الصّهيونيّة غير اليهودية: كيف أسس الأوروبيون للفكر الصهيوني
The Non Jewish Zionism How did the Europeans Found the Zionist Thought
Dr. Sanaa Hamoudi د. سناء حمودي*
تاريخ الإرسال:8-4-2024 تاريخ القبول:20-4-2024
الملخص
ظهرت الحركة الصّهيونيّة كمنظمة سياسية في أواخر القرن التاسع عشر عندما عُقد المؤتمر الأول في مدينة بازل السويسرية في سنة 1897، وأُعلن خلاله قيام الحركة الصّهيونيّة بقيادة مؤسسها ثيودور هرتزل الذي سيصبح ملهم الصهيونيين ومثلهم الأعلى. فهو الذي وضع الأسس الأولى لدولة يهودية تجمع اليهود المشتتين في دول العالم، وخصوصًا يهود أوروبا.
لكن وقائع التّاريخ تثبت أنّ الترويج لفكرة وطن قومي لليهود، ظهرت في أوروبا على لسان شخصيات أوروبية غير يهودية قبل أن تنتشر لاحقًا بين اليهود. واللافت في الأمر أنّ الفكر الأوروبي بمختلف ميادينه: السياسيّة والأدبيّة والعلميّة، كان سبّاقًا إلى الدّفاع عن اليهود، وعن فكرة الوطن القومي. ومن الطبيعي أن يُعدُّ هؤلاء في ركاب الصّهيونيّة، حتى قبل ظهور الحركة رسميًا، وهي التي سميّت: “الصّهيونيّة غير اليهودية”، أو “الصّهيونيّة المسيحيّة”.
تسعى هذه الورقة إلى تتبع هذه الصّهيونيّة غير اليهودية في مراحل سابقة على ظهور الصّهيونيّة اليهودية، وهو ما يعني أنّ أصول الفكر الصّهيوني تعود في الأساس إلى مفكرين أوروبيين غير يهود. وبالتالي، يمكن فهم لِمَ دأب الأوروبيون على تأييد دولة العدو الصهيوني وتقديم دعم غير مشروط لها.
الكلمات المفتاحية: الصّهيونيّة؛ الوطن القومي اليهودي؛ الصّهيونيّة غير اليهودية؛ الصّهيونيّة المسيحية.
Abstract
The Zionist movement emerged as a political organization in the late nineteenth century when the first conference was held in the Swiss city of Basel in 1897, during which the Zionist movement was announced under the leadership of its founder, Theodor Herzl, who would become the inspiration and ideal of the Zionists. He was the one who laid the first foundations for a Jewish state that brought together the Jews dispersed throughout the world, especially those of Europe.
But the facts of history prove that the promotion for the idea of a national homeland for the Jews appeared in Europe by non-Jewish European figures before it spread later among the Jews. What is striking is that European thought, in its various fields: political, literary, and scientific, was the first to defend the Jews and the idea of a national homeland. It is natural that these people are considered part of Zionism, even before the official announcement of the movement, which was called: “non-Jewish Zionism” or “Christian Zionism.”
This paper seeks to trace this non-Jewish Zionism to periods prior to Jewish Zionism, which means that the origins of Zionist thought go back primarily to non-Jewish European thinkers. Therefore, it can be understood why the Europeans continued to support the Zionist enemy state and provide it unconditional support.
Key words: Zionism; Jewish national homeland; non Jewish Zionism; Christian Zionism
مقدمة
لا شك في أن البحث في تاريخ الحركة الصّهيونيّة كان ولا يزال من القضايا التي عكف عليها كثير من الباحثين العرب والأجانب، نظراً إلى أهميته وخطورته، ولا سيما أن الصّهيونيّة، كحركة سياسية استعمارية، قامت بهدف تأسيس وطن لليهود على أرض شعب آخر. وتحقق هذا الهدف باقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وإحلال مجموعات أُخرى استُقدمت من دول أوروبا بصورة رئيسية.
كما أن البحث في تاريخ الصّهيونيّة يقودنا إلى صهيونية غير يهودية ظهرت في في أوروبا منذ عصر النهضة، وروّج لها سياسيون وأدباء ومفكرون أوربيون عبّروا عن دعمهم لفكرة إنشاء وطن لليهود. وهي فكرة نبعت من تأثير اليهود السلبي في أوروبا، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي. إذ كان اليهود يعيشون في معازل، سميّت بالغيتو، أي كانوا منبوذين من المجتمع الأوروبي ويُنظر إليهم كطبقة أدنى.
تسعى هذه الورقة إلى البحث في عوامل ساهمت في ظهور الصّهيونيّة غير اليهودية، أو الصّهيونيّة المسيحيّة، وكيفيّة إسقاط هذه العوامل على مخططات إنشاء وطن لليهود بعيدًا من الدول الأوروبيّة التي كان الوجود اليهودي يشكل عبئًا ثقيلًا عليها. وفي هذا إجابة على تساؤل رئيس حول دور الصّهيونيّة غير اليهوديّة في احتلال فلسطين واستعمارها، وإحلال شعب آخر مكان شعبها الأصلي.
أولًا: الإصلاح الديني في أوروبا: عودة إلى التوراة
بدأت الأفكار الصّهيونيّة تظهر في أوروبا في أوائل القرن السّادس عشر، حوقد شكل عصر النّهضة وحركة الإصلاح الدّيني التّاريخ الأوروبي الحديث. وقاد حركة الإصلاح الدّيني معارضون للكنيسة الكاثوليكية دعوا إلى إصلاحات في الكنيسة ورفضوا السلطة البابوية، وظهرت البروتستانتيّة كنموذج مسيحي إصلاحي في مقابل الكنيسة الكاثوليكيّة.
وأدى الاهتمام بالأدب التوراتي، وشروحاته إلى إيقاظ الاهتمام العام باليهود وبعودتهم إلى فلسطين([1]) وفي هذا المسار، يمكن وضع عاملين أساسيين في سياق تأييد اليهود في أوروبا، هما: الدّين والاستعمار.
إنّ التّحول الأوروبي نحو الصّهيونيّة كان أولًا نتيجة “للثورة الدّينيّة”، ونعني بها ظهور البروتستانتيّة، فبعد أن كان الفكر الكاثوليكي التقليدي لا يعترف أصلًا بالشّعب اليهودي، جاءت البروتستانتيّة في ظل حركة الإصلاح الدّيني على يد مارتن لوثر([2]) (Martin Luther) وجون كالفن([3]) (John Calvin) لتدعو إلى التّحرر في أمور الدّين والدنيا. وقد عارض الإصلاحيون الكنيسة الكاثوليكيّة، وما عدُّوه فسادًا وانحرافًا عن مبادئ الدّين المسيحي. وقد جعلت البروتستانتيّة التوراة القديمة أساسًا في مفهومها الدّيني الجديد، فتحولت فلسطين في الضّمير البروتستانتي من الأرض المقدسة عند المسيحيين إلى أرض شعب الله المختار التي لا بد لليهود من العودة إليها([4]).
حدث هذا التحول بينما كان اليهود يعانون الاضطهاد في أوروبا، حيث كانوا معزولين عن محيطهم المسيحي فيما يسمى بـ نظام “الغيتو” الذي بدأ في الانتشار مع الحروب الصليبية([5]). وهو ما حوّل اليهود بمرور الزّمن إلى جماعات غير مرغوب باندماجها في المجتمع الأوروبي من ناحية، ومن ناحية ثانية جعل اليهود يبحثون عن سبل تجنبهم العيش في هذه المعازل.
ساهمت البروتستانتيّة في ظهور حركات مؤيدة لليهود، وأبرز هذه الحركات كانت “البيوريتانية([6])” (Puritanism) التي ، ظهرت في بريطانيا في القرن السّادس عشر، واتخذت من التّوراة كتابها الوحيد، الذي كان بالنسبة إلى أفرادها غذاء روحيًّا ودليلًا، وفيلسوفًا وصديقًا. وذهبوا في دعمهم لليهود إلى أقصى الحدود عندما عدُّوا أنّ اللغة العبريّة هي اللغة الوحيدة والأصح لإداء الصّلوات وقراءة التوراة([7]). ومن أبرز رجال هذه الحركة الشّاعر جون ميلتون الذي أوصى بإدخال دراسة العبريّة ضمن المناهج التّعليميّة.
لم تقتصر الدّعوات المتعاطفة مع اليهود على الحركة الدّينيّة بل انتقلت أيضًا إلى ميدان آخر هو الميدان الأدبي والفكري. فأصبح التّغني بالأمجاد اليهوديّة السّمة البارزة في معظم الأعمال الأدبيّة، في الشّعر والأدب والرّسم وحتى في مجال الطبّ والعلم. وتضم اللائحة أسماء كثيرة ممن تعودنا أن ندرس آثارهم الأدبيّة والفلسفيّة من دون التطرق إلى أفكارهم المؤيدة للصهيونيّة، أبرز هؤلاء: اللورد بايرون، ويليام وردزورث، اسحق نيوتن، جون لوك وصولًا إلى الروّائي الشّهير والتر سكوت والكاتبة البريطاينة جورج إليوت.
ثانيًا: العامل الاستعماري /الاقتصادي
بالإضافة إلى العامل الدّيني الذي ساعد على انتشار مبادئ الصّهيونيّة في أوروبا، كان هناك عامل آخر هو العامل الاقتصادي، الذي تمثل بحاجة أوروبا إلى المزيد من التوسع التجاري والاستعماري في العالم. من هنا كثرت دعوات السياسيين الأوروبيين لإعادة اليهود إلى فلسطين أملًا بفتح أسواق تجارية جديدة في الشرق يديرها اليهود بفضل مواردهم الماليّة. وهي بلا شك، خطة استعماريّة لا تخرج عن السّياق الاستعماري الأوروبي الذي كان ولا زال قائمًا، مع الأخذ بالحسبان تغيّر الأنماط والأساليب.
ويرتبط العامل الاقتصادي بالثّورة التّجارية التي شهدتها أوروبا، وما رافقها من مساعٍ بذلتها بريطانيا والدول الأوروبية التجارية الأُخرى من أجل التّوسع واقتسام التجارة العالمية، وخصوصًا مع الهند عبر المشرق العربي وغيره؛ لهذا كان سماح كرومويل بعودة اليهود إلى بريطانيا في سنة 1655 تجسيدًا واضحًا لحافز الكسب التّجاري الذي حرك كرومويل في تنافسه مع الدول التجاريّة الأخرى، التي تضم كل منها جماعة يهودية ثرية لها دور بارز في توسيع التجارة الخارجية لتلك الدّولة([8]).
في ظل التّنافس الاستعماري، سعت كل من بريطانيا، وفرنسا إلى كسب اليهود عن طريق تقديم وعد لهم بوطن قومي يهودي في فلسطين، إذ إنّ اليهود المنتشرين في أوروبا كانوا يضمون في صفوفهم عددًا كبيرًا من أصحاب الثّروات الماليّة الطائلة، الذين يشكلون إلى حد ما عامل جذب لأيّ قوة استعماريّة أوروبيّة.
وصل النشاط الاستعماري إلى ذروته مع حملة نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر، وقد اختار بونابرت التّوقيت المناسب لإعلان ما عدّه اعترافًا بالحقوق اليهوديّة في فلسطين، وذلك في أثناء حملته على سوريا ومصر. إذ قبيل وصول جيشه إلى مدينة عكا سنة 1799 وجّه نداء إلى اليهود في أفريقيا وآسيا للقتال تحت لوائه وإعادة مملكة أورشليم القديمة. وكان نابليون يدرك حاجته إلى مزيد من الجنود في حصاره لمدينة عكا التي وقف عاجزًا أمام أسوارها، فوجد ضالته في اليهود. ومما جاء في هذا النداء:“من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهوريّة الفرنسيّة في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشّرعيين.
أيّها الإسرائيليون، أيّها الشّعب الفريد الذي لم تستطع قوى الفتح، والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط … انهضوا بقوة أيّها المشردون في التّيه. إن أمامكم حربًا مهولة يخوضها شعبكم بعد أن عدّ أعداؤه أنّ أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تقسم بينهم حسب أهوائهم… لا بدّ من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبوديّة، وذلك الخزي الذي شل إرادتكم لألفي سنة. إنّ الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم أو التّعبير عنها، … ولهذا فإنّ فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل،… سارعوا! إنّ هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين وهي وجودكم كأمة بين الأمم…”([9])
سبق نداء نابليون إلى اليهود، انتشار رسالة مجهولة التّوقيع في سنة 1798 بين يهود إيطاليا الذين كانوا يعدُّون نابليون محررهم، وتضمنت الرّسالة التي ظهرت مطبوعة في فرنسا وبريطانيا خططًا مفصلة لإعادة بعث اليهود كأمّة. وقامت إحدى الصحف الفرنسيّة بنشر الرسالة، مؤكدة أن اليهود سيدعمون فرنسا في فلسطين بالمال والرّجال([10]).
كان نابليون بونابرت أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، وذلك قبل صدور وعد بلفور بـ 118 عامًا، فيكون وعد نابليون بذلك سابقًا على وعد بلفور. واعترافًا منه بالجميل، سيطلق حاييم وايزمان، أول رئيس لدولة “إسرائيل” على نابليون لقب “الصهيوني غير اليهودي الأول”([11]).
لكن الهزائم العسكريّة التي مُني بها نابليون حالت دون تحقيق وعده لليهود، لكن هذا الوعد ظل يحمل في طياته مسعى فرنسا لتقديم فلسطين هديّة لليهود في حال تمكن نابليون من احتلال المدن الفلسطينيّة. إلاّ أنّ هزيمة نابليون لا تعني أنّ المساعي الأوروبيّة في هذا المجال قد توقفت، بل هي استمرت بوتيرة أشدّ مع الدّخول في القرن التاسع عشر.
في الربع الثاني من القرن التاسع عشر بدأت فكرة توطين اليهود في فلسطين تأخذ طابعًا عمليًّا، في ظل اشتداد التّنافس الأوروبي على النّفوذ في الإمبراطورية العثمانيّة، وخصوصًا بعد سيطرة محمد علي على سوريا بتأييد من فرنسا وعدّت بريطانيا هذه الخطوة تهديدًا لخطوط مواصلاتها إلى الهند؛ واستغلت الدّول الأوروبيّة نظام الحماية الذي يمكنها من بسط حمايتها على اليهود، والمسيحيين من سكان الإمبراطورية العثمانيّة، وشمل هذا النّظام اليهود المقيمين في فلسطين، فبلغ عدد المشمولين من اليهود بنظام الحماية حوالى خمسة آلاف، أي نصف عدد اليهود الموجودين في فلسطين حينها([12]).
لهذا السّبب قويت لهجة السياسيين البريطانيين الدّاعمة لليهود، وكان من أبرز هؤلاء اللورد شافتسبوري عضو البرلمان البريطاني الذي نشر مقالة في سنة 1839 من 30 صفحة عبّر فيها عن اهتمامه بمسألة العرق العبري، وعارض فيها بشدة فكرة اندماج اليهود في أوروبا على أساس أن اليهود سيبقون غرباء في جميع الدول ما عدا فلسطين([13]).
أمّا اللورد بالمرستون الذي كان وزيرًا للخارجية والداخليّة ورئيسًا للوزراء على التوالي، فقد دعم بشدة مشروع شافتسبوري الذي تربطه به صلة القربى، فقرر بناء على إلحاحه، فتح قنصليّة بريطانيّة في القدس في سنة 1838 ووجه تعليماته إلى القنصل بمنح الحماية الرّسميّة لليهود في فلسطين([14]).
إذًا، فحتى منتصف القرن التاسع عشر اقتصرت الصّهيونيّة على غير اليهود، وكان أنصارها صهاينة فعليين تماماً كما كان وايزمان وهرتزل. وقد أسس الأوروبيون الصّهيونيّة على مبدأين هما: وحدة الشعب اليهودي وحقّ اليهود بالعودة إلى فلسطين، وهي المبادئ نفسها التي تبناها الصّهاينة اليهود بعد ذلك([15]). وعلى الرّغم من أن عددًا من الدّول الأوروبيّة ساهم في نشر الصّهيونيّة، فإنّ بريطانيا بقيت بلا منازع الدّولة الأولى في هذا المجال، وهي التي ازداد دعمها لهذه المخططات مع تقدم السنين رغم تراجع بقية الدول إلى حد ما.
ثالثًا: البعثات البريطانية الاستكشافيّة إلى فلسطين
إنّ اهتمام بريطانيا بمنطقة فلسطين خلال القرن التاسع عشر كان نابعًا من ثلاثة عوامل: أولًا، ميزان القوى الأوروبي؛ ثانيًا: ضمان أمن الهند المهدد من فرنسا وروسيا؛ ثالثًا: تأمين المواصلات إلى الهند عبر سوريا([16]).
بدأ الإنكليز بتنفيذ أفكارهم عمليًّا من خلال الرحلات الاستكشافيّة التي أُوفدت إلى فلسطين لاستكشاف إمكانيّة قيام الوطن اليهودي، واللافت أنّ معظم المستكشفين الإنكليز الذين قدموا إلى فلسطين كانوا من العسكريين ورجال المخابرات وإن عمدوا إلى التّخفي تحت ألقاب أخرى.
تمثلت هذه الخطوة بإنشاء صندوق اكتشاف فلسطين في سنة 1865 الذي كان أعضاؤه من العسكريين البريطانيين، وخصوصًا من سلاح الهندسة الملكي([17]). وأبرز أعضاء هذه الجمعية: الكابتن كيتشنر، والكابتن كوندور، والكابتن لورنس (الذي عُرف فيما بعد بلورنس العرب)، وقد قام هؤلاء برحلات استكشافيّة إلى فلسطين لدرس معالم البلد ما ساهم إلى حد بعيد في تشجيع دعاة الصّهيونيّة على المضي في مشروعاتهم، إذ لولا المعلومات والدّراسات التي وضعها أعضاء هذه الجمعية لبقيت فلسطين أرضًا مجهولة بالنسبة إلى الكثيرين([18]). وكانت أعمال هذه الجمعيّة تدل على أهدافها، إذ أعلن كيتشنر صراحة أن عمله في فلسطين هو تفحص البلاد، أرضها وتربتها تمهيدًا للاستيطان اليهودي والمستقبل المشرق الذي يبدو أن فجره سوف يطل على هذه الأرض. أمّا الكابتن كوندور فقد رسم خريطة مفصلة تشمل فلسطين كلها، إذ كانت مهمته أن يضع على هذه الخريطة أسماء الأماكن التوراتيّة، ورسم الحدود لقبائل بني إسرائيل الإثنتي عشر([19]).
بهذا تكون أعمال هذه البعثة قد رسمت درباً واضحة المعالم للصهيونيّة السياسيّة، كما ساهمت في زرع فكرة “فلسطين الكبرى” التي أصبحت فيما بعد “إسرائيل الكبرى”([20]).
رابعًا: نظريّة الأرض الخاليّة
إذا كان هدف البعثات الاستكشافيّة البريطانيّة تمهيد الطريق لاستيطان يهودي في فلسطين، فأين موقع الشّعب الفلسطيني الذي يسكن الأرض من هذه المشاريع؟
لم تكتفِ البعثات البريطانيّة بوضع أسس الوطن القومي اليهودي، بل عمد هؤلاء المستكشفون إلى طرح نظرية “الأرض الخالية”، التي تروّج لاستيطان أرض خالية لا يسكنها شعب، أو يسكنها بعض المتخلفين الذين لا يستحقونها. ومن هنا لم يكن للفلسطينيين كشعب مكان في مخططات منظري الصّهيونيّة الأوروبية، فهم كانوا أول من طرح “نظرية الصحراء” أو “الأرض الخالية” في فلسطين.
كان اللورد شافتسبوري من أبرز دعاة هذه النّظريّة، فقد وجد أن فلسطين هي بلاد خالية من السكان، وهو صاحب المقولة الشّهيرة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”([21]). وستصبح هذه العبارة شعارًا لكل الصهاينة الدّاعين إلى استيطان فلسطين، على أساس أن فلسطين يسكنها مجموعة من العرب، لا ترقى إلى “الشّعب”، وهي بذلك أرض خاليّة بحاجة إلى من يرقى بها إلى مصافي الدول المتحضرة. ويُعدُّ الكاتب الإنكليزي اليهودي، يسرائيل زانغويل، والذي كان مقربًا من ثيودور هرتزل، من أبرز من تبنى هذه المقولة. فقد رأى زانغويل فلسطين هي أرض بلا شعب، وأن ترحيل مجموعات العرب من فلسطين إفساحًا في المجال أمام أمام استيطان اليهود هو شرط مسبق لتحقيق الصّهيونيّة([22]).
أمّا مكتشف الأوكسجين جوزيف بريستلي، فقد اكتشف أيضًا أن فلسطين هي أرض غير مسكونة أهملها الأتراك، لكن هذه الأرض متشوقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين([23]).
وبالتّدريج، بدأت طروحات أُخرى تقول بترحيل أو تهجير ماعدّه هولاء “مجموعات” تسكن فلسطين ليحل اليهود مكانها. أيّ، أن الأرض حتى لو كان فيها سكان، فإنّ هؤلاء لا مكان لهم في وطن اليهود الذي سيُقام على أرض فلسطين.
ففي سنة 1879 نشر لورانس أوليفانت([24]) أفكاره، فأكّد أن “العرب لا يحق لهم التمتع بعطفنا، فقد جعلوا هذه البلاد قاعًا صفصفًا وخربوا قراها ونهبوا أهاليها، حتى انخفضت إلى مستوى وضعها الحالي”، وتمنى بالنهاية إرجاع العرب إلى الصحاري التي جاءوا منها، حيث تتوافر المراعي في واحاتها لإبلهم ومواشيهم([25]). بينما كان اليهود في نظره أذكياء، وخصوصًا في الأعمال التّجارية وفي جمع الأموال، وهم قادرون على جلب الحضارة إلى أرض فلسطين.
كذلك، نشر إدوارد ميدفورد وهو دبلوماسي إنكليزي، ما سماه “نداء بالنيابة عن اليهود لإنشاء كومنولت بريطاني في الشام” جاء فيه: “إنّ فلسطين إذا ما أخذنا في الحسبان مساحتها، تبدو صغيرة ولا تتسع لكل اليهود. وقد تنشأ مشاكل بسبب هجرة مستوطنين كثيرين. لذلك يستحسن قبل القيام بتوسيع نطاق الاستيطان في فلسطين أن يتم إعداد البلاد كلها لاستقبال شعبها الجديد. ويمكن إقناع الحكومة العثمانيّة بتهجير كلّ السكان المحمديين، وتوطينهم في المناطق الشاسعة الخالية من شمال العراق حيث يستطيعون امتلاك أرضٍ أفضل من تلك التي سوف يتركونها وراءهم.”([26])
وقد سمحت هذه الطروحات من الصهيونيين غير اليهود، لمنظرين يهود بطرح أفكارهم علانيّة بشأن فلسطين، ومنهم الحاخام البولوني تسفي كاليشر، الذي نشر في سنة 1862 كتابًا بعنوان “البحث عن صهيون”، وكان أول كتاب يصدر بالعبريّة في أوروبا الشّرقية بشأن المستعمرات الزراعية في فلسطين. وقد شدد كاليشر على ضرورة استيطان فلسطين، وطالب العائلات اليهودية الثرية، وعلى رأسها عائلة روتشيلد، بشراء فلسطين من محمد علي باشا، وإذا تعذر ذلك، فشراء القدس على الأقلّ([27]).
أمّا المفكر اليهودي الألماني موسى هس فقد أصدر في سنة 1862 كتابه “روما والقدس” بالألمانيّة الذي ضمنه آراءه في ما خص اليهود والدّولة اليهوديّة في فلسطين، فخلص إلى أن أفضل الوسائل لتحقيق الدولة اليهودية هي الدبلوماسيّة والوعود الدّوليّة وأموال الأثرياء. إلاّ أن ما يلفت في كتاب هس هو نظرة الاستعلاء التي تظهر واضحة إذ عدّ أنّ اليهود وحدهم بين الشّعوب قادرون على السمو، أمّا اليهودية فهي أساس الحضارات والأديان؛ أيّ أنّه أرسى دعائم القومية اليهوديّة القائمة على الدين والعرق اليهودي. أمّا شعب فلسطين، فهو في نظره شعب متخلف. لهذا يخاطب اليهود قائلًا: “أنتم يجب أن تكونوا حملة الحضارة إلى الشعوب البدائيّة في آسيا، وأساتذة العلوم الأوروبيّة التي أضاف شعبكم إليها الكثير. أنتم يجب أن تكونوا الوسطاء بين أوروبا والشّرق الأقصى. افتحوا الطريق المؤدية إلى الهند، والصين تلك المناطق المجهولة التي يجب أن تفتح أخيرًا أمام المدنية”([28]).
هذا الخطاب يظهر بوضوح نظرة الاحتقار تجاه الشّعوب الأخرى، واللافت أنّ مؤسس الحركة الصّهيونيّة، ثيودور هرتزل، لم يطـّلع على كتاب هس إلاّ بعد صدور كتابه “الدولة اليهودية” ولشدة إعجابه به قال: “كل ما حاولناه موجود في هذا الكتاب”([29]).
لقد تضمنت نظرية “الأرض الخاليّة” التي ظهرت في طروحات السياسيين البريطانيين، وتبناها الصهيونيون اليهود، دعوة صريحة إلى جعل الأرض خالية من سكانها عن طريق ترحيلهم.
الخاتمة
لم تكن أوروبا مجرد المهد الذي ولدت فيه الصّهيونيّة جغرافيًّا وتاريخيًّا، إنما كانت المهد الذي لولاه لما كان للحركة الصّهيونيّة أن توجد ([30]). فقد سمح الأوروبيون، والبريطانيون بالتحديد، لأنفسهم بتوزيع أراضي الدولة العثمانيّة وفق مصالحهم، من دون الأخذ بالحسبان شعوب هذه المناطق. ولهذا، عندما صدر وعد بلفور في سنة 1917، عدّ العرب أنّه: وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
ولا شك في أن الصّهيونيّة غير اليهوديّة، أو الصّهيونيّة المسيحيّة، شكلت الخطوة الأساسية التي مهدت الطريق لقيام الصّهيونيّة اليهوديّة بزعامة ثيودور هرتزل والتي اختار أعضاؤها مدينة أوروبيّة، بازل، في سويسرا لعقد مؤتمرهم التأسيسي الأول في سنة 1897 وقد أعلنت مبادئ الحركة الصّهيونيّة وعلى رأسها إقامة وطن قومي لليهود.
وقد تظافرت عوامل كثيرة في تهيئة بيئة داعمة، ومؤيدة لجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لمجموعات اليهود المعزولين في أوروبا. ويأتي على رأس هذه العوامل، حركة الإصلاح الدّيني التي أظهرت دعمًا كبيرًا لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وهي بهذا تحقق أكثر من مطلب؛ أوّلها: التخلّص من عبء اليهود في أوروبا؛ ثانيها، زرع حركة استعمارية تمثّل مصالح أوروبا في آسيا؛ ثالثها: منع أي صيغة اتحاد جغرافي يجمع مناطق عربيّة بين أفريقيا وآسيا، أيّ أن تصبح دولة اليهود الدولة العازلة التي تفصل بين العرب.
ولهذا، عندما أصدر هرتزل في سنة 1896 كتابه الشّهير “الدولة اليهوديّة” الذي وضع فيه تصوره للدولة اليهودية المنتظرة، والذي تضمن مشروعًا متكاملًا للدولة اليهوديّة من النواحي جميعها حتى في أدق التفاصيل، إذ رأى أن المسألة اليهوديّة يجب أن تتحول إلى قضية سياسية عالميّة تتولى الدول الكبرى مجتمعة تسويتها بمنح اليهود سيادة فوق رقعة أرض([31]). توجه إلى أوروبا واعدًا بتحقيق حلم فرنسا وبريطانيا بإنشاء دولة عازلة في المنطقة، فيطمئنهم قائلًا: “سنقيم هناك جزءًا من حائط لحماية أوروبا في آسيا يكون بمثابة حصن منيع للحضارة في وجه البربرية، ويجب علينا كدولة محايدة، أن نبقى على اتصال دائم بأوروبا التي ستضمن وجودنا بالمقابل“([32]).
ومع نهاية القرن التاسع عشر، التقت طروحات الصّهيونيّة غير اليهوديّة مع طروحات الحركة الصّهيونيّة اليهودية بشأن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وهو أمر غير مستغرب، فالاستعمار الأوروبي قام على احتلال الدّول، واضطهاد الشعوب المستعمَرة والاستيلاء على ثرواتها. وعلى هذه الأسس، ساعد هذا الاستعمار الصّهيونيّة اليهودية على إقامة دولتها باستعمار فلسطين وتهجير شعبها، لتصبح أوضح مثال على تنفيذ سياسات الفصل العنصري والتطهير العرقي في العصر الحالي.
المراجع العربية
1- الحوت، بيان نويهض. “فلسطين: القضية، الشعب، الحضارة”. بيروت: دار الإستقلال للدراسات والنشر،1991.
- رزوق، أسعد. “إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني”. بيروت: مركز الأبحاث، 1968.
- عايد، خالد. “التوسعية الصّهيونيّة وإسرئيل الكبرى”، الموسوعة الفلسطينية، إصدار هيئة الموسوعة، (دمشق، 1990) القسم الثاني، المجلد السادس، ص 534.
- الكيالي، عبد الوهاب. تاريخ فلسطين الحديث. بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1973.
- مصالحة، نورالدين. “طرد الفلسطينيين، مفهوم “الترانسفير” في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882-
1948″. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992.
- هيكل، محمد حسنين. “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية”. القاهرة: دار الشروق، 1996.
مواقع إلكترونية
- الموسوعة العربية: “البيوريتانية (التطهرية)”. https://arab-ency.com.sy/ency/details/2042/5
- سيف دويدار: “أحد أسباب دعم ألمانيا وإنجلترا وأمريكا لإسرائيل …”، عربي بوست، 27/1/2024. https://tinyurl.com/ajk4wejt
- “الكنيسة البروتستانتيّة وعلاقتها بالمسيحية الصّهيونيّة”، الجزيرة نت، 1/7/2007. https://tinyurl.com/3xcuxp4a
المراجع الأجنبيّة
- Herzl, Theodor. The Jewish State, translated by Sylvie D’avigdor. London: Rita Searl, 1946.
- Laqueur, Walter. A History of Zionism. London: Weidenfeld and Nicolson,1972.
- Sharif, Regina. Non Jewish Zionism, its Roots in Western History. London: Zed Press, 1983.
* أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة بيروت العربيّة – وجامعة الجنان.
Professor of Political Science at Beirut Arab University and Jinan University Email: sanah29@hotmail.com
[1]– Regina Sharif, Non Jewish Zionism, its Roots in Western History (London: Zed Press, 1983), p.10.
[2]– قس ألماني، ولد في القرن الخامس عشر في سنة 1483، حصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة فيتنبرغ. ثار على الفساد في الكنيسة الكاثوليكية، وحارب صكوك غفران الذنوب التي كانت تلك الكنيسة تروّج لها. طالب بإلغاء النظام البابوي وبإصلاحات دينية. انظر: فدوى بنيعيش، “الكنيسة البروتستانتية وعلاقتها بالمسيحية الصّهيونيّة”، الجزيرة نت، 1/7/2007. https://tinyurl.com/3xcuxp4a، تاريخ الزيارة: 20/3/2024.
[3]– ولد جون كالفن في فرنسا في سنة 1509، انتقل من دراسة القانون إلى دراسة اللاهوت، وتأثر بأفكار مارتن لوثر. فر إلى جنيف في سويسرا هرباً من غضب الكنيسة الكاثوليكية، وتمكن هناك من تحويل الكنائس إلى البروتستانتية. وسميت حركته بالكالفينية. انظر: سيف دويدار: “أحد أسباب دعم ألمانيا وإنجلترا وأمريكا لإسرائيل …”، عربي بوست، 27/1/2024. https://tinyurl.com/ajk4wejt، تاريخ الزيارة: 21/3/2024.
[4]– بيان نويهض الحوت، “فلسطين: القضية، الشعب، الحضارة” (بيروت: دار الإستقلال للدراسات والنشر،1991) ص 286.
[5]– Regina Sharif, op. cit., p.11.
[6] – مذهب ديني ظهر في القرن السادس عشر، ويُعتبر امتداداً لحركة الإصلاح الديني في أوروبا، أطلق على أتباعها لقب “المتطهرون” الذين يعتبرون الكتاب المقدس المصدر الوحيد للعقيدة الدينية المسيحية، ويدعون إلى عدم الأخذ بأقوال القديسين ورجال الكنيسة. انظر: “البيوريتانية (التطهرية)”، الموسوعة العربية، تاريخ الزيارة، 23/2/2024. https://arab-ency.com.sy/ency/details/2042/5
[7]– Regina Sharif, op. cit., p.23.
[8]– خالد عايد، “التوسعية الصّهيونيّة وإسرئيل الكبرى”، الموسوعة الفلسطينية، إصدار هيئة الموسوعة، (دمشق، 1990) القسم الثاني، المجلد السادس، ص 534.
[9]– محمد حسنين هيكل، “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية” (القاهرة: دار الشروق، 1996)، ص 31-32.
[10]– Regina Sharif, op.cit., p. 51.
[11]– Ibid.
[12]– خالد عايد، مرجع سبق ذكره، ص 535.
[13]– Regina Sharif, op. cit. p.42.
[14]– خالد عايد، مرجع سبق ذكره، ص 535.
[15]– Regina
[16]– Ibid., p. 43.
[17]– خالد عايد، مرجع سبق ذكره، ص 536.
[18]– أسعد رزوق، “إسرائيل الكبرى، دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني” (بيروت: مركز الأبحاث، 1968)، ص45.
[19]– بيان نويهض الحوت، مرجع سبق ذكره، ص 304.
[20]– المرجع نفسه، ص 305.
[21]– Regina Sharif, op. cit., p.42.
[22]– نورالدين مصالحة، “طرد الفلسطينيين، مفهوم “الترانسفير” في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882- 1948″ (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992)، ص 12.
[23]– Regina Sharif, op. cit. pp. 36,37.
[24]– دبلوماسي وعضو برلمان بريطاني، يُعدُّ من أبرز الصهيونيين غير اليهود.
[25]– أسعد رزوق، مرجع سبق ذكره، ص 64.
[26]– محمد حسنين هيكل، مرجع سبق ذكره، ص 65.
[27]– بيان نويهض الحوت، مرجع سبق ذكره، ص 314 – 315.
[28]– بيان نويهض الحوت، المرجع نفسه، ص 319.
[29]– Walter Laqueur, A History of Zionism (London: Weidenfeld and Nicolson,1972). p.53.
[30]– بيان نويهض الحوت، مرجع سبق ذكره، ص 228.
[31]– عبد الوهاب الكيالي، “تاريخ فلسطين الحديث” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1973)، ص 34.
[32]– Theodor Herzl, The Jewish State, translated by Sylvie D’avigdor, (London: Rita Searl, 1946), p.30.