تاريخ الرقابة في روسيا
دراسة تاريخيّة لمنظومة الرقابة في روسيا والاتّحاد السوفيتيّ السابق
د. زياد منصور*
مقدّمة
تزداد في الآونة الأخيرة النقاشات حول الرقابة بكلّ أطرها وأشكالها، فتجد من يشجّع عليها، كما تجد من سيستهجنها ويستنكرها، سواء تلك الرقابة بمعناها التقليديّ أي التي تقوم بها الدولة والسلطة، كالرقابة على الموادّ الإعلاميّة قبل توزيعها، والرقابة على كلّ ما يوجّه إلى الرأي العام بتعدّد فئاته (كتّابًا، أدباء، سياسيّين، صانعي رأي عامّ، رؤساء أحزاب… إلخ)، أو الرقابة الذاتيّة التي يمارسها الفرد على نفسه خوفًا من الرقابة الشموليّة، وتلك التي تتضمّن القوائم السوداء للأشخاصّ المعارضين، أو غير المرغوب فيهم من قِبل السلطات، والرقابة التي تجري على “الأفلام” على شكل إصدار شهادات، وأذونات تسمح بعرض الأفلام على سبيل المثال وإلخ…
ومع الاهتمام المتزايد في موضوع الرقابة اليوم ومفاعيلها، وما أحدثته من ثورات وانتفاضات، بات من المثير للاهتمام تتبّع تاريخ تطوّر عمل المؤسّسات الرقابيّة عبر التاريخ الروسيّ الحديث والمعاصر، لعلّنا بذلك نفتح الباب واسعًا أمام نقاش جدّيّ يساعد على فهم ديناميّة الرقابة، وماهيّتها، وأشكالها، في دولة كانت الرقابة أساسًا في بنيانها، وعمل مؤسّساتها على تعدّدها.
إنّ أهمّيّة الدراسة تكمن في تبيان الغرض، أو الهدف الرئيس من الرقابة، التي تتلخّص في تقييد تدفّق المعلومات، سواء أكانت الرقابة من أجل الحظر والمنع، أو الرقابة من أجل التصويب والتقويم، بمعنى أنّ الدولة عن طريق الرقابة في روسيا كانت تحظر نشر المعلومات، أو تسعى إلى تعديلها من أجل توليف استيعابها وفق ما تبغيه سياساتها، فالأشخاصّ الذين يُمنعون من الحصول على كمّ المعلومات المتدفّقة، وتلقّيها بعد غربلتها وتصفيتها، يفقدون قدرتهم على التفكير النقديّ، وبالتالي تصبح المعلومات الواردة التي خضعت مسبقًا للرقابة، معلومات حقيقيّة لا جدال فيها رغم تحريفها وأمرًا مستساغًا لا اعتراض عليه، وهذا ما حاولنا أن نبيّنه من خلال التوقّف عند محطّات كان فيها للرقيب الدور في رسم السياسات الخارجيّة، والداخليّة في الإمبراطوريّة الروسيّة كما في الاتّحاد السوفيتيّ.
ويناقش البحث مجموعة من الإشكاليّات، منها:
- هل كان بإمكان روسيا تلافي الرقابة؟
- ما هي أشكال الرقابة وماهيّتها في روسيا، وآليّة عملها وديناميّتها؟
فرضيّات البحث انطلقت من اعتبار الرقابة في روسيا كانت متشعّبة، ومتغلغلة إلى حدّ بعيد في نمط حياة الإنسان الروسيّ، وأساليب معيشته، ونسيج المجتمع الروسيّ ما جعلها رقابة متعدّدة في تطوّرها عن قريناتها في الدول المجاورة، بل تنحو منحى خاصًّا بها، ولم تقتصر على الرقابة، والحظر على المطبوعات، بل تجاوزتها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. منهجيّة البحث: لتحقيق الغرض من الفرضيّات لجأ الباحث إلى مناهج عدّة، منها الاستنباطيّ، والتاريخيّ، والقانونيّ، والاستقرائيّ – التحليليّ، والاستنباطيّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة، الفرع الثالث، قسم التاريخ. له العديد من المؤلّفات والمقالات المتخصّصة في التاريخ الروسيّ.
بالنسبة إلى المصادر، والمراجع فقد تمّ الاعتماد على مصادر ومراجع في غالبيّتها روسيّة، لكن مادّة البحث مادّة علميّة جديدة، لم يسبق أن عولجت من قِبل الباحثين العرب واللبنانيّين، وأبرزها مترجم من اللغة الروسيّة، كما اعتمدت على الموسوعات الروسيّة والسوفيتيّة الكبرى، إلى موادّ أرشيفيّة من الأرشيف الروسيّ.
هيكليّة البحث: تمّ تقسيم البحث إلى مقدّمة، ومبحثين:
المبحث الأوّل: ظهور الرقابة الروسيّة، محطّات تاريخيّة من تاريخ الرقابة في الإمبراطوريّة الروسيّة.
المبحث الثاني: الرقابة، في عصر الثورة الروسيّة والمدّة السوفييتيّة.
إلى خاتمة، واستنتاجات البحث.
1-1 ظهور الرقابة الروسيّة – محطّات تاريخيّة من تاريخ الرقابة في الإمبراطوريّة الروسيّة
مصطلح “الرقابة” كلمة من أصل لاتينيّ (Census)، وهي عنت في روما القديمة التقييم الدوريّ للممتلكات بغية تقسيم الناس إلى طبقات وفئات، أمّا المعنى الثاني فارتبط بفصل الحقّ في استخدام امتيازات المواطنة، فالرقيب في العصور القديمة كان يتابع مدى مصداقيّة التوجّه السياسيّ للمواطنين. ازدهرت الرقابة بشكل خاصّ باعتبارها أداة لمكافحة المعارضين للديانة المسيحيّة ونشأتها، وللنضال ضدّ الطقوس البديلة – الرديفة، على سبيل المثال، ومن أجل النضال ضدّ الوثنيّة، والسيطرة على عقول أتباعها، فهم الإيديولوجيّون المسيحيّون أنّه لا يكفي فقط تدمير المعابد الوثنيّة، لقد كان من الضروريّ الحدّ من انتشار المعلومات حول الطوائف، والعبادات الأخرى، وترجع قوائم الرقابة الأولى إلى كتب ملفّقة، ومشوّهة، ومزوّرة، تمّ تجميع قائمة منها في عام 494 ميلاديّ؛ في عام 1557، تمّ إصدار قائمة للكتب المحظورة (Index liborum banitorum) من قبل محاكم التفتيش، هذه القائمة ألغيت فقط في عام 1966. لقد تميّز عصر “الإصلاح الكنسيّ” أيضًا بعدم التسامح مع المعارضة، وعدّ بداية لحريق هائل أشعل جميع أنحاء أوروبا فلم يحترق بنيرانه فقط المؤلّفات، والكتب، والمراجع، بل مؤلّفيها أيضًا، إحدى هذه الحرائق كان عام 1415، إذ وفقًا لمرسوم كاتدرائيّة (كونستانس) تمّ إحراق جان هوس[1]. لقد تميّزت مدّة الإصلاح بالتعصّب الشديد تجاه الخصوم الأيديولوجيّين، والإجراءات الوحشيّة ضدّهم، ففي عام 1527، تمّ قطع رأس صاحب مطبعة في لايبتزغ، غانز غيركوت (Ganz Gergot) لنشره كتبًا عدّت فتنويّه[2]. نادى المتنوّرون الفرنسيّون بأفكار حول حرّيّة التعبير، والصحافة، وحرّيّة التجمّع والتظاهر، ولكن خلال الثورة الفرنسيّة انتقل الرقيب من الحكّام القدامى إلى الثوار اليعقوبيّين الذين تنكّروا بسرعة هائلة لإعلانهم السابق حول الحرّيّات، وبدأوا بممارسة شتى أنواع الإرهاب بما فيه الإرهاب الفكريّ؛ شهدت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية تعدّدًا بين أركانها حول مسألة نشر مفاهيم الحرّيّة، والتعبير. فدافع بعضهم عن الحرّيّة الشخصيّة في التعبير عن الآراء، بينما عدّ البعض الآخر أنّ سيطرة الشرطة على جميع أشكال النشاط الاجتماعيّ أمر ضروريّ وملحّ. فلقد وقف كانط (E. Kant) موقف المدافع عن الحرّيّة الشخصيّة في التعبير عن آراء الإنسان ومعتقداته في شؤون المجتمع والدولة كلّها، بينما اعتقد هيجل أنّ حرّيّة التعبير أمام الملأ، والإصرار على البوح به بعناد، وإلحاح، ومجاهرة، وهو أمر يجب أن يخضع لسيطرة أوامر الشرطة ونصوص القوانين، وفي نهاية القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين، يمكننا الإشارة إلى آراء ماكس ويبير الذي عدّ الرقابة عنصرًا من عناصر قوّة القانون، وهي ظاهرة تعبّر عن شرعيّة السلطة، بينما عدّ فرويد، الرقابة قوّة نفسيّة كامنة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة النفسيّة للإنسان.
1- 2 الرقابة في روسيا قبيل عهد بطرس الأكبر
يقسّم المعجم الموسوعيّ للمعهد البيبليوغرافيّ الروسيّ غرانات (Granat) تاريخ الرقابة على الشكل التالي: 1) الحِقبة التي سبقت اختراع الطباعة، عندما كانت حقوق مراقبة المراسلات الصحيحة للكنيسة، والكتب القانونيّة تتركّز في أيدي السلطات الروحيّة الكنسيّة؛ 2)عصور الذروة للرقابة المحلّيّة، والإداريّة؛ 3) عصر رقابة الدولة، والشرطة؛ 4) مدّة استبدال الرقابة الأوّليّة بالعقوبات على هذا الفِعل؛ و5) مدّة استبدال الرقابة بمسؤوليّة عقابيّة في المحكمة على جرائم النشر والطباعة[3]. وعلى الرغم من ذلك كتب الكثير عن الرقابة في روسيا التي كان لظهورها أسباب دينيّة مرتبطة بظهور المسيحيّة، أولى ضحايا الرقابة على الكنيسة في روسيا هم المنجّمون، والسحرة، والمهرّجون، هؤلاء السحرة كانوا عادّة من النبلاء، فكانت لهم أزياؤهم المزركشة بالفنّ، والطراز الشعبيّ، فيجمعون بين الغناء، واللعب على الآلات الموسيقيّة، والرقص، وممارسة رقصة الدببة، وعروض الدمى، والعروض المقنّعة، والحيل السحرّيّة، كان المهرّجون مشاركين منتظمين في المهرّجانات الشعبيّة، والألعاب، والمِهرّجانات، والأعياد، والاحتفالات المتعدّدة، منها: الزفاف، والأمومة، والمعموديّة، والجنازة، لقد رفضت الكنيسة هذه الفئة بعدّها “تتجرّأ على الله وعلى تعاليمه”، وظهر الرفض عبر وثيقة كتبت بعد معموديّة روسيا وتبنّيها للديانة المسيحيّة، فعدّت هذه الأعمال من رجس الشيطان من خلال استخدام الأبواق، والمزامير، والطبول، واحتشاد الناس لمشاهدتها في مشهد شيطانيّ غريب منافٍ للقواعد الدينيّة، فيما الكنائس كانت تخلو من المصلّين الورعين، على هذا الأساس فإنّ عدم رضا الكنيسة عن جمهور المصلّين انطلق من اختيارهم الثقافة الشعبيّة كبديل عن الطقوس الدينيّة، ومن وجهة نظر الكنسيّين: إنّه كان لا يجب على الفلاح أن يمتّع نفسه، وأفراد عائلته من خلال مشاهدة عرض فكاهيّ، أو مسرحيّة، على سبيل المثال بعد يوم عمل شاقّ ومضنٍ، عملت الكنيسة على حظر حصول الفلاح البسيط على مزيد من المتعة، فالأغنية الجميلة تبدو حينها أكثر روعة من الخطبة الدينيّة الطويلة المملّة.
لقد فهم رجال الدين: أنّ الكلمات، والتعاليم الدينيّة لا تحتوي على كلّ هذا الجذب والترفيه، وهناك حاجة إلى تدابير أكثر فاعليّة، وهذا ما نوقش في المجمع الكنسيّ عام 1551 في كاتدرائيّة ستوغلافي، حيث تمّ وضع قانون يحظر دعوة المهرّجين إلى الأعراس، والأعياد، والمناسبات من قبل العائلات الأرثوذوكسيّة كي لا تختلط الروح الإيمانيّة بمشاهد دنيئة- ساقطة لا معنى لها، لقد اضطر رجال الدين جميعًا إلى الانصياع لبنود هذا القانون، وأَمَرَ الكهنة بمنع مشاركة المشعوذين في الطقوس المنزليّة[4].
كان ذروة هذا النضال ضدّ السحرة، والمشعوذين، والمهرّجين هو المرسوم المعروف “بمرسوم مكافحة التهريج” الصادر عن القيصر أليكسي ميخائيلوفيتش، الذي نُشر عام 1648، وتمّ تعميمه وإرساله على شكل فرمانات إلى جميع أنحاء البلاد، تحت التهديد بعقوبة الجلد والنفي، تمّ حظر الرقص، والغناء، وقصّ الحكايات والأساطير والقصص الخياليّة، والعزف على الآلات الموسيقيّة، وتنظيم المصارعة، والملاكمة، واللعب على الأرجوحة، وقراءة الحظّ قبيل عيد الميلاد وما إلى ذلك. لقد أوصى الآباء والكهنة القيصر أن يمنع ذلك بطريقة بالغة المرونة كي تنتزع من عقول الناس، وأوصوا باستخدام الشدّة لكبح جماح المشعوذين، وحظر أيّ نشاط لهم، بل اقتلاعهم واستئصالهم من المجتمع[5]، أمّا بالنسبة إلى الرقابة على المطبوعات، فلم يكن من حاجة إلى ذلك في تلك المرحلة نظرًا إلى عدم وجود الكتب في روسيا، فعدد المتعلميّن كان قليلًا جدًّا، كما غابت طباعة الكتب، وكانت تستورد في غالبيّتها، فانتفت الحاجة إلى مراقبة تدفّق الكتب ونوعيّتها، باستثناء التدقيق بالمعلومات الضارّة إذا وجدت.
ماذا عن الرقابة في مدّة حكم القياصرة؟
يمكن عدّ بطرس الأكبر أوّل قيصر روسيّ مارس الرقابة على الحياة المدنيّة، إذ تصرّف بحكمة في سياق إصلاحاته من وجهة نظر رجل دولة، حيث بذل جهودًا جبّارة لنشر الكتب ومحو الأمّيّة، ولو اقتصر الأمر على الطبقات العليا، في الوقت نفسه أدخل الرقابة في مجالات شتّى وعلى كتب محدّدة، حتّى وصف النصف الأوّل من القرن الثامن عشر بأنّه مرحلة نشر الكتب، ونشر العادات التي تدفع للتفكير تحت تأثير ما تمّت قراءته، وبالتالي عدّ هذا من المحاولات الأولى للحدّ من هذه الحرّيّة، لقد كانت دور الطباعة القليلة الموجودة في ذلك الوقت تخدم فقط الكنيسة الأرثوذكسيّة بشكل أساسيّ، لذا منح القيصر صديقه الهولنديّ “يان تيسينغ” الحقّ الحصريّ في الطباعة لروسيا، واستيراد الكتب، والخرائط لمدّة 15 عامًا، لقد كان تيسينغ أوّل محتكر حصريّ لطباعة الكتب لروسيا من حساب الخزينة. ولكن حتّى هنا ظهر أوّل إجراء رقابيّ، فمثلًا: إذا قرّر شخص ما بيع كتب مطبوعة في مطابع أجنبيّة غير كتب تيسينغ، فهذا يخاطر بدفع غرامة ضخمة قدرها ثلاثة آلاف روبل، يمنح إحداها (1000 روبل) للناشر الهولنديّ.
في عام 1704، ابتكر بطرس الأوّل بنفسه الأبجدّيّة الجديدة، التي كانت أكثر ملاءمة للاستخدام في دور الطباعة؛ منذ هذا التاريخ، امتزجت اللغة المكتوبة واندمجت باللغة الروسيّة المحكيّة، لتنتهي هذه العمليّة فقط في نهاية القرن العشرين؛ لقد كان القيصر خلال هذه المدّة هو المحرّر، وهو المترجم، والناشر، والوسيط، والرقيب، والقارئ النبيه[6]، يمكن للمرء أن يقول على قدر كبير من اليقين إنّه خلال هذه المدّة لم يكن يطبع سطر واحد باللغة الروسيّة إلاّ وكانت بصمات بطرس الأكبر عليه[7].
في بداية القرن الثامن عشر، لم تكن هناك من مأسّسة للمجتمع المدنيّ في روسيا، حيث إنّ جميع الطبقات كانت تتبع مباشرة للقيصر، وكذلك النبلاء والكهنوت والتجار. في مثل هذه الحالة، لا يمكن مناقشة موضوع الرقابة لأسباب موضوعيّة، ربّما من الأجدى الكلام على الرقابة الكنسيّة، فبعد الانشقاق الكنسيّ في منتصف القرن السابع عشر، تقلّص موقع الكنيسة، ولم تعد تؤدّي ذلك الدور الذي كانت تؤدّيه من ذي قبل، وبدأت مرحلة اندماجها بالدولة، هذه النزعة واجهتها نزعة واتّجاه آخر رديف، وبكون بطرس الأكبر من محبّي الدول البروتستانتيّة في شمال أوروبا، قرّر غرس المبدأ المحلّيّ المتمثّل بشعار ” أرضه، هي الإيمان”[8]، بمعنى حقّ اختيار الإيمان والعقيدة للرعيّة، والرعايا يعود فقط لصاحب الجلالة، وكنتيجة لهذه الميول ظهر السينودس المقدّس في 1721 – وهو في الواقع، وزارة الشؤون الروحييّة.
على وجه الخصوص، كان أحد أسباب إنشائها، هو الوضع الحرج الذي نشأ في الإمارات الأوكرانيّة للإمبراطوريّة الروسيّة، فقبل عام من إنشاء السينودس، اتّضح فجأة أنّ دور الطباعة المجانيّة كانت تعمل في كييف وتشيرنيغوف، والتي كانت لا تزال موجودة منذ زمن الاستقلال السياسيّ لهتمان (أتامان)[9]. هناك تمّ نشر، وتوزيع كتابات الانشقاق الكاثوليكيّة واللوثريّة، وعندما علم القيصر أنّ الكتب “لا تتّفق مع المطبوعات الروسيّة العظيمة” فقد منع نشر أيّ كتب على الإطلاق ما عدا الكتب الأرثوذكسيّة”، حتّى لا تحدث أيّ معارضة، أو تعدّدات. في بداية عام 1721، أصدر السينودس ما سمي “باللوائح”، وهي في الواقع، أول قانون للمطبوعات في روسيا، منذ الآن وصاعدًا كان لا يمكن نشر أي عمل مرتبط بالدين والقضايا الروحيّة إلاّ بإذن من السينودس، وتمّ الإعلان عن الإجراءات العقابيّة الأولى ضدّ العصاة – وهي الغرامة والتأنيب. تجدر الإشارة إلى أنّه بسبب نقص الطلب على الأدب العلمانيّ في روسيا، يمكن عدّ ظهور هذه اللوائح هو البداية الأولى الرسميّة للرقابة الحكوميّة في روسيا. في القرن السابع عشر، فإنّ ما كان يجذب انتباه أجهزة الرقابة في روسيا، ما سمّي بـ (“الكلمات النابية، “الضارّة”، “العنيفة”، “غير اللائقة”، “وغير الضروريّة، والمعيبة، والمقذعة غير المسموح به في المجتمع والديار”)، ووفقًا لما كان شائعًا في ذلك الوقت، يمكن أن تكون الكلمة الضارّة بمثابة جريمة بحقّ الدولة، وما كان يشدّ العملاء والمحقّقين السرّيّين في المقام الأوّل هي تلك “الكلمات البذيئة” ذات النوايا المبطّنة التي تطلق بحقّ صاحب السيادة (الإمبراطور)، وكانت يعدّ البوح، أو النطق بها يشبه النيّة الجرميّة هدفها المسّ بحياة القيصر.
تمّ تشديد سياسة الرقابة فيما يتعلّق بأحداث الثورة الفرنسيّة؛ وكمثال واضح على ذلك هو اعتقال الكاتب الروسيّ أ. راديشوف ونفيه في عام 1790، وكذلك إغلاق كتاب للصحفيّ ن. ن. نوفيكوف في 1792. بموجب مرسوم عام 1796، تمّ إنشاء لجان الرقابة في سان بطرسبرغ، وموسكو للإشراف على المنشورات، واستيراد الكتب إلى روسيا، وفي عام 1800 منع الإمبراطور بول الأوّل استيراد الأدب الأجنبيّ كلّيًّا.
تميّزت مدّة حكم آنا إيفانوفنا[10]، المسماة “بيرونوفشينا” (عصر البارون الألمانيّ، أرنست يوهان بيرون الذي لم تكن القيصرة تتّخذ قرارًا من دون رأيه ومشورته)، بزيادة الرقابة الخاصّة والصارمة، وكان يعدّ إهانة لشرف صاحبة السيادة ذكر اسمها من دون ذكر لقبها الرسميّ. في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية “المتنوّرة، والمتسامحة، والذكيّة” كما درجت العادّة على تسميتها، أصبح من الممكن مثلًا “إسقاط صورة لصاحبة الجلالة من غير قصد على الأرض” وعدم تناول العشاء على نيّة “صحّة صاحبة الجلالة – القيصرة”، لكنّها كانت تشعر بالغيرة جدًّا ممّا يقوله الناس عنها، وما يكتب عنها في الصحف، وكانت غير متسامحة بشأن ما كانت تصفه بأنّها “أقاويل متعدّدة”، والشائعات الكاذبة، والأضاليل، وكانت تعدّ أنّ ألسنة شريرة هي من تنشر عنها، وعن حكمها هذه الأكاذيب. كان التاريخ الفعليّ لمكافحة الشائعات، والدعايات السامّة في عهد كاترين الثانية، هو المرسوم الصادر في 4 حزيران 1763، الذي أتى تحت مسمّى واضح: “البيان المتعلّق بالصمت العامّ” أو “المرسوم المتعلّق بوقف النميمة”. لقد تضمّن هذا المرسوم تلميحات غامضة للغاية حول أناس عديمي “الأخلاق من أصحاب الأفكار الفاسدة” الذين يحشرون أنفوهم حيث لا يجب، ويطلقون الأقاويل الباطلة، وينشرون الدسائس، والقدح أمام ضعاف النفوس، متضمّنًا تهديدات حقيقية للغاية بحقّ هؤلاء[11].
حاولت كاترين الثانية منع أيّ معارضة علنيّة في البلاد، ففي ظلّ حكمها، وكما هو الحال قبل مائة ومائتي عام، فإنّ توجيه الكلمات المهينة، والكتابات المنتقدة لصاحبة الجلالة كانت تشكّل فعلًا إجراميًّا يعاقب عليه بشدّة، فيتمّ إرسال المذنبين من دون ضجيج (كما في السابق) إلى المنفى في سيبيريا، أو إلى الأديرة النائية، وإلى القرى البعيدة ليتمّ إسكاتهم بطرق متعدّدة، “يمكن للواشي الشرّير أن يحوّل الكلمة البريئة إلى جريمة جنائيّة، ويحوّل المذنب المرتكب إلى بريء”[12].
من ناحيته أعطى ألكسندر الأوّل أهمّيّة كبيرة لأنشطة الرقابة، وفي 9 حزيران 1804 وافق على أوّل ميثاق للرقابة، لقد بدأ نظام الرقابة في روسيا في التبلور في بداية القرن الثامن عشر، في ذلك الوقت، تمّ تقسيمها إلى رقابة أوّليّة وعقابيّة. يمكن أن تكون الرقابة عامّة (بالنسبة إلى المنشورات الروسيّة، أو الأجنبيّة)، والإدارات (العسكريّة والروحيّة والفنّيّة – الدراميّة). كانت من أهمّ التدابير الأوّليّة التي نظّمت ممارسة الرقابة هو اتّخاذ قرار يقضي بممارسة الرقابة وفق التصنيفات المتعدّدة، بما فيها اللاهوتيّة، ومنحت صلاحيّاتها الإلزاميّة للسينودس. في عام 1783، فرضت الشرطة الرقابة الأوّليّة على الكتب المنشورة، وكانت الأحكام الرئيسة لوثيقة ألكساندر على النحو التالي[13]:
الرقابة ملزمة للنظر في جميع الكتب والمقالات المعدّة للتوزيع والنشر في المجتمع (الفقرة 1)؛ والغرض من الرقابة هو “تسليم الكتب والمقالات التي تفضي إلى التنوير الحقيقيّ للعقل، وتشكيل الأخلاق، ومصادرة الكتب، والمقالات التي تتعارض مع هذه النيّة” (الفقرة 2) في هذا الصدد، تمّ حظر طباعة أي منشور، أو مطبوعة وتوزيعها وبيعها من دون الرجوع إلى الرقابة (الفقرة 2)؛ وعهدت الرقابة إلى لجان الرقابة المؤلّفة من الأساتذة، وحملة الماجستير في الجامعات برئاسة المجلس العامّ للتربية التابع لوزارة الإرشاد والتعليم العامّ. إذا تمّ إرسال مخطوطة إلى الرقابة”، وهي مليئة بالأفكار والتعابير التي ترفض بوضوح وجود الله (التجدّيّف)، أو تسخر من معتقدات الوطن الأم وإيمانه، وتنتقد قوانينه، أو تهين الإرادة العليا، أو تعارض روح البنية الاجتماعيّة، والصمت تمامًا، حينها ستقوم اللجنة على الفور بإعلام الحكومة عن هذه المخطوطة للعثور على كاتبها، واتّخاذ التدابير بحقّه بموجب القانون”؛ (الفقرة 15)؛ يلتزم الرقيب، عند حظر الكتابات والكتب، ” بأن يسترشد بالحكمة، والعقل والمنطق”؛ بموجب هذا الميثاق، تمّ فرض الرقابة الأوّليّة في مرحلة مبكّرة، أي عند إعداد المنشور، أو المطبوعة، وتحضير محتوياتها للنشر. كان على المراقبين أن يفسّروا للكاتب تلك النقاط في النصّ التي يعدّونها “ازدواجيّة المعنى”، وفقًا للميثاق، كانت جميع المؤلّفات “المخالفة للدين الأرثوذكسيّ والنظام الاستبداديّ” خاضعة للحظر؛ أمّا في النزاعات الرقابيّة، فكان مجلس الجامعة يقوم بدور الحَكَم، وكان من الممكن الطعن في قرار الرقابة الجامعيّة في إلهيّئة العامّة للمدارس والجامعات، الذي أصبح أعلى سلطة رقابيّة[14].
تزامن عهد ألكساندر الأوّل مع حصول حروب عدّة، أبرزها الحرب مع فرنسا التي اندلعت في عام 1807، والتي جرت تحت شعار الكفاح ضدّ مغتصب السلطة الشرعيّة، وغازي الدول الأوروبيّة الأخرى. بعد بدء العمليّات العسكريّة، أنشأ ألكساندر لجنة خاصّة “للحفاظ على النظام العام والهدوء”، في كانون الثاني 1807 قام بتحويلها إلى “لجنة أمنية عامة” تتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة، بما فيها الصلاحيّات الرقابيّة. بالنسبة إلى الإمبراطور ألكسندر الأوّل، كانت الحرب الوطنيّة عام 1812، والمدّة التي تلتها تشبه اختبارًا قاسيًا، لقد شعر الرجل برغبة المجتمع في الحدّ من السلطة الاستبداديّة، ورأى الخطر عليها في الحراكات العامّة الداعية إلى الحرّيّة، وتطبيق الدستور ومكافحة الفساد، الأمر الذي تطلب زيادة الرقابة من قبل الدولة. تمّ إيلاء أهمّيّة كبيرة في أنشطة الشرطة أثناء الحرب وبعدها، لتطبيق سياسة الرقابة التي تتبعها الحكومة، كما تعامل المكتب الخاصّ لوزارة الشرطة مع هذا الأمر. إنَّ منح هذه إلهيّئة (وزارة الشرطة) سلطات رقابيّة، يتعارض مع ميثاق الرقابة لعام 1804، الذي تمّ بموجبه إسناد هذه الوظيفة إلى وزارة التعليم، لكن ظروف الحرب فرضت إهمالاً في الرقابة. تلقّت وزارة الشرطة نوعًا من حقّ إعادة الرقابة حول الكتب، على الرغم من أنّها يمكن أن تمرّ بالفعل على أجهزة الرقابة الأخرى، ولكن هذا أعطى “ذريعة سيّئة للتفسير الخاطئ للميثاق وبنوده، وللنظام العامّ والهدوء”، إذ كان يتمّ إبلاغ وزير الشرطة، أو وزير التعليم في بعض الحالات، أو يتمّ إبلاغ الإمبراطور مباشرة”. استمرّت هذه الوضعيّة لمدّة خمس سنوات، من عام 1811 إلى عام 1816، حيث حظرت وزارة الشرطة 53 عرضًا مسرحيًّا، ومنعت مئات الكتب؛ لقد كان الوقت ليس وقت البحث عن العيوب أو التشهير، إنّه زمن الحرب[15].
ساهمت انتفاضة الديكابريّين[16] في فهم أوسع لدور الرقابة ومكانتها في نظام الدولة، في عام 1826، اقترح ف.ف. بولغارين[17]، في مذكّرة له، تحت عنوان “حول الرقابة في روسيا، وحول وظائف دور النشر والطباعة بشكل عامّ”، أنّه يجب استخدام الأدب للتأثير على الرأي العامّ، وتشكيله لصالح المجتمع والدولة… لقد رأى في الرقابة عاملًا رئيسًا لتحصين السلطة وحمايتها، وعدّها مجموعة من الإجراءات، والتدابير لحماية مصالح الأوتوقراطيّة الروسيّة و”توجيه الرأي العامّ”. كتب بولغارين: “معظم الناس، وبسبب الكسل الفكريّ، والنقص في المعلومات… يصبحون أكثر مرونة في تقبل حكم شخص آخر، بل هناك سهولة في التحكّم بعقولهم من قبلنا، بدل أن نتركهم أسرى أفكارهم وأحكامهم الشخصيّة وتحليلاتهم التي قد تتحوّل ضدّنا”، وبالتالي، فمن الأفضل على الحكومة أن تتولّى واجب التحكّم بالأغلبيّة وإدارتها”، من خلال المطبوعات، والمنشورات التي من خلالها يتمّ إخبار هذه الأغلبيّة بما نريد. وافق الإمبراطور نيقولا الأوّل عام 1826، على ميثاق رقابة جدّيّد، الذي شدّد فيه على أهمّيّة الرقابة على المنشورات الأدبيّة والفكريّة، احتوى الميثاق على الكثير من التفاصيل، فهو يتألّف من 19 فصلًا، و230 فقرة. تمّ تنفيذ ميثاق الرقابة من قبل وزير التعليم الأدميرال شيشيكوف، بحيث عبر الميثاق الجدّيّد عن الرغبة في تنظيم جميع مَهَمّات الرقابة وصلاحيّات أجهزتها.
كان الغرض من الأحكام الرئيسة لميثاق الرقابة لعام 1826، إعطاء المصنّفات الأدبيّة، والعلميّة، والفنّيّة في النشر، والنقش، والتنضيد، والحفر، والرسم، اتّجاهًا مفيدًا غير ضارٍّ لمصالح الوطن الأمّ؛ ونصَّ على أنّه يجب أن تسيطر الرقابة على ثلاثة مجالات في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة للمجتمع: الحقوق، والأمن الداخليّ؛ توجيه الرأي العامّ وفقًا للظروف وسياسات الحكومة؛ العلوم وتربية الشبيبة؛ تقليديًّا، عهدت وزارة التعليم بمَهَمَّة، وكانت المديريّة العامّة للرقابة توجّه جميع أنشطتها، “لمساعدتها ومساعدّة الإدارة العليا للرقابة”، تمّت الموافقة على لجنة الرقابة العليا، التي تتألّف من ثلاثة وزراء: التعليم العامّ، والشؤون الداخليّة، والشؤون الخارجيّة وفقًا لتوجيهات الرقابة الثلاثة؛ أنشأت الدولة لجنة الرقابة الرئيسة في سانت بطرسبرغ، ولجان الرقابة المحلّيّة في موسكو، وكانت لجنة الرقابة الرئيسة ترفع تقاريرها مباشرة إلى الوزير، والباقي إلى أمناء المناطق التعليميّة؛ على أنّ الحقّ في الرقابة بالإضافة إلى ذلك، بقي في القسم الكنسيّ، والأكاديميّة، والجامعات، وبعض المؤسّسات الإداريّة، والمركزيّة، والمحلّيّة، التي أرست الأساس للرقابة الذاتيّة.
حدَّدَ ميثاق، عام 1826 مهنة الرقيب، على أنّها مهنة مستقلّة، “تتطلّب تطويرًا واهتمامًا مستمرًّا”، “وممارسة مضنية، وصعبة، وشاقّة، لذلك لا يمكن دمجها مع أيّ منصب آخر”. كانت هذه، بلا شكّ، خطوة إلى الأمام في فهم دور الرقيب، حيث يمكن أن يُطلب من المحترف التفرّغ الكامل لعمله، وإلاّ حرم منها، إلخ… بالإضافة إلى ذلك، تمّ رفع عددِ موظّفي الرقابة، وزيادة رواتبهم. في السابق، كانت لجنة الرقابة الرئيسة في سانت بطرسبرغ تتكوّن من ثلاثة أجهزة رقابيّة، وتمّ زيادة رواتب المراقبين من 1200 روبل سنويًّا، إلى ما يصل إلى 4000 روبل، أمّا مراقبو اللجان المحلّيّة – فكان يصل راتبهم إلى 3 آلاف روبل.
ما هي المحظورات والموانع التي تناولها هذا الميثاق؟
- المقاطع في المقالات والترجمات كلّها التي “تحمل معنى مزدوجًا” .
- إذا وجد مقطع واحد يتعارض مع “قواعد الرقابة”، للرقيب الحقّ في وضع تفسير يقيِّم ما هدف إليه صاحب المنشور، أو الكاتب، واستنتاج الغاية من الفكرة أو المقطع.
- على الرقيب ترصّد الأفكار، وقراءة الأفكار المسبقة، والتكهّن، والتوقّع، خصوصًا في المنشور الذي يستهدف كاتبه الحكم الملكيّ المطلق أو القيصر.
- حظر المقالات الطبّيّة والنفسيّة – الاجتماعيّة التي تؤدّي دور “إضعاف النفوس”، التي تفتقر إلى الدقّة في المعطيات وتمسّ مقدّسات الكنسيّة الأرثوذكسيّة ومعتقداتها، مثل الروح الإلهيّة، وحرّيّة النفس البشريّة، استقراء المستقبل، هنا من واجب الرقيب استئصال أيّ محاولة من هذا النوع سواء في “المقالات، والمطبوعات، والترجمات التي تحتوي على انحرافات كهذه”.
كان ميثاق الرقابة الجديد مثقلًا بالتفاصيل التي لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالرقابة، حيث أعار الميثاق اهتمامًا لكلّ “المقالات، والمخطوطات في اللغة الروسيّة”، والتي تنتهك فيها بوضوح قواعد اللغة الروسيّة وسلاستها وفقهها، وتلك المليئة بالأخطاء النحويّة والقواعد، فهذه لا يمكن طباعتها دون تصحيح وتحرير مناسبين من قِبل الكتّاب، أو المترجمين”. وقدّمت الوثيقة قواعد مفصّلة لإدارة ليس فقط جهاز الرقابة، ولكن أيضًا قواعد حقوق، والتزامات بائعي الكتب، وأصحاب المكتبات، والمطبوعات، وكذلك تمّ إعطاء توصيات للدوريّات والمجلاّت، لا سيّما بشأن الكتب اليهوديّة، واهتمّ بتحديد مَهَمّات قواعد الرقابة ومسؤوليّاتها، ودور بائعي الكتب، وعمّال دور الطباعة والموزّعين[18].
كان من النتائج المؤلمة لهذه الرقابة، إقفال الكثير من المجّت والدوريّات والمطابع، ومن بينها:
– في عام 1831، تمّ إقفال الصحيفة الأدبيّة.
– في عام 1832، تمّ حظر نشر وبيع المجلّة الأوروبيّة.
– في عام 1834، تمّ حظر صحيفة تلغراف موسكو.
– في عام 1836، تمّ حظر مجلّة التلسكوب.
رأى نيقولا الثاني في المقالات، والتعليقات المنشورة في هذه المجلاّت “دعاية للأفكار الفتنويّة”، وتهجّمات على الأعمال الفكريّة التي تبشر” بالنظريّة الشعبيّة الرسميّة”[19]
بدأ تحرير الرقابة من القيود في عصر إصلاحات الكسندر الثاني، التي بدت طبيعيّة للغاية، كان مشرع ميثاق الرقابة الجديد- وزير الداخليّة “فالوييف”، الذي أعاد النظر في الكثير من موادّ الميثاق السابق، في آذار 1865، أقرّت الجمعيّة العامّة لمجلس الدولة قانونًا جديدًا للرقابة، والصحافة الذي خضع لنقاش عميق، ورفض للكثير من موادّه، ولمواجهة المحافظين قبل “فالوييف” بما سمّي بالقواعد المؤقّتة للرقابة.
إنّ قانون الرقابة هذا، بقي ساري المفعول حتّى تشرين الثاني 1905 أي لمدّة 40 عامًا. كان القانون الجديد، بلا شكّ، خطوة إلى الأمام في العلاقة بين الحكومة والصحافة، ووفقًا لذلك، تمّ فتح الطريق أمام شكل أكثر تقدّمًا من الرقابة، أي الرقابة التتابعيّة – المستمرّة، ومن ثَمَّ العقابيّة، مع إمكانيّة مقاضاة مرتكبي انتهاكات قواعد الرقابة في المحكمة؛ لقد استندت القواعد الجديدة إلى ضرورة منح الصحافة متنفّسًا، وراحة، ومُناخًا ملائمًا في العمل، ووعي لأهمّيّة هذه الإصلاحات التي لا بُدَّ منها في مرحلة انتقاليّة تعيشها روسيا، خصوصًا في الجانب المتعلّق بالعقوبات الجزائيّة، وبالتالي تعفى من الرقابة المسبقة، في كِلا العاصمتين بطرسبورغ وموسكو، كلّ:
- الدوريّات والمطبوعات، وتلك التي يعلن الناشرون أنفسهم عن هذه الرغبة.
- المواضيع الأصيلة المنشورة التي لا يقلّ عدد صفحاتها عن عشر صفحات.
- الأعمال المترجمة التي لا يقلّ عدد صفحاتها عن العشرين صفحة.
بالنسبة إلى النواحي والأقضية والفروع يتمّ إعفاء
- المطبوعات الحكوميّة.
- المؤلّفات الأكاديميّة الصادرة عن الجامعات، والمؤسّسات والجمعيّات المتخصّصة.
- المنشورات باللغات القديمة والكلاسيكيّة، والترجمات القديمة من هذه اللغات.
هكذا تمّ إعفاء جميع المطبوعات من الرقابة المسبقة، ووفقًا للقواعد الجديدة أعفيت المطبوعات، والأعمال المنشورة، والترجمات من الرقابة الأوّليّة، في حالة انتهاك القانون يتمّ مقاضاة الدوريّات لدى المحاكم، وفي حال نشرت مقالات تضرّ بالتوجّهات العامّة للدولة تخضع لعقوبات إداريّة، لقد أصبح الرقيب متساهلًا أكثر من ذي قبل بما يتماشى مع روح الإصلاحات الليبراليّة التي أعلن عنها نيقولا الثاني ومع اعتماد القواعد المؤقّتة.
من المُهِمّ التأكيد على أنّه في ظلّ الواقع الروسيّ الذي كان قائمًا في القرن الماضي، لم تكن الرقابة مجرّد مؤسّسة قمعيّة تعمل لخدمة السلطة، بل كانت مجبرة أيضًا على صقل لغة الصحافة العلميّة، فاضطرّت للنظر، وباستمرار في مضامين هذه المقالات، وإلزامها على استخدام لغة واضحة[20].
إلاّ أنّ هذا الذوبان الرقابيّ الذي فرض بواسطة الأحكام المؤقّتة ما لبث أن تبدّد، إذ إنّ هناك من كان يعدّ أنّ الصحافة في روسيا وممثّليها، هم في غالبيّتهم ليسوا سوى عنصرًا فاسدًا، لم يأت بالتنوير، والخير للمجتمع الروسيّ، بل حمل معه الظلام، بمعنى كان لا بدّ من حلّ هذه الصحافة وملاحقة من يمثّلها.
لقد أخذ الدوق تولستوي (وزير الداخليّة الجديد) هذه الآراء السلبيّة عن الصحافة على محمل الجدّ، فعمد إلى صياغة قانون جديد في آب 1882، هذا القانون بقواعده أطاح بكلّ اللوائح السابقة، إذ تمّ تشكيل لجنة مؤلّفة من وزراء الشؤون الداخليّة، والتعليم العامّ، والعدل، ومدّعي عامّ السينودس، ونقلت صلاحيّات معالجة القضايا المتعلّقة بالمطبوعات من اختصاص مجلس الشيوخ، إلى هذه اللجنة التي كانت تتّخذ قرارات بشأن الحظر النهائيّ للدوريّات، أو تعليقها المؤقّت، من دون تحديد مدّة التعليق، وحظر عمل المحررين، ومنعهم من العمل فيها مجددًا بل منعهم من ممارسة هذه المهنة، أو منعهم نهائيًا من تأسيس مطبوعات جدّيّدة .
على سبيل المثال، كان يتردّد في الأوساط الحاكمة: إنّ “إساءة استخدام الكلمة المطبوعة يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على الدولة”. ووصفت الصحافة بأنّها “تمارس الهرطقة، والدجل، وتنشر التجديف، والتجروء على السلطة في جميع أرجاء الأرض الروسيّة الشاسعة، وعلى مسافة آلاف وعشرات الآلاف من الأميال، فتزرع بذور الفتنة، والاستياء بين الناس المسالمين والصادقين، وتحرّض فقط على المشاعر الفظيعة “لقد أصبح مثل هذا الرأي عن الصحافة واسع الانتشار”.
على هذا الأساس زادت نسبة التدخّل الإداريّ – الرقابيّ في عمل الصحافة بشكل كبير، تمّ رفع عقوبة تلك الدوريّات التي يتمّ تعليق عملها مؤقّتا، خصوصًا إذا كانت قد حصلت على ثلاثة تحذيرات، وبعد انتهاء مدّة التعليق كان على المحرّرين تقديم منشوراتهم إلى لجنة الرقابة عشيّة النشر في الساعة 11 مساءً، هذا يعني فعلاً استعادة الرقابة الأولية، في هذه الحالة، وجهت ضربة قاصمة إلى الصحف التي لم تستطع تحمل منافسة المنشورات الأخرى التي كانت قد طبعت معلومات أكثر حداثة (السبق الصحفي)، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للرقابة وحسب تقديرها الذاتيّ، تعليق هذا المنشور من دون الشروع في التحقيق. لقد استتبع الجزء الإداريّ – العقابيّ من القانون بأثر اقتصاديّ.
صدرت تعليمات تحذيريّة للمحرّرين، وخلاصتها: إنّ نشر “مقالات ضدّ الوكالات الحكوميّة وهيئاتها يمكن أن يؤدّي إلى اتّخاذ تدابير عقابيّة إداريّة صارمة ضدّ المنشورات المذنبة”؛ ومنع نشر “جميع أنواع المعلومات المنحازة إلى جانب الفلاّحين ضدّ ملاّك الأراضي”، “وأخبار إعادة توزيع الأرض وتقاسمها، إذا كانت القسمة لمصلحة الفلاّحين، وكلّ الوثائق المتعلّقة بطبيعة التغطية الصحفيّة للحياة الطلاّبية، “أعمال الشغب الجامعيّة”[21].
لقد أتى القانون بهدف التخلّص من الصحافة المزعجة، وهكذا في عهد ألكساندر الثالث تمّ حظر 15 صحيفة ومجلّة عن النشر، حتّى يمكن القول إنّ نهاية القرن التاسع عشر، حمل معه سياسة رعناء في التعاطي مع المطبوعات واستمرار إلهيّئات الرقابيّة في ممارسة دورها من قبل وزارة الداخليّة، التي كان الهدف منها مواجهة الصحافة الضارّة والدعاية الرخيصة والمضادّة.
حدّد ميثاق الرقابة لعام 1890 بوضوح تامّ، القيم التي يسعى النظام للحفاظ عليها والتي من خلالها، تستخدم الرقابة، وهي تنصّ على أنّه: “في جميع وسائل الإعلام المطبوعة بشكل عامّ، يجب ألاّ يكون هناك أيّ انتهاك لاحترام الواجب لتعاليم الاعتراف المسيحيّ وطقوسه، وحماية نزاهة السلطة العليا وخصائصها، واحترام أفراد العائلة المالكة، والقوانين الأساسيّة الثابتة، والأخلاق الوطنيّة، والشرف وخصوصيّة الحياة المنزليّة، والعائليّة للجميع، وكانت الرقابة ملزمة بالتمييز بين الأحكام، والتكهّنات الحسنة النيّة المبنيّة على معرفة الله، والإنسان، والطبيعة، وتلك الفلسفات الوقحة، والعنيفة، التي تتعارض مع الإيمان الناصع والحكمة الحقيقية[22].
من الواضح تمامًا أنّ الرقابة في العهد الإمبراطوريّ كانت رقابة قاسية ساهمت في تكريسها السلطة بالتحالف مع النخب الاجتماعيّة والكنيسة، ولربّما ساهم ذلك في إعاقة التطوّر المنشود الذي سارت عليه دول أوروبيّة مجاورة، ولربّما أيضًا لو استكملت الإصلاحات لخطت روسيا خطوات متقدمة إلى الأمام، ولربما لم تنتقل روسيا إلى واقع ثورويّ هزّ كِيانها في عام 1905، وعام 1917.
2-1 المبحث الثاني: الرقابة في عصر الثورة الروسيّة والمدّة السوفيتيّة
أشرنا إلى أنَّ نظام الرقابة في روسيا كان فاعلًا قبل مدّة طويلة من وصول البلاشفة إلى السلطة، ونشير إلى أنّ زعماء الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ الروسيّ (البلشفيّ) RSDLP في وقت ما قبل الثورة كانوا أدانوا الرقابة القيصريّ، فقد احتوت دعواتهم على مطالبة الحكومة بإلغائها على الفور، بعد وصولهم إلى السلطة، تغيّرت آراء النخب الحزبيّة بشكل جذريّ. لذلك، وعلى سبيل المثال، في خضمّ انتخابات الجمعيّة التأسيسيّة، أعلن لينين: “عندما تقاتل الطبقة الثورويّة ضدّ الطبقات المالكة التي تقاومنا، يجب عليها (الطبقة العاملة) ردع هذه المقاومة؛ وسنقمع مقاومة الطبقات الحاكمة بكلّ الوسائل، التي قمعوا بها البروليتاريا – حتّى اليوم لم يتمّ اختراع وسائل أخرى”[22].
في المؤتمر الثاني عشر للحزب البلشفيّ، صدرت توصية شدّد فيها المؤتمرون: أنّه لا يمكن للمؤتمر الثاني عشر أن يتغاضى عن حقيقة أنّ السياسة الاقتصاديّة الجديدة (النيب) NEP))[23] تخلق الأرضيّة للانحرافات، هذا الخطر الذي يجب أن يواجهه الحزب بقوّة، على الحزب منذ البداية أن يردع أيديولوجيًّا هذه التوجّهات وبشكل حاسم[24]. أجواء الريبة، والشكوك، والبحث عن “أعداء” دكتاتوريّة البروليتاريا بدأت تلوح في الأفق.
لم ينحسر الصراع الطبقيّ في المدّة اللاحقة فحسب، بل اندلع على نطاق واسع. في مقالة لرئيس المحكمة العليا في اللجنة التنفيذيّة المركزيّة لعموم روسيا، تحت عنوان: الصراع الطبقيّ عن طريق التخريب”، كتب “كريلينكو” في شباط 1930: “إنّ العدوّ المباشر للطبقة العاملة راسخ في مؤسّساتنا، لقد تسلّق ليصل إلى مراتب القيادات العليا في عدد من الإدارات الصناعيّة، مدّعيًا أنّه سينقل معرفته المتراكمة خدمة للاتّحاد السوفياتيّ، وفي الواقع وضع لنفسه هدف الإطاحة بالسلطة السوفيتيّة”[24]، سرعان ما ظهرت نظريّة ستالين الخاصّة بتعزيز الصراع الطبقيّ بمدى انتصار الاشتراكيّة في كلّ بلد على حدى. في إطارها، أصبحت الفكرة الرائجة: كلّما قويت الاشتراكيّة، كلّما قاومها أعداؤها بشدّة. في الجلسة المشتركة للجنة المركزيّة، ولجنة الرقابة المركزيّة التابعة للحزب الشيوعيّ (بلشفيك) في كانون الثاني1933، قال ستالين: “يجب أن يؤخذ في الحسبان أنّ نموّ قوّة الدولة السوفييتيّة سيعزّز مقاومة آخر فلول الطبقات المحتضّرة. على وجه التحديد لأنّهم يحتضّرون، ويعيشون أيّامهم الأخيرة، بل سينتقلون من شكل هجوم إلى آخر أكثر حدّة، داعين ما تبقى من الناس لتعبئتهم ضدّ النظام السوفييتيّ. لا يوجد مثل هذا الخداع، والشتائم القاسية التي يطلقها هؤلاء السابقون ضدّ السلطة السوفييتيّة محاولين تجنيد العناصر المتعدّدة وتعبئتها ضدّها”[25]. يبدو أنّ قائد الدولة وضع أمام الحزب مَهَمّة “القضاء على فلول الطبقات المحتضّرة” وتنظيم الدفاع عن البلاد ضدّ تطويق الرأسماليّة.
وردًّا على “تحدّي” العدوّ الطبقيّ، تمّ تشكيل آليّات الدفاع عن النظام الاشتراكيّ، لقد أصبحت الرقابة السياسيّة واحدة من أكثر الأدوات فاعليّة في الصراع الطبقيّ، أنشأت لهذا الغرض في عام 1922 في اتّحاد الجمهوريات الاشتراكيّة السوفياتيّة إدارة مركزيّة للرقابة، وسمّيت بالمديريّة العامّة للرقابة على الأدب والنشر، غلافليت (Glavlit)، للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، وديكتاتوريّة الحزب البلشفيّ.
هكذا فالحديث عن الرقابة في روسيا السوفيتيّة أتى إثر إمساك البلشفيك مباشرة بالسلطة، حيث تمّت مصادرة المطابع، وتمّ إلغاء نشاط كلّ الصحف البرجوازيّة، إنّما ما سبق ذلك هو أنّه بعد ثورة شباط أي قبيل وصول البلاشفة بقليل، وبعد موافقة سلطة الحكومة المؤقّتة، أصبحت صحيفة “نشرة الحكومة المؤقّتة” (فيتسنيك)، الوسيلة الإعلاميّة الرسميّة، التي أنشئت لتصبح لسان حال السياسة الحاليّة للدولة[23]. كان على “فيستنيك” وهو الاسم الروسيّ للصحيفة، أن تصبح الوسيلة الإعلاميّة الناطقة باسم السلطة الجديدة. بعد الأحداث الثورويّة العاصفة في شباط 1917، عملت “فيتسنيك” على تغطية الأخبار المتعلقة بالصحافة والمطبوعات الوطنيّة كافّة، وموقف الصحافة الروسيّة من الحكومة الجديدة، وابتداءً من 5 آذار1917، أيّدت جميع الصحف المؤثّرة في العاصمة وهي: نوفويه فريميا، روسكوي سلوفو، بيرجيفييه فيدوموستي، “ريتش”- الحكومة المؤقّتة وسياساتها، لتصبح صحيفة (فيتسنيك) صدى الحكومة المؤقّتة، فكانت تنشر على صفحاتها “قرارات الحكومة المؤقّتة”، “القرارات الإداريّة”، استحدثت صفحة بعنوان “عبر روسيا”، صفحة خصّصت للأخبار المتعلّقة “بالحرب”[24]. لقد تحوّلت “فيستنيك” إلى مطبوعة رسميّة طبعت فيها موادّ متعلّقة بالنداءات الحكوميّة، والقرارات، والمراسيم، والمذكّرات الدبلوماسيّة، والتقارير عن مضامين الاجتماعات الحكوميّة، فضلًا عن معلومات من جبهات الحرب العالميّة الأولى؛ تجدر الإشارة إلى أنَّ أوّل قرار مُهِمّ اتّخذته الحكومة المؤقّتة هو إعلان العفو عن جميع الموقوفين السياسيّين والدينيّين.
أعلنت الحكومة الجديدة عن تبنّيها لحرّيّة التعبير والصحافة وحرّيّة تأسيس النقابات، والاجتماعات، والإضرابات، وعلى موجة الإعلانات عن الحقوق والحرّيّات الدستوريّة، وفي نهاية آذار 1917، نشرت صحيفة روسكويه سلوفو، (Russkoe Slovo)، مسوّدة قانون الصحافة التي وضعها حزب الكاديت، وجاء في مقدّمته: “الطباعة مجانيّة، تلغى الرقابة مرّة وإلى الأبد[25].
بعد مضي شهر فقط على نشر مشروع القانون في الصحف والمجلاّت، اتّخذت الحكومة المؤقّتة قرارًا حول الصحافة ونشاطها في 27 نيسان 1917، جاء في البند (1) من المرسوم، “إنَّ طباعة المنشورات وبيعها أصبح مجانيًّا”، ينصّ هذا القانون على إطلاق وسائل الإعلام المطبوعة وتوزيعها من دون عوائق، وبغض النظر عن الجهة السياسيّة التي تصدرها، كما تمّ إلغاء أيّ تدخّل إداريّ في عمل الدوريّة، والصحف، كما حصلت جميع الأحزاب السياسيّة على الحقّ في إصدار الدوريّات الخاصّة بها، باستثناء الصحافة الملكيّة فقط (العهد السابق).
بالتزامن مع مرسوم “حرّيّة الصحافة” في 27 نيسان1917، تمّ اعتماد قرار الحكومة المؤقّتة “بشأن المؤسّسات الصحفيّة”؛ وفقًا لهذا القانون، ألغيت المديريّة العامّة للصحافة، ولجنة الرقابة الأجنبيّة، وجميع سلطات الرقابة المحلّيّة، ومفتّشي المطبوعات، وكذلك لجنة المطبوعات التي تأسّست في 13 تموز 1914[26]. لقد سمح هذا القرار بانتشار واسع للصحف على تعدّد توجّهاتها الإيديولوجيّة.
بُعيد حصول ثورة أكتوبر مباشرة ووصول البلاشفة إلى السلطة، تمّ إغلاق الصحف التي نعتت “بالرجعيّة” كافّة، كما واجهت الصحافة البلشفيّة نفسها في 26 تشرين الأوّل، داهمت اللجنة العسكريّة الثورويّة مكاتب تحرير صحافة المعارضة، وحطمت محتوياتها، تمّ إغلاق الصحف التي تنتهج نهجًا معاديًا للبلاشفة، منها صحيفة “قضيّتنا المشتركة” (ناشيه أوبشييه ديلو) المناهضة للبلاشفة، كما تمّ اعتقال المحرّر فلاديمير بورتسيف، وواجهت صحيفة المنشفيك “يوم” (دين) نفس المصير، وكذلك صحيفة الكاديت – الكلمة (ريتش)، وصحيفة اليمين – الوقت الجديد (نوفييه مريميا)، واليمين الوسط – أخبار البورصات (بيرجيفييه فيديموستي)، وتمّت مصادرة دور الطباعة التي كانت تنشر وتطبع هذه الصحف كافّة، وجرى تسليمها لصحفيّين بلاشفة[27].
في 6 حزيران 1922، بدأ عصر الرقابة السوفييتيّة، إذ صدر مرسوم عن مجلس مفوّضي الشعب بتأسيس المديريّة العامّة للأدب والنشر (غلافليت)، التي كانت مسؤولة عن سياسة الدولة في ما يتعلّق بالرقابة. عُهد إليها مَهَمّة “المراقبة المسبقة على جميع الأعمال، والمؤلَّفات، والبطاقات، والرسومات التعبويّة، واليافطات، وما إلى ذلك من الموادّ المعدّة للنشر، فضلًا عن تجميع قوائم المصنّفات المطبوعة المحظورة”، بالإضافة إلى حظر المنشورات، لجأ غلافليت ((Glavlit إلى التدخّل في الرقابة، مثل تحرير المخطوطات، والحذف، وتفضيل النصوص الماركسيّة (وهذا ينطبق أيضًا على كلاسيكيّات روسيا، والأدب العالميّ).
تمّ حظر إدخال جميع الأعمال المعادية للسلطة السوفييتيّة، خصوصًا تلك المناهضة للإيديولوجيّة الماركسيّة، والمؤيّدة للغرب، والمعادية للبروليتاريا، منها الأدب المعادي للماركسيّة، الكتب ذات الاتّجاه المثاليّ؛ أدب الأطفال الذي يحتوي على مظاهر الأخلاق البرجوازيّة، وتلك التي تشيد بالحياة القديمة، والنظام الأسبق، إلى أعمال المؤلّفين المناهضين للثورة، منعت أعمال الكتّاب الذين قتلوا في الكفاح ضدّ النظام السوفيتيّ، والأدب الروسيّ الذي نشرته المجمّعات، والمدارس اللاهوتيّة والدينيّة، بغض النظر عن مضمونها.
استُبعدت في الوقت نفسه، عن لوائح الحظر، المنشورات الصادرة عن الكومنترن (الأمميّة الشيوعيّة)، والصحافة الحزبيّة بأكملها، ومنشورات دار النشر الحكوميّة، والمنشورات الرسميّة الإرشاديّة – التعبويّة، صحيفة ” الازفستيا” الناطقة بلسان اللجنة التنفيذيّة المركزيّة لعموم روسيا، والمؤلّفات العلميّة لأكاديميّة للعلوم. ومع ذلك، في عام 1931، أصبح على جميع المنشورات الخضوع لرقابة أوّليّة من الغلافليت من أجل ضمان الحفاظ على أسرار الدولة، ما يعني أنّ توقيع (Glavlit) كان يجب أن يكون ممهورًا على جميع الوسائل المطبوعة والمنشورة.
في 9 شباط 1923، تمّ تأسيس ربيرتكوم (Repertcom)، وهو قسم تابع لغلافليت، وهي لجنة المراقبة على فنون الاستعراض، والأعمال الفنّيّة، والفنّ المسرحيّ. لقد تمّ تكليفها بمنح الأذونات لعرض “الأعمال الدراميّة، والموسيقيّة، والسينمائيّة”، بالإضافة إلى حظر الأعمال التي ترتأي اللجنة أنّها غير مناسبة، أو تلك التي يسمح بعرضها بعد إجراء تعديلات عليها[28].
بالإضافة إلى الأعمال الدراميّة، كان (الربيرتكوم) يقوم بالرقابة على أيّ مشهد سينمائيّ أو مسرحيّ، وعلى العروض الفنّيّة الجماهيريّة، بَدءًا من المحاضرات، والتقارير، وانتهاءً بأمسيات الرقص (الفنّ الفلكلوريّ الشعبيّ، الباليه، الأوبرا…). في نهاية العشرينيّات القرن العشرين وأوائل الثلاثينيّات، قام (الربيرتكوم) بإعداد “فهرس مرجعيّ” مكوّن من ثلاثة مجلّدات، ينظم كيفيّة أداء المسرحيّات وغيرها من الأعمال، اعتمادًا على “ما يحتاجه الجمهور”. تضمّن المجلّد الأوّل مرجعًا موسيقيًّا، والثاني اختصّ بالمسرح، فيما الثالث اختصّ بالسينما، هذه الموادّ كانت عرضة لمقصّ الرقيب، على أنّه في المستقبل القريب، أعيدت عمليّة التصنيف لكلّ هذه الموادّ، وإرسالها ممهورة بختم “سرّيّ للغايةً” إلى الغلافليت لاتّخاذ ما يلزم.
منذ عام 1933 كان يمنع ومن دون الحصول على إذن مسبق، تصنيع “الشارات والعلامات، والشارات التي تعلّق على الصدر، أو القبعات، والتي تحمل رسومات، ونصوص، ومنحوتات سياسيّة، وصور لسياسيّين، بالإضافة إلى شعارات، ورسومات سياسيّة على البورسلين، والزجاج، والمنسوجات، والقطنيّات، إلخ”
ووضعت المكتبات تحت رقابة إدارة شؤون التثقيف السياسيّ، ومركز تنسيق عمليّات التثقيف السياسيّ، في عام 1923، تمّ تطوير نظام “التعليمات حول مراجعة مكوّنات المكتبات والكتب، وتمّت مصادرة كامل مؤلَّفات الأدب المناهض للثورة، والإبقاء على الأدب الثورويّ[29].
لا شكّ في أنّ عمليّة تنظيم الرقابة العسكريّة نالت اهتمامًا خاصًّا، كانت الخطوة الحاسمة في عمليّة تشكيلها هي تأسيس قسم الرقابة العسكريّة في هيكليّة المجلس العسكريّ الثورويّ في 23 كانون الأوّل 1918، وبتوجيه من اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ الثورويّ (البلشفيّ).
كانت سلطات الرقابة تقوم بالتحكّم الأوّليّ بالبريد الدوليّ، والبرقيّات المحلّيّة، حسب الاقتضاء والضرورة، وكذلك جميع الموادّ المطبوعة المصدرة إلى الخارج، كما كانت تشرف على المكالمات الهاتفيّة. وهكذا، تمّ منح الرقابة العسكريّة وظائف واسعة، وهذا ما يجعلنا نؤكّد أنّه قبل تنظيم (Glavlit)، كانت إدارة الرقابة العسكريّة، في جوهرها، ليست فقط هيئة سلطويّة، بل أيضًا هيئة عقابيّة.
كانت الرقابة العسكريّة تزوّد السلطة بمعلومات عن الوضع على الجبهات، وتلك التي تنشر في الصحف، وتمّ بثّها عبر تقارير إذاعيّة، كما كانت تفرض عقوبات تأديبيّة، بما في ذلك إغلاق الصحف والمجلاّت، واعتقال المحرّرين ومصادرة الممتلكات، في حالة عدم الامتثال لإجراءات تقديم الموادّ إلى سلطات الرقابة. تشير ملخّصات الرقابة إلى أنَّ حالات تطبيق مثل هذه العقوبات كان يتمّ بسبب عدم تقديم لوائح عرض المشاهدة التي وضع عليها إشارة (x) على الموادّ المشبعة بالرقابة، ونشر موادّ تحليليّة محدّدة من دون مشاهدة ورقابة، إلخ… في بعض الأحيان كان هناك ما يبرّر مثل هذه الصرامة: كان من الضروريّ كبح جماح الصحفيّين، وتبريد حماستهم الزائدة، خصوصًا الذين يسعون في مقالاتهم إلى السبق الصحفيّ، وتضخيم نجاحات القوّة السوفيتيّة على الجبهتين العسكريّة والاقتصاديّة[30] .
لقد تخطّت الرقابة السوفيتيّة تلك الرقابة التي كانت موجودة في روسيا القيصريّة، فإذا كانت “الرقابة القيصريّة سلبيّة بحتة، ولم تضغط على المؤلّف في القضايا السياسيّة، ما خلا في عهود محدّدة” كما أسلفنا، لكن الرقابة السوفيتيّة “الإيجابيّة” قامت بتحويل أيّ مؤلّف لا يمتدح الاتّحاد السوفيتيّ إلى عدوّ طبقيّ يؤدّي دورًا تدميريًّا تقويضيًّا للعمليّة الفنّيّة الإبداعيّة الفكريّة خصوصًا أواخر 1930[31].
في عام 1919، كان عبء العمل على هيئات الرقابة في الوسط، والمحافظات، والمقاطعات كبيرًا جدًّا، ما يؤكّد على هذا هو أعداد أفراد هيئة الرقابة في قسم الرقابة العسكريّة في المجلس العسكريّ الثورويّ الذي بلغ 107 أشخاص؛ في فرع موسكو للرقابة العسكريّة – قسم البريد والبرق – 253 شخصًا؛ قسم الرقابة العسكريّة في بتروغراد – 291 شخصًا؛ فروع الرقابة العسكريّة للبريد والتلغراف في الميدان – 100 شخص؛ هيئات تعمل تحت إدارة المجالس العسكريّة الثورويّة كان هنالك 30 شخصًا، تمّ تحديد عدد الرقباء بعدد الموادّ البريديّة، والموادّ المطبوعة المرسلة.
وصلت الرقابة في العهود السوفيتيّة المتأخّرة إلى حدّ الهراء والمبالغة، كإدخال الطبّ النفسيّ في العقاب، إلى عقوبة الاحتقار والسحر بعزل المنحرف عن الأفكار الماركسيّة من قِبل المجتمع المحيط والمؤسّسة وإلخ… وإجراء جلسات وقائيّة… استمرّت الأمور على هذا المنوال إلى أن تمّ حظر الرقابة بموجب دستور الاتّحاد الروسيّ عام 1991.
بناءً على ما تقدّم من المنطقيّ بمكان أن نفترض أنّ الرقابة السياسيّة كمؤسّسة تابعة للسلطة في الاتّحاد السوفيتيّ كانت تؤدّي الوظائف التاليّة:
أوّلًا: وظيفة التحكّم: تمارس هيئات (غلافليت) الرقابة على الأنشطة العامّة للمنافذ الإعلاميّة، والدوائر الأدبيّة، ودور الطباعة، ودور النشر، ومكاتب تأجير الأفلام، والفرق المسرحيّة، ومؤسّسات البثّ، إلخ… هنا السيطرة يمكن أن تكون أوّليّة، وتستتبع بإجراءات متلاحقة.
ثانيًا: الوظيفة التكوينيّة: لقد عمل أعضاء (غلافليت) بجدّ في عمليّة إدخال الأيديولوجيا الشيوعيّة في أعمال العلوم، والأدب، والفنّ، فالرقابة كانت تعمل على اختيار مصطنع للمعلومات ذات الأهمّيّة الاجتماعيّة، كما تمّ إعفاء الصحافة الحزبيّة، ومنشورات دار النشر الحكوميّة، وأكاديميّة العلوم في الاتّحاد السوفياتيّ من الرقابة، وكان يعرض على القارئ السوفيتيّ أعمال تدين السخرية وتثيرها من “الأفكار البرجوازيّة” وتثني على فضائل النظام الشيوعيّ. بفضل هذا، تشكّلت الصور النمطيّة – الاشتراكيّة في عقول المواطنين السوفيت.
ثالثًا: الوظيفة المرجعيّة: أنشأت أجهزة (غلافليت) في النصف الثاني من 1920، نظامًا إحداثيًّا مرجعيًّا يجب الالتزام بمعاييره وشروطه، حيث كانت النقاط تحتسب بناء على عيّنات، وقواعد، وكليشّيهات يفترض من خلالها الكتابة والإنشاء. لذا، يجب أن يحتوي أي عمل بالضرورة على مقدّمة ماركسيّة، يبلغ حجمها 2% من محتوى النصّ، في الجزء الرئيس من نصّ البحث كان ينبغي أن يكون ما قد تمّ اقتباسه من أعمال لينين وستالين 30%، ماركس وأنجلس 30%، تمّ حظر ذكر اقتباسات من أعمال الكتاب “المهاجرين” و”الفارين”، و”جواسيس الحرس الأبيض”، و”المتمرّدون الحزبيّون” و”المحرضون” و”الانتهازيّين والانحرافيّين”، إلخ، كان سبب ذلك هو الحفاظ على روحيّة تلك الحِقبة، ففي ظلّ ظروف الصراع الداخليّ الحزبيّ، كان من الصعب الغوص في عالم الأحداث السياسيّة المتسارعة.
رابعًا: الوظيفة الوقائيّة: صممت أجهزة )غلافليت) نظامًا للعمل الوقائيّ مع “المنظمات والأجنحة والتيّارات”، ومع دور الطباعة، والوسائط الإعلاميّة، وموجات الراديو، إلخ كان يرسل المراقبون دوريًّا قوائم للمؤسّسات الخاضعة للرقابة بالأعمال المسموح بها، وتلك التي يجب حظرها منها مقتطفات من نسخ تعاميم (الغلافليت)، كما عقدت دورات إرشاديّة توجيهيّة خاصّة للمحرّرين وغيرهم من المسؤولين، كان الغرض من ذلك منع إمكانيّة نشر الموادّ التي تحتوي على “اختراقات” سياسيّة وأيديولوجية وكذلك عسكريّة – اقتصاديّة.
خامسًا: الوظيفة العقابيّة: وهي وظيفة عقابيّة أو قمعيّة، تقدّم التقارير السرّيّة الشهريّة والسنويّة لـ(غلافليت) وهيئاته المحلّيّة، كما ترسل مذكّرات وتعاميم دوريّة عن تقنيّات مكافحة الظواهر “العدائيّة” في الثقافة السوفيتيّة، ومنها:
أ) الشروط التي ينبغي فيها، حظر نشر العمل وتقييم الأداء.
ب) منع نشر الكتب والمسرحيات والقصص والروايات وترويجها وخصوصًا للمؤلّفين “غير المرغوب فيهم” لدى السلطات.
ج) مصادرة تلك المؤلّفات الضارّة، والمؤدلجة ووضعها في أرشيفات خاصّة، وتدوير المؤلّفات التي أنتجها كتّاب لمؤلفين في عهد القيصريّة، والسيمينارات الدينيّة منه.
د) فرض حظر على استيراد أعمال ومؤلّفات المهاجرين البيض، إلى اتّحاد الجمهوريّات الاشتراكيّة السوفياتيّة، وكذا أعمال الفلاسفة الأجانب، وعلماء الاجتماع، والمؤرّخين البرجوازيّين إلى اللغة الروسيّة.
شارك في هذه الرقابة أيضًا جهاز أمن الدولة جنبًا إلى جنب مع المراقبين المعتمدين من هذا الجهاز، كان المراقبون يداهمون المكتبات، ويستولون، ويصادرون المنشورات “المضادّة للثورة” من المكتبات، وكان المؤلّفون المعارضون عرضة للملاحقة.
سادسًا: وظيفة التحكّم: لحلّ مَهَمّات التعبئة، بدل (غلافليت) وهيئاتها المحلّيّة كلّ جهد ممكن لتشكيل نوع من الثقافة السياسيّة الإخضاعيّة ذات التأثير، والمؤثّات الكبرى. من خلال الرقابة، أتيحت الفرصة للسلطات البلشفيّة للتلاعب بوعي المواطن السوفيتيّ، فالأعمال المختبرة عقائديًّا التي اختارها الرقيب لم تتمكّن من التأثير في علم النفس السياسيّ للمجتمع السوفيتيّ، أمّا الأفكار الضروريّة حول “بلاد السوفيت” المحاصرة من قبل الدول الاستعماريّة والإمبرياليّة فكانت تجد لها أرضًا خصبة[32].
انطلاقًا ممّا تقدّم يمكن التوصّل إلى الاستنتاجات التالية، وهي أنّه على مدار تاريخ روسيا، كانت الرقابة عنصرًا من عناصر نظامها السياسيّ مهما تعدّد شكل هذا النظام وطبيعة السلطة، وتدرك الأنظمة أنّ مسألة انتقادها أمر يستحيل مقاومته، لذلك تلجأ عادة إلى استخدام الرقابة، على أنّ النظام الاستبداديّ للإمبراطوريّة الروسيّة، والنظام الاستبداديّ في الاتّحاد السوفياتيّ لم يسهما في تطوير الأسس الديمقراطيّة للمجتمع المدنيّ في روسيا، وأهمّ عنصر من عناصرها كان عدم التسامح تجاه الفكر الآخر، وتقييد حقوق المواطنين في حرّيّة تلقي المعلومات ونشرها والتعبير عنها.[33]
لذلك، سعت الرقابة إلى تحقيق هدف واحد، وهو الحفاظ على منظومة الحكم، إنّ الادّعاءات بضرورة الرقابة للحفاظ على الطابع الأخلاقيّ للشعب، أو لحماية الهُويّة الروحيّة هي أكاذيب، وأضاليل، ونفاق صريح، تستخدم حصريًّا للحفاظ على النظام.
إنّ الطاعة العمياء للنظام، بالإضافة إلى الأداء الرديء، والشغف بإذلال الناس، وممارسة العنف تجاه الشعب، كلّها كانت تعني أنَّ كلمة حقّ واحدة قد تقال، أو عبارة غامضة المعاني، أو نكتة غير موفّقة قد تنتشر، كان يمكنها أن تكلّف صاحبها حياته.[34]
بالنسبة إلى نظامنا كما في روسيا علينا أن نعي تمامًا أن الرقيب لا يعمل وفق ما تمليه الروح والمشاعر، ولكنّه يطبّق التعليمات والمواثيق.
في الختام، يبقى السؤال: ما هي السمات التي تميّزت بها الرقابة السياسيّة في روسيا؟ ومن بعدها الاتّحاد السوفيتيّ: [35]
أوّلاً – المأسّسة: لقد مارست السلطة بطول مساحة البلاد وعرضها الرقابة على مجالات تدفّق المعلومات كافّة، كما على الفكر الإبداعيّ للمواطنين.
ثانيًا – الشموليّة: كانت جميع الأعمال الأدبيّة، والعلميّة، والفنّيّة خاضعة للرقابة، لا يُسمح للقارئ العامّ، أو المشاهد أن يشاهد، أو يقرأ من دون إذن الرقيب.
ثالثًا – الاستمراريّة والشدّة: كلّفت هيئات (غلافليت) بكلّ مَهَمّات التعبئة من أجل النظام في إطار زمنيّ محدّد بدقّة، أي ضمن جدولة زمنيّة واضحة، تبعًا للحملات السياسيّة التي تجري في البلاد، كان على الرقيب “في مجرى عمله، إنجاز هذا المسار السياسيّ، وعليه أن لا ييأس، ولا يملّ، ولو للحظة واحدة، وأن يتمتّع بما سمّي “باليقظة البلشفيّة”[36].
رابعًا – العدوانيّة والصراع: تميّزت تقنيّات أعضاء (غلافليت) وأساليبهم بدرجة عالية من العدوانيّة، فلقد ساد العنصر القمعيّ وهيمن على العنصر الوقائيّ. عند الرقابة، كانت أجهزة (غلافليت) تصطدم باستمرار مع المؤسّسات، والمنظّمات المجتمعيّة، واللجان الحزبيّة، وفي بعض الأحيان، حاول الرقيب نزع الصلاحيّات منها، حتّى من جهاز أمن الدولة فاتّسمت تصرّفاته بالشدّة والحزم والعدوانيّة.[37]
خامسًا – السرّيّة والتكتّم: كان (غلافليت) سلطة مغلقة، لا تثير انتباه الجماهير، أمّا سلوكها وأداؤها لا تفقهه الأذهان والعقول. استمرّت أنشطة هياكلها المحلّيّة تعمل في سرّيّة تامّة. أمّا التعاميم الصادرة عن الـ(غلافليت) فكانت تقدّم على أنّها “سرّيّة للغاية”، ولا يتمّ الإعلان عنها. فالأسرار التي كانت تلفّ أنشطة أجهزة الرقابة، ولم تصبح علنيّة، ومتاحة إلاّ ابتداءً من عام 1991، عندما تمّت تصفية هذه المؤسّسة الرقابيّة واستئصالها وحلّها.
الحواشي والمصادر والمراجع
- واعظ تشيكي ومفكّر، أيديولوجيّ للإصلاح التشيكيّ. البطل الوطنيّ للشعب التشيكيّ. كان كاهنًا وعميدًا لجامعة براغ لبعض الوقت. تمّ حرقه 6 تموز 1415 في كونستانتا مع أعماله. تسبب إعدام هاس في حروب هوسيت 1419 – 1434. من أبرز أفكاره، أنّه لا يمكنك فرض رسوم على الأسرار، وبيع منشورات الكنيسة. يكفي أن يفرض الكاهن رسمًا بسيطًا مع الأثرياء لتلبية أوّل احتياجاته في الحياة؛ لا يمكنك إطاعة الكنيسة على نحو أعمى، لكن يجب أن تفكّر بنفسك، وذلك باستخدام كلمات من الكتاب المقدّس: “إذا كان رجل أعمى يقود رجلاً أعمى، فسوف يقع كلاهما في الحفرة”. لا يمكن الاعتراف بالسلطة التي تنتهك وصايا الله. يجب أن تكون الملكيّة عادلة. رجل ثريّ ظالم هو لصّ. يجب على كلّ مسيحيّ أن يبحث عن الحقيقة، حتّى في خطر الرفاه والهدوء والحياة.
- يعدّ البابا جيلاسيوس (المتوفَّى في 19 تشرين الأوّل 496م)، هو الذي صنع أوّل فهرس للكتب المحظورة – Index librorum banitorum، ومؤسّس الرقابة الروحيّة. كانت هذه بداية حريق هائل اشتعل في جميع أنحاء أوروبا، ولم تحرق النيران الكتب، بل مؤلّفيها أيضًا. في إحدى هذه المحارق عام 1415، وفقًا لمرسوم كاتدرائيّة كونستانس، تمّ إحراق يان هوس. تميّزت مدّة الإصلاح بالتعصّب الشديد تجاه خصومها الأيديولوجيّين، والإجراءات الوحشيّة ضدّهم. في عام 1527، تمّ قطع رأس Ganz Gergot لنشره كتب فتنة.
- The Granat Encyclopedic Dictionary. وقاموس موسوعيّ روسيّ تمّ نشره في الأصل في 58 مجلّدًا مع ملحق واحد في كلّ من المدتين القيصريّة والسوفياتيّة. العنوان الكامل للقاموس هو: “القاموس الموسوعيّ لمعهد جرانات الببليوغرافيّ الروسيّ”. المصدر: http://historynotes.ru/stoglavyy-sobor-1551-goda/
- عالج المجمع الكنسيّ عام 1551 قضايا الدولة الاقتصاديّة، كما تناول أهمّيّة حلّ المشكلات التالية: السلوك الفاحش للمسؤولين عن الكنيسة: السكر، والفجور، والرشوة، والربا في الأديرة، كان من المفترض أن تعزّز القرارات التي اتّخذتها كاتدرائيّة ستوغلاف الانضباط بين رجال الدين، والتخلّص من بقايا الوثنيّة المتجذّرة؛ تمّ فرض نوع من الرقابة الروحيّة، تمّ توحيد كلّ الطقوس الدينيّة، والكنسيّة في كلّ أنحاء البلاد، تمّ عدّ كلّ القدّيسين المحلّيين قدّيسين يفترض تبجيلهم في عموم روسيا؛ تناول الجانب الاقتصاديّ للدولة في Stoglava النزاعات حول حيازة أراضي الكنيسة؛ تفسير لمعايير قانون الكنيسة فيما يتعلّق بقواعد الدولة، والقانون القضائيّ والجنائيّ.
- Владимирский-Буданов М. Ф. Обзор истории русского права, Ростов-на-Дону: Феникс, 1995. — С. 235.
– فلاديميرسكي – بودانوف M.F. نظرة عامّة إلى تاريخ القانون الروسيّ، روستوف على الدون، 1995، ص235.
6- جريدة اللواء، تعرّف على أكثر طرق الكتابة انتشارًا وغرابة، 12 تشرين الأوّل 2018 07:28، http://aliwaa.com.lb /
- История русского языка в выставочных экспонатах // Новости. 14 июня 2010; И смотрите: Ефимов В. Драматическая история кириллицы. Великий петровский перелом[Электронный ресурс] // Архивы форума ГПР. 1996-2016. URL: http://speakrus.ru/articles/peter/peter1a.htm .
- المبدأ الذي أنشئ في عام 1555 (ما يسمّى بسلام أوغسبورغ) نتيجة للحروب بين الأمراء البروتستانت في ألمانيا، والإمبراطور تشارلز الخامس. اعترفت الاتفاقيّة باللوثريّة كدين رسميّ، وأنشأ حقّ الطبقات في الإمبراطوريّات في اختيار الدين. كان لبنود الاتفاقيّة مكانة القانون الإمبراطوريّ، وشكّلت أساس نظام الدولة للإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة في العصر الحديث، وكفلت استعادة الوحدة السياسيّة، والاستقرار في ألمانيا خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. في الوقت نفسه، لم تعترف معاهدة أوغسبيرغ بحرّيّة الأديان في رعايا الإمبراطوريّة، ما أدّى إلى ظهور مبدأ cujus regio، أو ejus religio (“أرضه هي الإيمان”) ما خلق أرضيّة لاستئناف المواجهة الطائفيّة. إنّ النظام الذي تمّ إنشاؤه على أساس معاهدة أوغسبورغ، انهار في بداية القرن السابع عشر، الذي أصبح أحد أسباب حرب الثلاثين عامًا.
- كانت دولة هتمانات أوزابوروجي تمثّل دولة القوزاق الأوكرانيّة في وسط أوكرانيا بين المدّة من 1649 حتّى 1764. وقد أسّس دولة هتمانات الأوكرانيّة بوغدان خملنيتسكي أثناء الانتفاضة الخلمنيتسكية. في عام 1654، وقد تعهّدت بولائها لمسكوفي في مجلس يراتسلاف، في حين أنّها أصبحت تابعة إقليميًّا للكومنولث البولنديّ اللتوانيّ. المصدر:HETMANATE: SPECIAL STATE KAZACHYE، Igor Y. Yerokhin file:///C:/Users/Dream/Downloads/getmanschina-osoboe-kazachie-gosudarstvo.pdf
- الإمبراطورة آنا إيفانوفنا (7 فبراير 1693- 28 أكتوبر 1740) هي إمبراطورة روسيا خلال المدّة (1730 – 1740). شهد عهدها استقرارًا داخليًّا وتحسّنًا في السياسة الخارجيّة، لكنّها أحاطت نفسها بالنبلاء الألمان، ووضعت جلّ للصلاحيّات عند معاونها الكونت بيرون. وقد أهملت آنا شؤون الحكم، وهو ما أتاح لمجموعة صغيرة من المستشارين، والحاشية أن يستبدّوا بحكم البلاد. خلال مدّة حكمها دخلت روسيا الحرب ضدّ العثمانيّين خلال المدّة (1735 – 1739). https://istoriarusi.ru/imper/bironovshina.html
- Евгений Анисимов, Держава и топор: Царская власть, политический сыск и русское общество в XVIII веке.М.:Рщвое литературное обозрение,2019-( что такое россия).С.10
- المصدر السابق نفسه، ص.33.
- مجموعة كاملة من قوانين الإمبراطوريّة الروسيّة، منذ عام 1649. Petersburg، 1830. T. 28. No. 21388.
- مجموعة من القرارات والأوامر بشأن الرقابة من 1720 إلى 1862: طبعت بأمر من وزارة التعليم. سانت بطرسبرغ، ١٨٦٢.
- إيغور بوتيومكين، تاريخ إنشاء وخصائص الشرطة في الإمبراطوريّة الروسيّة.
http://ormvd.ru/pubs/102/the-story-of-creation-and-the-ministry-of-police-of-the-russian-empire/
- ثورة الديسمبريّين، أو انتفاضة الديسمبريّين كانت ثورة في الإمبراطوريّة الروسيّة في 14 كانون الثاني 1825. قاد مجموعة من ضباط الجيش الإمبراطوريّ حوالي 3000 جنديّ في احتجاج ضدّ تولّي القيصر نيقولا الأوّل العرش بعد تنحّي أخوه الأكبر قسطنطين بافلوفتش عن قائمة ولاة العهد. بسسب حدوث هذه الأحداث في كانون الثاني ديسمبر سمّي المنتفضون بالديسمبريّين.
- بولجارين فادي فينيديكوفيتش (24 يونيو 1789 – 1 سبتمبر 1859) – كاتب نثر، ناقد، صحفيّ، ناشر.
- Сборник постановлений и распоряжений по цензуре с 1720 по 1862 год: напечатан по распоряжению Министерства народного просвещения. СПб., 1862. Гл. 4. Устав о цензуре 1826 г. С. 125.
- النظريّة الشعبيّة الرسميّة هي التسمية المقبولة في الأدب، لإيديولوجية الدولة للإمبراطوريّة الروسيّة في عهد نيكولا الأوّل. وصاحب هذه النظريّة أوفاروف سيرغي سيرغييفيتش، استند إلى آراء محافظة في التعليم والعلوم والأدب، وهذه المبادئ التي لا يمكن لروسيا أن تحيا وتعيش من دونها، هي: “الأرثوذكسيّة، الاستبداد، الجنسيّة”. والإيمان والقيصر والوطن.
انظر: النظريّة الشعبيّة الرسميّة// الموسوعة السوفيتيّة، 1975. – (الموسوعة السوفيتيّة العظيمة:[في 30 مجلّدًا]/ Ch. Ed. A. M. Prokhorov ؛ 1969 – 1978، المجلّد 19).
- Нестеров А. А. Цензура под опекой МВД (введение в историю цензуры 19 века)// Молодой ученый. — 2009. — № — С. 227-230. — URL https://moluch.ru/archive/12/941/ (дата обращения: 14.08.2019).
- Временные правила о печати (1882 г.), https://studbooks.net/721677/zhurnalistika/vremennye_pravila_pechati_1882.
- لينين الأعمال الكاملة، الإصدار الخامس، موسكو، المجلّد 35، ص.
- النيب في عام 1920، أعادت إحياء إنتاج البضائع وعلاقات السوق، ومثّلت، في نظر لينين، عودة إلى مرحلة “انتقاليّة” بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، تقوم على اقتصاد مختلط تتعايش فيه العلاقات الرأسماليّة، لا سيّما في الزراعة، والإنتاج الصناعيّ الصغير، مع سيطرة الدولة على الأرض، والصناعات الكبيرة، واحتكارها التجارة الخارجيّة، وعدّت أنًّ تخفيف القيود المفروضة على الفلاّحين هو نقطة انطلاق السياسة الاقتصاديّة الجديدة التي عُرفت بـ”النيب”. فبمبادرة من لينين، تقرّر في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعيّ (البلشفيّ) في روسيا الذي عقد في آذار 1921، أن يُستعاض عن نظام مصادرة المنتجات الغذائيّة في الأرياف باقتطاع جزء محدّد من فوائض إنتاج الفلاّحين على شكل ضريبة عينيّة، تُحتسب على أساس طبيعة المنتوج، وعدد أفراد الأسرة الفلاّحيّة، وحجم قطعة الأرض المستثمرة، وتوظّف فقط لتغطية الحاجات الأساسيّة للجيش، والعمال، وسكّان المدن. وخلال سنة 1921 – 1922، جرى تخفيض هذه الضريبة العينيّة بنسبة 10 في المئة، وصارت تقتصر على القمح والشعير، ثمّ تحوّلت في سنة 1924 إلى ضريبة نقديّة ذات طبيعة تصاعديّة، بحيث يكون مقدارها على الفلاّحين الأغنياء أكبر من مقدارها على غيرهم من الفلاّحين المتوسّطين والفقراء.
- قرار وتوجّهات المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعيّ الروسيّ (بلشفيّك)، موسكو 1923.
- غينبيلسون غ. ي، السياسة الاقتصاديّة الجديدة للينين وستالين، مشاكل وحلول (العشرينيّات من القرن العشرين) موسكو، 2004، ص. 189.
- ستالين ي. ف، المختارات، المجلّد، 13، ص. 211.
- Н.И. Биюшкина. ЗАКОНОДАТЕЛЬСТВО О ПЕРИОДИЧЕСКОЙ ПЕЧАТИ В ПЕРИОД ПРАВЛЕНИЯ АЛЕКСАНДРА III, Нижегородский госуниверситет им. Н.И. Лобачевского, Поступила в редакцию12.2010.
- Беспалова А.Г., Корнилов Е.А., Короченский А.П. и др. История мировой журналистики. С. 156.
- Вестник Временного правительства. 1917. 5 марта. № 1 (46)
- Русское слово. 1917. 19 марта. № 63
- بسيبالوفا أ, غ. كورنيلوف إي. أ، كوروتينسكي أ. ب، وغيرهم تاريخ الصحافة العالميّة، ص.157.
- . Фрайман АЛ. Форпост социалистической революции. Л., 1969. С. 166 – 167.
- الموسوعة المسرحيّة، المجلّد 1، المحرّر الرئيس سيرغي ماكولسكي، موسكو: الموسوعة السوفيتيّة الكبرى، 1961 ص. 12.
- مرسوم رقم 425 الصادر عن مجلس مفوّضي الشعب، بشأن اللجنة المركزيّة للتربية، والتثقيف السياسيّين في روسيا الاتّحاد السوفيتيّة، 11، 12، 1920.
- الأرشيف الروسيّ، الملفّ رقم 1235، القائمة 94، الوثيقة 98، الورقة 33 – 34.
- الأرشيف الروسيّ، الملفّ 9425، القائمة 1،الوثيقة 29، الورقة 18 – 23 . انظر أيضًا:
Strove G. Russian literature under Lenin and Stalin 1917-1953. London: Routledge and Kogan Paul, 1972.Ю.
- ليفتشينكو إي، ي، تناقضات الرقابة// الرقابة في روسيا: التاريخ والحداثة، مجموعة أعمال، سانت بتيربورغ، 2005، الإصدار الثاني.