عنوان البحث: هُويّة الشّخصيّات في رواية «اليعسوب» لإبراهيم فضل الله
اسم الكاتب: د . فاطمة عبدالله يوسف
تاريخ النشر: 18/07/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 32
تحميل البحث بصيغة PDFهُويّة الشّخصيّات في رواية «اليعسوب» لإبراهيم فضل الله
The Identity of Characters or Persons in the novel «The Dragonfly» by Ibrahim Fadlallah
د . فاطمة عبدالله يوسف Dr. Fatima Abdullah Youssef(*)
تاريخ الإرسال:26-4- 2024 تاريخ القبول:20-5-2024
المستخلص
تنضوي هذه الدّراسة الموسومة بعنوان «هويّة الشّخصيّات ودلالاتها في رواية “اليعسوب والعطر الفوّاح” لـ “إبراهيم فضل الله”»، لتُبيّن هُويّة كُلّ شخصيّة، وكشف الوضع الاجتماعي والأخلاقي والجسدي من خلال السّرد والحوارات المُتتالية، والّتي عبّر عنها الأديب بلُغةٍ إنسيابيّة خاليةٍ من التّعقيدات، فكشفت الموروثات واللُّغة العميقة الّتي أثبتت تمسُّك الأديب بقوميّته العربيّة، وتشبُّثه بأرضه، انطلاقًا من اهتمامه بشخصيّات الرّواية، مُعرّجين في ذلك على تحكّم سلطة الإقطاع واحتلالهم الأرض، والنّظر إلى مصالحهم الشّخصيّة الّتي شكّلت غطاءً سياسيًّا للتّحكّم بمصير النّاس في جبل عامل؛ مُحاولين تضليل الحقائق وطمسها، إلّا أنّ الأديب جعل شخصيّات روايته شخصيّات مُقاومة في سبيل الأرض، فتمرّدوا وثاروا على الظّالم يدًا بيد من أجل استعادة المسلوب منهم، وفكّ الحصار عن كُلّ مظلوم.
لقد سكب “إبراهيم فضل الله” كُلّ ذلك بقالبٍ قصصي مُحكمٍ، مُنطلقًا من بيئة جبل عامل، ومُركّزًا في ذلك على شخصيّة محوريّة أحذت حيّزًا في السّرد؛ إنّه “نظيم” البطل المُقاوم الّذي لازم المُقاومة المُسلّحة خطوة بخطوة للوُصول إلى مُراده وهو النّصر، وفي ذلك كُلّه اعتمدنا المنهج التّكويني لنكشف هويّة الشّخصيّات ومدلولاتها، لا سيّما وأنّ هذا المنهج سيُرشدنا إلى التّعمُّق برؤية الأديب وتطلّعاتها انطلاقًا من المجتمع الجنوبي في المجالات كافّة سياسيّة كانت أم اجتماعيّة أو غير ذلك.
الكلمات المفاتيح: الشّخصيّة، الخطاب، بنية السّرد، البنية، الرّواية، المقاومة، إيديولوجيا، الأرض.
Abstract
This study, titled “The Identity of Characters and Their Meanings in the Novel ‘The Dragonfly and the Fragrant Scent’ by Ibrahim Fadelallah,” aims to elucidate the identity of each character, revealing their social, moral, and physical status through consecutive narratives and dialogues. The author expressed them in a fluid language devoid of complexities, uncovering the deep heritage and language that demonstrated the author’s adherence to his Arab identity and attachment to his land. This stems from his interest in the novel’s characters, addressing the authority of feudal lords and their land occupation, and looking at their personal interests that formed a political cover to control the fate of people in Jabal Amel. Despite attempts to distort and obscure the facts, the author portrayed the characters of his novel as resistance figures for the land, rebelling against the oppressors hand in hand to reclaim what was taken from them and lift the siege on all the oppressed.
Ibrahim Fadelallah poured all of this into a tight narrative format, originating from the environment of Jabal Amel, focusing on a central character, “Nazim,” the resistant hero who adhered to armed resistance step by step to achieve his goal, victory. In all of this, we relied on the formative approach to reveal the identity of the characters and their implications, especially since this approach will guide us to delve into the vision of the author and its aspirations, stemming from the southern community in all political, social, or other fields.
Keywords: Personal identity, discourse, the narrative perspective, the structure, novel, resistance, ideology, the land.
من المعروف أنّ الأدب هو كُلّ ما يُؤثّر في نفوسنا سواء أكان شعرًا أو نثرًا، فهو مرآة تعكس ما يجول في خوالجنا من جهة، وفي المجتمع من جهة ثانية، ولأنّ الأدب يفتح مصراعيه ويُشرّع أجنحته لنا، لكي نُعبّر أفضل تعبير عمّا نريده بأسلوب رشيقٍ وأنيق فينتج بعد ذلك عملٌ إبداعيٌّ لا سيّما الرّواية منه، فهي انعكاس مُباشر يُعبّر الأديب من خلالها عن ثقافته وتاريخه ليُظهر إلى العلن ما يدور في بيئته مُحاولًا إثبات رُؤاها الثّقافيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة الّتي يعدّها الأديب المُحرّك الأساس الّذي يُحقّق من خلاله وجهة نظره، أو هدفًا ما، فكانت الرّواية بوّابة الوُلوج إلى قلب المُؤلّف “إبراهيم فضل الله” الّذي أثبت جدارة ومهارة في بثّ حركة الوعي الثّقافي لبناء جيلٍ واعٍ ومُدركٍ لأهمّيّة “الأرض”، فجاءت روايته “اليعسوب” لتحمل الكثير من القيم الّتي تجسّدت بإرثٍ مُقاوم لا مثيل له، لا سيّما وأنّ هذه القيم من سمات أهل جبل عامل المُقاوم والّتي امتازت بالصّدق والوفاء والأمانة والخير والدّين والعدل ونبذ التّفرقة ومساعدة كُلّ محتاج، وكُلّ ذلك جاء به الأديب لبثّ روح الوعي ولبثّ المشاعر الوطنيّة الّتي ميّزت شخصيّته، وقد برزت بشكل جليّ على ألسنة الشّخصيّات الّتي وجد فيها خير مُعبّر عن مناجاته وآهاته وإنسانيّته، ولهذا رأينا شخصيّات “اليعسوب” تُنادي بالغد الأفضل والسّعي إلى إصلاح الوطن والالتصاق بالأرض على الرّغم من المشاكل والأزمات والاحتلال الّتي التصقت وتشبّثت بالمجتمع الجنوبي، فجاءت “اليعسوب” لتكشف ذلك التّمسّك بالعادات والتّقاليد والقيم بطريقةٍ مُترابطة، لأنّ «بين الجانب الحسّيّ والعقلي، وبين المعرفي والإبداعي، تعكس صورة مباشرة ودقيقة نمط العلاقات بين الفرد والمجتمع في كُلّ عصر»([1]). وهذا ما أدّى إلى انهماك العالم وانشغاله في الهموم، وقد ترجمها المُؤلّف بسردٍ مُحكمٍ، ليُعالج موضوعًا روحيًّا وإنسانيًّا. وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على الحقيقة الفكريّة والنّظريّة الّتي تكمن وراء علاقة الكاتب بالأرض ومدى وعي الرّوائي بالتّاريخ وتمجيد القوميّة والوطنيّة، وهُنا نُشير إلى أنّ الأديب هو ابن جبل عامل الّذي جُبلت عجينته مع الحرف وُخطّت خُيوط جبينه مع الكلِم، فسكب روايته بقالبٍ سرديٍّ ينطلق فيها من مرجع واقعيّ قد حدث بالفعل في القرى الجنوبيّة. كما أنّ شخصيّات هذه القصص عاشت تجربة مُشتركة، في مُقاومة كُلّ من يُحاول احتكار ممتلكاتهم أو يُحاول التّدخّل في شؤون قُراهم، وفي كُلّ ذلك يظهر الاحتلال للأرض الّتي عشقوا رائحة تُرابها ونسيم هوائها، ولطافة ناسها، مُحاولين زجر كُلّ من يحاول تدنيس الطهارة فيها، والقبض على رجالها البواسل الّذين أرادوا التّضحية في سبيل أرضهم بكُلّ ما يملكون، فكانوا نماذجًا يُحتذى بهم.
وهذا ما دفع مُؤلّف هذه الرّواية “اليعسوب والعطر الفوّاح” إلى رفْعِ أغلال المعاناة والسّعي بسرده إلى السّموّ الإنساني مُعبّرًا في روايته عن الحال الإقطاعيّة الّتي عرفتها قُرى جبل عامل، والّتي تمثّلت بتجربة فريدة في حقبة مُعيّنة عندما كانت الأراضي من نصيب الملّاكين وأغلب النّاس يتعبون في حرثها وزراعتها وحصادها والخير يعود إلى الإقطاع. ولهذا فإنّ هذه الدّراسة المُتواضعة تهدف إلى تبيان ما في رواية “فضل الله” من قيم تربويّة تجسّدت بشخصيّات عتيدة تُؤثّر في نفس كُلّ من يقرأها.
الإشكاليّة: لقد أثارت رواية “إبراهيم فضل الله” الكثير من التّساؤلات الّتي تتبدّى في أهمّيّة الأرض والدّور الّذي يُؤدّيه الأبطال في جبل عامل في المحافظة على تراثهم وهويّتهم، وهذا يتجلّى في طرح هذه المسألة بوصفها عاملًا يثير الجدل لدى الباحثين، لا سيّما وأنّ الأدب لا بُدّ أن يكون في خدمة المُجتمع، وأنّ هذه الرّواية إشكاليّة بحدّ ذاتها، وعنوانها يحمل دلالة رمزيّة. فمن هو “اليعسوب” في نظر “إبراهيم فضل الله”؟ ومن هم هؤلاء الأبطال الّذين خصّهم الأديب بعمل روائيّ؟ وما الرّسالة الّتي أراد الكاتب إيصالها إلى المُتلقّي؟ وما الدّوافع الّتي جعلت منهم رجالًا يضحّون بأنفسهم من أجل استرجاع الأرض؟ ومن المُستفيد الأكبر من سعيهم؟ وهل من مُعارضين لهم؟ وكيف رسم الرّوائي هذه الشّخصيّات لا سيّما صورة اليعسوب؟ وهل من دور للّغة الّتي مثّلتها الشّخصيّات في الحوار؟ وكيف تجلّت خصائصها في سياق النّصّ الرّوائي؟
المنهج وأهمّيّة الدّراسة: إنّ الهدف الأساسيّ الّذي جعلني مُهتمّة برواية “اليعسوب” هو الإمساك بخيوطها المُتشابكة في ما بينها، فلرُبّما توصلني إلى مقاصد المُؤلّف، وتشبُّثه الكبير بالأرض الّتي برزت في هذه الرّواية موضوع الدّراسة، ولا بُدّ من النّظر بتمعّن إلى القصص المتتالية في نُصوص الرّواية للتّوصّل إلى نتائج منطقيّة كما يقول “لوسيان غولدمان” (Lucien Goldmann): «يُفترض أن نتناول النّصّ حرفيًّا، كُلّ النّصّ ولا شيء سوى النّصّ وأن نبحث داخله عن بنية شاملة ذات دلالة»([2]).
ولهذا سنحاول من خلال هذه الدّراسة المُتواضعة الوقوف عند الشّخصيّات في رواية “اليعسوب”، كونها تُجسّد الواقع المرير في حقبة تاريخيّة دقيقة وحسّاسة حيث القمع واليأس والاستبداد الّذي لحق بقرى الجنوب، فأحدث ذلك شرخًا أدّى إلى تغيّرات فكريّة واجتماعيّة وثقافيّة… فكانت الرّواية تحمل في طيّاتها عمق التّاريخ بأسلوب أدبيّ وفنّيّ راقٍ ومُعبّر.
لذلك، أرى من المُهمّ جدًّا التوقّف عند قراءة “اليعسوب” كونها تُعبّر عن واقع عاشته قرى جبل عامل فعانت الويلات وكافحت باستمرار لتحقيق الحقّ والسّعي دومًا لمُحاربة المُحتلّ ولمُحاربة كُلّ فاسد، فكان الأديب “فضل الله” يطرح وجهات نظره وآرائه بطريقة غير مُباشرة على ألسنة الشّخصيّات الّذين رؤوا المحسوبيّات واشتمّوا رائحة الصّفقات، فاندفعوا بقواهم وعزائمهم نحو إحقاق الحقّ ونصرة المظلوم، وكُلّ ذلك جاء بقالبٍ سرديٍّ انساب بهدوء حيث اللّغة الممزوجة ما بين الفُصحى والعاميّة التي عبّرت عن مشاعر الحُبّ والأحاسيس والجوّ الرّومانسيّ المغناج من جهة، وصوت الأمّ والوجع والآهات الّتي تجسّدت بالضّياع والمُعاناة الّتي تمزّقت في جسد القرى، وخير مثال: «… يمرّ نظيم في مساء ذلك اليوم بساحة العين، ويجدها كالعادة مُزدحمة بالصّبايا، وينظر إليهنّ ويقول:
– ممكن تسقونا شربة ميّ؟
تنظر سعدى إلى نظيم وتقول:
– تفضّل شراب العين قدّامك… انشل وشراب قدّ ما بدّك.
– ميّة هالعين اليوم كتير طيبة.
سعدى: طابت ميّة العين بس شربت منها.
نظيم: تسلمي يا بنت الأصول… بتسمحيلي انشل عنك وعبّيلك الجرّة.
سعدى: ما بدنا نتعبك.
نظيم: تعبكم راحة… وخدمتكم واجب.
سعدى: تسلم ما بينقصك من النخوة شي.
نظيم: مش كل الناس بصحّلها اتليلها ميّ.
سعدى: وأنا مش مين ما كان بخلّي يتليلي الجرّة»([3]).
إذا ما عُدنا إلى السرد، رأيناها غنيّة بالرُّموز الّتي تعود إلى المجتمع والبيئة الّتي وُلد فيها الرّوائي وترعرع، وهذا يعود إلى ثقافة مجتمعه الجنوبي الّذي يحمل ثقافات دينية وشعائرية، وأنساقًا من العادات والتّقاليد والأعراف الّتي لا يمكن التّغافل عنها قطّ، وجميعها قد أغنت هذا العمل الأدبيّ من خلال دلالاتها لا سيّما في التّواصل مع الآخرين، ويبرز ذلك من خلال تعدّد الحوارات الّتي أخذت منحًى كبيرًا في السّرد وتجسّدت برموز مُتعدّدة، وهُنا نشير إلى أنّ الأبحاث والدّراسات حول مفهوم الرّمز تعدّدت، فهو من أساليب التعبير لإيصال المعنى بصورةٍ إيمائيّة للقارئ وللكشف على الأبعاد المُراد إيصالها، وما لا شكّ فيه أنّ الرّمز في القاموس هو «الإشارة، أو الإيماء بالشّفتين أو العينين أو الحاجبين أو الفم أو اليد أو اللّسان»([4]). وبناء على ذلك سنتوقّف عند دلالة العنوان.
دلالة العنوان: العنوان هو أوّل ما يُلفت نظر المُتلقّي وأيّ قارئ ونهم على القراءة، فهو اللّقاء الأوّلي بين المُرسل والقارئ قبل الوُلوج إلى النّصّ؛ إذ يختزل بنيته ودلالته و«يعدُّ نظامًا سيميائيًّا ذا أبعادٍ دلاليّة وأخرى رمزيّة تُغري الباحث بتتبّع دلالاته ومحاولته فكّ شفراته الرّامزة»([5]).
لقد جاء عنوان رواية “إبراهيم فضل الله” “اليعسوب والعطر الفوّاح” أيقونة مباشرة لعمله الأدبي الفذّ، إذ تبدأ عمليّة القراءة من خلال النّظرة الأولى إلى العنوان، فـ”اليعسوب” لفظة غريبة عجيبة تحمل في طيّاتها دلالة رمزيّة ونتاجًا دينيًّا، فمقولة النّبيّ محمد (ص) للإمام عليّ (ع): «أنت يعسوب الدّين»([6])، والمقصود بذلك أنت المُدافع الحقّ عن الدّين والعرض، واليعسوب في الرّواية هو المُدافع عن الأرض والحافظ للكرامة، ولرُبّما يُمثّل “اليعسوب” بذاك المُقاوم الّذي يسعى لتحقيق الذّات، فهو المُوجّه الرّوحي، دائم المساعدة، يتدفّق النّشاط والإلهام من فكره وشجاعته وصبره الّذي لا ينضب، فلرُبّما أراد الكاتب أن يضع “اليعسوب” عنوانًا عريضًا لروايته، وكأنّ هذا اليعسوب خرج من نور إلـٰهي وبدأ يُحلّق رُويدًا رُويدًا في مُجتمعه وبيئته وواقعه، ليتمكّن من مُساعدة أهل قريته بخطواته المُتتالية حينًا واغترابه الّذي يُثير الجدل حينًا آخر، ولرُبّما يرمز إلى سُرعة البديهة باغتنام الفُرص والعمل بجدّ، فـ”اليعسوب” أخذ منحًى كبيرًا في الرّواية، بل غدا امتداد السّرد، فهو الدّفء الّذي نقل رذاذ الأفكار إلى فكر مُقاومٍ ناضجٍ يعجُّ بالأمل والطُّموح، فهو مفتاح روحاني القوّة والبنية، متوازٍ في عمله وفكره؛ والمُتمعّن في العنوان يلحظ أنّ الكاتب أدرج عنوان روايته “اليعسوب والعطر الفوّاح” وهُنا حرف العطف “الواو” جاءت لتُشارك اللّفظة الأولى برائحة العطر الجميل، لرُبّما يكون النّصر والفرج، أي نسب العطر الفوّاح وأشركه اليعسوب من خلال “واو العطف”، فالعطر لا يكون إلّا لمن تمتّع بالأناقة والرّائحة الجميلة، وهذا مُرتبط بالسّعادة والحُرّيّة، ولأنّ الحُرّيّة مُقدّسة لرُبّما أعطى الأديب رمزيّة لليعسوب فمازجها بالحُبّ بأشكاله كافّة، “حُبّ الأرض، حُبّ العائلة والزّوجة، وحُبّ الحبيبة” إلخ.. وهُنا إشارة إلى القُدرة الاستثنائيّة الّتي يتمتّع بها اليعسوب، من ثقافة وذكاءٍ حادّين.
إذًا الرّواية غنيّة بالرُّموز والدّلالات لا سيّما وأنّ العُنوان كان الكشّاف والدّليل لهذا الغنى الّذي كشف غزارة متنها وعمق السّرد فيها، فجذب المُتلقّي بطريقة غير مُباشرة لا مثيل لها. ولأنّ الرّمز يأخذ حيّزًا كبيرًا في السّرد، حاولنا تسليط الضّوء على العنوان فقط لأهمّيّة النّظر به وفكّ لغزه.
وفي ما يلي سنتطرّق إلى هويّة الشّخصيّات، لأنّه من المُهمّ جدًّا النّظر في شخصيّات الرّواية، والتّعرّف إلى هويّة شخصيّاتها على المستويات كافّة: الاجتماعيّة، النّفسيّة، الأخلاقيّة، الثّقافيّة والجسديّة.
الشّخصيّات: تُعدُّ الشّخصيّة من العناصر المُهمّة في أيّ عملٍ سرديٍّ، وهي بمنزلة النقطة الأساس الّتي ترتكز عليها أيّ دراسة سرديّة، فهي العامل المُحرّك للبنية السّردية، لا سيّما و«أنّ بقاء الفنّ الرّوائي مُرتبط بوُجود الشّخصيّة»([7]). فلا نجد قصّة أو رواية من دون شخصيّات، بل هي الأساس لأنّها تقود الأحداث إلى بُعدها الحكائي، وهذا يُعدُّ ذروة الفنّ الرّوائي.
فالخطاب الرّوائي ينمو والأحداث تتغيّر وتتبدّل بتغيّر الشّخصيّات وتطوّرها. وقد نظر النّقد التّقليدي القديم إلى الشّخصيّة على «أساس أنّها كائن حيّ له وُجود فيزيقي»([8]). أمّا الرّواية الحديثة فيرى نُقّادها أنّ شخصيّاتها في وصفها بالخيال والمخزون الثّقافي، لأنّها من نسيج الرّوائي وخياله. «إنّ قدرة الشّخصيّة على تقمّص الأدوار المُختلفة الّتي يُحمّلها إيّاه الرّوائي، يجعلها في وضعٍ مُمتازٍ حقًّا، بحيث بواسطتها يُمكن تعرية أيّ نقص، وإظهار أيّ عيب بعيشه أفراد المُجتمع»([9]).
وقد عرّف “غالي شكري” الشّخصيّة الفنّيّة أنّها: «شخصيّة في حالة فعل»([10]). وأمّا الرّواية عند “ميشال بوتور” «تقصُّ بوساطة مغامرات أفراد وحكاية وتحرّكات مجتمع بأسره»([11]). وتجدر الإشارة هُنا أيضًا إلى أنّ شخصيّات الرّواية تكاثرت في السّرد وقد برز ذلك في قصصها المُتتالية، ولهذا سنكتفي بدراسة أبرز الشّخصيّات الّتي أخذت حيّزًا كبيرًا في الحكي والّتي تُعدُّ من الأركان المُهمّة في السّرد، وارتباطها ارتباطًا وثيقًا بنسيج السّرد واتّصال حركاته.
ومن أبرز الشّخصيّات المُشاركة في الحكي، والمُتفاعلة مع الأحداث سلبًا وإيجابًا والّتي تميّزت بسماتٍ خاصّة جعلها الرّوائي تتناسب مع أدوارها، سنتوقّف على هويّة كُلّ شخصيّة بحسب مهامها في السّرد على الصُّعد كافّة؛ الاجتماعيّة، الجسديّة، النّفسيّة والأخلاقيّة.
أبو منذر: ظهر “أبو منذر” ظُهورًا واضحًا في القسم الأوّل من الرّواية، فهو رجل مُتقدّم في العمر، يعمل ليل نهار في أرضه، من أجل المحافظة على رزقه لأنّ الأرض بالنّسبة إليه هي الرّزق الوحيد الّذي يُعتمد عليه من أجل أن يعيش وعائلته بكرامة، فكُلّ ما يعرفه هو المحافظة على الرّزق، لأنّها – الأرض – بالنّسبة إليه الرّبح والمكسب الوحيد، فهمّه الأوّل والأخير رزقه ممّا فيه من مزروعات وأشجار «…يخبرهم أبو منذر ما رأى عندما ذهب إلى كرمه ليُتابع عمله، فوجد مزروعات الكرم كُلّها منزوعة من أرضها، والأشجار مُكسّرة أغصانها، والسّياج مُهدّمًا، وعُمّال الشّركة الضامنة منعوه من دُخول كرمه، لأنّهم صادروه بحُجّة أنّهم يحتاجون إلى الأرض لأنّهم يُريدون تشييد مُنشآت جديدة لشركتهم، ويستغرب لماذا لم يختاروا إلّا كرمه كي يُعمّروا فيه مباني لشركتهم»([12])، «… ينظر أبو منذر إلى أبو عاصي ويقول والغصّة تمنعه من الكلام: راح الرّزق كلّه… شو بدّي اعمل بعيلتي… والله حرام هيك مين بيرضى بهالعمل»([13])، وقد اختلس المحتلّون أرضه وأبناء ضيعته وهذا الأمر أغضبه كثيرًا، «- أبو منذر: لازم نروح كلّنا مع المختار لنشوف ولادنا عند الضّامنين. – أبو عاصي: معش فيه غير هالحلّ وبنحكي بقضايا الضيعة وقضايا الولاد… لأنّه المفقودين صاروا أهمّ أمر بالضّيعة»([14]).
على المستوى الاجتماعي ينتمي “أبو منذر” إلى الطّبقة الفقيرة، فلّاحٌ، مُحبٌّ للأرض وللآخرين، مُحترم إلّا أنّه معروف بالطّمع والتّملّك وحُبّه لمصالحه الشّخصيّة، وقد بدا ذلك في الرّد «… مين بهالضّيعة ممكن يمشي حاله مسؤول الأمن. مين… مين… أوّل شي لازم يكون شخصيّة مُحترمة بالضّيعة، متل بو منذر بس أبو منذر ما بينفع لأنّه زلمي طمّاع»([15])، «… بو منذر ياخذ الأرض المليحة والقريبة ونحنا نشتغل بأرض بعيدة كلّها صخر…»([16])، مُحبٌّ للمعرفة بشكل لافت، فلم يستطع الجُلوس حتّى يعرف كُلّ كبيرة وصغيرة، دائم السُّؤال عن حصّته من الأرض وعن رزقه، سريع البديهة «… يبدو على أبي منذر الانزعاج والقلق، وهو ينظر إلى باب الغرفة الثّانية، ويظهر انزعاجه من الانتظار، ويعتقد أبو عاصي أنّ المختار يُدبّر شيئًا في الخفاء…»([17]).
كان “أبو منذر” يُحبُّ إرضاء الشّركة الضّامنة والمُختار من أجل الحصول على ما يُريد خوفًا من عدم استرجاعها، فهو جريء وحريص في المحافظة على الرّزق ولا سيّما المزروعات «… يحثُّ أبو منذر ولده على إنجاز المطلوب منهم هذا الموسم لأنّهم سيزرعون أرضًا أكثر بكثير ممّا كانوا يزرعون، وبأنّهم من الآن وصاعدًا سيكونون من فاعليات الضّيعة الّذين لا يمكن تخطّيهم بأيّ موضوع من الموضوعات الّتي تختصّ بالضّيعة، والمهم أن يتمكّنوا من إنتاج المحصول المطلوب منهم في هذا الموسم كي يحصلوا من الشّركة على أرض أكثر للزّراعة، لأنّ الشّركة اشترطت كمّيّة محدّدة من المحصول ليزيدوا مساحة الأرض بالموسم المُقبل، ولهذا على مُنذر وأبيه العمل بجدٍّ واجتهاد ليصلا إلى أكثر من الكمّيّة المطلوبة، ليزيدا من مساحات الأرض الّتي يزرعانها»([18])، وفي علاقته مع المُختار حتّى يكسب رضاه، وينال ما يرغب به من أراضٍ واسعة كي يزرعها وتُصبح ملكًا له.
كان أبو منذر شديد الحماس في مداراة الشّركة الضّامنة «… يعني هالاتّفاق مع الضّامنين جبلنا الخير العميم كأنّهم هاو الضّامنين إجونا نعمة من الله… وهنّي السّبب في توسيع رزقنا… علد هيك وصيتي إلك يا منذر تحافظ عالعلاقة ل عملناها معهم، لأنّي فزعان من المختار يقوطب علينا وياخذ كل شي ل مصلحته… لأنّه ما بيتأمنلو، ويمكن يفكّر يحطنا ع جنب وياخذ الضّامنين لصالحو ويسلموا الضّيعة كلّها… هذا المختار ما بيتكذّب عنّو شي من شان هيك خذ حذرك منّو لا تأمّنلوا…»([19])، وقد كان “أبو منذر” شخصيّة نامية بدايةً، لا بُدّ أنّه غيورٌ على ضيعته وأرضه، كارهٌ للشّركة الضّامنة؛ إلّا أنّه بعد أن اتّفق مع المُختار وأبي عاصي رأيناه مُحبًّا لمصالحه الشّخصيّة ومُنتهزًا الأراضي الخصبة، وفي ذلك كُلّ الحُبّ الأوّل والأخير للأرض والرّزق.
مُنذر: وهو «… شاب في العقد الثّاني من عمره لون شعره يميل إلى الاصفرار، حنطيّ اللّون، قصير القامة، سريع الغضب، يعيش مع أبيه، ويُساعده في عمله في الكرم الوحيد الّذي تعتاش منه الأسرة…»([20])، فهو شخص مُثقّف ومقدام، يلمّ بكيفيّة المواجهة للشّركة الضّامنة «… يقف بين رفاقه ويُناقش كيفيّة الرّدّ على الشّركة الّتي تضمن أرض الضّيعة، والّتي صادرت كرم والده، وفي نهاية الحديث يتوعّد بردّ حاسمٍ يُؤذي الشّركة كما آذت والده…»([21]).
كان “مُنذر” جريئًا وشُجاعًا، فقد كان يدرس الظُّروف جميعها المُحيطة بالقرية والنّاس كافّة لإتمام مهامه على أكمل وجه، لم تُخِفْه الشّركة الضّامنة قط، بل كان يتّفق مع الشّباب أن يترصّدها «… يُوافق معه بعض رفاقه ويتّفقون على مساعدته في الانتقام ممّن سببّوا لمُنذر وعائلته بالأذى…»([22]).
لقد كان “مُنذر” كبير القلب، فهو خلوق وحريص في التّواصل مع الآخرين، وهو ذكيّ يُخطّط، يُوجّه الأوامر في سير العمل، وقد غضب كثيرًا ممّن انتزعوا الأرض والرّزق من والده، لا سيّما عندما رأى والدته غاضبة، فهو عطوف ومُحبّ لأهله، ولهذا كان دومًا يُحاول طمأنتهم لا سيّما والدته، بأنّه سيسعى دومًا لتحصيل ما سُلِب منهم «… وينظر إلى أمّه الحزينة، ويسعى جهده كي يطمئنّها على رزق العائلة…»([23]).
لقد كانت علاقته مع أبويه والنّاس قائمة على المحبّة، فقد عُرف بمُشاركته في السّرّاء والضّرّاء، فهو يُضحّي بنفسه من أجلهم، وكان أوّل من يستيقظ «… في الصّباح الباكر يستيقظ مُنذر ويخرج من منزله إلى السّاحة الّتي يبدأ الشُّبّان بالتّوافد إليها، ويتحلّقون حوله…»([24]).
إنّ هذه العلاقة بين “مُنذر” وأهل قريته لا سيّما الشُّبّان المُقاومين منهم، تدلُّ على أخلاقه العالية الّتي يتحلّى بها، وقد رسم الرّوائي هذه الشّخصيّة بصورة المُقاوم الحقيقي المُندفع نحو العمل من دون كلل أو ملل ساعيًا السّعي كُلّه لاسترجاع الأرض لأنّها بالنّسبة إليه هويّته وكرامته فوجب المُحافظة عليها من كُلّ شرّير يُحاول تدنيسها والتهامها.
نظيم: ظهر “نظيم” على امتداد السّرد منذ بداية الرّواية إلى آخرها، وقد استأثر اهتمام الرّوائي، فأعطاه عناية كُبرى ما جعل “نظيم” مركز اهتمام الشّخصيّات وليس السّارد فقط، فهو البطل الّذي تدور حوله الأحداث كُلّها، وهو الّذي تفاعل مع الشّخصيّات كافّة، فهو محور الرّواية بدءًا بعنوان مُرورًا بالقصص في المتن وُصولًا إلى الخاتمة، فعلى المُستوى الجسدي، تميّز بالقُوّة والنّشاط والذّكاء الأخّاذ، فهو مُقاوم مُحترف ينظر إلى الأعداء من الشّركة الضّامنة وغيرهم ممّن يُحاول تدنيس الأرض، نظرة استطلاع ورصد ومُراقبة، عاشق الهوى والطّبيعة بما فيها من تُراب الأرض المرصوص بأقدام الشّباب المُناضلين والعين الجارية والماء العذب، حيث تصطفُّ الصّبايا حولها لامتلاء المياه «… ويسير نظيم باتّجاه بيته، ويمرُّ من أمام “عين كبعا”، وهي العين الّتي تشرب الضّيعة كُلّها منها، … ولهذه العين مكانة مُهمّة عند أهل الضّيعة جميعًا، وقلّما تجد امرأة لا تملك ذكريات على هذه العين، وساحتها هي دائمًا مكان إقامة الأفراح… ويمرّ نظيم في مساء ذلك اليوم بساحة العين، ويجدها كالعادة مُزدحمة بالصّبايا، وينظر إليهنّ ويقول: ممكن تسقونا شربة ميّ؟…»([25]).
وهُنا نشير إلى أنّ “نظيم” هو شخص اجتماعيّ إلّا أنّ علاقته مع أهل الضّيعة كانت قائمة على العمل من أجل استرجاع الأرض، ولكنّ علاقته بـ”سعدى” تطوّرت إلى حدّ العشق، فهو عاشق وهائم بحُبّها، والابتسامة كانت تغمره دومًا، بخاصّةٍ عندما كان يرى الحبيبة. كان “نظيم” فارسًا شُجاعًا محبوبًا مُرتاحًا لا سيّما عندما يرى حبيبته أو يقوم بمُساعدة النّاس، «يتقدّم نظيم من العين وهو يقول:
– ممكن تسقونا شربة ميّ يا صبايا
تُقدّم سعدى الدلو لنظيم وهي تقول:
– يا حرام الشوم… تعا اشرب… تعا… ما بيهون علينا تمر عالعين وتبقى عطشان
(…)
– شو قصتك يا سعدى هيئتو نظيم سوسحك
سعدى: وإنت ليش غيراني… الشب حلو»([26]).
اتّصف “نظيم” بروحه المرحة، وعلى الرّغم من بسالته ومُحافظته على الأرض، إلّا أنّه يمتاز بمشاعر وأحاسيس تجاه من يُحبّ، فنفسه ذوّاقة للرّومنسيّة والحُبّ بالإضافة إلى الأخلاق الرّفيعة: «… تمرّ من أمامه سعدى فيبتسم لها ويهمس لها بصوت لا تسمعه إلّا هي: – شو سعدى خانم… سلّمي علينا… سعدى تبتسم…»([27])، «… وتتحلّق الصّبايا حول الدّبكة العامرة، ونظيم يقول: ويلي دلعونا ويلي دلعونا / رجعوا لِ حبّيناهم وهنّي حبّونا…»([28])، «نزلت عالدّبكة هالصّبية / أسرت قلبي وعقلي وعينيّي»([29])، «… صورتها لح تضلّ محفورة بقلبي وعقلي…»([30])، «… تنظر سعدى إلى الأرض وقد بدا عليها الخجل، وتقول: ما تخجلني… يتقدّم نظيم من سعدى، ويلتصق بها وهو يقول: اسمعي ها اسمعي… ومن ثُمّ يضمّها بين ذراعيه، ويجذبها بقوّة إلى صدره، ويلتقط شفتها السُّفلى ويعصرها بشفتيه، وتراخت سعدى، بين ذراعيه، وحضنها بقُوّة كل لا تتساقط من بين ذراعيه…»([31]).
أهل ضيعته يرونه شابًّا مُندفعًا، ومُقاومًا شُجاعًا، مُثقّفًا، اجتماعيًّا، يحمي تراث الأرض ويُحافظ على رزقها وزراعتها، ما جعل أهل القرية يعدّونه الآمر النّاهي، ويُنفّذون أوامره، حتّى عندما يجتمعون لمناقشة أمر الشّركة الضّامنة وكُلّ محتلّ، فينزل الشّباب والصّبايا تلبية له.
أمّا عن علاقته الوطيدة بـ”سعدى”، فهي لم تشغله عن العمل المُقاوم والدّفاع عن أرضه، «… يدخل نظيم إلى السّاحة، فيراه أبو منذ ويُسرع ناحيته ويقول: هه… هذا نظيم إجا… يا نظيم وين كنت… إلنا من الصّبح ناطرينك هون، (…) يا نظيم قول شو قرّرتوا تعملو. (…) ويقترح نظيم تقسيم الوعر بين الشّبان لسُهولة التّفتيش فيه بأسرع وقت مُمكن…»([32])، «… تتحلّق مجموعة من الشُّبّان في ساحة الضّيعة، ومن بينهم نظيم الّذي يقترح على الشّبّان عدم الوقوف مع الرّجال الكبار بالسّاحة، وعمل شيء آخر مع الاعتصام لإجبار الشّركة على تلبية طلبات أهل الضّيعة… يستقرّ الرّأي على إقفال الطّرقات بوجه الشّركة من خلال حرق ما يبس من أغصان الشّجر…»([33]).
انطلاقًا من هذا السّرد، نلحظ “نظيم” على المستوى النّفسي لم يبالِ بالشّركة الضّامنة ولكُلّ مُحتلّ من حوله، بل يواجه بجُرأة وشجاعة، فهو مُتصالح مع نفسه ومع المسيرة الّتي يقودها والّتي حرّكت عقول أهل الضّيعة نحو حُبّ الأرض والتّجذّر بالكرامة من دون أيّ عائق أو خوف أو إحباط، فهو قويّ الثّقة بنفسه، مؤمنٌ بالله عزّ وجلّ وراسمٌ طريق النّصر أمام عينيه في مُقاومة كُلّ من يغتصب أرضه من أصحابها وناسها المُقاومين، وقد بدا واضحًا في الرّواية لا سيّما في قصّة “نظيم في بيت يوسف” الفكر الفذّ والعقل المُدبّر الّذي يُخطّط بسرّيّة تامّة. وعلى الرّغم من تنقّله في العمل واغترابه سرًّا، فالجميع كان بانتظار عودته من دون أن يعرفوا مكانه، فهو مُتنقّل هنا وهناك، ولهذا نعته الكاتب بـ”اليعسوب” في نهاية القصّة ما قبل الأخيرة من الرّواية الموسومة تحت عنوان “المعركة الأخيرة”: «… أهل ضيعتك لقّبوك بيعسوب الضّيعة، بس أنا بسمّيك يعسوب الأمّة كلّها»([34])، وهذا المقطع السّردي يُؤكّد قوّة “نظيم” وشجاعته ومكانته بين أهل ضيعته «… يصل نظيم إلى مشارف البيت، ويستمع إلى حوار رافي مع والده، فيصرخ بأعلى صوته:
– أصمد يا بو صالح، أصمد أتاك الدّعم… وستبقى واقفًا وشامخًا…
ويبدأ نظيم بإطلاق النّار وهو يقول: شو لاحقينا لهون يا بلا شرف وبلا كرامي… لاحقينا على بيوتنا…
ينهمر الرّصاص من رجال نظيم على إيتان وعسكره (…)
نظيم: طوّقناكم وما عاد عندكم مفرّ إلّا الاستسلام… إرمي سلاحك واستسلم قبل ما تموت…»([35])
يُبيّن هذا السّرد شخصيّة “نظيم” الواقعيّة، المُقاومة، والطّامحة للعُلا والمجد، فهو الأمين على النّاس، ويُؤتمن على الأرض والسّلاح والذّخائر ونقلها من هنا وهناك. الأعداء يهابونه ويخافونه، فهو صادق وعندي، يرسم خارطة الانتصار بدقّة ورويّة، وقد أثبت ذلك بخسائر باهظة للعدوّ بفضل جبروته وعزيمته وإيمانه بالقضيّة الأساس “حفظ الأرض والمُقاومة”، «… يمرّ ياسر بالقُرب من نظيم، ويقول: ياللا نجهّز السّاحة للدّبكة اللّيلة خلينا نحتفل باستقلال الضّيعة (…) نظيم: تكرم عينك… ياللا يا شباب ننزل عالدّبكة»([36]).
إذًا، “نظيم” ذاك الفارس الشّجاع، المُتشبّث بأرضه، استفاد من علاقته بأهل ضيعته وحبّهم له، فشجّعهم على العمل الدّؤوب، لأنّ المُحتلّين استباحوا الأرض وحاولوا التّفريط بها بكُلّ قواهم، لذلك حثّهم على التّكاتف والتّعاون من أجل الانتصار، فهو من المُشجّعين على الدّفاع عن الوطن بكُلّ ما لديك، حتّى أنّ الأعداء قرّروا ملاحقته والتّخلّص منه لأنّه الخطر الأوّل عليهم، إلّا أنّ مُحاولاتهم باءت بالفشل أمام عزيمة وإصرار المُقاومين بقيادة “نظيم” الّذي تُوّج بإكليل غارٍ، فرسم النّصر على جباه البواسل الأتقياء في جبل عامل المُقاوم.
فالكاتب أعطى لشخصيّة “نظيم” بُعدًا إيديولوجيًّا ليُؤكّد على مصداقيّة العاملي وانتمائه إلى أرضه مهما طال الاغتراب، ومهما فعل المُحتلّ، فلا بُدّ من إعادة الأرض والأمل والتّفاؤل لأهلها، وإعادة زراعتها، فهي ذاك المكان الدّلالي الّذي يكتسب بُعدًا روحيًّا حتّى أنّنا لا وُجود لنا من دون ذاك الحُضور الباقي دومًا في الأرض، فالصّراع الّذي واجهه “نظيم” من أجل أرض الضّيعة والقُرى المُجاورة ليس إلّا دفاعًا عن الذّات بكُلّ ما تتضمنّه من أوجه الحياة ومعاني الوُجود نفسه، فهي الرّحم والانتماء، والملاذ الطّيب.
أمّا عن المرأة، فلقد أشار الكاتب إليها، وجعلها من الرّكائز الأساسيّة والمُهمّة في رواية “اليعسوب”، كونها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بشخصيّة الكاتب، فقد عبّر من خلالها عن رُؤاه وعن حركة شخصيّاته، لا سيّما وأنّها ظهرت بصورة واقعيّة، فجسّدت الواقع الجنوبي المُعاش في تلك الحقبة، تجسيدًا ثريًّا بالدّلالات والرُّموز، على الرّغم من المُعاناة الّتي حلّت بقُرى جبل عامل، إلّا أنّها ظهرت مُقاومة لها كيانها وشخصيّتها ومواقفها، وبما أنّ الكاتب “ابن بيئته” رأيناه يُفجّر إبداعه انطلاقًا من مُجتمعه وقريته الجنوبيّة المُتغلغلة بالحُزن تارة، والأمل تارة أخرى، وفي هذا كُلّه لا بُدّ أن ينبثق من العادات والتّقاليد والموروثات والقيم الأخلاقيّة، ولهذا أعطى المرأة أدوارًا مُهمّة برزت في ثنايا السّرد، إلّا أنّنا سنكتفي بشخصيّتين بارزتين وهُما على الشّكل الآتي:
سعدى: تُمثّل “سعدى” أنموذج الفتاة الخجولة والمُحافظة، فهي من عائلة مُقاومة ومُضحّية، تُساعد صبايا القرية في ملء الجرار مياهًا عذبة من العين، فهي حسناء جميلة تعشق “نظيم” ودائمة الحديث معه بشغفٍ وحُبّ، «… تُتابع سعدى حديثها مع نظيم وهي تنشل الماء وتضعه في جرّتها…»([37])، «تحمل سعدى الجرّة وهي مُرتبكة، وتقول: خلّيني روح عالبيت ما زال الجرّة عبّيت…»([38]).
وفي موضع آخر تظهر “سعدى” المُتعاونة مع صبايا جيلها ومُحبّة لهم «… تسلم ع هالكلام خجّلتني وكلّ بنات الضّيعة خير وبركة»([39]). أضف إلى ذلك ذكائها وفكرها النّيّر ومُحافظتها على الأرض وتشبّثها بعاداتها وتقاليدها، وقد برز ذلك من خلال الحكي في السّرد ومثاله: «… يُبدي نظيم إعجابه بطريقة تفكيرها وإدارتها لقضاياها، فهي برأيه برهنت أنّها “أخت الرّجال”، وأنّها فتاة يُعتمد عليها في المُهمّات الصّعبة»([40])، «… لْ عملتيه بيعجز عنه الشّباب وصدقيني ما كنت مفكّرك بس بنت حلوة ودلّوعة وما بتهتم بالشّأن العام بس طلعتي ستّ السّتات وستّ الحلوين»([41]).
يُبيّن هذا المقطع السّردي قوّة المرأة وجبروتها ومُساندتها الرّجل لأنّ في التّعاون نجاح، وبهذا مثّلت “سعدى” دور الفتاة المُناضلة الّتي تعمل بجدٍّ وضميرٍ حيٍّ، على الرّغم من معاناتها تحت وطأة الاحتلال من جهة، والحُبّ القاتل لـ”نظيم” الذّي تعلّق قلبها به، بل أصبحت مُتيّمة، وكُلّ ذلك مُكلّل بالكرم وعزّة النّفس «… فيني أخذ سندويشة من هالسندويشات يا سعدى.
سعدى: تكرم عينك يا نظيم… إذا أنت ما أكلت منهم من غيرك أولى يأكل من هالسندويشات
(…)
تترك سعدى نظيم وتُواصل توزيع الطّعام…»([42])،
وفي موضع آخر تظهر “سعدى” مُتقلّبة المزاج لأنّها لم تعرف أي شيء عن “نظيم”، فتبدو مُتخبّطة في مشاعرها وحزينة، فهي تُضحّي بكُلّ شيء من أجله، لكنّها في الوقت نفسه فهي رُكن من المجتمع المُقاوم، لا تقبل الذُّلّ ولا تستسلم للأمور بسهولة ولم تقبل الزّواج بأيّ شاب، ولأنّها تُريد “نظيم” «تجلس سعدى في باحة الدّار، وهي تُحدّث نفسها: “تأخّرت هالمرّة كثير يا نظيم، يا ترى وين أراضيك؟”، وتتقدّم أمّها منها، وتُخبرها أنّ شابًّا طلبها للزّواج، وهو عريس لقطة تتمنّاه كُلّ فتاة، وأنّه لا عيب فيه أبدًا، ولهذا لا يُمكنها رفضه، وأنّ “أمّه حكت فيها اليوم”. (…) “ونظيم شو بعمل فيه بتركه هيك بهالسهولة أي واللا إذا عرف رحت لغيرو بيخرب الضّيعة كلّها ع راسي“»([43]).
في هذا السّرد تظهر قُوّة “سعدى” وعشقها لـ”نظيم”، فهي لم تشعر بالوقت، فإذا ما عُدنا إلى السّرد في متن الرّواية لرأينا الحُضور البارز لـ”سعدى” فقد صوّرها الكاتب بصورة المرأة العاملة الّتي لا تُقهر ولا تُهزم، فهي صاحبة الضّمير الحيّ والوعد الصّادق والانتماء الحقّ، وبهذا تكون “سعدى” شخصيّة مُهمّة في الحكي عكست إيديولوجيّة تخفي وراءها خبايا وأسرار المُجتمع الجنوبي لا سيّما المرأة الّتي حضرت جسديًّا وفكريًّا وثقافيًّا، فهي الفتاة القويّة، المُثقّفة، الاجتماعيّة والخائفة والقلقة أحيانًا، لكنّ خوفها جعل منها المُتمسّكة بالأرض والمُحافظة عليها من جهة، وبالمُقاوم الّذي عشقه قلبها من جهة أخرى، حتّى تُوّج هذا الحُبّ بالزّواج في نهاية القصّة الأخيرة من الرّواية “عرس نظيم”، فكان اليوم الموعود والفرحة الّتي رصّعت قلبها بوردٍ، فظهرت أيقونة نادرة «بعدني جاي من أحسن مشوار وقرّرت حقّق حلمك وحلم والديك رحمهما الله وأقبل بأول عريس يطلبني منّك»([44])، وبهذا السّرد تُقبل أيّام السُّرور والحُبّ على القرية، ويُمسَح المُحتلّ والقهر والذُّل.
من هُنا نستطيع القول إنّه يُمكن تلمُّس المضمون السّيكولوجي لشخصيّة ما، فالوقوف أمام الحياة الدّاخليّة الّتي تعيشها «أو عن طريق تحليل مظاهر تلك الحياة»([45])، فـ”سعدى” تأرجحت شخصيّتها بين الحُبّ والهوى والاضطراب والاشتياق وما بين الدّفاع عن هويّتها والأرض الّتي ترعرعت فيها، ولهذا ظهرت شخصيّتها ثُنائّية فكانت ملامحها قبل اغتراب “نظيم” شخصيّة واثقة من نفسها وتعتزّ بوُجودها إلى شخصيّة حزينة مُضطربة بعد اغترابه، وفي كلا الحالتين ظلّت “سعدى” تشعر بكرامتها ومكانتها بين النّاس وإيمانها أنّها ستنال ما ترجوه من ربّ العالمين.
أم عاصي: هي «امرأة شابّة…، مُتوسّطة القامة، نحيفة الجسد، تبدو عليها ملامح الجمال مع ابتسامة عريضة على الوجه»([46])، تُشكّل هذه الشّخصيّة محورًا من محاور السّرد الّتي تتمحور حولها الرّواية، وهي المرأة الّتي قضت وقتها في كنف زوجها «… تأخذ جاكيت عن كرسي، وتُلبّسها لأبي عاصي، وهي تقول: الله يخلّيك بصحّتك يا زوجي العزيز»([47])، وفي الدّفاع عن الحقّ، فكان لها الدّور الفعّال في حفظ المُقاومين، وقد أدّت دورًا بارزًا على امتداد الحكي، فهي المُؤمنة والمُرشدة دائمة الدُّعاء لزوجها «… روح الله يسهّل دربك، وييسّر أمرك، وينصرك بحربك، ويبعد عنك كل مين يضرّك»([48]).
ولعلّ من أبرز سماتها قوّة الإرادة والصّدق، وهذه سمات المرأة الجنوبيّة المُقاومة، فشخصيّة “أم عاصي” تحمل فكر الرّوائي إذ تُمثّل النّسوة في جبل عامل فهي واقعيّة، تعمل وتُفكّر وتشقى وتحزن وتفرح وتتألّم في آن. وما تفعله “أم عاصي” يحمل دلالات واضحة على نفسيّتها وتركيبها العقلي والعاطفي، بالإضافة إلى ذلك الخير والكرم النّفسي والخُلُقي الّذي امتازت به، ومن الأمثلة على ذلك: «… تضع أمّ عاصي في صباح اليوم الثّاني صُحونًا فيها صعتر، وزيت، وزيتون، ولبنة، ولبن، وكبّايات، وسكّريّة على سدر، وتجلس هي وزوجها وابنتها حول سدر التّرويقة، ويتناول الجميع فطور الصّباح…»([49])، ففي هذا السّرد تُمثّل “أم عاصي” النّساء التّقليديّات المُلتزمات ببيوتهنّ، وإلى جانب ذلك المُحافظات على بناتهنّ «تمرُّ أم عاصي مع ابنتها سعدى، بالقُرب من نظيم الّذي يسمعها تقول لابنتها بصوتٍ خافت: إسّا النّاس شوب يقولو عنّك يا سعدى… ليش عم تعملي هيك»([50])، «تُنهي أم عاصي حديثها مع ابنتها، وتُتابع سعدى توزيع الطّعام على المُتواجدين في السّاحة»([51]).
“أم عاصي” الأنموذج الّذي يُمثّل المرأة الكادحة والقادرة والمُحافظة على بيتها، وهُنا نُشير إلى أنّ المرأة أخذت حيّزًا كبيرًا في السّرد، فأمثال “أم عاصي” كُثر، ونذكر منهم “أم منذر”، “أم صالح”، “زوجة المختار” والصّبايا الشّابّات وغيرهنّ الكثير اللّواتي عملن ليل نهار من أجل المُحافظة على الأرض ومنع المُحتلّ من تدنيسها، تُحاولن جاهدات المُحافظة على أبنائهنّ وأزواجهنّ، فسهرن وصبرن سنوات طوال، فأخذن على عاتقهنّ حفظ الأرض والمُقاومة.
المرأة في “اليعسوب” إذن ابتدعت أساليب لا مثيل لها لتخليص المُقاومين كي لا يُكشف أمرهم، فحقّقت ذاتها في المجالات كافّة سياسيّة كانت أم اجتماعيّة وتربويّة، وفي كُلّ ذلك من أجل الأرض فيتعاونّ مع بعضهنّ، ومثال ذلك: «تتقدّم مجموعة من الصّبايا على رؤوسهنّ طناجر فيها طعام، وتضع هيه الطّناجر وسط النّساء، فتتقدّم أمّ عزيز، وتبدأ تحضير وتنسيق الطّعام، وتتحلّق النّساء حول أمّ عزيز، وينهمكن في توزيع وجبات الطّعام…»([52])، «… تتجمّع بالقرب من الرّجال في زاوية من السّاحة مجموعة من النّساء، وتبدو أم صالح، وهي تنظر إلى الدُّخان المتصاعد من الحرائق في الطّرقات المُحيطة بالشّركة، وتقول: واللا… شبابنا ورجالنا أبطال… من وين إجتهم هالفكرة يضيقوا عالضّامنين، ويحرقوا الحطب بمداخل الشّركة ويسكّروها عليهم، فعلًا بس الضّيعة تتوحّد برجالها ونسوانها وشبابها ما بيعود حدا في ليها، والله يديم علينا نعمة الوحدة حتى نكسر شوكة أعدائنا. يمرّ نظيم من أمام والدته ونساء الضّيعة، ويقول: لولا دعاكم إلنا ما كنّا بنتوفّق وبنحقّق الانتصار على الشّركة…»([53]).
هذه هي المرأة في جبل عامل الّتي جسّدها الكاتب أفضل تجسيد في “اليعسوب” بأنّها امرأة لا تُهزم على الرّغم من كُلّ المُعاناة الّتي رافقتها، وكُلّ المتاعب والمشقّات إلّا أنّها ظلّت صامدة، فهي تُقاوم بكُل ما استطاعت إليه سبيلًا لتُحافظ على أرضها الّتي تنصب بحُبّ المُقاومين لترفع في نهاية المطاف راية العزّ للأرض الّتي أنبتت رياحين لا تنجّسهم أحقاد المُحتلّين.
المُختار: يبدو “المختار” في رواية “اليعسوب” رجلًا مُحبًّا لعمله، لقد أخذ حيّزًا كبيرًا في السّرد لا سيّما في الفصل الأوّل منها، يبحث دومًا عن راحته النّفسيّة، ومصالحه الشّخصيّة، فهو كتوم في العمل، عنيد، يُحاول قدر استطاعته أن يكسب الأراضي، فهمّه الأوّل والأخير السّعي إلى تحصيل المال وأخذ الحصّة الأكبر لصالح نفسه، فتراه بوجهين، فمن جهة هو المُختار صاحب الكلمة الفصل في القرية، ومن جهة ثانية يحاول كسب الشّركة الضّامنة ليأخذ ما يطمع به، ومثال ذلك: «… يدخل المختار إلى السّاحة ويتّجه إلى قرب أبي منذر وأبي عاصي وأبي مروان، ويبدأ بسؤال الرّجال عن أولادهم الّذين اختفوا وكيف حدث ذلك، ويسمع من الرّجال مديحًا لأنّه يهتمّ بمصير شبّان الضّيعة، ويُؤكّد المُختار أنّ كُلّ أولاد الضّيعة مثل ولادو…»([54])، «… كان المُختار يدخل إلى الشّركة [الضّامنة] مع أبي منذر وأبي عاصي، من أجل نقل مطالب الضّيعة إلى إدارة الشّركة، وبعد نقاشات وحوارات يخرج الوفد من الشّركة ويسير على طريق العودة إلى الضّيعة ليُخبر أهلها (…) يلتفت أبو عاصي ناحية المُختار ويقول: شفتك يا مُختار وقفت مع مدير الشّركة على جنب فيك تقلّنا شو صار معك بالوقفة. (…) يبدو الإرباك على المُختار…»([55]).
حافظ “المُختار” على محبّة النّاس له من خلال توزيع حصص الأراضي عليهم ولو كانت بطريقةٍ غير عادلة، فهو يُمثّل الإنسان المادّي السّاعي إلى جعل مصلحته الشّخصيّة فوق كُلّ اعتبار، «… شو يا مختار… هيئتك مع الشّركة ومش مع أهل الضّيعة. المُختار (غاضبًا): ما بدّي لومك ع حكيك لأنّك مجروح… بس بقلّك إنّو أنا بيهمّني أعرف حقيقة ل صار…»([56])، «… شو باك يا مختار عم تتسرق وتنسحب من السّاحة لوين رايح. المُختار (مرتبكًا): لا… لا… هيّاني هون مش رايح ع مطرح…»([57])، «… بصراحة ومن الآخر بنروح لعند الضّامنين وبنقلهم إنّو نحنا مش مع أهل الضّيعة وهيك بنتّفق نحنا وياهن وبنخرج حالنا من الموضوع»([58])، والنّاس على تعدّدهم قد صمّموا على استرجاع أرزاقهم رُغمًا عن كُلّ مُحتلّ، إلّا أنّنا قد لحظنا الاطمئنان الّذي بثّه “المُختار” في قلوبهم على الرّغم من التّقسيم غير العادل والجشع الّذي حصّل له أفضل أرضٍ للزّراعة «… صحيح بس أرض المُختار ما فيها أيّ عقبة لا بالفلاحة ولا بالزّراعة… عرف المُختار شو أخذ… أخذ شقفات الأرض لِ بتغلّ مليح وأعطانا أرض السّليخ بصراحة كلّ الأرض ل عم يزرعها المختار هي متل الكفّ ما فيها ولا بحصة…»([59])، وعلى الرّغم من ذلك التزموا في ما قُسّم لهم، مُحاولين التزام الصّمت حتّى لا تُنتهك الأراضي، وهذا السُّكوت يحمل غايات كُبرى وأوّلها ما زرعته المُقاومة من عزّة نفسٍ في هذا المُجتمع المُناضل الّذي يحمل جبالًا من الآهات والآلام، وعلى الرّغم من كُلّ ذلك ظلّ صامدًا ومُتشبّثًا في الأرض، وفي وجه كُلّ مُحتلٍّ ومُستغلٍّ…
وفي مواضع أخرى من السّرد بدا “المُختار” مُستغلًا مُتشبّثًا برأيه، عجيب في علاقته مع أهل القرية حتّى أنّه مُقرّب من الشّركة الضّامنة كونها تفتح محالًا لأيّ كان لتستمع إليهم، فاكتسب محبّتهم والتّعامل معهم بلُطف، وقد كان بكُلّ تصرّف غير مُكترثٍ لمن حوله، بل دائم الشّجار واللّعب على الكلام، فقد ظهر بوجهيْن مُختلفيْن «… ينظر المُختار إلى جان، ويقول: إنتو صار فيكن تغادروا الشّركة أكيد في طريق لَ تخرجوا بأمن وسلام»([60])، «يقف المختار خلف النّافذة وينظر إلى الشُّبّان، ويصرخ بأعلى صوته: يا شباب… يا شباب… هذا أنا المختار… حاجي ترمونا بالنّار وقفوا… وقفوا. ترتطم قنينة حارقة بالنّافذة الّتي يقف خلفها المُختار، فيقفز إلى الدّاخل…»([61])، «المُهمّ بالموضوع كُلّه إنّه الله قدّرنا وتمكّنّا من تحقيق استقلال الضّيعة عن الشّركة، ومن اليوم وبالرّايح ما عاد في ضامنين بالضّيعة، والحمدلله لشفت هالإنجاز للضّيعة بعدما نذرت حياتي ومالي لخدمة هالضّيعة، المُهمّ عندي إنّو أهل الضّيعة صار فيهم يديروا أرضهم بإيديهم من دون تدخّل الشّركة معهم»([62])، «… لِ صار جديد عليّ أنّو الضّامنين تركوا الضّيعة ورحلوا عنها، وهالكلام بيعني إنّو الأرض ل بدّي إزرعها صارت كثيرة… وهيك رح يتوسّع رزقي ورح يصير عندي أشغال كثيرة أكثر بكثير من الأول، ولأنّي ما فيّي عليها لوحدي بدّي استأجر عليها، ولهيك مستعجل بدّي أظهر لأقدر لاقي كم فلّاح يشتغلوا عندي قبل ما حدا غيري يستأجرهم، وناوي حلّ محلّ الضّامنين وخلّي كلّ أهل الضّيعة شغيلي بأرضي…»([63]).
إذًا، شخصيّة “المُختار” شخصيّة نامية في السّرد، حاول التّقرّب من النّاس من خلال اعتماد أساليب ترغيبيّة تجعله أكثر قُربًا من أهل الضّيعة على الرّغم من أنّ العديد منهم اكترثوا لألاعيبه الّتي جعلت منه إنسانًا مُراقبًا ومُتتبّعًا لأخبارهم بعد أن كان لا يهتم لذلك، إلّا أنّ صورته قد تزعزعت عندهم بعد تصرّفاته.
مروان: ظهر في القسم الأوّل من الرّواية، وقد خصّص له الكاتب قصّة وُسِمَتْ بـ”مروان في العاصمة”. هو شاب مُقاوم مقدام، مُثقّف، حافظ للشّعر ودائم المُساعدة، فهو يُساعد الشّباب المُقاومين بكُلّ محبّة وشجاعة «… يحتمي مروان بالسّور فيلتصق به، وفي هذا الوقت يصعد حارس من الدّاخل إلى أعلى سور الشّركة ويبدأ بالسّير عليه، ويتجمّد الشّبّان في مكانهم…»([64])، «… يبتعد الحارس عن مكان عاصي، ويتقدّم على السّور باتّجاه مروان الّذي يُشير إلى رفاقه أن الحارس يتقدّم نحوه، فينظر إليه عاصي ويُشير إلى مروان أنه يُراقبه، وأنا أخبرك متى تتحرّك…»([65])، وهو من المُشاركين في العمليّات ضدّ العدوّ المُحتلّ ولكنّه اعتُقل ولم يعرف أهل الضّيعة مكانه «… وبينما ينظر مُنذر إلى مروان يسمع صوتًا غريبًا وجسم مروان يُسحب على الأرض ومن ثمّ لم يعد يشاهده»([66])، ثُمّ تدور أحداث الرّواية ولم يُعرف مكانه.
اعتُقل “مروان”، فوضعوه في غُرفة مُظلمة وزنزانة مُرعبة، فكانوا يقدّمون له الطّعام وهو في حالة من اليأس والاشتياق للأهل «يجلس شخص في غرفة مُعتمة، ويفتح حارس كوّة في الباب، ويضع صينيّة عليها صحن وطعام وخبز، ويُغادر بعد أن يقفل الكوّة، ويبدأ مروان بتناول طعامه، وبعد أن ينتهي من تناول طعامه، يُسند ظهره إلى الحائط، ويُحدّث نفسه قائلًا:
أحسن واحد عبّر عن هالحال لأنا فيها، هو أنت أيّها الشّاعر الكبير السّيّد نظام الدّين، وخُصوصًا في قولك:
تذكّرت أيامًا كأحلام نائمٍ تمرُّ سريعًا حينما الشّخص يرقد
وقلتُ لعلّ الله يجمع شملنا ونحظى بأيّام اللّقاء ونسعد
فلا خير في عيشٍ بدون أحبّة فبالحبّ يحلو العيش والهمّ يطرد
فلستُ أطيق البعد عنهم دقائق ومالي على طول الفراق تجلّد»([67])
تميّز “مروان” بالجُرأة والثّقة بالنّفس والشّجاعة والصّبر، على الرّغم من رميه على قارعة الطّريق: «… وتنطلق السّيّارة مُسرعة في شوارع مُتنوّعة، وتقف على مفترق طرق، ويقوم من فيها بفتح باب السّيّارة، ويرمي مروان على قارعة الطّريق، فيتدحرج على الطّريق، وبعد أن يُصاب بكدمات في ساعديه ورجليه، يتمكّن من خلع العصابة عن عينيه…»([68]).
عانى “مروان” ويلات الأسر والذُّلّ، لكنّه ظلّ مُتمسّكًا بأرضه وبيئته وفاقه، عمل عتّالًا لأنّ الأشرار رموه في مكانٍ مُبهمٍ، فاتّخذ الشّجرة مكانًا آمنًا له «… ينظر يمينًا وشمالًا ولا يدري أين يذهب، ويجد أمامه شجرة وارفة الظّلّ على رصيف زاروب متفرّع من شارع كبير، فيجلس في ظلّها، ولا يدري ماذا يفعل، فهو في منطقة لا يعرفها…»([69]). ولكنّه على الرّغم من كُلّ ذلك تحلّى بالصّبر ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾([70])، فهو مُحبّ ويخدم الآخرين من دون تعبٍ أو كلل، وهذا ما جعله محبوبًا عند النّاس، ولهذا الصّبر لا بُدّ من فرج قريب ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾([71]).
كما استطاع “مروان” الدّفاع عن المظلوم، وهذه سمة بارزة في شخصيّته لا سيّما وأنّه استطاع الدّفاع عن الرّجل بكُلّ قُوّة وذكاء، «… وبينما هو عائد في أحد الأيّام من تسليم بضاعة لزبون، وإذا به يرى أربعة شُبّان يهجمون على رجل، ويرمونه أرضًا، ويخطفون منه حقيبة، ويفرّون بها، ويلحق بهم مروان، وهو يقول:
– مش حرام عليكم… وقفوا ورجعوا لي سرقتوا لصاحبه.
يصل مروان إلى الشّبان، وينظر إليه أحدهم، ويبتسم وهو يقول:
– روح لحالك قبل ما تاكل قتلي مرتّبة.
يردّ مروان: أعطوني الشّنطة وبخلّيكم تروحوا وما بحكي معكم شي.
يتقدّم أحدهم ليردعه، ولكنّ مروان يضرب الأوّل والثّاني، ويرمي الشّابّين الباقيين، ويتغلّب عليهم جميعًا، ويأخذ الحقيبة، ويعود بها إلى الرّجل المرمي على الأرض…»([72]).
هذا السّرد يُبيّن قوى “مروان” وحكمته وشخصيّته المُحبّة للآخرين، وقد استطاع أن يمنع العدوّ من الاعتداء على الآخر بأسلوب حكيم، فلم يفرض كلامه على أحد حتّى على العدوّ، فهو قويّ الشّخصيّة، اجتماعيّ، تعرّف على “رشيد” التّاجر الماهر، فامتاز بالاحترام والتّواضع، وهذا ما استمدّه من بيئته وقريته وأرضه الّتي علّمته الصُّمود والحُبّ والكفاح والإرادة الصّلبة، وقد كان مُساعدًا ماهرًا لرشيد في التّجارة وبرع في ذلك إلى جانب المُحافظة على الرّزق واتّباع أنظمة العمل بحرفيّة مُتقنة «… يقف رشيد خلف المكتب يقبض من الزّبائن، ومروان يقوم بتجهيز البضاعة الّتي يطلبها الزّبون ويسلّمه إليها، ويستمرّ مروان في حراكٍ دائم بين الزّبائن الّذين يدخلون ويخرجون من المحلّ بشكلٍ مستمرّ، وينهمك مروان يوميًا في تلبية طلبات الزّبائن، وفي أحد الأيّام تتقدّم زبونة داخل المحلّ، ويوقفها مروان بقوله: “لهون وبس ممنوع بعد تقدّمي لقدّام”. (…) فينتبه رشيد، وينظر إلى مروان ويقول: كلّ الزّبائن ممنوع تدخل لهون إلّا هالزّبونة لأنّها بنتي نجيّة…»([73]).
وعلى الصّعيد النّفسي والأخلاقي كان “مروان” واثقًا من نفسه يرسم خارطة طريقه بيده المجبولة نظافة وإيمانًا، ولم يعترض أي نصيحة أو إرشاد من “رشيد” ولهذا أعطاه بيتًا: «… شو رأيك تأخذ هالمحلّ لّي جنبنا، وتفتحوا لحسابك أنت لوحدك، وكمان في شقّة فوق المحلّ بدّي ياك تشتريها وتسكن فيها…»([74]).
أحبّ “نجيّة” ابنة “رشيد” وتزوّجها فانقلبت أحواله المادّيّة رأسًا على عقب، فكان أوّل محطّة له زيارة قريته سرًّا ومُساندة أهله ودعمهم بشراء الأرض، فهو مُحبّ لوالديه ولعمله وللأرض الّتي ترعرع بها «… أصبح من أصحاب الأموال، ويطلب من والده أن يشتري الأرض الّتي يريدها، ويطلب منه التّوقّف عن العمل، وأنّ كُلّ مطالبه تصله إلى بيته»([75])، ولكنّ الكاتب جعله جُنديًّا مجهولًا يُساعد في حفظ الكرامة والأرض من دون رقيب أو حسيب.
“مروان” شخصيّة ظهرت في السّرد بشكلٍ جليّ، سعى إلى تطوير نفسه بنفسه، وعلى الرّغم من تحسّن أوضاعه المادّيّة جيّدًا، إلّا أنّه ظلّ مُتمسّكًا بأرضه وبيئته، فالصّمت والأسر جعلا منه رجلًا ومُفكّرًا يرسم خارطة طريقه بهدوءٍ تامّ من دون تأفّف أو تذمّر.
- تنوّعت شخصيّات الرّواية وتراوحت أعمارهم ما بين الطُّفولة والشّباب والشّيوخ.
- أعطى الكاتب معلومات مُكثّفة حول هويّة كُلّ شخصيّة من خلال الوصف والسّرد وتناسقهما، وقد كشف ذلك من خلفيّات الشّخصيّات والقيم الّتي امتازت بها، وهذا ما جعل المُتلقّي قادرًا على استيعاب وفهم الهويّة بأشكالها كافّة (الاجتماعيّة، النّفسيّة والأخلاقيّة…).
- لقد اختار “إبراهيم فضل الله” شخصيّات روايته بعناية ودقّة، فجاءت مُكمّلة لبعضها البعض ومُتعاونة على المُحتلّ الّذي يُحاول تدنيس الأرض والهويّة، وهذا ما يوضح لنا براعة الأديب في رسم شخصيّاته في عالمه الرّوائي.
- لقد جسّدت شخصيّات “اليعسوب والعطر الفوّاح” مُعاناة النّاس في جبل عامل المُقاوم الّذين حاولوا بكُلّ قدراتهم استرجاع الأرض، وهذا ما يدلّ على الحُبّ للوطن والانفتاح من خلال معرفة قيمة الأرض وعدم التّهاون بها والتّمسُّك بالموروثات والقيم والعادات والتّقاليد، وفي ذلك كُلّه نجح الأديب في التّأثير في نفس القارئ فجعله مُتمسّكًا بكُلّ حبّة تُراب في جبل عامل الأبيّ.
- تهدف هذه الدّراسة إلى إظهار الشّخصيّات في رواية “اليعسوب والعطر الفوّاح” والّتي هي نتاج البيئة، مكانًا وزمانًا وثقافةً، كما أنّها مجموع التّفاعل للواقع المُعاش في جبل عامل، وقد تضمّنت هذه الشّخصيّات قيمًا اجتماعيّة وتربويّة جعل منها الرّوائي مدماكًا أساسيًّا لحفظ الأرض، والنّضال من أجلها، فأغنت العُقول فكرًا وأدبًا ومنطقًا.
- تناول الرّوائي “إبراهيم فضل الله” قضيّة المُجتمع الجنوبي، فجسّدها بشخصيّات الرّواية الّتي واجهت التّحدّيات الدّاخليّة والخارجيّة، فتنامى الوعي الإنساني، وأدركت الشّخصيّات ما يُحيط بها من الظُّروف، فجاءت ثائرةً ومُتمرّدة تُناضل من أجل الأرض والوطن والحُرّيّة، وقد اتّخذ الأديب من شخصيّاته أفرادًا مُقاومين وفاعلين على الصُّعد كافّة اجتماعيّة كانت أم سياسيّة…
- يرسم “إبراهيم فضل الله” وعيه الاجتماعي والسّياسي والتّاريخي تجاه قضايا الاحتلال على لسان الشّخصيّات الّذين رسموا طريقًا لعواطفهم الإنسانيّة للنُّهوض بالمُقاومة واستعادة الأرض إلى أهلها، وهذا ينبع من عقيدة الأديب الوطنيّة والقوميّة، فرأينا الشّخصيّات من النّساء والرّجال والشّيوخ، وجميعهم ضدّ العدوان الصُّهيوني والاحتلال مهما كان نوعه.
- تجسّدت شخصيّات الرّواية بالموروث والولاء لقرى الجنوب، فالشّخصيّات النّسويّة مثلًا وُسِمَتْ بالنُّصح والإرشاد والكفاح، فهي الأصل من الفرع، والشّخصيّات الذّكوريّة كالمُقاومين وعلى رأسهم “نظيم” البطل الحقيقي الّذي وفّق ما بين القلب والعقل معًا، مُعتمدًا القُوّة الفكريّة غذاء للقُوّة الجسديّة، وفي كُلّ ذلك كان الحقُّ هو الكلمة الفصل إن كان من ناحية حضوره القويّ أو غيابه الّذي تمثّل بالصّمت والسُّكوت وقت اللُّزوم، وفي ذلك كُلّه برز فضل القيم والتّواصل الاجتماعي الّذي كوّن الشّخصيّة بطريقة فريدة من نوعها، أضف إلى ذلك التّرابط الأسري الّذي تمثّل بالحوار والمشورة والرأي للوصول إلى غاياتهم وطموحاتهم.
- تجلّت قيمة الأرض في الرّواية من خلال الشّخصيّات الّذين قدّموا اهتمامًا لا مثيل له للأرض الغارقة بدماء الشُّهداء، والباعثة حُبًّا، وقد تجسّد هذا الأخير بصورة المرأة المُقاومة حينًا، وصورة المُقاومين البواسل أحايين كثيرة، فجاءت مضامينها إيحائيّة وتربويّة.
- اتّصال الواقع بالماضي المجيد من خلال مُحافظة قُرى جبل عامل على تلاحمهم، وعقائدهم وتقاليدهم ومُحاولتهم زجر كُلّ مُحتلّ يحتجز أرضهم، وكُلّ عميل مُخادع وقد تمثّلوا بالشّخصيّات المُناوئة.
- اعتمد الرّوائي على الشّخصيّات، فكانت إحدى وسائل الحياة في الدّفاع عن النّفس من أجل الأرض؛ ففي صفحات الرّواية كافّة إلّا ويكون الكلام عن الصُّمود والتّحدّي والأرض، وقد جعل الكاتب الشّخصيّات حريصة الحرص كُلّه على التّشبُّث بالأرض ورسم صورة المُحتلّ الظّالم والمُحافظة على التُّراث والمُظاهرات والسُّخرية من الخونة، وفي كُلّ ذلك اعتمد لُغة انسيابيّة خالية من التّعقيد، غنيّة بالفكر القومي والعادات والتّقاليد، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلُّ على حُبّ الكاتب لأرضه وبيئته ووطنه.
- لقد نجح “إبراهيم فضل الله” في خلق شخصيّات خياليّة، إلّا أنّها تُمثّل كُلّ شريف وحُرّ، يُمثّل الواقع الجنوبي، ومجتمعه بالتّحديد، وقد أتقن توزيع الأدوار حتّى أنّنا كقُرّاء نخال أنفسنا جزءًا لا يتجزّأ من الشّخصيّات وحركة السّرد، وهذا ما يُعطي انطباعًا إيجابيًّا على أنّ أهل جبل عامل هم جسد واحد، قائم على مبدأ التّعاون والأخوّة، وكُلّ ذلك في الأرض وعدم التّخلّي عن ذرّة تُرابٍ فيها.
- من اللافت في هذه الرّواية اعتماد الشّخصيّات على العزيمة والحزم والقُوّة، وعدم التّهاون بالقضيّة الأساس – «حفظ الأرض والتُّراث» -؛ وهذا ما ساعد البطل – “نظيم” – بحكمته وتعاونه على اجتياز العقبات، وتحقيق الأهداف بجدارة وفطنة وصولًا إلى عُرس الانتصار.
- “إبراهيم فضل الله”، روائي بارع في يراعه وفكره وأخيلته، استطاع أن يُعبّر عمّا يجول في مكنوناته بأسلوبٍ راقٍ ورشيقٍ، فصوّر صرخة الشّخصيّات الّتي تُمثّل واقع الجنوب، فتكلّم الحجر قبل البشر حُبًّا وعشقًا للأرض والوطن، فجعل من شخصيّاته أوسمة مُقاومة، وبواسل شجعان يعشقون الحُرّيّة ويزجرون كُلّ من يعتدي على موروثاتهم وحريّتهم، مُحاولين بكُلّ قواهم الجهاد ليصلوا إلى نصرٍ نفخر به، ونرفع راياته في كُلّ ساحٍ، في ذلك اعتمد لُغة عميقة الفكر وسهلة المُتناول، بحسبان أنّ اللُّغة هي «البنية الوسطيّة الّتي تقع بين النّصّ والمُجتمع»([76]).
ولكن يبقى السُّؤال: إلى أي متى سيظلّ البعض راسخًا تحت ظُلمة الجهل؟ ووطأة الاحتلال؟ وهل سيبقى القلم الحُرّ منبرًا وعبرةً لمن لا يعتبر؟ وهل فعلًا سيلتزم الجيل القادم بالقضايا الإنسانيّة والوطنيّة، وسيُحافظ على الأرض والموروث في ظلّ ثورةٍ تكنولوجيّةٍ وعولمةٍ مجهولةَ المصيرِ؟؟
- الهوامش:
أ- المصادر:
- القرآن الكريم
- فضل الله، إبراهيم. (2022). اليعسوب والعطر الفوّاح (ط1). بيروت: دار البيان العربي.
ب- المراجع العربية:
- ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله. (1996). شرح نهج البلاغة (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ج1) (ط2). بيروت: دار الجيل.
- أيّوب، نبيل. (1997). الطّرائق إلى نصّ القارئ المختلف (ط1). بيروت: دار المكتبة الأهليّة.
- بحراوي، حسن. (1991). بُنية الشّكل الرّوائي: الفضاء – الزمن – الشخصية (ط1). بيروت: المركز الثّقافي العربي.
- التّواتي، مصطفى. (2008). دراسة في روايات نجيب محفوظ الذّهبيّة: اللّص والكلاب، الطّريق، الشّحّاذ (ط3). بيروت: دار الفارابي.
- فتّاح، علي عبد الرّحمن. (2012). تقنيّات بناء الشّخصيّة في رواية “ثرثرة فوق النّيل”. مجلّة كليّة الآداب (العدد 102). بغداد: كُليّة الآداب.
- الفيروز آبادي، مجد الدّين محمد بن يعقوب. (2008). القاموس المحيط (د.ط). القاهرة: دار الحديث.
- قطّوس، بسّام. (2001). سيمياء العنوان (ط1). عمّان: وزارة الثّقافة.
- مرتاض، عبد الملك. (1998، كانون الأول). في نظريّة الرواية، بحث في تقنيّات السّرد. عالم المعرفة (العدد 240). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
ج- المراجع المُعربة:
- غاتشف، غيورغي (Gachev, Georgii). (1990، شباط). الوعي والفن، (نوفل نيوف، مُترجم). عالم المعرفة (العدد 146). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
- غولدمان، لوسيان (Goldmann, Lucien). (1981). المنهجيّة في علم الاجتماع الأدبي، (مصطفى المسناوي، مُترجم) (ط1). بيروت: دار الحداثة.
(*) أستاذة جامعيّة في اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة العلوم والآداب اللّبنانية USAL، مدرّبة لأساتذة الكفاءة في كليّة التّربية في الجامعة اللّبنانيّة.
Professor of Arabic Language and Literature, University of Sciences and Arts (USAL), Beirut, Lebanon.
Email: f.youssef@usal.edu.lb, fatimaar85@gmail.com
[1]– غاتشف، غيورغي (Gachev, Georgii). (1990، شباط). الوعي والفن، (نوفل نيوف، مُترجم). عالم المعرفة (العدد 146). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ص 11.
[2]– غولدمان، لوسيان (Goldmann, Lucien). (1981). المنهجيّة في علم الاجتماع الأدبي، (مصطفى المسناوي، مُترجم) (ط1). بيروت: دار الحداثة. ص 14.
[3]– فضل الله، إبراهيم. (2022). اليعسوب والعطر الفوّاح (ط1). بيروت: دار البيان العربي. ص 10-11.
[4]– الفيروز آبادي، مجد الدّين محمد بن يعقوب. (2008). القاموس المحيط (مادّة رمز، د.ط). القاهرة: دار الحديث. ص 669.
[5]– قطّوس، بسّام. (2001). سيمياء العنوان (ط1). عمّان: وزارة الثّقافة. ص 12.
[6]– ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله. (1996). شرح نهج البلاغة (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ج1) (ط2). بيروت: دار الجيل. ص 12.
[7]– فتّاح، علي عبد الرّحمن. (2012). تقنيّات بناء الشّخصيّة في رواية “ثرثرة فوق النّيل”. مجلّة كليّة الآداب (العدد 102). بغداد: كُليّة الآداب. ص 47.
[8]– مرتاض، عبد الملك. (1998، كانون الأول). في نظريّة الرواية، بحث في تقنيّات السّرد. عالم المعرفة (العدد 240). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ص 76.
[9]– (م.ن)، ص 79.
[10]– شكري، غالي. المنتمي. في: التّواتي، مصطفى. (2008). دراسة في روايات نجيب محفوظ الذّهبيّة: اللّص والكلاب، الطّريق، الشّحّاذ (ط.3). بيروت: دار الفارابي. ص 41.
[11]– بوتور، ميشال (Butor, Michel). بحوث في الرّواية الجديدة. في: التّواتي، مصطفى. دراسة في روايات نجيب محفوظ الذّهبيّة، (م.ن). ص 41.
[12]– فضل الله، إبراهيم. اليعسوب والعطر الفوّاح، (م.س)، ص 9.
[13]– (م.ن)، ص 8.
[14]– (م.ن)، ص 31.
[15] -(م.ن)، ص 83.
[16]– (م.ن)، ص 77.
[17]– (م.ن)، ص 46.
[18]– (م.ن)، ص 71.
[19]– (م.ن)، ص 79.
[20]– (م.ن)، ص 9.
[21]– (م.ن)، ص 9.
[22]– (م.ن)، ص 10.
[23]– (م.ن)، ص 14.
[24]– (م.ن)، ص 14.
[25]– (م.ن)، ص 10.
[26]– (م.ن)، ص 19-20.
[27]– (م.ن)، ص 65.
[28] – (م.ن)، ص 66.
[29]– (م.ن)، ص 68.
[30]– (م.ن)، ص 93.
[31]– (م.ن)، ص 115-116.
[32]– (م.ن)، ص 26-28.
[33]– (م.ن)، ص 38.
[34]– (م.ن)، ص 228.
[35]– (م.ن)، ص 210-211.
[36]– (م.ن)، ص 65-66.
[37]– (م.ن)، ص 11.
[38]– (م.ن)، ص 12.
[39]– (م.ن)، ص 41.
[40]– (م.ن)، ص 40.
[41]– (م.ن)، ص 41.
[42]– (م.ن)، ص 42-43.
[43]– (م.ن)، ص 196.
[44]– (م.ن)، ص 232.
[45]– بحراوي، حسن. (1991). بُنية الشّكل الرّوائي: الفضاء – الزمن – الشخصية (ط1). بيروت: المركز الثّقافي العربي. ص 212.
[46]– فضل الله، إبراهيم. اليعسوب والعطر الفوّاح، (م.س)، ص 7.
[47]– (م.ن)، ص 7.
[48]– (م.ن)، ص 7.
[49]– (م.ن)، ص 22.
[50]– (م.ن)، ص 43.
[51]) (م.ن)، ص 44.
[52]– (م.ن)، ص 41.
[53]– (م.ن)، ص 40.
[54]– (م.ن)، ص 28.
[55]– (م.ن)، ص 33.
[56]– (م.ن)، ص 51.
[57]– (م.ن)، ص 54.
[58]– (م.ن)، ص 54.
[59]– (م.ن)،)، ص 81.
[60] – (م.ن)، ص 59.
[61]– (م.ن)، ص 59.
[62]– (م.ن)، ص 62.
[63]– (م.ن)، ص 74.
[64]– (م.ن)، ص 17.
[65]– (م.ن)، ص 18.
[66]– (م.ن)، ص 19.
[67]– (م.ن)، ص 161.
[68]– (م.ن)، ص 162.
[69]– (م.ن)، ص 162.
[70]– القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 153.
[71]– (م.ن)، سورة الشرح، الآية 6.
[72]– فضل الله، إبراهيم. اليعسوب والعطر الفوّاح، (م.س)، ص 163.
[73]– (م.ن)، ص 165.
[74]– (م.ن)، ص 166.
[75]– (م.ن)، ص 168.
[76]– أيّوب، نبيل. (1997). الطّرائق إلى نصّ القارئ المختلف (ط1). بيروت: دار المكتبة الأهليّة. ص 18.