د. عليّ زيتون: قامة كبيرة في الأدب والنقد الأدبيّ، وقدوة في تكوين أجيال مثقّفة واعية
ماجدة ريا*
الكتابة عن شخص ما تعدُّ مسؤوليّة كبيرة، فكيف إذا كانت هذه الشخصيّة قامة علمية وفكرية كبيرة، حياتها مليئة بالعطاء، ولا زالت تبدع على مرّ السنين.
عرفت الدكتور عليّ زيتون منذ سنوات، عندما كان يحاضر في كيفيّة كتابة القِصّة القصيرة، في إحدى الدورات التي انتسبت إليها، من أجل تطوير هذا النوع من كتابة القِصّة. وبما أنّنا من منطقة واحدة، هي منطقة البقاع، كانت الدعوة من البروفيسور عليّ زيتون لي للانضمام إلى الملتقى الثقافيّ الجامعيّ الذي كان في صدد إنشائه من أجل تنشيط الحركة الثقافيّة في البقاع، وإضفاء جوّ ثقافيّ إيجابيّ في هذه المنطقة المحرومة. هذه الفكرة لاقت صدىً طيّبًا عندي، وعند الكثيرين من أبناء المنطقة، حتّى أنّها تجاوزت ذلك إلى كلّ أبناء المناطق، وتجاوب معه الكثير من المفكّرين، والمبدعين، والباحثين، لتكون الحركة الثقافيّة أشمل وأكمل.
بدايةً كان الهدف الأساسيّ هو توحيد الرؤى الفكريّة، لتكون تحت سقف مصلحة الوطن، من دون التمييز بين الطوائف والمذاهب، لأنّ الفكر الأصيل لا تحدّه طائفة، ولا يضيّق عليّه مذهب، وإنّما همّه يتجلّى في بناء الإنسان، وتعظيم الإنسانيّة في داخله، لتتمظهر حبًّا صادقًا بين الجميع.
قام الملتقى الثقافيّ الجامعيّ على مدى سنوات بالعديد من الندوات الثقافيّة من تحليل لبعض الروايات والقصائد على يد دكاترة متخصّصين في هذا المجال، إلى المشاركة في مؤتمرات تحت عنوان “ثقافة المقاومة”، ومؤتمرات في الجامعة اللبنانيّة، وإقامة المهرجانات الشعريّة، ودعوة شخصيات أدبيّة وشعراء للبحث في أعمالهم الأدبيّة ودراستها، كذلك رعاية المنشورات الأدبيّة، والمشاركة في تواقيع الكتب الأدبيّة، مما أوجد جوًا مريحًا وأصداء طيبة لدى المهتمين بالشأن الثقافيّ، وفتح الباب واسعًا أمام تطلعاتهم الفكرية التي تحتاج إلى منفذ تبرز من خلاله، فيشعر المثقف بالاحتضان بدلًا من التهميش والنكران.
هذا الأمر جعل الملتقى الثقافيّ الجامعيّ برئاسة البروفسور عليّ زيتون الذي أداره بحكمة بالغة، قلبًا يتّسع للجميع، ويقدّر جهود الجميع من دون استثناء.
البروفسور عليّ زيتون محبّ للعلم وللمتعلّمين، ولا يكتفي بأن يكون مثالًا يحتذى به، وإنّما يسعى لأنّ يجعل من كلّ فرد مثالًا، ولذا كانت له الأيادي البيضاء وراء الكثيرين من الأشخاص اللامعين، وهو يحثّ كلّ فرد على الدراسة والمتابعة والمثابرة كي يصل إلى النتيجة المتوخّاة، وعندما تتراخى عزيمة أحدهم يشدّها، ويدفعها إلى الأمام، والهدف دائمًا بناء الإنسان من خلال علمه وثقافته، وصولاً إلى بناء مجتمع واعٍ ومتقدّم.
فهذا الرجل لا تثنيه عقبات، ولا توقفه العثرات، وإنّما يمضي قدمًا في تحمّل مسؤوليّة يراها واجبة عليّه، فعندما يرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة لبنانيّة تكتب المقالة والقِصّة القصيرة، عضو هيئة إداريّة في الملتقى الثقافيّ الجامعيّ، مساعد أوّل لأمين سرّ الاتّحاد الدوليّ للصحافيّين، والإعلاميّين، والكتّاب العرب أصدقاء الصين في لبنان. وعضو للاتّحاد الدوليّ، حائزة على إجازة في الحقوق، وإجازة في الأدب العربيّ.
الواحد منا رجلًا مثله يتقدّم في كلّ الاتّجاهات، يجد بأنّه لا يمكنه أن يتقاعس، بل عليّه اللحاق بالركب، والعمل الجادّ، والدؤوب ليتحقّق بناء المجتمع على يد الجميع.
البروفسور عليّ زيتون كان وما زال من الروّاد في حركة الريف الثقافيّة والتي أسّسها الشاعر الأستاذ محمود نون منذ عدة سنين، وكان له تأثير مميّز على مستوى الأداء والحضور، فهذه الحركة تضفي على البقاع عمومًا، وعلى البقاع الشمالي خصوصًا ـ حيث مقرّ الرئاسة في حربتاـ جوًا ثقافيًّا مفعمًا بالحيوية، خصوصا أنّ هذه الحركة رعت الكثير من الكتب والمنشورات، إضافة إلى نشاطاتها الفنية والثقافيّة في المنطقة، وكان وما زال دورها فعّالًا في الحركة الثقافيّة في المنطقة.
فالملتقى الثقافيّ الجامعيّ وحركة الريف الثقافيّة حليفان في دعم المنطقة ثقافيًّا، ونشر الفكر المعرفيّ، والغوص في غمار الندوات، والتحليلات من أجل إنضاج الفكر الجمعيّ ليرتقي بالأشخاص في سلّم المعرفة الثقافيّة، والوعي الجمعيّ، وترك إرث مبارك للجيل الصاعد.
فمنطقة البقاع التي تعاني من الركود هي أحوج ما يكون إلى هذه الحركة الثقافيّة التي تضمّ خيرة المفكرين والمبدعين، لبث الحرارة العلمية والثقافيّة في عروقها، ويكون لها مكانتها بين أهل العلم والمعرفة، وهذا ما ساهم فيه الدكتور زيتون مساهمة فعالة وأساسية، من دون أن ينسب إلى نفسه هذه الإنجازات، مكتفيًا بالعمل بصمت وبتواضع يليقان بالكبار الذين يتركون عملهم يتحدث عنهم.
البروفسور عليّ زيتون له إنتاج غزير على مستوى الأدب، وكتبه تدرّس في الجامعات، وآخر نتاج له كتاب بعنوان: “المدرسة الأيكويّة في الكتابة: ما لا يمكن تنظيره يمكن سرده”، الصادر عن دار المعارف الحكميّة، الذي وقّعه مؤخّرًا في بلدته حوش الرافقة، بحضور شخصيّات ثقافيّة واجتماعيّة عدّة، وقد قال فيه الأستاذ الشاعر الياس الهاشم إنّه يصلح بأن يسمى “المدرسة الزيتونيّة” إذ إنّه يحمل بذور مدرسة متكاملة في مجال النقد الحديث، فالبروفسور عليّ زيتون ناقد طويل الباع، متمكّن في هذا المجال. والنقد الحديث يحتاج إلى نظريّات متجدّدة ومتمكّنة، وهو يشكّل بغزارة علمه أحد أعمدة النقد الحديث؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العمل أخذ منه جهدًا كبيرًا، وهو حصيلة قراءة الكتب النظريّة التي تعود للكاتب الشهير أمبيرتو أيكو منها: “الأثر المفتوح”، “التأويل بين السيميائيّات والتفكيكيّة”، “آليّات الكتابة السرديّة”؛ إضافة إلى أربع روايات له هي: “اسم الوردة”، “جزيرة اليوم السابق”، “باودولينو”، “مقبرة براغ”. وأشار البروفيسور عليّ زيتون إلى أنّه قرأ القسم السرديّ أوّلًا، ثمّ أتى على القسم النظريّ، ليقف بدقّة على ماهيّة السرد الذي لا يمكن تنظيره، واضعًا نقدًا للنقد من خلال كتابه، ونقدًا للسرد الروائيّ لأيكو، معتمدًا على المنهج الثقافيّ، فكانت المحصّلة عملًا متقنًا مبنيًّا على خبرة واسعة، وتفكير عميق، وتحليل دقيق، ليرفد مجال النقد الأدبيّ الحديث بهذا الرافد المهمّ الذي يصلح لأنّ يكون مدرسة بحدّ ذاته.
الحديث عن البروفيسور عليّ زيتون لا يحتمل المجاملة، بل ربّما نشعر بالتقصير أمام عطاءاته وإنجازاته، التي لا زالت مستمرّة، فهو لا يهدأ، ولا يكلّ، ولا يملّ، من بيروت إلى إيران، إلى أيّ مكان، ليشكّل علامة ثقافيّة فارقة حيثما وُجد، وهو الذي شارك بأكثر من 30 مؤتمرًا محلّيًّا، وإقليميًّا، ودوليًّا، فقد سافر إلى العديد من الدول لحضور هذه المؤتمرات منها مصر، السودان، الجزائر، سوريا، العراق، إيران، فرنسا.
وله العديد من المؤلَّفات، من بينها كتب، وأوراق بحثيّة في الأدب، والشعر، والسياسة، والدين، والتربية؛ من مؤلّفاته:
– إعجاز القرآن وأثره في تطوّر النقد الأدبيّ.
– أدبيّة الخطابة الإسلاميّة “مدرسة نهج البلاغة نموذجًا”
– الإعجاز القرآنيّ وآليّة التفكير عند العرب، وبحوث أخرى .
– في مدار النقد الأدبيّ “الثقافة، المكان، القصّ”.
– سجال الرؤية والرؤيا.
– المدرسة الأيكويّة في الكتابة: ما لا يمكن تنظيره يمكن سرده.
وكل هذا مضافًا إلى أكثر من 30 سنة خبرة في المجال الأكاديميّ.
كان عضوًا في الهيئة الإداريّة لاتّحاد الكتّاب اللبنانيّين لمدّة دورتين، وكان مسؤولًا عن المجلّة والنشر خلالها. دعي أكثر من مرّة لتدريب أساتذة التعليّم الثانويّ في مدينة زحلة البقاعيّة.
من الصفات المُهِمَّة التي تميّز شخصيّة البروفسور عليّ زيتون صفة الأب الحنون، وهو الذي شغل منصب رئيس قسم اللغة العربيّة في الجامعة اللبنانيّة، الفرع الرابع، زحلةـ كسارة لمدّة عشر سنوات، إذ كان يتعاطى دائمًا بروحيّة الأب مع طلاّبه الذين يعدّهم مثل أبنائه حتّى يأخذهم إلى برّ الأمان، وقد تولى – ولا يزال – الإشراف على الكثير من أطاريح الدكاترة، حتّى تخرّجوا من تحت يديه، فكان المشرف الذي يسعى دائمًا إلى مصلحة طلاّبه الذين يعدّهم ركيزة المجتمع.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ منزل البروفيسور عليّ زيتون خليّة نحل لا تهدأ، فهو قد سخّر نفسه، وعلمه لكلّ من يقصده، ولكلّ من يطلب المساعدة ليواصل مسيرته العلميّة، فلا يبخل باستشارة تربويّة، أو علميّة، بل يستقبل كلّ من يقصده برحابة صدر ومنذ سنين.
يشغل البروفيسور عليّ زيتون حاليًّا منصب رئيس مجلس الأمناء في جامعة المعارف في بيروت، كما أنّ له دورًا مُهِمًّا في معهد المعارف الحكميّة حيث تقام ندوات شهريّة مضمونها النقد الأدبيّ (الرواية)، يتولّى الإعداد لها، والإشراف عليّها من حيث تحديد مادّة النقاش، والشخصيّات الأساسيّة في الندوة، وذلك برعاية معهد المعارف الحكميّة؛ حاليًا يحضّر لندوتين حول روايتين هما: رواية “غبار1918” للروائيّة الدكتورة فاتن المرّ، ورواية “بيشاور” للروائيّ محمّد طعّان. يشارك في هذه الندوات دكاترة، ومبدعون، وناشطون في المجال الثقافيّ، حيث يكون هناك نقد، وتحليل لبعض الأعمال الأدبيّة.
له حضور بارز كأستاذ محاضر في اللغة العربيّة في إيران على صعد عدّة:
_ أستاذ محاضر في جامعة الزهراء، وفي جامعة طهران.
_ إعطاء دورات نقديّة باللغة العربيّة لأساتذة اللغة العربيّة في طهران.
_ إقامة ورشات في جامعة الزهراء، وفي جامعة جيلان (في مدينة رشت الإيرانيّة) عن الأدب المقاوم في الشعر والرواية؛ وكان يحضر هذه الورشات أساتذة، وطلاّب من كلّ أنحاء إيران.
وفي البحرين، شارك البروفيسور عليّ زيتون في تأليف كتب اللغة العربيّة للمرحلة الثانويّة، وشارك في إقامة دورات تدريبيّة في اللغة العربيّة للأساتذة حول كيفيّة تدريس بهذه الكتب.
ولا يمكن أن نغفل عن صفتي الحِلم والصبر اللتين يتمتّع بهما كباحث نافذ البصيرة، فالمسيرة الأدبيّة، والنقديّة لا يمكن أن تكتمل من دون هاتين الصفتين، سواء على مستوى المثابرة في القراءة وإعداد الأبحاث أو على مستوى التعامل مع الأشخاص كموجّه ناجح، يتحمّل الكثير من أجل الآخر، كائن من يكون هذا الآخر، من أجل الحصول على أفضل النتائج. هو الرجل العالم، الهادئ، الصبور، المثابر، المعطاء، المرشد، المتفاني في عمله، وفي خدمة الآخر، وفي خدمة المسيرة العلميّة التي ترك فيها إرثًا كبيرًا للأجيال القادمة، خصوصّا أنّ النقد الأدبيّ الحديث لم يتبلور حتّى الآن بشكله الكامل، ويحتاج إلى الكثير من العمل الجادّ، والدؤوب من قبل المفكّرين من أجل إعداده كما ينبغي، فالبروفيسور عليّ زيتون هو قيمة مضافة إلى عالم النقد الحديث، وقدوة لكلّ طالب علم، وعَلَم يُحتذى به.
من أجمل ماقرأت عن موضوعية الاعتراف والتقدير العلمي .
البروفيسور علي زيتون يستحق اللقب .