العلامات ومعرفتها ليستطيع الشاعر استخدام الكلمات للدلالة على مظاهر العالم. خلاصة القول إنّه برغماتيًّا في النصّ النثريّ، وبارتيا في النصّ الشعريّ.
أمّا المقاربة بين النصّ المقاوم، واللسان تتجلّى في النظام السيميائيّ للنصّ، واللغة العربيّة استطاعت المحافظة على أنظمتها الصوتيّة، والمعجميّة، والنحويّة، والصرفيّة، والبلاغيّة، منذ ولادتها حتّى الآن، ما جعل الشاعر العربيّ يمتلك تجربة علامّية فريدة. صحيح أنّنا مع كلّ نصّ شعريّ جديد أمام لغة شعريّة جديدة، ولكن هذه الجدّة تقوم على تلك التجارب السابقة المنتمية إلى النظام اللغويّ، وهذا النظام اللغويّ هو الذي يبقى ملازمًا للنصّ، في حين تفقد الأنظمة العلامّية سيميائيّتها بعد كتابة النصّ، وتتّجه لتصبّ في النظام اللغويّ الأساسيّ، وهذا ما يفسّر ظاهرة تعدّد العلامات اللغويّة الدالّة على المدلول الواحد، والشاعر العربيّ الحديث وبحسب رأي د. زيتون، يملك من الثقافة ما يكفي لإنتاج الأيديولوجيا (السيميائيّة)، وفيها سيميائيّة اللغة الشعريّة، وهذا ما جعل علاماتنا اللغويّة، ومصطلحاتنا تختلف مع الثقافة المستوردة، ولا تتعامل معها تعاملًا سويًّا وطبيعيًّا، لأنّ تلك الثقافة تنتمي إلى مناخ أيديولوجيّ آخر. وهذه الأيديولوجيا الغربيّة تؤدّي إلى التشوّش، الأمر الذي جعل شعراءنا الكبار أكبر من الآخرين، الذين يعيشون توازنًا في حياتهم الثقافيّة واللغويّة. لأنّه يحمل همّ مقاومة الثقافة الغربيّة وخصوصًا الإسرائيليّة بكلّ أشكالها الفكريّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، وهذا ما أنتج لدينا نصًّا مقاومًّا. وحين نتحدّث عن العالم من شرفة النصّ المقاوم، فإنّنا لا نختصر العالم من جهاته الستّ بالأحداث التي وقعت في جنوب لبنان، وإنّما يقول زيتون إنّنا نتخطّاها لعلاقة العالم بهذا الحدث، والنظام الذي يحوّل هذا الواقع إلى لغة شعريّة هو نظام سلطة تخرج معه اللغة من نظامها السيميائيّ، إلى النظام الذي يستدعي المقاومة. أمّا علاقة النصّ بالعالم والأيديولوجيا عند جوليا كريستيفا يعني ولادة أنظمة دالّة جديدة على أنقاض أنظمة كانت قائمة قبلها، فعلم النصّ مفتوح دائمًا ينتظر باستمرار ظروفًا ثقافيّة جديدة لكي يغتني ويتّضح ويتطوّر، من بين انتظاراته عودة الروح إلى الثقافة العربيّة لتفيد ممّا وصلت إليه الثقافة الغربيّة، وفيما خصّ علاقة النصّ بالمبدع والمتلقّي، بدأ بالنصّ عند كريستيفا فهو يفعل بالمبدع فعله بالعالم، فالنصّ هو الطاقة، وهو عندها يكون هو الذي يمتلك القدرة على تحويل اللغة، وإعادة إنتاجها، وتتموضع الطاقة في هذا الإنتاج لتعطيه القدرة أيضًا على تحويل العالم وإعادة إنتاجة، ومن ثَمَّ موضعته داخلها أيضًا، ولا يدخل القارئ في عمليّة بلورة النصّ عند كريستيفا محاولة بذلك بناء نظريّة معرفة مادّّة تخصّ النصّ”[8].
أمّا علاقة النصّ المقاوم بالمتلقّي والعالم فمتغيّرة، فإن كان الشاعر المقاوم معروفًا بانتمائه إلى ثقافة المقاومة، فالمتلقّي متعدّد الثقافات والانتماءات، وهذا ما يجبر الشاعر على تشكيل عمليّة حوار، ورقابة مسبقة لمواقفة، وأفكاره الثقافيّة. فالمتلقّي إذًا حسب د. عليّ زيتون يدخل بشكل مباشر في عمليّة تشكّل النصّ، ويظهر ذلك على شكل علامات سيميائيّة وشيفرات تشير إلى منابعها القائمة خارج النصّ، فيكون المتلقّي شريكًا في الإنتاج والقراءة. وهذا التعدّد للمتلقّي، ولثقافته على الساحة اللبنانيّة، أدّى إلى تغييب المعالم الفنّيّة للنصّ الشعريّ المقاوم في لبنان عن دائرة الوعي الجمعيّ.
المناهج التي اتّبعها د. عليّ زيتون في نقد النصّ الشعريّ المقاوم، هي المنهج البنيويّ، والمنهج السيميائيّ.
والبنيويّة منهج ينظر إلى الأعمال الأدبيّة باعتبارها نظمًا رمزية دلالية تقوم في الدرجة الأولى على مجموعة من العلاقات المتبادلة بين البنى الجزئيّة، “وترى أن قيمة العمل الأدبيّ تتمثّل في النصّ ذاته وما ينبثق عنه من جماليّات لغويّة ومستوى أدبيّ رفيع، وليس في علاقته بغيره من المستويات الخارجيّة سواء كانت نفسيّة، أو اجتماعيّة أو تاريخيّة، أو غير ذلك من المستويات”. ويرى الباحث أنّ قصور دور الفنّ على إبراز النواحي الجماليّة الداخليّة يقلّل من فرص خلوده، إذ إنّ الجمال ليس مطلقًا، فكما يتغيّر مقياس الحياة بتغيير ظروفها ييغيّر الإحساس بالجمال من عصر إلى عصر، وكذلك من طبقة إلى طبقة، ويتّفق مع “جلبرت ميرى” في قوله: بأنّ إبداع أيّ عمل فنّيّ لا بدّ من أن يقوم على قصد المنفعة والاستخدام، فليس ثمّة صورة ترسم لأناس عُمي، ولا يُبنى قارب في غير وجود ماء”[9].
ونستذكر أهمّ ما فعلته البنيويّة هو الانطلاق من مبدأ العلاقة بين الأشياء وهو مبدأ مكّنها من الرؤية المفتوحة على وظائف الظاهرات، وفتح لها أبوابًا شُرّعت بين يديها لخدمة علوم العصر الحديث كعلم النفس، والرياضيّات مع بياجيه والأنثروبولوجيا، والأساطير مع ليفي شتراوس وأخذ بارت بمفاهيمها لتحليل مسالك المجتمع في الملابس، والطعام إاضافة إلى تجلّياتها في الأدب وفنونه.
إنّ البنيويّة هي أكبر تحوّل أدبيّ مَسَّ كلّ وجوه الفكر الإنسانيّ، وربط الإنسانيّات بمناهج العلوم التجريبيّة، ما جعل شتراوس يقول كلمته المشهورة (روّضت العلوم الإنسانيّة نفسها منذ قرون على النظر إلى علوم الطبيعة على أنّها نوع من الفردوس الذي لن يتاح لها دخوله أبدًا)[10].
يعدّ السويسريّ فريديناند دي سويسر المؤسّس الأوّل للبنيويّة التي أصبحت منهجًا معتمدًا في حقول ثقافيّة متعدّدة، وذلك من خلال علم اللغة، فقد كان هاجسه “في تحويل الدراسات اللغويّة إلى دراسات علميّة للإمساك بفكرة(البنية) التي أسّست للمنهج البيويّ في الدراسات المتنوّعة. ولعلّ تركيزه على الثنائيّات: (اللسان واللغة)، و(اللغة والكلام)، و (الألسنيّة والسيميائيّة)… نابع من ذلك الهاجس العلميّ الباحث في المكوّنات, مكوّنات أيّ قضيّة يتناولها. ويأتي كلامه على طبيعة العلامة اللغويّة المكوّنة من ثنائيّة (الدال) و(المدلول) ليشكّل المنطلق الأساسيّ للبنيويّة، وقد وضع الحجر الأساس لهذا المنهج التحليليّ الوصفيّ”[11].
وقد كان للشكليّين الروس أيضًا مساهمة فاعلة في تشكيل البنيويّة، من خلال جمعيّتين: حلقة موسكو اللسانيّة، وجمعيّة بتروغراد لدراسة اللغة الشعريّة. توحّدت هاتان الجمعيّتان فكانت كلمة أبوياز عنوانًا للحركة الشكليّة التي ضمّتها، وكان المحرّك لهذه الحركة رومان جاكبسون الذي أخذ مع رفاقه في بلورة بعض الأفكار المنهجيّة المتعلّقة بلغة الشعر وأسلوب دراستها. “وإنّ الإنجاز الأساسيّ الذي تمّ على يد الأبوياز، هو محاولة إنهاء غربة الأدب عن نفسه وطبيعته”[12].
ودراسة الأدب هي دراسة للمكوّنات التي تكوّن النصّ الأدبيّ. وهنا يتلاقى التفكير البنيويّ العلميّ مع التفكير الأدبيّ المحض ليكوّنا أهمّ ركيزتين للمنهج البنيويّ.
إنّ جاكبسون وإنجازاته حوّلت الشكليّة إلى بنيويّة، فنشأت حلقة براغ التي أفادت من إنجازات سويسر والأبوياز، وانطلقت للحديث عن “بنائيّة اللغة”، التي تعنى بتحليل العلاقات بين العناصر المتعدّدة في لغة ما، والتي تشكّل كلاًّ شاملًا.
ويرى بياجيه أنّ منشأ البنية قائم على ثلاث أساسيّات هي: الشموليّة، والتحوّل، والتحكّم الذاتيّ. والشموليّة تعني أنّ مكوّنات البنية ليست تجميعًا كمّيًّا، ولكنّها اجتماع وظيفيّ يأخذ كلّ مكوّن منها مكانه الوظيفيّ بما يتناسب مع الوظيفة الأساسيّة للبنية الكلّيّة. والوظيفة الأساسيّة للبنية ليست معادلًا لجمع وظائف المكوّنات التي تكوّنها، فالمكوّنات مستقلّة، لا قيمة لها، تأخذ قيمتها من خلال وظيفتها داخل البنية. لذلك فالبنية ليست ثابتة، ولكنّها دائمة (التحوّل) بما تتّصف من قدرة على (التحكّم الذاتيّ). فأيّ نصّ من النصوص يمتلك القدرة على إعادة إنتاج نفسه باستمرار. والسمات الثلاثة التي تؤسّس الوحدة فتجعلها شاملة متحوّلة متحكّمة هي هُويّة البنية التي تجعلها متميّزة مثل (الإشارة) عن كلّ ما سواها.
ويقول صلاح فضل في التحليل الأخير لهذه البنية: “ليست البنية سوى حيلة عقليّة، أو نشاط ذهنيّ يهدف إلى إدراج الأشياء في نظم مفهومه معقولة، واضحة الترتيب، بيّنة الوظائف، محكومة في علائقها وارتباطها”[13]. وهي “نموذج يقيمه المحلّل ليفهم على ضوئه الشيء المدروس بطريقة أفضل وأوضح، وهي موجودة في العمل بالقوّة لا بالفعل”[14].
“إنّ أوّل من استخدم كلمة “بنية” هو “بارت” حين وجد فيها محاولة لنقل النموذج اللغويّ إلى حقول ثقافيّة أخرى، لأنّ الظواهر الاجتماعيّة، والثقافيّة ليست مجرّد موضوعات، أو أحداث ذات معنى، وبالتالي فهي علامات، إشارات (دالّ ومدلول)”[15]. و”البنيويّة التكوينيّة تسعى إلى إعادة الاعتبار للعمل الأدبيّ والفكريّ في خصوصيّته من دون أن تفصله عن علاقته بالمجتمع والتاريخ”[16].
ومن أبرز المستويات المكوّنة للنصّ بنيويًّا: الصوتيّ، والصرفيّ، والمعجميّ، والنحويّ، والدلاليّ، والرمزيّ.
ذوالمنهج الثاني هو المنهج السيميائيّ، وهو قائم على الإحاطة بالمادّة التجريبيّة (النصّ الأدبيّ) من نواحٍ عدّة كاللغة، والصوت، واللون، والشكل، وكلّ ما كان علامة لمعنى، حتّى نصل إلى استخلاص جيّد لمحتوى النصّ الأدبيّ يجب أن يكون المنهج السيميائيّ على مستوى من التجرّد بحيث لا تمنعه اللغة من الوصول إلى معنى النصّ العميق الذي يحتاج تفسيره إلى تفسير كلّ جزئيّاته السيميائيّة وربطها ببعضها ثم الوصول إلى شكل نهائي يصف النصّ الأدبيّ, وهذه النتيجة لا تحققها المناهج التأملية أو حتّى الانطباعية.
إنّ المنهج السيميائيّ يحلّل النصّ الأدبيّ من خلال خصائصه ويربطه بالأنظمة السيميائيّة خارج النصّ كالمحيط الذي نشأ من خلاله. من هنا يبدأ بحث الدكتور زيتون في كتابه الأخير، ولكن في مفارقة مدهشة في التحليل الأعمق بين السرديّة والسيميائيّة، متّخذًا منهجًا خاصًا به في منحى نقديّ مغاير لكلّ ما هو موجود حين يعقد المناظرة العلميّة بين ظلّ حركة الحداثة الثفافيّة التي شهدها الغرب، حين قدّم فهمًا متعدّدًا للأدبيّة أنتج مناهج نقديّة أدبيّة متعدّدة، وبيّن الإفادة من الحداثة القرآنيّة القائمة على العقل العلميّ والمرتبطة بالقيم الدينيّة الخلقيّة التي لم تعرفها الحداثة الغربيّة، وذلك لإيجاد فهم جديد خاصّ للأدبيّة ينتج مناهج علميّة جديدة.
قد لا يكون مصطلح (السيمياء) كثير الاستعمال في الدراسات الألسنيّة والنقديّة، ولكنّ مرادفه (الدلالة) هو الشائع، ولهذا فإنّ للغويّين العرب القدامى جهودًا دلاليّة (سيميائيّة) واضحة: فالأعمال اللغويّة المبكّرة عندهم تُعدّ من مباحث (علم الدلالة)، من مثل تسجيل (معاني الغريب) في القرآن، و(مجاز) القرآن.
وقد عدّ بارت نظام اللباس، وأنظمة الطبخ، وما سواها ذات دلالات اجتماعيّة معيّنة. ودرسها على هذا الأساس، واقترح مشروعًا سيميائيًّا يتلخّص في دراسة هذه (اللغات) كونها ذات أنظمة، وأنساق معيّنة، فيعدّ بارت المؤسّس للنقد السيميائيّ, لأنّه كشف لنا عن سلطة اللغة، وسلطة التقاليد الأدبيّة”[17].
وتطرّق الدكتور عليّ زيتون في الدراسة الإجرائيّة إلى عدد من القصائد التي ترتبط بالنصّ الشعريّ المقاوم في لبنان وهي: (قصيدة الجسر وشعريّة العبور – خليل حاوي، قصيدة وعبّاس يعدو أمام الجنازة، وشعريّة الفعل – الياس لحّود، قصيدة يمامة الجنوب وشعريّة التماسك – محمّد زينو شومان، قصيدة فتى الرمّان وشعريّة التماسك- محمّد عليّ شمس الدين، قصيدة الصوت وشعريّة الإحباط والقيامة – باسم عبّاس، قصيدة جلباب الهوى وشعريّة العشق – محمّد أبو عليّ، قصيدة همس من قانا وشعريّة الماء – سعد كمّونيّ، قصيدة عرس قانا وشعريّة الانعتاق – شوقي بزيغ، قصيدة المرسلة وشعريّة المقاومة – محمود نون، قصيدة خليل أو سمفونيّة الغضب وشعريّة الفتح – ديزيره سقّال، وأخيرًا قصيدة قراءة في وجه الجنوب، وشعريّة الانتصار – لسليمان جمعة) . سأدرس في بحثي بعضًا منها نظرًا للمساحة المعطاة لي.
يحتفي الدكتور زيتون بالنصّ الشعريّ المقاوم في لبنان في سياقه البنيويّ والسيميائيّ، فهو يرى أنّ تحليل العلامة السيميائيّة نسيج لغويّ غرضه التعرّف إلى الرؤية، وإلى عمق الثقافة التي تأسّست عليها، هذه الثقافة التي وجدها في الجسر الذي ذكره خليل حاوي في قصيدته، هذا الجسر الذي فسّره د. عليّ زيتون بأنّه جسر عبور للأمّة إلى نهضتها، وهو يمثّل موقفًا بنائيًّا في سياق النصّ، وبنائيّته محوريّة تدور حولها جميع حركات النصّ التشكّليّة. وهذه الثقافة لمسها في قصيدة “جلباب الهوى وشعريّة العشق عند محمّد أبو عليّ” حيث عدّ العنوان عودة بالأنظمة العلاميّة إلى النظام الأمّ الذي يمركز الحقيقة، وفي قصيدة “فتى الرمّان وشعريّة التماسك – محمّد عليّ شمس الدين) حيث وجد أنّ العنوان لا يختصر النصّ الشعريّ فحسب، ولكنه يختصر الفعل المقاوم في جنوب لبنان أيضًا. فهذه الثقافة لها قدرتها على النفاذ في عمق المادّة المرجعيّة. ويعني ذلك أنّ تلك الرؤية – وفاق رأيه – التي تحكم النظام السيميائيّ القائم في تلك الرؤية ستكون قابلة للتفتح لحظة تفتيح العلامة السيميائيّة. فتفتيح العلامة تفتيح لمكوّناتها الوظيفيّة بوصفها بنية متشكّلة من رؤية، ومادّة مدركة ولغة. ويؤكّد هنا أنّه من المهمّ البَدء في تفتيح الجزئيّ لنصل إلى التفتيح الكلّيّ الذي يضع أصبعنا على النصّ المقاوم في لبنان.
لينتقل بعدها إلى حركة تشكّل النصّ، والنمط السائد في كلّ قصيدة، من خلال اكنشاف الرموز المتعلّقة بكلّ كلمة في النصّ، فالسرديّة عند خليل الحاوي مرتبطة بالزمان، أمّا عند محمّد شمس الدين لم تكن سرديّة روائيّة هدفها نقل أحداث متتالية إلى المتلقّي بقدر ما كانت حكاية سيرورة انفعال الشاعر حيال استشهاد حكمت الأمين، والنمط السرديّ عند محمّد أبو عليّ ينقل إلينا تفاصيل التحوّلات العميقة التي تشكّل حكاية الوضعيّة العربيّة ما قبل التحرير.
والمنهج البنيويّ يتطلّب دراسة الإيقاع البنائيّ في كلّ قصيدة، ولهذا الإيقاع دوره الراسخ في النصّ فوزّعه على ثلاثة مستويات، المستوى المقطعيّ، والمستوى النبريّ، والمستوى التنغيميّ.
ففي قصيدة الجسر يؤدّي الإيقاع المقطعيّ لتحديد رؤية أكثر وضوحًا عن معالم الصراع بين السرعة والبطء، الانبعاث والركود، وهو الذي يمسك بالمسألة الإيقاعيّة ويفسّرها، فالعبور عنده نحو بحث الحضارة العربيّة متّصل بالسرعة، والركود متّصل بالبطء. ومن خلال الإيقاع النبريّ في القصيدة تمكّن من كشف عن قدرة خليل حاوي الإبداعيّة، والكشف عن شاعريّة الشاعر الحقّة، عادًّا أنّ المستوى الإيقاعيّ لا يطيع إلاّ الموهبة الفذّة. وأخيرًا درس الإيقاع التنغيميّ متوصّلًا إلى أنّ موسيقيّة هذا النصّ موسيقيّة موظّفة توظيفًا حسنًا في إنتاج الدلالة التي أراد الشاعر إيصالها. فلم تبقَ قالبًا جاهزًا، ولكنّها فاعليّة تابعة لفاعليّة وجدان الشاعر وانفعاله. وإذا انتقلنا إلى قصيدة فتى الرمّان وشعريّة الشهادة عند محمّد عليّ شمس الدين، نجد أنّ الدكتور عليّ زيتون قد بيّن دور الإيقاع المقطعيّ، في الكشف عن حركة النصّ وتحوّلاته الوجوديّة والشعوريّة، ما يعني أنّه قد أدّى دورًا بنائيًّا بامتياز، وأضاء على قدرة محمّد عليّ شمس الدين على بثّ المُناخ التفاؤليّ على النبر أكثر من تأثيره على المقاطع، وذلك تبعًا للآليّة التي أمسك بها الشاعر زمام الكتابه في الإيقاع النبريّ، وبين مُناخ الاستكانة، والشعور بالإحباط لا زال حاضرًا حضور المقامة، والتفاؤل من خلال الإيقاع التنغيميّ في القصيدة. أمّا رؤيته في قصيدة جلباب الهوى وشعريّة العشق عند محمّد أبو عليّ، من خلال الإيقاعيّة المقطعيّة والنبريّة فيمكن أن يبيّن لنا كيفيّة انتصار الدم على السيف، وشرعيّة العدل، والصدق على شرعيّة المروق والظلم، من خلال ارتفاع نسبة المقاطع الطويلة، ونسبة البنر في القصيدة، وهذا يومي إلى شعريّة غير عاديّة عند محمّد أبو عليّ، واستطاع أن يكشف لنا عن شخصيّة العربيّ التي يوقظها الألم ويحفّزها إلى الجدّ والاجتهاد، والسير إلى طريق الله، طريق النور، وذلك من خلال دراسته للإيقاع التنغيميّ في القصيدة.
ثمّ انتقل الدكتور عليّ زيتون إلى دراسة حياديّة النظام اللغويّ في كلّ قصيدة، متطرّقًا بذلك إلى حياديّة النظام المعجميّ، والنظام الصرفيّ، والنظام النحويّ. عادًّا أنّه لا يوجد في النصّ، ما هو حياديّ حتّى تلك الكلمات التي تأتي عفو خاطر المؤلّف، فإنّ لها وظيفة جماليّة حياديّة. فالنظام المعجميّ في قصيدة الجسر يقدّم كمًّا تراكميًّا، فالجدّة نوعيّة تختصر الحياة: ولادة حرّيّة وقوّة وبناء, وتتبّع النظام الصرفيّ ليصل إلى نتيجة حتميّة لاستخدام ضمير المتكلّم المفرد عند الشاعر، من أجل العبور إلى الذات الشاعرة، وعبور إلى طليعة المجمتع إلى المستقبل الزاهي، ومن خلال حياديّة النظام النحويّ كشف عن جدّيّة المعركة مع القديم وأهمّيّتها عند الشاعر. وهذه الحياديّة عند محمّد عليّ شمس الدين لها دورها في الكشف عن الجمال، والسعادة والحرّيّة، وهذه الدلالة المباشرة التي أنتجها النظام اللغويّ قد تحوّلت إلى علامة جديدة تشير إلى أنّ الشهداء ليسوا أحياء عند ربّهم فحسب، ولكنّهم من القداسة بمكان يخضع قانونًا كونييًّا لقانونهم الجهاديّ. وفي قصيدة جلباب الهوى، وشعريّة العشق، أضاء على العلامات السيميائيّة الدالّة في النصّ، من خلال التضادّ اللغويّ، والترادف، وهذه العلامات جاءت منضوية تحت عناوين متعدّدة، وفي النظام الصرفيّ بيّن دور الأفعال المضارعة، في الانسلاخ عن الماضي، والتركيز على المستقبل في الحاضر، وأخيرًا في النظام النحويّ رأى أنّ الأفعال المضارعة الناسخة لها علامة على الرؤية التي شخصت أمام باصرة الشاعر في كربلاء وقانا.
ولم يغفل الدكتور عليّ زيتون في دراسته للقصائد عن المجاز، والخروج على النظام االلغويّ، فوجد أنّ المستوى التركيبيّ في قصيدة الجسر هو أكثر المستويات مساهمة في إنتاج الشعريّة، لأنّه يعتمد المجاز، والحياد، ويخرج إلى دلالة احتماليّة شعريّة. فكشف عن الكناية التي اعتمدها خليل حاوي في قصيدة الجسر، وقال إنّه من خلالها استطاع الشاعر التفريق بين الجيلين: جيل الآباء الذي تغيّر، وجيل الآباء المتشبّثين بالثبات والقدم. وتأتي في المرتبة الثانية الاستعارة حيث استبدل الشاعر هُويّة المستعار منه بهُويّة المستعار له، قصد التعبير عن دلالة يعجز التعبير المباشر عن تبيانها، وثالثًا: أشار إلى دور التشبيه في تبادل الصفات، والإشارات بين المشبّه والمشبه به.
أمّا عند محمّد عليّ شمس الدين في قصيدة (فتى الرمّان وشعريّة الشهادة) فرأى الدكتور عليّ زيتون، أنّ التشبيه يأتي في المقام الأوّل حيث اعتمده الشاعر أكثر من سواه، ليخرج معه الشاعر على سلطة النظام اللغويّ، وأكّد د. زيتون أنّ الذي يحدّد دلالة الكلمات في هذا النصّ، هو السياق الشعريّ لا المعجميّ، وكذلك بالنسبة إلى الاستعارة فهي أكثر توغّلًا في هذا المجال من التشبيه، وأخيرًا تأتي الكناية لتضرب صفحًا على أساسيّات النظام اللغويّ معجمًا، وصرفًا، ونحوًا، فبيّن لنا د. عليّ زيتون أهمّيّة المجاز في تماسك الصورة ووحدتها، واستبدال النظام اللغويّ بنظام سيميائيّ قادر على التقاط الرؤية التقاطًا فنّيًا، وينطبق التحليل ذاته على قصيدة (جلباب الهوى وشعريّة العشق) عند محمّد أبو عليّ، فأوضح الدكتور زيتون كيف عبر الشاعر على النظام اللغويّ إلى نظام سيميائيّ عبورًا ناجزًا، أدخل من خلاله العلامات التي استخدمها إلى دائرة نظام علامّي خاصّ.
وأخيرًا، أضاء الدكتور على علاقة كلّ قصيدة بالعالم والأيديولوجيا، ليحقّق بذلك عودة على ما بَدأ فيه كتابه، وهذه العودة متمثّلة في حضور ثقافة المقاومة من خلال النصّ الشعريّ المقاوم، فمجزرة قانا التي ذكرها أبو عليّ، هي بؤرة واقعيّة تمتدّ على طول التاريخ العربيّ وعرضه، فرأى د. زيتون أنّ الشاعر قد حمّلها العديد من المعاني لتصبح كلامًا في معاجمنا من جديد، ولتكون شاهدًا على التمسّك بثقافة المقاومة، من خلال القلم كما من خلال السلاح كمقاومة ميدانيّة. ومن خلال هذه العلاقة بين النصّ والعالم والأيدلوجيا، بيّن لنا كيف استطاع محمّد عليّ شمس الدين أن يعطي الشهادة خلقًا جديدًا مختلفًا عن الصورة التي تنجلي لنواظرنا، وذلك من خلال تتبّع الرموز، والإشارات داخل النصّ، وهذه العلاقة ليست هامشيّة في قصيدة الجسر عند خليل حاوي، فنصّه وبرأي الدكتور عليّ زيتون، محال إلى عالم قوامه الأمّة العربيّة في بعديها: العالم المتخلّف، والمنشود. وأدّى الجسر وظيفة تلك الرمزيّة الشفافة والجليّة.
الكتاب الذي بين أيدينا يشكّل علامة فارقة في الدراسات النقديّة الأدبيّة العربيّة، وهذا رأي ليس فيه مجاملة لأستاذي الفاضل، إنّما هو بحقّ ناقد نافذ، ومؤثّر يبحث بعمق وجدّيّة عالية فيه رهان على التغيير والإتيان بكلّ جديد.
وأنا أمامه لا يسعني إلاّ أن أشير إلى أهمّيّة هذا الكتاب في الدراسات النقديّة من جهة، وفي نشر، وترسيخ، وتسليط الضوء على النصّ الشعريّ المقاوم، وثقافة المقاومة، لتكون الكلمة أقوى من السيف في مواجهة أيّ احتلال، وأيّ محاولة لاستهلاكنا على شتّى الصعد الثقافيّة منها والسياسيّة والاقتصاديّة…
ممّا لا شكّ فيه أنّ المقاربة الثقافيّة التي لجأ إليها في دراسة نصوص الشعراء الذين تناولهم الكتاب مقاربة قيمة تحاكي العلوم النقديّة الأكثر حداثة في عالم اليوم، وتضيف إليها رؤية متولّدة عن ارتباط ثقافيّ بالتاريخ وبالجغرافيا. بالإضافة إلى ذلك، لجأ زيتون إلى أداة تُشكّل فتحًا في النقد الأدبيّ الحديث الذي يدرس التفاعل بين الكاتب والقارئ، مشيرًا إلى ما يطلق عليه النقد الحديث اسم الوظيفة التأثيريّة .Function Thymique التي تتجلّى في المشاعر التي ينجح الكاتب في بعثها لدى قارئه فيشير مثلًا وهو لا يقيم هذه المقاربة العلميّة بين النصّ والنصّ الشعريّ المقاوم إلاّ لأنّه يؤمن بعمق محوريّة القدرة العربيّة على إنتاج نقد أدبيّ مائز يتناسب وموضوعاتنا في العالم العربيّ والإسلاميّ بعيدًا عن الآزمة الراهنة في النقد العربيّ الذي تقوم أسسه على تشكيلات الرؤى الفلسفيّة، والثقافيّة، والفكريّة الغربيّة، وهو مؤمن أيضًا أنّ كلّ قصيدة لا يسكنها هاجس التحليق فوق كلّ سياج مادّيّ ومعنويّ، تكون مثل قصيدة جارية في قاموس العبث، وهو العارف المتيقّن أنّ تأثير الكلمة لا يقلّ أهمّيّة عن تأثير السلاح، فلأجيال عديدة كان الشعر العربيّ يغرف حبره من جرح فلسطين، جرح متدفّق وسيّال، لأنّه تأسّس على حناجر في غياب سواعد كان بإمكانها تغيير التاريخ. وأتت التجربة اللبنانيّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ لتكون سبّاقة ومؤثّرة.
ولكن يبقى السؤال المطروح دائمًا، على المثقّفين والكتّاب والمبدعين، قبل غيرهم: لماذا يسيل الحبر أنهارًا، في أيّام الهزيمة، والنكسات والنكبات؟ ويجفّ في أيّام الانتصارات – وهي نادرة في تاريخنا المعاصر؟ هل لأنّنا تعوّدنا على الانكسارات والخيبات؟ أم أنّنا ما زلنا غيرَ مؤهّلين لانتصارات بهذا الحجم؟ انتصاراتٌ راقيةٌ، نظيفةٌ، تشعُّ إنسانيّةً ورحمة وعفوًا.
لعلّ السبب قد يكون بأنّنا كشعوب عربيّة، ونُخبٍ، ومثقّفين وعاملين بالشأن الثقافيّ والسياسيّ، لم نستطع بعد أن نهضم حدثًا بحجم الأيدي التي امتدّت من زنازين معتقل الخيام، لملاقاة الرجال الذين حرّروا، ليس المعتقل فقط، بل حرّروا العقل العربيّ، والوطن، والأمّة من مفاهيم الهزيمة، والضَعف، والاستسلام. فما قدّمه عمل الدكتور عليّ زيتون على تواضعه، يأتي في سياق حفظ هذه الإنجازات من غبار الزمن، لذا، فإنّ عمله الأدبيّ لا يقلّ قيمةً، ولا أهمّيّةً، ولا شجاعة عن عمل مقاوم سهر الليالي الباردة، ليزرعَ عبوة تحيل المحتلّ أشلاءً. لأنّنا إذا لم نؤرّخ لهذا التاريخ المجيد، نضع رقابَنا، ومستقبلَ أوطاننا، وأبناءنا تحت مقصلة من يريد أن تحيا الأمّةُ من دون تاريخ، لتبقى الحجّةُ، والشعارُ أنّ العين لا تستطيع أن تقاوم مخرز الصهاينة، ومجتمع الدول الظالمة.
فهذا العمل يحمّلنا كطلاّب، وباحثين، ومثقّفين مسوؤليّة التمسّك بثقافة المقاومة، لتصبح هي الصدى لنصوصنا، ومسؤوليّة المحافظة على تراثنا وثقافتنا العربيّة.
الدكتور عليّ زيتون لنا الفخر أن نكون من الخرّيجين على يديه، ونأسف شديد الآسف أنّه إلى اليوم لم ينل حقّه من التقدير العلميّ الذي يستحقّه في المحافل الأدبيّة الرسميّة سواء اللبنانيّة منها أو العربيّة. من هنا أعاهده على أن أبذل مجهودًا خاصًا لاستقراء منهجه النقديّ، الأدبيّ، والثقافيّ بشموليّة أعلن فيها بحقّ عن استخطاطيّة حديثة، وغير مألوفة من شأنها أن تثير عالم النقد الأدبيّ بأسئلة محرجة تجترح رؤى مغايرة متجاوزة الاتّكاء على النظريّات الغربيّة، وتحفر اسمه بجدارة عند الجيل الجديد.
[1] زهراء الموسويّ، باحثة وطالبة دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها.
[2] رومان جاكبسون، قضايا الشعريّة، ص 102.
[3] روبرت شولز، البنيويّة في الأدب، ترجمة حنّا عبّود، ص 22.
[4] جوليا كريستيفا، علم النصّ، ص 8.
[5] ديجك، النصّ بناه ووظائفه، ص 64.
[6] جان بول سارتر، ما الأدب، ص 20.
[7] م. ن، ص 29.
[8] كريستيفا، علم النصّ، ص 20.
[9] إسكندر حبش, دم أبيض, ص 77.
[10] رومان جاكبسون, قضايا الشعريّة, ص 106.
[11] عليّ زيتون, النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، ص 79.
[12] عليّ زيتون, النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، ص 84.
[13] عليّ زيتون، النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، ص 87.
[14] صلاح فضل، نظريّة البنائيّة في النقد الأدبيّ، ص 23.
[15] عليّ زيتون، ص الشعريّ المقاوم في لبنان، ص 103.
[16] عليّ زيتون، النصّ من سلطة المجتمع إلى سلظة المتلقّي، ص 23.
[17] عليّ زيتون، النصّ الشعريّ المقاوم في لبنان، ص 118.