الوطنيّة والحزن في شعر حسين عسيليّ
ندى عليّ حدرج*
تمهيد
يُعدُّ جبل عامل أو جبل العلماء من المناطق التي عرفت عددًا من العلماء والشعراء على مرّ التاريخ، منهم من خلّف آثارًا أدبية مطبوعة في المكتبات العاملية، ومنهم من لم يتمكّن من جمعها لظروف معيّنة، فلم يخرج إلى حيّز النور إلاّ في إطار ضيّق لا يتعدى حدود القرية أو القرى المجاورة. وقد كثر هذا الصنف – ولسوء الحظ – في جبل عامل، على الرغم من تميّزهم في مجالي الشعر والنثر.
أوّلًا: الولادة والنشأة
الشاعر حسين عسيليّ لبنانيّ الهوية، عامليّ الانتماء، وُلد في قرية رشاف الجنوبيّة العام 1932 م، مارس التعليم في سنٍّ مبكرة، وعلّم في مدارس عديدة في قضاء بنت جبيل، ثمّ استقرّ به الأمر في مدرسة قانا الرسمية فمكث فيها سنوات مدرسًا في مدرستها الرسمية.
توفّي الشاعر حسين عسيليّ العام 2008م، بعد أن عانى من مرضٍ عضال، أحدث له حالة من الوحدة والمعاناة كان أثناءها ملازمًا للفراش، ويتألّم بتحسّر، يناجي ربّه في حالةٍ من الزّهد والوهن والدّعاء.
كيف تناول حسين عسيليّ مفهوم الوطن في شعره؟ وهل تعددت صوره ومفاهيمه؟ هذا ما تبرزه الصفحات الآتية من هذا الباب؟
وفي قراءة شاملة ومتأنيّة لشّعر حسين عسيليّ، برزت الموضوعات المتعددة الأشكال والصّيغ، فهو لم يترك بابًا إلا طرقه من الموضوعات التي تلامس الذّات الإنسانيّة، وقضايا الوجود الإنسانيّ، وكان للوطن النّصيب الأوفر والأكبر من شعره، إذ نكاد نجزم بأنّ دواوينه الأربعة المطبوعة لا تخلو من الحديث عن الوطن، فضلًا عن تناوله القضايا الإنسانيّة التي ساهمت في إبراز صورة الحزن متربّعة على سطور الدواوين، ثمّ الهجاء، فالمدح، فالرّثاء والسّخريّة.
أوّلًا: الوطنية
ألف- الوطنيّة في بعدها المكانيّ والمحلّي
“الوطن أرضٌ انصهر بها أناسٌ يعشقونها، ويدافعون عنها دماؤهم رخيصة في سبيله، وكرامتهم مصونة بصونه، إنّه مبعث العزّة، ومنهل الكرامة، ومعين العطاء الشّامخ بالإباء والمحبة، “والويل كلّ الويل لمن يميل بعاطفته عن حبّ أرضه ووطنه”([1]).
من المتعارف عليه أنّ الشوق والحنين إلى الوطن لا يكون إلا بالاغتراب، فلن تلقى عند الشعراء المقيمين في أرضهم الماكثين في وطنهم نغمة واحدة في الحنين حيث لا توجد مدعاته، أمّا الشعراء النازحون أو الذين حيل بينهم وبين أوطانهم لأمرٍ ما، كأسرٍ أو نفيٍ، أو حرب، أو مغامرة في سبيل رزقٍ، أو غيره فإنّك تجد أكثرهم في القول ومتسعًا للنظم في الشوق والحنين والقليل منهم من يسكت في الغربة عن مناجاة وطنه، والتشُّوق إليه”([2]). وللشّاعر الذي يحنّ إلى وطنه، مسالك ومذاهب وسُبُل شتّى في التعبير عن هذه العاطفة التي تتجلّى في النفس العربية أكثر جلاءً، فمن شعراء الحنين من يبكي في دار غربته على وطنه من دون مناسبة طارئة تدعوه للبكاء، ومن شعراء الحنين إلى الوطن من تستفزّهم مناسبة عارضة في أرض الغربة فتهيّج لواعج شجنهم فيحنّون إلى الوطن”([3]).
وبهذا التعريف في حقوق الوطن والمواطن، لا بدّ من أن يكون الوطن متحررًا لكي يتمتّع فيه هذا المواطن بحقوقه المدنية والدستورية، فكيف إذا ما أفاق الإنسان على وطنه وقدسيّته تدوسها أقدام المحتلين الغزاة، فلا بدّ أنه سينتقم من الغزاة الذين استلبوه كرامته إن كان غريبًا دخيلًا أم عميلًا داخليًا، وهذا ما جرى فعلًا مع شاعرنا الذي استفاق على دويّ القذائف وهدير الدّبابات قادمة تحتلّ أرض الوطن، وتدوس قريته (رشاف) مرغمة أهلها على المغادرة قسرًا، ما دفع بأهلها إلى النزوح إلى العاصمة، ثم إلى بلدة قانا وصور وغيرها، وما خلّفه هذا البعد من القرية من ضياع وغربة وبحث عن الذات الضائعة في ظلّ الاحتلال، فالشاعر عانى شتى صنوف العذاب والحرمان فما كان منه إلا أن يبثّ حنينه وأشواقه ولواعجه، عن طريق نظم الشعر, متخذًا منه سلاحًا فتاكًا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
ومن هذه النماذج الشعرية قوله، دالية من البسيط والقافية من المتراكب:
من أين لي يا ربّ تشرين إن أعدا |
|
بالدفء والدفء في عمر الصبا بردا |
يبدو الشاعر، ملتزمًا بقضايا وطنه وأرضه التي ينتمي إليها، وتتبدّى لغة الرفض التي تشير إلى التحوّل والفصل، وتحمل من الإيحاء والإيقاع والحركة والطاقة أكثر من كلماتها وحروفها.
ويعلن الشاعر حبّه وعشقه لأرض الجنوب، ويعترف بذلك مقرًا، فيقول في قصيدة “أعلنت حبّي والدروب طويلة” يقول في همزيّة من البسيط والقافية من المتواتر:
قاسيت نمت على الجدار محطّمًا |
|
وشربت أغنية الجنوب دماء |
يتبدّى شعور الانتماء، والالتحام في صورة الوطن جليّة، في اندفاع إلى النضال من أجل الأرض، إيمانًا بقدسية هذا النضال، وبأنّ الموت في سبيل الوطن هو حياةٌ وانبعاثُ، ويوظّف الشاعر أسطورة الإمام الحسين (ع)، كما هو معروفٌ في التراث الإسلامي الشيعي، “قصة الإمام الحسين أسطورة من أساطير الموت والانبعاث، إذ تروي الأحاديث أن رأس الحسين المقطوع قد تلا سورة الكهف في أثناء المسير به إلى الشام، وهي السورة التي تؤكد غلبة الحياة على الموت، وتقول بالانبعاث والحياة الأبدية، وهو أيضًا رمز الخصب”([6]). إذًا لم يعد الموت في سبيل الجنوب وترابه بنظره إلا حياة وأملًا وانبعاثًا، لأنّه موت من أجل الحياة. ويتابع الشاعر الثائر في معظم قصائده معلنًا الرّفض والثورة، سالكًا طريق المقاومة، راسمًا ملحمة بطولية، تنتصر بها أحلام الشاعر بعزم وإرادة، وتمسّك بأرض الجنوب. يقول في نونيّة من البسيط والقافية من المتراكب:
حكاية الأرض والأزرار ملحمة |
|
قرأتها وبأجفانٍ تعذّبني |
يعود الشاعر بذاكرته إلى طفولته الحزينة، التي فتكت بها قساوة الاحتلال وغطرسته المتزامن مع ضيق الحالة الاقتصادية، فالرغيفُ يستحيل حلمًا يصعب تحقيقه، يسافر مع حقول القمح المتشردة كأصحابها، والعذاب في هذا المقام، عذاب جسد خاوٍ لا يحصل على القوت، وروحٌ تائهةٌ في غياهب الاحتلال، إذ الوطن أسيرُ بين عدوّين: عدوّ الجوع والفقر، وعدوّ الاحتلال.
ويوظّف الشاعر أسلوب النداء (يا أرض)، والاستفهام (أيّ)، فخاطب الأرض في التلوّع والحزن والتفجّع، ويستفهم عن ألوان الترهيب الباعثة لقلقه، لكنّه سرعان ما يجيب:
أشدُّ قبضة أحزاني على قبسٍ |
|
من الضّياء ورمل الطفّ يعصرني |
إذًا، الأحزان ما تلبث أن تكون باعثًا ودافعًا يوقظه على حقيقة، بأنّ لا بدّ لفجر الجنوب أن ينبلج، وللاحتلال أن يزول، متخذًا من واقعة الطفّ بعدًا وجوديًا لذاته التائهة، فالطفّ رمزٌ إنسانيّ عالميّ، لا تُحدُّ بمكان، أسطورة جسّدت معاني الرّفض والثورة والمواجهة في أعظم معانيها.
الشاعر في هذه الأبيات يميل إلى بناء شعره بالعودة إلى الطفولة الأولى، إلى زمنٍ عاش فيه الشاعر حياة الرّيف بكلّ جزئياتها، متحدًا مع حقول القمح، مع البؤس والشقاء، كما يلمّح إلى قيم الضرورة والقهر والسلطة المتمثّلة بالأب.
ويحنّ الشاعر إلى ضيعته، إلى الطبيعة فيها، إلى الشجر والصّبا، إلى الأوقات الجميلة بين أحضانها، إلى البراءة المنسية بين ندى كرومها، فتغدو خاطرة تجول في باله، يحنّ إليها، فيقول في قصيدة “عودي”، نونية من البسيط والقافية من المتراكب([9]):
صنوبرات الصّخر تهتزّ في كبدي |
|
وأغنيات الصبا مهدٌ لأشجاني |
صورة القرية تلتحم وذات الشاعر، إذ لا يمكن نسيانها، فالطفولة حنين دائم، والطفل رمز قديم في ذات الإنسان البالغ، فالشّاعر يشخّص ويؤنسن تلك المشاهد القروية، ويجعل من شجرة التين شخصًا يشتاق ويحنّ ويأنس بوجود ذات الشاعر الطفولية، تعانقها وكأنّها هي من تريده وليس العكس، تدعوه ليطهّر الأرض. “فتجربة الشاعر الخاصة به في قريته لها ما لها من خصوصية في عمله الشعري، وهي التي تستدعي الرمز القديم، فتحمّله المعاناة، وهي التي تضفي على اللفظة الطابع الرمزي… وتجعل من هذه الرموز حيّة على الدّوام ومرتبطة بالحاضر…([10]). ويقول في قصيدة بعنوان “ذكرتك” حائية من الوافر والقافية من المتواتر:
أجول بحقلةٍ وأشفّ صدرًا |
|
لكرم التين أحلم بالأقاحي |
يأسر المشهد الطبيعي في القرية خيال الشاعر، إذ تستحيل صورتها حلمًا يودّ لو يبقى، فتوقظ أشجار التين وعناقيد العنب مشاعره، تتجسّد تلك الدالية فتاة يأنس بتزيين شعرها وتمشيطه، والاعتناء به، محافظًا على استمراريتها ليرتاح العنقود وينمو بأمان. وتتوافر كثيرًا في شعره لما لها من رمزية وبعد يتمثّل بالتعلّق بالجذور والشعور بالإنتماء للأرض. فيقول من بحر الخفيف والقافية من المتواتر:
ضيعتي أنت ظلّ فجرٍ تجلّى |
|
نازف الضوء على وشاحٍ لعوب |
يخاطب الشاعر قريته طالبًا منها السّماح بالعودة، إن قبلته في أزقّتها آخر النهار، مستخدمًا صيغة الاستفهام جاعلًا منها أنثى تخاطبه مكررًا ضمير “أنت” مرّتين ليؤكد وجودها جرحًا يصدح ويغنّي. وهو في أكثر قصائده يرفض الاحتلال ويعلن مقاومته له، فيقول من بحر الخفيف والقافية من المتراكب:
أنا يا عليّ مهاجرٌ بقصيدة |
|
عزفت شهادتها على الوتر الخفوق |
ويعود إلى رمز الحسين وكربلاء:
فبكربلاء تحية لمجاهد |
|
وبعاملٍ أسطورة الشعب العريق |
المعركة ذاتها في الجنوب، وفي كربلاء مع اختلاف المكان والزمان، بيد أنّ رمزية المواجهة تتشابه وتتشارك، فالصراع هو صراع الخير والشرّ أو الحق والباطل.
يقول في قصيدة “يا صانع المجد عذرًا أنت تجهلني” نونية من الخفيف والقافية من المتراكب:
أشدُّ قبضة أحزاني على قبسٍ |
|
من الضياء ورمل الطفّ يعصرني |
إذًا، الفجر آتٍ من وحيّ الطّف، إذ يتجلى النصر على أجفان الشاعر الحالمة به، وغصن الجنوب الحالم بالانتصار، ثمّ ينتقل الشاعر إلى الشهداء الذين قضوا كرمى لعيون الوطن، فإذا به يستفهم معلنًا رفضه، مستنكرًا لما يُرتكب بحقّ الجنوبيين ولا سيما الصبايا في مقتبل العمر، أو من صارت يتيمة تلملم أحزانها متألّمة. يقول من بحر الخفيف والقافية من المتراكب:
أوليس إرهابًا رصاصة غادرٍ |
|
قتلت عذارى الفجر في الجسد الرقيق |
شعر الشاعر، وآلام أبناء الجنوب في استعداداته الطبيعية أو النفسية يتمتّع بنسبة عالية من الترابط أو التواصل بين مهارت الحس ّوالحركة، “وهو من جهة انتظام علاقته بالمجال الاجتماعي، أي الشعور بالحاجة إلى “النّحن” ورغبة عاتية في تنظيم هذا “النحن” أي المجتمع وفق خطوات داخلة أو محدّدة في إطاره الشعري”([16]). يقول في “يا من أنامله زرعٌ وقافية”، بحر البسيط والقافية من المتراكب:
يا ممسكًا قدري المهزوم هل عرفت |
|
عيناك سجني لمّا أصبحت شركا |
“فتجربة الشاعر هنا منطلقة من مناخ “انفعاليّ تسمّيه تجربة، أو رؤيا وليس من موقف عقلي، أو فكري واضحٌ، وجاهزٌ، فترفض التقليد الموروث، وتتجاوزه لتصدر عن طبيعة الشاعر نفسه، فتعطي نظامًا من المفردات وعلاقاتها جديدًا لأنّ تجربة الشاعر أو رؤياه جديدة”([18]).
ويتابع في القصيدة نفسها:
معذبّي كيف تدري أننّي شبحٌ |
|
ظامٍ وغير طريق الموت ما سلكا |
والشاعر لا يتكلم إلاّ عن الأرض، فالحقل المعجمي للأرض غنيّ جدًّا بها، فهي الحبيبة والمعشوقة، وهي مبعث أمان وسعادة، وذلك منبثقٌ من تجربة شعورية عميقة، فالأرض غدت حبيبة تقسو على الشاعر فيعاتبها عتاب العاشق الذي مزّقته مرارة الغربة، وقست عليه ليالي التشرد والهجران. فيقول في قصيدة “لا تغمضي عينيك” وهي بائية من البسيط والقافية من المتواتر:
يا أرض حسبي منك صبوة عاشـــــــــــــــــــــــــــــــــــق يرتاح سرُّ الليل في خلجاته |
|
للموت فهو ملوّعٌ منصاب |
فالضّياع والغربة يزيدان حزن الشاعر وإحساسه بألم الفرقة والبعد من الأرض، تلك الأرض التي أمسى البعد منها جسدًا نحيلًا يلبسه الهمّ والغمّ.
وسرعان ما تتحوّل الأرض أو القرية عنده أنثى ترغب وتحبّ، وتتشهى .إذ يقول :
فضيعتي تشتهي جفنًا تكحّله |
|
ذوائب الشمس لم يضحك بها وَلَدُ |
القرية تتشهى جفنًا وتتشهى حزنًا، والتّشهي هو الرّغبة القوية في الحصول على ما تصبو إليه، يؤنسن الشاعر قريته، يجعلها تتشهّى الحياة من خلال عودة أبنائها إليها. كما يصرّح بضياع الهوية، لأنّ في ضياعها فقد تضيع هوية الإنسان.
– حنينه إلى جدّته في القرية
يقول الشاعر في قصيدة “وقفت كخيط ضاع في حومة الدّجى”، ميميّة من الطويل والقافية من المتدارك، يحنّ فيها إلى قريته وجدّته:
أعيدي لي القلب الجريح المتميّا |
|
لقد صرت في البلوى أصمًا وأبكما |
هذه اللوحة الوصفية التي يرسمها الشاعر لجدّته المتمثلة بحنينٍ وذكرى جميلة يحنّ إليها الشاعر، يحلم بالعودة إلى تلك الحياة الهانئة، فالبلوى قد شلّت كيانه، لكنّه يرى الحياة والأمل من عينيّ جدّته، ويستعير من القرآن الكريم من سورة مريم لفظة “هزي”([23]) بجذع الليل، فيجعل الليل شجرة لها جذوع، فالصورة الشعرية الاستعارة، أي استعار لليل جذعًا، عنده متصلة بتجاربه، “تتحرك بناء” على حوافز وجدانية داخلية لها فاعلية الحراك. فالصورة هنا تتخطى الإيقاع الظّاهري المنظّم تنظيمًا زمنيًا إلى الخيوط المعقدة إذ الإيقاع والصورة عالمٌ غنيّ بالمعاناة الجديدة. لقد أضحت الصورة تجسيدًا لرؤية الفنان الشاملة للعلاقة بينه وبين العالم من خلال جزئيات صغيرة ممتلئة بالفكر والحياة معًا([24]).
ثانيًا: الحزن في شعر حسين عسيليّ
أ – الحزن الوطني
كيف عالج حسين عسيليّ ظاهرة الحزن؟ وهل ابتدع أنماطًا جديدة في قصائده لم نعهدها من قبل؟ هذا ما ستثبته الصفحات اللاحقة في هذا البحث.
في الكلام على حالة الحزن يستوجب بنا الالتفات إلى التجربة التي عانها الشاعر، وتركت بصماتها جلّية على حياته. فالشاعر يعبّر عن تجربته، عمّا في نفسه من صراع داخلي، سواء أكان تعبيرًا عن تجربته، عمّا في نفسه من صراع داخلي، سواء أكان تعبيرًا عن حالة من حالات نفسه هو، أو كانت تعبيرًا عن موقف إنساني عام تمثله. لذا، “كان في طبيعة التجربة والتعبير عنها ما يحمل الجمهور على تتبّعها، لأنّه يتوقّع أن يرى فيها ما يتجاوب وطبيعة التجربة التي جعلها الشاعر موضع خواطره ليجلو صورتها“.([25])
وقيل في دور العاطفة وأهمّيتها في الشعر “الحق أن أقدر الشعراء تعبيرًا عن الإيحاء، أولئك الذين تتملكهم العواطف، وأقدرهم تعبيرًا عن الغضب، من استطاع أن يملأ بالغضب قلبه، لهذا فإن فنّ الشعر من شأن الموهوبين فطرة أو من شأن ذوي العواطف الجياشة”([26]). لا نستطيع فصل موضوع الحزن عن موضوعات أخرى طرحها الشاعر، وما ذلك إلا نتيجة لعلاقة حتمية بين شخصية الأديب وأدبه، “وكلما اشتد الرابط بينهما وتوثّق، كان العمل الأدبي أدنى إلى الصدق، وأقرب إلى الكمال، فإن تبيّنت الأديب في أدبه ولمحت خياله في آثاره، فهو أديب موهوب يقتطف أدبه من نفسه وطبعه ومزاجه.([27]) هكذا يجدر بنا الانتقال إلى قصائد الشاعر الحزينة لنرصد صور الحزن عنده من خلال شعره. يقول:
سأهوي شموخًا يشعل القبر حزنه
|
|
ليوقد في أرض الجنوب جهنّما |
يقول أدونيس: “إنّ ثمة لذة شعرية رائعة في الحركة النفسية الإيقاعية للكلمات ومقاطعها، لكنّ هذه اللذة مشروطة، لكون هذه الحركة آتية في مدّ من تفجّرات الأعماق، وإلا تحولّت إلى رنين بارد صنعّي أجوف”([29]). فتجربة الاحتلال هي التي أيقظت شعور الحزن عنده، فالشاعر الحق من اتضحّت في نفسه تجربته، ثمّ استقصى كل أجزائها بفكره ويرتبّها ويبوبّها قبل أن يفكر بكتابتها.([30]) وهذا ما قد لمسناه في شعره.
ليس الاحتلال سببًا رئيسًا في حزن الشاعر، فعند الغوص في أشعاره نتلّمس مزيجًا من المشاعر، كالحبّ والثورة، والرّفض صاغها بقوالب شعرية في أغراض وأبواب متعددة كالرثاء والمديح والغزل، وغيرها، لكنّ السّمة العامة لهذه الأشعار أنّها حزينة المضمون، لأنّ الشاعر ضمّن قصائده رموزًا ودلالات حزينة، مفعمة بالمشاعر والانفعالات الصادقة فإن تبيّنت الأديب في أدبه، ولمحت خياله في آثاره، فهو أديب موهوب يقتطف أدبه من نفسه وطبيعة مزاجه.([31])
ويربط عبد الرحمن شكري بين الإبداع والشعر الصادق القائم على عاطفة قوية، فيرى “أنّ الشاعر الكبير لا ينظم إلا في نوبات انفعال عصبي، تغلي في أثنائها أساليب الشعر في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه، ثمّ تتذوق الأساليب الشعرية كالسّيل من غير تعمّد”([32]). والشاعر الحق هو كما قال ابن رشيق: “وإنما سمّي شاعرًا لأنّه يشعر بما لا يشعر به غيره”([33]).
إنّ التجارب التي عاينها الشاعر في حياته نتيجة وجود الاحتلال، وما نتج عنه من نتائج، لم تكن السّبب الوحيد في حزنه وبثّ شجونه وشكواه، بل نرى في غير قصيدة أسبابًا أخرى تتجلّى بوضوح في شعره.
ب – فاطمة
لعلّ التجارب العاطفية التي مرّ الشاعر بها خلال مراحل حياته، والتي كان يكتب لها نهايات متوجّة بالإخفاق، كان باعثًا من بواعث حزنه، إنّ هذا الانكسار، وهذه التجربة العاطفية التي لا تصل إلى مرادها، هي ما يسبّب تلك الرعشات الحزينة عنده. يستحضر وجود الحبيبة في إطار سردي يحكي قصة حبّ مع “فاطمة” التي لا تكتب لها النهاية السعيدة لتزيد من مآسيه، وتكثر من آهاته. يقول الشاعر في قصيدة “يا شاطئ البحر” لامية من البسيط والقافية من المتراكب:
يا شاطئ البحر قل لي أين فاطمة |
|
ومن بأهدابها الأنوار تغتسل |
مردّ الحزن هنا إلى فراق فاطمة التي فرّت من الاحتلال (ربما) إلى بيروت، ويستعين الشاعر في تجربته العاطفية في استحضار التاريخ والماضي برموزهما، فكأنّ الشاعر في صحراء خاوية لا حياة فيها، يعاني ما يعاني من تمزّق وهيام، لكنّه لايجد ما يريد، الشاعر يبحث عن حبيبة غير موجودة، يبحث عنها ليجد نفسه في وجودها، يلجأ إلى البحر فيثير البحر كلّ أحزانه وآلامه إذ يهيم في حزنٍ وضياع. ويتابع الشّاعر في قصيدة بعنوان “عودي” نونية من البسيط والقافية من المتواتر:
عودي إليّ فما روحي بهادئة |
|
سيري على الرّمل واستلقي بأحضاني
|
الخاتمة
وختامًا هذا هو شاعرنا، شاعرٌ يضاف إلى شعراء عامليين كثر أسهموا في إغناء الحركة الأدبية والثقافية في جبل عامل، يجول محدقًا في طبيعة هذا الجبل ويترجّل في الدروب، يرمق من موقعه إلى آخرين يكملّون الدرب ويتابعون المسير… ننتظر مع المنتظرين، جمع التراث الأدبي للشاعر حسين عسيليّ، ولا سيّما ما بقي خارج إطار النشر والطباعة، مقدّمين آفاقًا جديدة لطلبة العلم والأدب للتصدّي لهذه الأعمال الشعرية غير المنشورة للشاعر حسين عسيليّ، ولتكون موضوعًا جديرًا بالدراسة والبحث قد يدرس مع الآتي من الأيام.
المصادر والمراجع
أ – الدواوين الشعرية
1- عسيليّ، حسين: تعذبني شمس الجنوب ، لام،لا ط ، لات
2- عسيليّ، حسين: وحين تهجرني الموانئ ، بيروت ، دار الريف للطباعة والنشر ، ط1، 1990 م.
3- عسيليّ، حسين: ستون جمجمة ووردة ، بيروت، دار العلا للطباعة والنشر والتوزيع ، ط1، 1993 م .
4- عسيليّ، حسين: مرايا الجراح ،لام ،لاط ،لات .
ب- الكتب العربية
1- ابن رشيق: العمدة في محاسن الأدب، بيروت، دار الجيل، ط5، مج1، 1981م.
2- أدونيس: مقدمة للشعر العربي، بيروت، دار العودة، ط2، 1980م.
– أدونيس : زمن الشعر ،بيروت ،دار العودة ،ص2، 1978م،ص278.
3- إسماعيل، عزالدين: الشعر العربي المعاصر، القاهرة، دار الفكر العربي، ط1، 1963م.
4- حجازي، علي: الشيخ علي مهدي شمس الدين، رسالة ماجستير، بيروت، دار مجد، جامعة القديس يوسف، ط1، 1983م.
5- حسن، محمد: دراسات في الأدب العربي الحديث، القاهرة دار القومية للطباعة والنشر، لاط، لات، ص185.
6- حمزة، مريم: الأدب بين الشرق والغرب ،بيروت ، دار المواسم ، ط1، 2004م.
7- سويف، مصطفى: الأسس الفنية للإبداع الفني، بيروت، دار الافاق الجديدة للنشر، ط3، 1978م.
8- عوض، ريتا: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، لام، لاط، لات.
9- غالي، شكري: شعرنا الحديث إلى أين؟ بيروت، دار المعارف، ط1، 1998م.
10- طاليس، أرسطو: فن الشعر، دار الثقافة والإعلام، 2000م.
11 – هلال، محمد غنيمي: النقد الادبي الحديث، ص 383.
جـ – الكتب الأجنبية:
1- p.goodlman:the structure of literature .page 46.