عنوان البحث: إشكاليّة صنع القرار الخارجيّ اللبنانيّ بعد العام 2005
اسم الكاتب: د. مجيد مطر
تاريخ النشر: 20/12/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 34
تحميل البحث بصيغة PDFإشكاليّة صنع القرار الخارجيّ اللبنانيّ بعد العام 2005
The problem of Lebanese foreign decision-making after 2005
د. مجيد مطر([1])Dr. Majid Matar
تاريخ الإرسال: 16-10-2024 تاريخ القَبول: 28-10-2024
الملخص
حاول هذا البحث استجلاء واقع الانقسام السياسي اللبناني وتأثيره في عملية صنع القرار الخارجي اللبناني، مقارناً بين حقبتين، حقبة الوجود السّوري الذي أدار الحياة السياسيّة والدّستوريّة وفاقًا لقاعدة “تلازم المسارين” وقد انتظمت عمليّة صنع القرار وإجراء الاستحقاقات الدّستوريّة في مواعيدها، هذا بخلاف حقبة ما بعد الانسحاب السّوري من لبنان في العام 2005 التي أصبح فيها التعطيل، وعدم الاتفاق على المصلحة الوطنيّة بين اللبنانيين المبدأ، وليس الاستثناء في ظل فقدان الثقة بين المكونات السياسيّة والطائفيّة انطلاقًا من تناغم كل فريق مع التدخل الخارجيّ إقليميًّا كان أم دوليًّا.
الكلمات المفتاحيّة: لبنان، التّعدّديّة السياسيّة، السياسة الخارجيّة، النظام السياسيّ، الهُويّة الوطنيّة.
Abstract
This research attempted to clarify the reality of the Lebanese political division and its impact on the Lebanese external decision-making process, comparing two eras: the era of the Syrian presence, which managed political and constitutional life according to the rule of “the two paths being concurrent,” where the decision-making process and the implementation of constitutional entitlements were organized on time. This is in contrast to the era after the Syrian withdrawal from Lebanon in 2005, in which obstruction and lack of agreement on the national interest among the Lebanese became the principle and not the exception in light of the loss of trust between the political and sectarian components based on the harmony of each team with a regional or international external meddling.
Keywords: Lebanon, political pluralism, foreign policy, political system, national identity.
مقدمة
من المعروف أن عملية صنع القرار تتأثر بمجموعة من المعطيات، قد حددها سنايدر بالسّكان والمجتمع، النّظام السياسي والدّستوري، والثقافة والهُويّة الوطنيّة، ومنظومة القيم وغيرها. ينتمي لبنان كدول صغيرة إلى فئة الدّول النّامية، تعاني دائمًا في خضم عمليّة صنع القرار الخارجي، إذ يتعطل عمل الدّولة عند الاختلاف على قضايا خارجيّة غالبًا ما تؤدي إلى تكريس الانقسام بين اللبنانيين. ففي ظل الحقبة السّورية، كانت عمليّة صنع القرار تسير بانتظام، فبعد تلزيم الملف اللبناني لسوريا بتوافق أميركي ـــــ عربي، بعد اجتياح العراق لدولة الكويت، وقيام الولايات المتحدة بحشد القوى بهدف تحريرها، وقتها انضم الرئيس السّوري حافظ الأسد إلى ذلك التّحالف الدّولي الذي أتاح له الانفراد بالوصاية على لبنان، وقد استطاع ضبط التّفاعلات الدّاخليّة على إيقاعه، لتصبح سياسة لبنان الخارجيّة جزءًا من السياسة السّورية محكومة بشعار تلازم المسارين وشعب واحد في دولتين. وبعد الانسحاب السّوري في العام 2005، تحولت عمليّة صنع القرار الخارجي شأنًا لبنانيًّا داخليًّا، إنّما وسط انقسام اللبنانيين بين فريق يؤيد إيران وسوريا وفريق يعارضهما ومؤيد لمحور الاعتدال العربي، أصبحت تلك الانقسامات تمنع سير عمل المؤسسات، إن لناحية الانتخابات الرئاسيّة، أو تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات النيابيّة في مواعيدها المحددة قانونًا.
أولًا: أهمية البحث
تكمن أهمّية هذا البحث من الناحية العلميّة أنّه يلقي الضوء على صناعة القرار الخارجي اللبناني، استنادًا إلى تطوّر السّلطة التنفيذيّة لاسيما صلاحيّات رئيس الجهورية بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف، مفسرًا المعوقات التي برزت بعد الانسحاب السّوري من لبنان، وكيف تؤثر في صناعة القرار اللبناني التي عطلت تطبيق الدستور وفاقًا لقراءات، وتفسيرات تخدم رؤية كل طرف بعينه من أطراف السّلطة في ظل غياب الاجماع على المصلحة الوطنية اللبنانيّة الجامعة. بينما تكمن الأهمّية العمليّة لهذا البحث في أنّها تتيح للباحت وكل مهتم بتتبع مسار صناعة القرار عمومًا واللبناني خصوصاً من خلال المعلومات التي يوفرها وإن باقتضاب، وأيضًا تزويد المكتبات بمادة علميّة تستند إلى المراجع العلميّة التي تعطي هذا البحث مصداقيته وجديته.
ثانيًا: الهدف من البحث
بما أنّ هذا البحث يعالج مسألة صناعة القرار الخارجي بعد الخروج السّوري من لبنان؛ فإنّها تسعى إلى عدة أهداف أهمها:
- دراسة صناعة القرار من النّاحية العلميّة وتحليلها.
- تبيان دور المؤثرات التي تعيق صناعة القرار اللبناني الخارجي، إن من النّاحية الداخلية أو الخارجيّة.
ثالثًا: إشكاليّة البحث
بعد اتفاق الطائف ودخول لبنان في ظل الرّعاية السّورية، لم يواجه هذا الوطن الصّغير مشكلة صناعة القرار على أيّ مستوى من المستويات، علاوة على الانتظام في عمل المؤسسات، إذ كانت الاستحقاقات الدّستوريّة تأتي في مواقيتها المحددة قانونًا، فكان انتخاب الرئيس أو التمديد له يحصل من دون تأخير، ولم تكن مسألة شرعيّة حضور الجلسات أو عدمها محل خلاف، أيضًا لناحية تشكيل الوزارات التي كانت تنجز خلال أيام معدودات. وبعد الخروج السّوري من لبنان برزت إلى العلن مسائل دستوريّة عدّت مستجدة كتعطيل انتخاب الرئيس أو تعطيل تشكيل الحكومات أو التّمديد للمجالس النيابيّة، أو المطالبة بالثلث المعطل، الأمر الذي انعكس على صناعة القرار في لبنان لاسيما المتعلقه منه بالسياسة الخارجيّة.
ويمكن صياغة إشكاليّة هذا البحث من خلال التساؤل الآتي: كيف يصنع القرار الخارجي اللبناني؟
تساؤلات البحث الفرعيّة
ما هي آليات صناعة القرار الخارجي؟
ما هي معوقات صناعة القرار الخارجي اللبناني بعد 2005؟
ما هو دور الدّستور اللبناني في عملية صناعة القرار؟
رابعًا: مناهج البحث
استخدم في هذا البحث المنهج التّحليلي، ويقصد به تفسير المضمون، بهدف تيسير وتسهيل عمليّة الدّراسة ومعرفة المسببات، وإدراكها وقد أدت وساهمت في ظهور تلك المشكلة أو الظاهرة محل البحث.
تقسيم الدّارسة: وستُقسَّم إلى مقدمة وثلاثة مطالب مع خاتمة واستنتاجات، المطلب الأول سيخصص لدراسة الإطار النّظري لمفاهيم البحث وعناصره، المطلب الثاني سيخصص لدراسة عمليّة صنع القرار في ظل دستور الطائف، المطلب الثالث فسيعالج الانقسام حول صناعة القرار الخارجي اللبناني بعد 2005.
المطلب الأول: الإطار النّظري لمفاهيم البحث
- تعريف القرار السياسي: ينظر علماء السياسة إلى القرارات السياسيّة بوصفها عمليّات رسميّة تنبع من هياكل سياسيّة منوط بها عمليّة صنع القرار التي تحدث عندما يُختَار بشكل عقلاني بين البدائل للتّعبير عن المصلحة الوطنية، ومن المؤكد أن هناك دائمًا تأثيرات غير رسميّة وعمليات قانونيّة تؤدي دورًا في صنع القرار السياسي في البلدان جميعها. ومن المعروف أنّه لا يوجد تعريف موحد لمفهوم القرار السياسي، إنّما هناك مجموعة تعريفات لكل منها منطلقها الخاص أو مقاربتها الخاصة في تعريف صنع القرار السياسي إلا أنّ ثمة اتفاق بأنّ القرار السياسي يمثل جوهر العملية السياسيّة([2]). ومن أشهر التّعريفات لهذا المفهوم هو تعريف ريتشارد سنايدر الذي- Richard Snyder الذي يُعرف هذه العمليّة “أنّها اختيار بديل من البدائل، يخضع لتوجيه فريق العمل والمستشارين الذين يوضحون ما لكل بديل([3]).
عملية صنع القرار هى تلك التي تحوَّل فيها المطالب إلى قرارت من خلال سلسلة من الإجراءت والتّفاعلات بين الأنساق السياسيّة، والهياكل الاجتماعيّة التي تحتضنها وتتفاعل معها، أو هي عمليّة التّفاعل بين المشاركين كافة بصفة رسميّة وغير رسميّة فى تقرير ورسم السياسات العامة. وفي هذه العمليّة نجد أنّ التّقارير وإعدادها تؤدّي دورًا مهمًّا فى رسم سلوك المؤساسات السياسيّة. ففي هذه المؤسسات عادة ما تختار أحد التّصورات التى ترى أنّها الأفضل فى حلّ مشكلاتها وتحقيق أقصى قدر من المنفعة([4]).
على مستوى السياسة الخارجيّة فهناك فرق بين صنع السياسة الخارجيّة وبين صناعة قرار السياسة الخارجيّة. فصنع السياسة الخارجيّة ينطلق من مجموعة من النّشاطات الاعتبارات القيميّة والإيديولوجيّة والإطار العام الذي وضعته الدّولة لنفسها في الأهداف والمباديء وتوجهاته العامة. فلبنان قد وضع مجموعة من المباديء التي تحكم سياسته الخارجيّة، على سبيل المثال لا الحصر، سياسة عدم الانحياز، أو أنّ لبنان عربي الهُويّة والانتماء، واحترام القرارات الدّوليّة.
بينما عند صنع قرارات السياسة الخارجيّة يأخذ صانع القرار تلك المباديء بالحسبان، وهناك مرحلة بالغة الصّعوبة والتّعقيد عندما يواجه صانع القرار غموضًا في الموقف أو حالة من عدم اليقين في البيئة الخارجيّة، وبناء عليه تُحدد البدائل المتاحة في ضوء تقدير المزايا النّسبيّة لكل منها عند مواجهة المشاكل أو التّحديات وتكون صناعة القرار من الهياكل المختصة بناء على معلومات، أو معطيات وتقارير شاملة تُرفع لصانع القرار في الوقت المناسب. بعد اتخاذ القرار بواسطة النُّخبة أو القيادة يُحوَّل إلى برنامج عمل، وخطوات تنفيذيّة أي الانتقال به من حالته النّظرية إلى حالته العمليّة، فيوفر هذا الأمر القدر على المتابعة والرّقابة والتّقويم ليس فقط بالنسبة إلى التّنفيذ بل لعمليّة صناعة القرار نفسه([5]). وهناك مجموعة من الهياكل المنوط بها صنع القرار السياسي، مهما اختلف النّظام السياسي بين دولة وأخرى تبقى المباديء منطبقة على غالبيّة الدّول لناحية صنع القرار، وأكثر تلك الأجهزة أو الهياكل الرّسميّة أهمّيّة السّلطة التنفيذيّة (رئيس جمهورية، حكومة) السّلطة التّشريعيّة، السّلطة العسكريّة والقضائيّة. أمّا الأجهزة غير الرّسميّة فتتمثل في الأحزاب، وسائل الإعلام، الشّركات الكبرى، الرأي العام، مجموعات الضغط أو اللوُبيّات([6]).
المطلب الثاني: صناعة القرار اللبناني في ظل دستور الطائف
تتأتى أهمية صنع القرار السياسي سواء الداخلي أو الخارجي من كونه يتيح تحليل البيئتين الدّاخليّة، والخارجيّة المؤثرتين في تفاعلات المشاركين الرّسميين وغير الرسميين في عملية داخل الدولة، فلا يمكن فهم سياسات الدّول، وكيف تعمل من دون معرفة الكيفيّة التي تتم بها تلك العمليّة الحساسة التي تحكمها مجموعة من المحددات الدّاخليّة والخارجيّة.
ويعدُّ القرار السياسي مبرر وجود السّلطة المنوط بها إدارة الشأن العام، وتحقيق المصالح الوطنية انطلاقًا من إلزامات الدّستور الذي يحدد عمل كل سلطة من ضمن مبدأ فصل السّلطات وتعاونها، هذا على المستوى النّظري، إنّما إذا أخذنا البيئة المحيطة بصانع القرار كمؤثر من المؤثرات، وسلوك صنّاع القرار، يتبدى أن القضيّة ليست بتلك السّهولة خصوصًا، وأنّ نظرية صنع القرار السياسي تعدُّ الأساس في دراسة تفسير السياسة الخارجيّة لدولة ما. ومن المنطقي القول إنّ صنع القرار يختلف بين دولة وأخرى.
ولكن كيف تُتَّخَذ القرارات السياسيّة في لبنان في ظل اتفاق الطائف؟ وما هي العوامل المفسرة للتباينات السياسيّة وانعكاسها على البنية الدّستوريّة وصلاحيّات السّلطات في سياق عمليات صنع القرار السياسي في الواقع ؟ أو بعبارة أخرى، ما مدى اتساع الفجوات بين القوانين وممارسة صنع القرار السياسي؟ أم هل هناك فجوات بين الهياكل القانونيّة والعمليّة لصنع القرار السياسي؟ منذ إقرار وثيقة الوفاق الوطني العام 1990 ما تزال إشكاليّات تطرح على الطاولة بين مؤيد لتلك التعديلات، وبين رافض لها من دون أن نغفل أن ثمة سياسات خفيّة تهدف للمساومة من خلف السّتار. بخلاف التّجربة الأوروبيّة في القرن التّاسع عشر التي بنت الهُويّة الوطنية بناء على انصهار قومي، فإنّ لبنان قد بنى سياسته على “المواثيق” التي عُدَّت عقودًا بين مكوناتها الاجتماعيّة التي يُبنى عليها صِيغ الحكم وتوزيعه بما يعكس النّسيج الاجتماعي اللبناني([7]). وقد وصُفت طبيعة المجتمع اللبناني بحسب هدسن Hudson أنّه انقسام ديني ومجموعة قياديّة وتركيبة هرميّة للعائلة([8]). وهذه الطبيعة المتنوعة من الاجتماع السياسي تدار من خلال صيغة توافقيّة، وقد اكتسب مفهوم التّوافقيّة شعبيّة جديرة بالاهتمام بين علماء السياسة وهذه التوافقيّة تفرض “نفسها عند وجود انقسامات ذات طبيعة دينيّة وأيديولوجيّة وثقافيّة وإثنيّة ولغويّة”([9]). في لبنان كان رئيس الجمهوريّة قبل اتفاق الطائف، يتمتع بصلاحيات واسعة وشبه مطلقة، فهو يستطيع حلّ مجلس النّواب وهو غير مسؤول سياسيًّا أمام أي أحد، ما خلا اتهامه بخرق الدّستور والخيانة العظمى، كما “أنّ السّلطة الإجرائيّة تناط برئيس الجمهوريّة وهو يتولاها بمعاونة الوزراء وفاقًا لأحكام الدستور”([10]). بمعنى آخر إنّ هيمنة رئيس الجمهوريّة على السّلطة التنفيذيّة كانت تكمن في المادة 17 التي تنيط السّلطة الإجرائيّة به ويتولاها بمعاونة الوزراء. أمّا التّعديل في الطائف فعمل على حلّ هذه المسألة، فأعاد الاعتبار لمجلس الوزراء وجعل منه مؤسسة قائمة بذاتها، مقلّصًا صلاحيات رئيس الجمهوريّة لناحية تكوين السّلطة التنفيذيّة، إن لناحية انفراده بتعيين أو اختيار الوزراء، أو لناحية تسمية رئيس الوزراء إذ بات عليه انتظار نتيجة الاستشارات النيابيّة الملزمة([11]). حينها كان مجلس الوزراء لا يملك تأثيرًا خارج نفوذ رئيس الجمهوريّة القادر على الحسم في المسائل جميعها.
إذًا؛ قبل الطائف في دولة ما اصطلح على تسميتها بالجمهوريّة الأولى، احتكر رئيس الجمهوريّة صلاحيات السّلطة التنفيذيّة، كما كان الخلل واضحًا لناحية الحصص النيابيّة، فقد كانت النسبة 6 للمسيحيين في مقابل 5 للمسلمين، ما انعكس ذلك غبنًا في الإدارة والاقتصاد، وعدم استقرار في السياسة والأمن. وقد عُدَّ اتفاق الطائف نسخة معدلة أو منقحة عن الميثاق الوطني للعام 1943، ولعل أكثر ما في اتفاق الطائف أهمّيّة أنّه عالج مشكلات الماضي وهواجسه وأوجد حلولًا لهذه المشكلات، وللصراعات والنّزاعات التّاريخيّة الدّائرة حول نهائية الكيان اللبناني، والهُويّة القوميّة والهُويّة الطائفيّة والمشاركة في الحكم من جهة وفتح النّظام السياسي على التّغيير والتّطوير من جهة أخرى. بما يثبت سلطة الدولة ودورها في الحفاظ على أمن المواطن وحقوقه وحريته([12]). وقد سبق اتفاق الطائف مجموعة من مشاريع التي شكلت محاولات إصلاحيّة في النّظام والدّستور أهمها:
الوثيقة الدّستوريّة: رأت هذه الوثيقة النور في شباط 1976 في عهد الرّئيس سليمان فرنجية إثر فشل “لجنة الحوار الوطني هذه الوثيقة دعمها السّوريون، وتضمنت مطالبات بإصلاحات دستوريّة تتعلق بإعادة توزيع سلّة الحكم، مع نصها على الاحتفاظ بالتّوزيع التّقليدي للرئاسات الثلاث رئاسة الجمهوريّة المجلس النيابي مجلس الوزراء، كما تضمنت مبدأ المساواة بين المسلمين، والمسيحيين في المجلس النّيابي وتعزيز موقع رئاسة الحكومة وإنشاء مؤسسات دستوريّة جديدة. لكنها تجنبت البعد الخارجي للصّراع.
محاولة حلول أخرى تمت بقمتي الرّياض والقاهرة في تشرين الثاني 1976 ووضعت حدًا لحرب السنتين سنة 1975، وقد حاول مشروع الحلّ هذا إعادة تثبيت السّلطة المركزيّة، وترتيب العلاقات السّوريّة الفلسطينيّة على الأرض اللبنانيّة بإشراف قوة الرّدع العربيّة، التي كان القوات السّورية عصبها الرّئيس، كما حاولت من جهة تخفيف الصّراعات العربيّة ذات الصلة بأزمة الشرق الأوسط والحد من تأثيرها على لوضع اللبناني. أمّا الاتفاق الثلاثي لعام 1985([13])، وبحسب زهير شكر كان الأقرب إلى وثيقة الوفاق الوطني في المضمون، إنّما الأبعد في الشكل. فالاتفاق الثلاثي في هذا السّياق ولد من رحم المليشيات وقوى الأمر الواقع برعاية سورية مباشرة ومنفردة، بينما اتفاق الطائف جاء من خلال المؤسسة الدّستوريّة الأم أي مجلس النّواب. أمّا في المضمون يتضمن الاتفاقان مضامين متشابهة لناحية تعريف الاحتلال، والعلاقات اللبنانيّة السّورية الخ([14]).
إنّ الحلول السياسيّة التي اقترحت قبل اتفاق الطائف، أشارت جميعها إلى التّشابك والتّرابط بين العوامل الدّاخليّة، كإعادة توزيع السّلطة السياسيّة الإصلاحات الدّستوريّة، والعوامل الخارجيّة كموقع لبنان المتأثر دومًا بالصّراعات الإقليميّة والدّوليّة. وقد حكم ذلك التّشابك طبيعة تلك الحلول المقترحة، ومحتواها لوضع حدّ لمعاناة لبنان. وقد تباينت تلك الحلول في تحليل بينة الأزمة اللبنانيّة، فهناك من قدّم البعد الإقليمي والدّولي، بينما الحلول الأخرى قد ركز بعضها على البعد الدّاخلي ثم الخارجي.
وقد أدّى السّوريون دورًا مهمًّا في حقبة ما بعد الطائف، حيث أفادوا من الموقف الدّولي آنذاك الذي كان يتوحّد ضد غزو الكويت الذي عارضته سوريا، فأعطوا دورًا مهمًّا في لبنان ، وقد أصبحت الدّولة اللبنانيّة الدولة الممسوكة، فكان الحكم وفق نظريّة الأمن والسياسة للوصايا السّورية، والاقتصاد والسياحة للبنانيين. فحكم البلد وفق صيغة توافقيّة، عرفت بـ(الترويكا)، وقد شهد لبنان حينها مدّة من الهدوء والاستقرار، فنفذت في لبنان أكبر عمليّة إعمار لما هدّمته الحرب، وقد شهد الاقتصاد ازدهارًا، إنّما بفاتورة مالية كبيرة وأكلاف كثيرة، من دون أن ننسى الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان إلى أن انسحب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب في العام 2000، واستمر الحكم والسياسة من خلال الدّور السّوري الذي ضبط التوازنات إلى العام 2005. وفي هذه الحقبة، كان فريق من المسيحيين يعارض الوجود السّوري، ويرفض اتفاق الطائف وتعديلاته، لكونه قد انتزع صلاحيات رئيس الجمهوريّة الذي أصبح بلا أيّ تأثير بحسب قولهم.
فما هي الإصلاحات المهمّة التي تضمنها اتفاق الطائف؛ وهل صحيح أنّه قد سلب رئيس الجمهوريّة صلاحياته؟ إنّ التّعديل الدّستوري المهمّ الّذي أحدثه اتفاق الطائف هو إعادة تشكيل السّلطة التنفيذيّة لرئيس الجمهوريّة لصالح مجلس الوزراء الذي أصبح مؤسسة قائمة بذاتها لصناعة القرار السياسي والإداري([15]).
فهذا التّعديل هو الذي دفع البعض إلى القول أنّ رئيس الجمهوريّة، قد فقد كلّ قدرة على التأثير وأصبح مُلكًا بلا صلاحيات، في حين يعتبر فريق آخر أنّ رئيس الجمهوريّة لا يزال الشّريك الفاعل في ممارسة السّلطة الإجرائيّة. كما ويؤكد بعض الدّستوريين أنّه بمجرد التّدقيق بالنص الدّستوري بعد تعديله في العام 1990. نلاحظ أنّ رئيس الجمهوريّة لا يزال مستأثرًا بالعدد الأكبر من المواد التي تتحدث عن صلاحياته، بخلاف مجلس الوزراء ورئيسه اللذين لم يذكرهما الدّستور إلّا في مواد قليلة([16]). لا بل إنّ رئيس الجمهوريّة قد اكتسب صلاحيات جديدة كان يمارس بعضها عرفًا ولم تذكر في النّص، كحقّ اعتماد السّفراء وقبول السّفراء الأجانب وحقّ توجيه الرّسائل إلى مجلس النواب، كذلك حقّ رد قرارات مجلس الوزراء بحسب المادة 56 من الدّستور. مع أنّ هذه لم تستعمل قبل الطائف وبعده، إلّا بعد الأزمة الحكوميّة 2006 عندما ردّ الرّئيس إميل لحود كثيرًا من قرارات مجلس الوزراء([17]).
فالرئيس ما زال يقبض على “أزِّمة الحكم” بحسب المادة 50 من الدّستور التي تعني في ما تعنيه أنّه لا يزال السّلطة الأولى والحاكم الفعلي في الدولة، ورئاسة الجمهوريّة ليست مكتبًا شاغرًا، بل هناك صلاحيّات أساسية تعطي الحضور الفعلي لرئيس الجمهوريّة، فهو الذي يوقع منفردًا على تسمية رئيس الحكومة بعد استشارات نيابيّة ملزمة، ويصدر بالاتفاق معه رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة. وفي بعض هذه الصلاحيّات أحيانًا يتخطى حدود صلاحيّة رئيس الحكومة ليفرض عليه نوعيّة وشكل ومحتوى الوزارة. ومراسيم قبول استقالة الوزراء وإقالتهم. ويصدر منفردًا المراسيم بقبول استقالة الحكومة أو عدّها مستقيلة([18]).
كما يمارس رئيس الجمهوريّة صناعة القرار من خلال المراسيم العادية التي تتعلق بشؤون إدارة البلاد اليوميّة؛ وتجعل منه شريكًا أساسيًّا في ممارسة الوزراء أعمالهم الوزاريّة، وهي المراسيم التي لا تدخل ضمن صلاحيّات مجلس الوزراء وتصدر عن رئيس الجمهوريّة، وتحمل توقيع رئيس الحكومة والوزير المختص. من تلك المراسيم المهمّة هي: ترفيع الموظفين تعيين موظفين الفئات الخامسة والرابعة والثالثة، التّشكيلات العسكريّة والقضائيّة، منح الجنسيّة، منح التّراخيص للمؤسسات الصناعيّة والسياحيّة، منح تراخيص الآبار الارتوازيّة، منح تراخيص أشغال عامة، دعوة الهيئات النّاخبة. إنّ هذه الأنواع من المراسيم العادية ليست بحاجة إلى قرار من مجلس الوزراء لإصدارها، ولذلك إذا امتنع رئيس الجمهوريّة عن إصدار هذه المراسيم فلا يمكن إلزامه بإصدارها، ولا يمكن احتساب مهلة 15 يومًا المقررة بالنسبة إلى قرارات مجلس الوزراء ومن ثم عدِّها نافذة حكما وواجبة التّنفيذ([19]). وقد لخّص خالد قباني المظهر الجديد لرئيس الدّولة، بوصفه إنّه بعد التّعديلات الدّستوريّة التي أدخلها الطّائف على دستور 1926، ما عاد رئيس الجمهوريّة رئيسًا للسّلطة التنفيذيّة، بل أصبح رئيسًا للدولة ورئيس الوزراء هو الذي أصبح رئيسًا للسّلطة التّنفيذيّة، ومسؤولًا عن سياسة الحكومة أمام مجلس النّواب([20]). وقد أبقى الدّستور على صلاحيّات لرئيس الجمهوريّة تجعله رئيس دولة، ومرجعًا وحكمًا في الصّراع السياسي في بلد تتعدد فيه الطوائف، ويقوم على احترام الحقوق والحرّيات ويقيم وزنًا للديمقراطيّة في ظل نظام ديمقراطي برلماني تنافسي حرّ([21]). من جهته فقد عدَّ حسين غربيّة أنّ دستور الطائف قد قلّص من صلاحيّة رئيس الجمهوريّة من خلال عدة مواد أبرزها:
-“المادة 53 التي قلّصت دور رئيس الجمهوريّة في اختيار الوزراء، وقد نصّت في البند الثاني منها على حصر دور رئيس الجمهوريّة في الإقرار “فيسمي رئيس الجمهوريّة رئيس الحكومة المكلف بالتّشاور مع رئيس مجلس النّواب استنادًا إلى استشارات نيابيّة ملزمة يطلعه رسميًّا على نتائجها”.
أمّا المادة 54 من اتفاق الطّائف فقد قلّصت صلاحيّة رئيس الجمهوريّة عند التّوقيع على المقررات، إذ كانت قبل التّعديل تنص على توقيع رئيس الجمهوريّة والوزير أو الوزراء المختصين. أمّا بعد التّعديل فأصبح رئيس الوزراء يشارك أيضًا في التّوقيع على المقررات، كما أعطت رئيس الحكومة صلاحيّة التّوقيع على القوانين إلى جانب توقيع رئيس الجمهوريّة. وبذلك أصبح رئيس مجلس الوزراء مشاركًا في اتخاذ القرار بعدما كان مهمشًا. كما نصّت المادة 56 من اتفاق الطائف على أن “يصدر رئيس الجمهوريّة القوانين التي وفِقَ عليها… وأضافت إليها خلافًا لما قبل التّعديل، حقَّ رئيس الجمهوريّة الطلب إلى مجلس الوزراء؛ إعادة النّظر في أيّ قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال 15 يومًا من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهوريّة.
ولكن إذا أصرّ مجلس الوزراء على القرار المتخذ، أو انقضت المهلة من دون إصدار المرسوم أو إعادته يعدُّ القرار أو المرسوم نافذًا حكمًا ووجب نشره. يتبيّن أنّ هذه المادة قد أعطت رئيس الوزراء حيزًا كبيرًا من الاستقلاليّة تجاه رئيس الجمهوريّة. فعامل الخوف الذي كان يساور الوزراء في حال معارضة رئيس الجمهوريّة قد انتهى”([22]). بناء على ما تقدم يمكن القول إنّ آلية صناعة القرار قد تبدلت استنادًا إلى تعديلات وثيقة الوفاق الوطني، فكيف أصبحت آلية صناعة القرار في لبنان؟
المطلب الثالث: الانقسام حول صناعة القرار الخارجي اللبناني بعد 2005
ففي حِقبة الوجود السّوري كانت سوريا هي المشرف على المرحلة الانتقاليّة من الحرب إلى السّلم برضى أميركي عربي، سعودي، وبعد خروج سوريا من لبنان أصبح لبنان مرة أخرى ساحة مواجهة إقليميّة جيوبولتيكيّة: إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة ثانية.
تعدُّ مرحلة التمديد للرئيس إميل لحود الأكثر بروزًا في تطور الانقسام السياسي اللبناني، إذ عدَّ أنّ رفض التّمديد للرئيس ينمّ عن مؤامرة دوليّة تحاك ضد سوريا عبر قوى لبنانيّة معادية لمحور الممانعة، فجاء القرار 1559 الذي دعا إلى خروج الجيوش الأجنبيّة من لبنان بما فيها الجيش السّوري، فعدَّ حلفاء سوريا أن خروج الجيش السّوري يؤثر على موقع لبنان في الصّراع العربي – الإسرائيلي، وهو ليس بالتّفصيل البسيط، في ما يخص العلاقات اللبنانيّة السّوريّة ودور دمشق المباشر في لبنان تحديدًا بعد الطائف([23]) . سريعًا عمل الفريق المؤيد لسوريا من خلال منطلقاته السياسيّة والاستراتيجيّة تجاه الصّراع في المنطقة، على ملء الفراغ الذي سيتركه الخروج السّوري من لبنان.
لقد كان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، في 15 شباط 2005 الزلزال الكبير الذي تحوّلت معه سياسات المنطقة وثوابتها، فتغير الموقف الفرنسي المتمايز عن الموقف الأميركي حيال الدّور السّوري في لبنان الذي كان حينها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، يرفض قانون محاسبة سوريا، ويدير سياسة بلاده بطريقة أكثر توازنًا وتفهمًا للوجود السّوري. هكذا تبدل الموقف الفرنسي وأصبح أكثر قربًا من الموقف الأميركي، فتوحدت المواقف الدّوليّة بقيادة الولايات المتحدة التي طالبت الرّئيس السّوري بشار الأسد بسحب جيشه من لبنان، بعد قيام تظاهرات تطالب بذلك. في المقابل نُظِّمت تظاهرات من قوى حليفة لسوريا ذات حيثيّة وازنة أخرى شكرت سوريا وثمّنت دورها في لبنان. أمّا الوقف العربي فكان يدعو لبنان وسوريا للتأقلم مع الوضع الدولي وتجنب أي مواجهة([24]).
وبالفعل فقد انسحب الجيش السّوري من لبنان تطبيقًا للقرار 1559 كما صرّح الرئيس السّوري نفسه، ليدخل لبنان لأول مرة منذ العام 1976 مرحلة جديدة من إدارة شؤونه بنفسه، وقد بدأت الدّعوات إلى الحوار بين اللبنانيين للاتفاق على إدارة الاستقرار اللبناني في ظل تحولات كبرى بدأت عشيّة الغزو الأميركي للعراق.
وبعد اغتيال رئيس وزراء لبنان، انقسمت المنطقة بين محور تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها، وآخر ممانع تقوده إيران وسوريا وحلفاؤهما بالمنطقة. فكان على لبنان أن يبدأ بصياغة سياسة خارجيّة تراعي هذا المستجد السياسي الخطير، ويرسم مبادئ تلك السياسة انطلاقًا من الهُويّة الوطنيّة، والهُويّة العربيّة، وعقيدة العداء لإسرائيل بحسب ما كان يصرّح به العهد وحلفاؤه.
وبعد أن تطورت الخلافات السياسيّة إلى حدود الانقسامات الطائفيّة عقدت في آذار 2006 طاولة حوار لبنانيّة نتيجة لدعوة رئيس مجلس النّواب نبيه بري، لجميع الأقطاب السياسيّة لحوار موسع في ساحة النّجمة، فقد انبثق هذا الحوار من الظروف السياسيّة الدّاخليّة والخارجيّة التي عاشها لبنان بعد خروج الجيش السّوري من لبنان، ومقاطعة رئيس الجمهوريّة إميل لحود التي تجلّت في انقسام حاد بين اللبنانيين أي فريقي 14 و8 آذار، حدّد الرئيس بري عناوين الحوار العامة : القرار 1559 والمحكمة الدّوليّة الخاصة بلبنان المتعلقة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، والعلاقات اللبنانيّة السّوريّة، وقضية مزارع شبعا، وتشعبت العناوين لتضم السّلاح الفلسطيني وترسيم الحدود مع سوريا([25]).
ولا يمكن فهم تشتت سياسة لبنان الخارجيّة وتحليلها إلّا من خلال واقعها التّاريخي والجغرافي. فإسرائيل تشكل التّهديد الخارجي الأكبر للبنان على المستويات كافة. فهي لا تخفي أطماعها في المياه اللبنانيّة، كما أنّ النّظام الدّيمقراطي التّعددي يشكل تهديدًا كبيرًا للنّظام العقائدي الصّهيوني، فلبنان المستقر الموحد والقوي المرتكز على قوة مغتربيه في الخارج سيكون أكثر جاذبيّة للاستثمارات أكثر من إسرائيل.
تتسم البيئة الإقليميّة المحيطة بلبنان بطابع التوتر وشبه تفجيرٍ متواصلين، نتيجة استمرار أزمة القضية الفلسطينيّة، والإرهاب وتداعياته. فالمنطقة اليوم تنقسم إلى معسكرين: الأول متحالف مع الولايات المتحدة والغرب، ويضم عددًا من الدّول العربيّة، ومحور آخر تترأسه إيران ويضم سوريا وقوى غير حكوميّة مثل حزب الله وحركة حماس([26]). فالسياسة الخارجيّة لبلد ما لا تتحرك من فراغ، ولا تصاغ من دون الاكتراث لمتغيرات عديدة منها ما هو نابع من ظروف البلد نفسه، ومنها ما يعدُّ استجابة لظروف خارجيّة تسمى البيئة العمليّة الخارجيّة تميزًا لها عن البيئة العمليّة الدّاخليّة([27]).
وبعد أن أصبح الانقسام السياسي سيد الموقف انعكس ذلك على تكوين السّلطة في لبنان، وبدأ تدخل إلى القاموس السياسي مصطلحات مستجدة غير مألوفة كحرّيّة النائب في عدم حضور جلسات الانتخاب، أو اتخاذ تشكيل الحكومات أشهرًا بعدما كان يحصل ذلك في خلال أسبوع، أو تمسك كل طرف من الأطراف بالحصول على الأغلبيّة التي تمنكه من اتخاذ القرار، أو تعطيله عبر ما عرف بالثلث المعطل بحسب فريق أو الثلث الضامن بحسب فريق آخر. وتعدُّ الأزمة السّورية الحدث الأبرز الذي زاد الانقسام بين اللبنانيين حول تحديد أي سياسة خارجيّة للبنان، يمكن رسمها حيالها، فأصبح هناك فريق مؤيد للحكومة السّورية وفريق معارض لها، وقد أدّى هذا الانقسام إلى انتهاج سياسة حاولت فيها الحكومة اللبنانيّة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي عدم الانخراط في تلك الأزمة من خلال انتهاج سياسة “النأي بالنّفس”([28]). في هذا السّياق قد شدد الرئيس ميشال سليمان على “عدم انجرار الأفرقاء اللبنانيين إلى القتال الدّائر في سوريا انسجامًا مع ما نص عليه إعلان بعبدا لجهة عدم التّدخل في الدّول الأخرى”([29]). وقد أكد الباحث السياسي طلال عتريسي أنّ مصطلح “سياسة النأي بالنّفس قد لجأت اليها حكومة نجيب ميقاتي من أجل الإعلان عن أنّها لا تريد التّورط في حروب تجري في المنطقة، واتخاذ مواقف معيّنة تحرج الحكومة أو لا تريد الانحياز إلى هذا الطرف ضد الآخر([30]). في الخلاصة إنّ إشكاليّة صناعة القرار الخارجي في لبنان تنبثق من عنصرين عنصر الانقسامات السياسيّة والطائفيّة داخليًا، وعنصر التّدخلات الخارجيّة التي تجد لها سندًا في الدّاخل اللبناني.
الخاتمة
لا يمكن تصور دولة سيّدة وفاعلة من دون وجود آليّة دستوريّة؛ وسياسيّة منتظمة لصناعة القرار الخارجي، وتزداد أهمّيّة تلك العمليّة في الدّول التّعدديّة، إذ يتعلق بالاستقرار الدّاخلي مباشرة عاكسًا طبيعة المشاركة في السّلطة والحكم، وهذا ما ينطبق على لبنان الذي فشل فيه صناع القرار في التّوحد حول المصلحة الوطنيّة، وذلك لعدم قدرتهم على بناء الهُويّة الوطنيّة الجامعة والتي تعلو مصالح الطوائف والكيانات، فظل هذا البلد يخضع للتّدخلات الخارجيّة المتأتية من لعبة التوازنات الإقليميّة والدّوليّة، وجاءت حقبة ما بعد الطّائف مصداقًا لقوة وحضور الدّور الخارجي في إدارة الحكم والصراعات السياسيّة علاوة على فشل اللبنانيين، لاحقًا، في حقبة ما بعد الانسحاب السّوري من لبنان إذ ما زلنا نعيش إرهاصاتها إلى اليوم.
استنتاجات
- في حقبة الوصاية السّورية، دخل لبنان في حقبة استقرار سياسي ودستوري، وسط معارضة شديدة لهذا الوجود، وكانت عمليّة صنع القرار تسير في ظل دولة ممسوكة سياسيًّا وأمنيًّا.
- يعدُّ اتفاق الطائف نظامًا يتضمن صيغة لحفظ التّعدديّة في لبنان، وهو لا يزال الاتفاق الأمثل، إنّما لا بدّ من تطبيقه قبل الحديث عن تعديله، هذا مع العلم أن لا نصوص مقدسة فتصبح بحاجة للتعديل مع الزمن.
مقترحات
- الحكم عبر حكومات أغلبيّة، تدير الشأن العام من خلال برنامج سياسي واضح يعبّر عن تناسق السّلطة الحاكمة، إذ لا يمكن أن تضم الحكومة مختلف القوى الأمر الذي يعيق صناعة القرار الخارجي.
- احترام الدّستور كوسيلة احتكام بين السّلطة والمعارضة، فالمصلحة الوطنيّة هي سقف الجميع.
المراجع
أولًا: الكتب
1- أبو ديّة، سعد. عمليّة صنع القرار في سياسة الأردن الخارجيّة، ط أولى ، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 1990.
2- إسماعيل الغزال، القانون الدستوري والنظم السياسيّة، لا ن.
3- بهاء الدين مكاوي، القرار السياسي، ماهيته ــ صناعته ــ اتخاذه ــ تحدياته، معهد البحرين للتنمية السياسيّة، سلسلة كتب برلمانية، 2017.
4- جوزف سماحة، الآن هنا. ط اولى، توزيع الدار العربية للعلوم، ناشرون، لبنان، 2007.
5- رياض قهوجي، اسس سياسة الدفاع اللبنانيّة، مجموعة باحثين، ط اولى، دار النهار، لبنان، 2009.
6- زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، نشأة ومسار النظام السياسي والدستوري، المؤسسات الدّستوريّة، 2001، دار بلال للطباعة والنشر، لبنان، 2001.
7- عصام نعمة إسماعيل، النظام السياسي والدستور اللبناني، ط أولى، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2018.
8- كميل حبيب، لبنان الهدنة بين حربين، ط اولى، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2014.
9- لبنان دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة، خالد قباني ومجموعة من المؤلفين، ط أولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
10- وسام اللحام، المبسط في الدستور اللبناني، ط أولى، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، 2010.
ثانيًّا: الموسوعات
ثالثًا: جرائد ومجلات
12- حسين غربية، النظام الطائفي والدستور وأثرهما في الاستقرار السياسي في لبنان في الاستشارات والتكليف والتأليف الحكومي، المجلة العربية للعلوم السياسيّة/ العدد 4.
13- سليمان لعدم الانجرار للقتال في سوريا انسجاما مع ما نص عليه اعلان بعبدا، جريدة المستقبل، 22-5-2013.
14- ميشال نجيب ابو نجم، لبنان تصحيح التوازنات وحفظ الاحجام تحت سقف الطائف، مجلة دراسات مستقبلية، العدد الاول،
15- هيام قصيفي، مقالة بعنوان عبرة 2006 في حوار بعبدا: استجلاب غطاء داخلي للحصار الدّولي، جريدة الأخبار 19 حزيران 2020.
رابعًا:المراجع باللغة الاجنبية
-16 Fares El Zein, Lebanese Adminstrative Reform, Experience from 1992 to 2002; A Political Institutional Perspective, Lebanese National Defence journal, no 47.
خامسًا: مواقع إلكترونيّة
17- أميرة مصطفى، اقتراب صنع القرار في السياسة الخارجيّة، المركز الدّيمقراطي العربي، https://www.democraticac.de
حقيقة سياسة النّأي بالنّفس في لبنان – قناة العالم الإخباريّة (alalam.ir)18-
1– دكتوراه من الجامعة بيروت العربيّة – بيروت – لبنان – قسم العلوم السياسيّة.
PhD from Beirut Arab University – Beirut – Lebanon – Department of Political Science- Email: Majid.matar12@gmail.com
[2]– بهاء الدين مكاوي، القرار السياسي، ماهيته ــ صناعته ــ اتخاذه ــ تحدياته، معهد البحرين للتنمية السياسيّة، سلسلة كتب برلمانيّة، 2017، ص 7.
[3]– عمليّة صنع القرار الخارجي https://political-encyclopedia.org/dictionary. تاريخ الدّخول 15-9-2024.
[4]– أميرة مصطفى، اقتراب صنع القرار في السياسة الخارجيّة، المركز الدّيمقراطي العربي، https://www.democraticac.de تاريخ الدخول 15-9-2024.
[5]– بهاء الدين مكاوي، مرجع سابق، ص 59.
[6]– الموسوعة السياسية، مرجع سابق.
[7]– ميشال نجيب أبو نجم، لبنان تصحيح التوازنات وحفظ الأحجام تحت سقف الطائف، مجلة دراسات مستقبلية، العدد الأول، ص 23.
[8]– كميل حبيب، لبنان الهدنة بين حربين، ط أولى، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2014، ص 48.
[9]– المرجع نفسه، ص 11-13.
[10]– المادة 17 من الدستور اللبناني قبل التعديل.
[11]– حسين غربية، النظام الطائفي والدستور وأثرهما في الاستقرار السياسي في لبنان في الاستشارات والتكليف والتأليف الحكومي، المجلة العربية للعلوم السياسية/ العدد 4، ص 261-262.
[12]– لبنان دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة، خالد قباني ومجموعة من المؤلفين، ط أولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021 ص 571.
[13]– هو الاتفاق الذي رعته سوريا بين القوى المتحاربة في لبنان، وهي حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، والقوات اللبنانيّة بقيادة إيلي حبيّقة، لكن أُسقِط بعد الانشقاق الذي حدث داخل حزب القوات وقائده سمير جعجع.
[14]– زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، نشأة ومسار النّظام السياسي والدّستوري، المؤسسات الدّستوريّة، كانون الثاني 2001، دار بلال للطباعة والنشر، لبنان، ص 336.
[15]– Fares El Zein, Lebanese Adminstrative Reform, Experience from 1992 to 2002; A Political Institutional Perspective, Lebanese National Defence journal, no 47, p322.
[16]– عصام نعمة إسماعيل، النّظام السياسي والدّستور اللبناني، ط أولى، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2018، ص 282.
[17]– وسام اللحام، المبسط في الدستور اللبناني، ط أولى، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، 2010، ص 60-61.
[18]– إسماعيل الغزال، القانون الدّستوري والنّظم السياسيّة، لا ن، ص 190.
[19]– عصام نعمة إسماعيل، مرجع سابق، ص 294-294.
[20]– خالد قباني، لبنان دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة، مرجع سابق، ص 597.
[21]– المرجع نفسه، ص 598.
[22]– حسين غربية، مرجع سابق، ص 262.
[23]– ميشال نجيب ابو نجم، مرجع سابق، ص 23 وما بعدها.
[24]– جوزف سماحة، الآن هنا. ط اولى، توزيع الدار العربية للعلوم، ناشرون، لبنان، 2007، ص 77 وما يليها.
[25]– هيام قصيفي، مقالة بعنوان عبرة 2006 في حوار بعبدا: استجلاب غطاء داخلي للحصار الدّولي، جريدة الأخبار 19 حزيران 2020.
[26]– رياض قهوجي، أسس سياسة الدّفاع اللبنانيّة، مجموعة باحثين، ط اولى، دار النهار، لبنان، 2009، ص15.
[27]– أبو ديّة، سعد. عملية صنع القرار في سياسة الأردن الخارجيّة، ط أولى، مركز دراسات الوحدة العربيّة، لبنان، 1990. ص 27.
[28]– ستُناقش واتوسع فيها في مبحث قادم.
[29]– سليمان لعدم الانجرار للقتال في سوريا انسجامًا مع ما نص عليه إعلان بعبدا، جريدة المستقبل، 22-5-2013.
[30]– حقيقة سياسة النأي بالنفس في لبنان – قناة العالم الإخباريّة (alalam.ir)تاريخ الدخول 3-10-2024.