فنارات وابتكار الحدث الثقافي المعرفي
فنارات وابتكار الحدث الثقافي المعرفي
Lighthouses and innovation of the cognitive cultural event
Dr. Muhammad Yassin Sobeih د. محمد ياسين صبيح[1]
ملخّص
تسلط الدراسة الضوء على كتاب فنارات الجزء الرابع للناقد والأديب د. صباح محسن كاظم، والذي يعدُّ على درجة كبيرة من الأهميّة، لأنه يتضمن عدة مستويات أدبيّة وفلسفيّة وسيكولوجيّة وسوسيولجيّة وتاريخيّة وثقافيّة ونقديّة، من خلال تسليطه الضوء على أكثر ما جاء في الكتاب أهمّيّة في هذه المجالات، أو من خلال تقديمه لأهم القراءات في هذه المجالات، أو في المجالات الأدبيّة الأخرى (الروائيّة والشّعريّة والقصصيّة)، قدّم الكاتب في الكتاب قيمة معرفيّة ونقديّة مهمة من ناحية التوثيق، والأسلوب الدّراسي المعتمد ومن خلال التّنوع الثّقافي المتعدد الأوجه، ونجد أنّنا نحتاج إلى مثل هذه الدّراسات المتنوعة في كتاب واحد لإغناء مداركنا المعرفيّة، والثقافيّة على مستوى المتلقي العادي والمتخصص، لذلك نعدُّ أنّ كتاب فنارات، يقدم أفكارًا عميقة ومهمة في التّخصصات التي تطرق لها، ويعدُّ وفاء للكثير من الكتاب الذين ذكر أفكارهم المهمّة في إبداعاتهم في الكتاب.
الكلمات المفتاحيّة: فنارات- فلسفة- تاريخ- سيكولوجيا- أدب
Abstract:
The study sheds light on the book “Fanarat, Part Four” by researcher and writer Sabah Mohsen Kazem. This work is of significant importance due to its incorporation of multiple literary, philosophical, psychological, sociological, historical, cultural, and critical levels. Kazem achieves this by highlighting prominent writers in these fields, presenting key readings, and offering valuable insights into various literary genres, including novels, poetry, and short stories. The author provides a rich and critical body of knowledge in terms of documentation and the academic approach employed, as well as through the diverse cultural perspectives explored. This type of multifaceted study in a single volume enriches our cognitive and cultural understanding, catering to both the general reader and specialists. Therefore, “Fanarat” is considered a thought-provoking book that delves into profound ideas across various disciplines, paying homage to numerous writers by showcasing their significant contributions and creative insights.
Keywords: Lighthouses, Philosophy, History, Psychology, Literature.
مقدمة
عرفت الناقد والباحث الدكتور صباح محسن كاظم منذ مدّة طويلة، وأعرف ما يقوم به من إسهامات فريدة ومميزة في النقد الأدبي ولمختلف صنوف الأدب، فهو مثابر وجدي ولا يتوانى عن البحث عن الجديد من الانتاجات الأدبيّة ليضيء عليها ويظهرها، وهذا عمل كبير يستحق عليه الثّناء والتقدير، ولذلك عندما عثرت على منجزه الموسوعي المهم، رأيت أنّه من الانصاف التّحدث عنه.
إنّ الثقافةَ عالم واسع من المداركِ والمعارف والرؤى، وهي خبزُ الحياةِ، تُعطي الإنسان القدرة على السِّمو والحكمة والبيان والرأي، ولذلك نعدُّ كتاب الناقد والمؤرخ صباح محسن كاظم /فنارات الجزء الرابع/ وما سبقه، لبِنة ثقافيّة مهمة تعزز مكانة الإبداع بكل مجالاته التّاريخيّة والفلسفيّة والأدبيّة، ونرى أن الجهد المبذول بالكتاب موزع على عدة مستويات: (مستوى تاريخي، ومستوى معرفي وفلسفي، ومستوى ثقافي، ومستوى نقدي)، وهذه المستويات تتكامل لتقدم وجبة معرفيّة ثقافيّة مهمة، توسع الكثير من مدارك المتلقي في هذه المستويات الإبداعيّة.
المستوى التّاريخي
لقد اهتم الباحث والناقد صباح محسن بالتوثيق والتّاريخ، فالمستوى التّاريخي يحقق قيمة مضافة لفهم الماضي بحيثياته الحضاريّة والمعرفيّة، ويعزز فهمنا للكثير من القضايا، ويقدم رؤية تاريخيّة واسعة، وبصيرة في تقدير الأماكن ودورها الحضاري، فلقد بحث في دور حضارات بلاد الرافدين ومصر وسوريا، وقدم مساهمات بعض الكتاب في هذا المجال أيضًا، ونعدُّ ذلك نقلة مهمة للإضاءة على الكثير من التّاريخيين والباحثين الذي يشتغلون في هذا المجال، أمثال (الدكتور حسين عبد البصير وعقيل ناصر وأمير دوشي والدكتورة ولاء محمد وغيرهم الكثير)، فهو بذلك يكرم هؤلاء الباحثين كما يستحقون، وفي الوقت نفسه نعدُّ هذه الإضاءة عمل إبداعي في إخراج هذه المعلومات مع أصحابها ودفعها إلى المتلقي بنباهة وطريقة مميزة، وكذلك لأنّه يحفر في صفحات منجزاتهم، وفي القيمة الحضاريّة لهذه الحضارات، ليظهر الدّور الذي قدمته في تراكم المعرفة والعلوم في العالم، وهذا وفاء وتقدير من الكاتب يحسب له.
المستوى المعرفي والفلسفي والنّفسي
قدم الباحث صباح في هذا المستوى دراسات مهمّة وقيمّة، تحدثت عن الفلسفة ومفاهيمها وعلاقتها بالتّكنولوجيا، وهو موضوع جديد ومهم، كما تحدث عن الفكر الفلسفي الحداثوي من خلال منجزات الدكتور جبار صبري وقيمته الفكرية، إذ نرى هنا أنّ الكاتب يروج للفكر المتعدد المشارب والثقافات، وهذه رؤية إبداعيّة مختلفة تساهم في إغناء الرّوح الإبداعيّة، وعرّج أيضًا على فلسفة برتراند رسل وحضور الفكر التّربوي الأفلاطوني فيها، وقدم وجبة معرفية تربويّة مهمّة.
وفي المستوى المعرفي يقدم فائدة أبستمولوجيّة متعددة الاتجاهات والمشارب، وكما ذكرنا فهو يقدم معرفة منطقيّة من خلال الفلسفة ودورها الحضاري والفكري، ويقدّم معرفة أدبيّة شعريّة من خلال قراءاته النّقديّة للعديد من أعمال الشّعراء أمثال (عقيل علي وخديجة شهاب في كتابها زهرة الحرّ شاعرة جبل عامل من لبنان وعبير العطار ومليكة العاصي وغيرهم الكثير)، وكذلك معرفة سوسيولوجيّة من خلال تطرقه إلى أعمال الكثير ممن اشتغلوا في السوسيولوجيا والمعرفة النّفسيّة، أمثال (د محمد حسين الرّفاعي والدّكتور عبد الكريم عطا كريم وغيرهم)، كما أنّه تطرق إلى العلاقة بين الأبستمولوجيا والسوسيولوجيا، والتي تعطي أبعادًا فكريّة مهمة للتكوين النّفسي والفلسفي والمعرفي للإنسان، ومن ثم يطرح مسألة مهمة جدًا، وهي أنّه لا يمكن التّطور العقلي والحضاري والمعرفي والفكري الثقافي من دون أن نطرح أسئلة نقديّة جديّة، فهي توسع المدارك الثقافيّة والمعرفيّة للفرد.
ووضح وعمّق لدى المتلقي المفاهيم النّفسيّة ودور علم النّفس في الحياة، من خلال تطرقه إلى دوره في الإبداع بشكل عام، وتحدث عن هذا العلم بتفاصيل يحتاج إليها كل دارس ومهتم في شؤون الإبداع وعلم النّفس، وهنا تحدث عن بعض المشتغلين في هذا المجال أمثال (الدكتور عبد الكريم عطا كريم ود. أنعام قاسم ود. عبد الباري مليح وغيرهم..)
المستوى الثقافي
في المستوى الثقافي يقدم لنا الكاتب سياقات ثقافيّة وأدبيّة، غنيّة بمحتواها التّعالقي مع الكثير من القضايا المجتمعيّة والتراثيّة والثقافيّة المختلفة، وهنا يقوم باستنتاجاته النقديّة للكثير من الأعمال الأدبيّة، ويظهر سياقات هذه الأعمال وخلفيّة شخصياتها ومداليلها الثقافيّة، وهذا عمل كبير يحتاج إلى رؤية متعمّقة في أنظمة التقطيعات النقديّة المرتبطة بمصادر الثقافة الإنسانيّة والحضاريّة، وكذلك من خلال علاقة الأدب بالتّاريخ والواقع، وبحقوق الإنسان، كما يتطرق إلى بعض المشتغلين بالنّقد الثّقافي العربي، ومنهم مثلًا (د. جمال العتابي والذي درس العديد من الأعمال الأدبيّة منظور الرؤية النّقديّة الثقافيّة)، وكما بين لنا الكاتب صباح في سعيه النّقدي الكثير من الخلفيات والأنساق الثقافيّة في بعض الأعمال الأدبيّة مثل مقالته /رواية التأريخ والأنساق الثقافيّة/ والتي بين فيها تعدد وأهميّة وخلفيّة هذه الأنساق الثقافيّة في رواية /شبح نصفي / للكاتب محمد خضير سلطان، والتي ركزت على الواقع التاريخي وعلاقته الثقافية بالواقع وبالمفاهيم..
المستوى النقدي
قدم الكاتب صباح محسن في هذا المستوى مجموعة مهمّة من القراءات والدّراسات النّقديّة في الشّعر والقصّة والرواية، وأظهر براعة في التّصدي لكل منجز إبداعي بطريقة مختلفة وبأساليب نقديّة تناسب كل جنس إبداعي وكل كاتب أيضًا، فليس من المنصف أن نعامل المنجز الإبداعي للكتاب بالطريقة وبالأسلوب نفسهما، لأنّ الكاتب يستخدم طريقته في الصّياغة والرّمز والسّرد أو في نظم الشّعر، وهذا يتطلب أن يواكب الناقد هذه الطرق والأساليب بحيث يستنبط من الابداعات الكثير من النتائج التّحليليّة، وأهمّها القيمة الفنيّة والدّلاليّة، مع استخدام المناهج النّقديّة المناسبة. لقد بدأ بالشعر وقراءة مميزة في تجربة عبد الأمير خليل مراد، فيبيّن كيف تكتظ نصوصه بالتّحولات والانثيالات الروحيّة والصوفيّة، إذ تنساب المفردات بعمق وبحدة سكين يذبح عصفورًا، كذلك في تجربة الشّاعرة المغربيّة مليكة العاصمي، وعبير العطار وغيرهم الكثير.
وأتحفنا أيضًا في النّقد السّردي بمجموعة من القراءات والدّراسات التي أظهرت مفاتن هذه المجموعات وأغوارها العميقة، مبيّنًا فهمًا واسعًا لكل الحالات السيميائيّة والبنيويّة وغيرها من التّقنيات التي يمكن أن يستخدمها النّاقد لسبر أغوار النّصوص، فالرّواية عنده هي عالم مكتمل، يستطيع أن ينقي منها كلّ فكرة وتقنيّة روائيّة بالإضاءة على المقاصد الخفيّة، فمثلًا بين لنا موقف حقوق الإنسان في روايات عبد الرّحمن منيف، وكيف يتداخل الزّمن التّاريخي بالجمالي في الرّواية، وعرج على الوعي والإبداع وعلاقته بالذّات، وهذا موضوع لافت ومهم. وفي خضم هذا الكمِّ الكبير من الحقول المعرفيّة لم ينس أبدًا السينما والمسرح، بل أعطاها بعض الاهتمام من خلال البحث في الصورة السينمائيّة وسيمائيتها، فالسينما تشكل حالة فنيّة وفكريّة فريدة تجمع بين الصّورة والفكرة والصّوت والمكان والزّمان، وخلط هذه العناصر في العمل السّينمائي يحتاج إلى براعة وخبرة وثقافة كبيرة، فما بالنا بالنّقد السّينمائي الذي تصدى له كاتبنا هنا.
وما يكمل السينما هو المسرح بالتأكيد والذي يعدُّ العصب الفني التّمثيلي، لأنّه يعطي القيمة الإبداعيّة بشكل حيّ ومباشر، ومن هنا كان للمسرح مساحة مهمّة في فنارات الجزء الرابع، وقدم صباح محسن مجموعة مقالات مهمة عنه. ولا ننسى كيف عرفنا بالكثير من النقاد وببعض أعمالهم أمثال (د. خالد عبد الغني والدكتور هادي البطحاوي ود. جابر عصفور وغيرهم).
خاتمة
حتاج لتعزيز ثقافة القارئ هذه المواضيع التي تعرض لها الكتاب وإلى تقديم معلومات واسعة فيها، فالفلسفة قيم فكريّة وعقليّة نحتاجها في عبورنا نحو الحداثة الفكريّة، مع إغناء معارفنا في علم النّفس والاجتماع، ولا ننسى تقديم أعمال أدبية مميزة (روائيّة وقصصيّة وشعريّة)، لأنّها تقدم تجارب حياتيّة وجماليّة وتخيليّة مهمة.
نستطيع القول إنّ الكاتب قدم تجربة فريدة ومميزة، في شموليّة المواضيع وتعددها، وهذا يعدُّ حالة ثقافيّة ضروريّة، لزيادة الجرعة الثقافيّة والفكريّة، والفنيّة التي يحتاجها المتلقي لسد الحاجة إلى مناقشة هذه المواضيع بكل جدية وتعمّق، فالكتاب بالإضافة إلى الأجزاء الأخرى الثلاثة التي سبقته، يشكل مرجعًا مهمًا للعديد من القضايا النقديّة والثقافيّة والتّاريخيّة، ويستحق القراءة بجدارة.
[1] – كاتب وناقد من سوريا.
