اللّغة العربيّة ودورها في التّنمية المستدامة
د. ريما أمهز*
توطئة
لا ريب في أنّ للّغة العربيّة منزلة لا تضاهى، ومكانة لا تسامى، فهي لغة القرآن الكريم ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾، وهيّ اللّغة الّتي افتخر رسول الله(ص) بالانتساب إليها حين قال “أنا أفصح العرب، بيد أنّي من قريش”.
فاللّغة العربيّة هي أفصح اللّغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها، وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني الّتي تقوم بالنّفوس، فلهذا أُنزل أشرف الكتب بأشرف اللّغات.
وقال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون: “وباستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم الّتي تحمل سموّ الفكر، وأمارات الفتوة، والمروءة ما لا مثيل له”([1]).
وقال الدّكتور عبد الصّبور شاهين إنّ العربيّة وصلت إلينا معبّرة عن تاريخ بعيد، وتراث عميق، ناطقة على ألسنتنا كما كانت تنطق على ألسنتهم، من دون أن تستغرب، أو تستعجم. فأصولها، وصيغها، وتراكيبها هي هي، لم يصبها التّغيير على الرغم من تطاول العهود، وتعاقب الأجيال, وهذا أمر نادر الحدوث في عالم اللّغات لم يسجّله التّاريخ إلّا للّغة العربيّة، الّتي يقرأ القارئ اليوم نصوصها، فلا يحسّ بقدمها، بل يأنس بها ويتلذّذ بتكرارها وتمثّلها، بل ويستخدمها في أحيان كثيرة. ويمضي د. شاهين قائلاً: “على حين أنّ نصوص اللّغات الأخرى تستغلق على الفهم إذا مضى على إنشائها قرنان، بل قرن واحد، فتصبح من مخلفات التّاريخ، وتوضع لتفسيرها المعاجم الكلاسيكيّة؛ فأمّا إذا كانت بنت ثلاثة أو أربعة قرون فإنّها تعدّ من مقتنيات المتاحف”.
ولكن مع مرور الزّمن، وبداية الألفيّة الثّالثة، شهدت المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة انفجارًا معرفيًّا مـدفوعًا بقوّة صناعة المعرفـة الّذي تمخّض عنه ثورة علميّة وتكنولوجيّة، نـتج عنها العديد من المتغيّرات، والتّطوّرات السّريعة المتلاحقة في مجالات الأنشطة الإنسانيّة شتّى، فازدادت التّحدّيات أمام اللّغة العربيّة الفصحى في إثبات وجودها، ومقاومة التّهميش، والتّجاهل اللّذين يلاحقانها، فبات التّحدّي عظيمًا، والصّراع أكثر ضراوة لأنّها تواجه عصر العولمة حيث يعيش العالم تحت هيمنة القطب الواحد الّذي يسعى بكلّ ما أوتي من قوّة، وعدّة، وعتاد إلى فرض رؤيته الأحاديّة، وبسط سيطرته المادّيّة والمعنويّة؛ بل وثقافته ولغته على كلّ العالم.
والأسئلة الّتي تطرح نفسها هنا بإلحاح: ما مستقبل اللّغة العربيّة في عصر العولمة؟ وما دورها في تحقيق التّنمية المستدامة في الوطن العربي؟
وسيحاول البحث الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال:
- تعريف اللّغة، وتحديد خصائصها، وموقعها من لغات العالم.
- تعريف التّنمية المستدامة.
- دور اللّغة في تحقيق التّنمية المستدامة في العالم العربي.
أوّلاً:
- تعريف اللّغة العربيّة
لغة
ورد في لسان العرب أنّ أصل اللغّة (لغى) أو ( لغو) وجمعها (لغى) و(لغات)، ومنهـا لَغي، يلغى إذا هذى. ويقال لغا فلان عن الصّواب، وعن الطّريق إذا مال عنه، وكذلك اللّغـو. واللّغـة أخذت من هذا، لأنّ هؤلاء تكلّموا بكلام مال فيه عن لغة هؤلاء الآخرين. واللّغو: النّطق ويقال: هذه لغتهم الّتي يلغون بها أي ينطقون بها ولغى بالشّيء يلغى لغا: لهج([2]).
اصطلاحًا
اختلف العلماء في تعريف اللّغة ومفهومها، ويرجع سبب ذلك إلى ارتباط اللّغة بكثير من العلـوم، ويمكن عرض بعض التّعريفات للّغة:
عرّفها ابن جني بقوله: “إنها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم”([3]).
وعرّفها ابن خلدون أنّها “عبارة المتكلّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لسانيّ”([4]).
وهي “نظام من الرّموز الصّوتيّة يتمّ خلالها التّعارف بين أفـراد المجتمـع، تخـضع هـذه الأصوات للوصف من حيث المخارج، والحركات الّتي يقوم بها جهاز النّطـق، ومـن حيـث الصّفات، والظّواهر الصّوتيّة المصاحبة لهذه الظّواهر النّطقيّة في التّحليل اللّغـويّ”([5]).
واللّغة ظاهرة اجتماعيّة تستخدم للتّفاهم بين النّاس([6]).
وعرّفها دي سوسير أنّها “نظام من الرّمز جوهره الوحيد الرّبط بين المعاني والصّور الـصّوتيّة”([7]).
وعرّفها ماكس مولر أنّها “تستعمل رموزًا صوتيّة مقطعيّة يعبّر بمقتـضاها عـن الفكـر”([8]).
ونستنتج من التّعريفات السّابقة أنّ اللّغة هي ظاهرة إنسانيّة، ومنهج للتّفكير يتكوّن من نظـام مـن الرّمـوز، والمقاطع الصّوتيّة للاتّصال، والتّواصل.
- خصائص اللّغة العربيّة
إنّ للّغة العربيّة كما وصلت إلينا خصائص تميّزها من سواها، وتدلّ على مبلغ عقول أصحابها من الرّقيّ، وإن كانوا بادية راحلين، وهذه هي مميّزاتها:
- الإعراب
نعني بالإعراب تغيّر أواخر الكلمات بتغيّر العوامل الدّاخلة عليها بالرّفع والنّصب والجرّ والسّكون، واللّغات الحيّة في العالم المتمدّن الآن تعدّ بالعشرات، ليس بينها من اللّغات المعربة إلّا ثلاث: وهي العربية والحبشيّة، واللّغة الألمانية([9]).
- دقّة التّعبير
تمتاز اللّغة العربيّة بدقّة التّعبير بألفاظها وتراكيبها، ومن أمثلة ذلك وجود الكثير من الألفاظ لتأدية فروع المعاني، أو جزئياتها، فعندهم لكلّ ساعة من ساعات النّهار اسم خاصّ به، فالسّاعة الأولى الذّرور، ثمّ البزوغ، ثمّ الضّحى، ثمّ الغزالة، ثمّ الهاجرة، ثمّ الزّوال، ثمّ العصر، ثمّ الأصيل، ثمّ الصّبوب، ثمّ الحدور، ثمّ الغروب، ويقال فيها أيضًا: البكور، ثمّ الشروق، فالإشراق، فالرّأد، فالضّحى، فالمتوع، فالهاجرة، فالأصيل، فالعصر، فالطفل، فالحدور، فالغروب.
… ناهيك بالمترادفات في الأوصاف، وهي أكثر من أن تحصى، ولعلّ العربية أغنى اللّغات في الألفاظ المعبّرة عن المعاني المجرّدة وانفعالات العواطف…
ومن وسائل دقّة التّعبير في العربيّة مزيدات الأفعال، فإنّ صيغ المشاركة تعبّر باللّفظ الواحد عن معان لا يعبر عنها في اللّغات الأخرى إلّا بعدّة ألفاظ، كقولنا: تقاتلوا وتقاضوا، وهذه الصّيغة خاصّة بالعربية”([10]).
- الإعجاز والإيجاز
لكلّ قوم إعجاز في لغتهم فيدلون بلفظ قليل على معنى كثير، ولكنّ العرب أقدر على ذلك من سواهم؛ لأنّ لغتهم تساعدهم عليه، وقد تعوّدوه وألفوه، ومنه في القرآن، والحديث، والأمثال، وكتب الفقه، والشّرع والأدب أمثلة كثيرة، ومن هذا القبيل استعمال المجاز، والكناية، وسائر أساليب البديع، فهي لغة شعريّة كثيرة الكنايات، والإشارات يسهل فيها التّعمية والإلغاز([11]).
- المترادفات والأضداد
في كلّ لغة مترادفات أي ألفاظ عدّة للمعنى الواحد، ولكنّ العرب فاقوا في ذلك سائر أمم الأرض… ففي لغتهم للسّنة أكثر من اسم، وكذلك للنور، وللظّلام، والشّمس، والأسد، والحيّة… ناهيك بمترادف الصّفات، فعندهم للطّويل أكثر من لفظ، وللقصير أيضًا، ونحو ذلك للشّجاع، والكريم، والبخيل ما يضيق المقام عن استيفائه.
ومن خصائص اللّغات العربيّة أسماء الأضداد، فإنّ فيها مئات من الألفاظ يدلّ كلّ منها على معنيين متضادّين مثل قولهم: “قعد” للقيام والجلوس، و”نضح” للعطش والرّيّ و”ذاب” للسّيولة والجمود، و”أفد” للإسراع والإبطاء، “وأقوى” للافتقار والاستغناء([12]).
- المعاني الكثيرة للفّظ الواحد
ومن خصائصها أيضًا دلالة اللّفظ الواحد على معانٍ كثيرة، فمن ألفاظها ما يدلّ على ثلاثة معانٍ، ومنها ما يدل على أربعة، ومثلها الّتي تدل على خمسة معانٍ، وقس على ذلك ما يدلّ على ستّة معانٍ، فسبعة، فثمانية، فتسعة وأكثر([13]).
- السّجع وغيره من أسباب سعة اللّغة
إنّ كثرة المترادفات في اللّغة العربيّة، وتعداد المعاني للّفظ الواحد جعلتها واسعة التّعبير، وسهّلت على أصحابها التّسجيع، وكان التّسجيع شائعًا في الجاهليّة بلغة الكهّان على أساليب يستقبحها أهل اللّغة؛ لغرابة ألفاظها وركاكة تركيبها. ومن نتائج سعتها اقتدار أصحابها على كتابة المعنى الواحد بتراكيب عدّة بين عاطل، ومهمل، ومنقط، أو مشترك، وقد علمنا أنّ بعضهم كتب تفسير القرآن بألفاظ ليس فيها حرف منقّط، وهناك تراكيب يشترط فيها إذا قرأها الألثغ لا تظهر لثغته؛ لخلوّها من الرّاء، وقد خطب واصل بن عطاء خطبة طويلة لم يرد فيها حرف الرّاء، وكان إذا قال شعرًا لم يورد فيه حرف الرّاء على الإطلاق، وذلك لا يتيسّر في اللّغات الإفرنجيّة، وقد جرّب بعضهم كتابة أسطر بالألمانيّة من دون راء، فلم يستطع ذلك إلّا بشقّ النّفس([14]).
- موقعها بين لغات العالم
يتكلّم العالم اليوم ما يزيد على ثلاثة آلاف لغة، إلاَّ أنّ اللغة العربيّة صارت لغة عالميّة رسميّة إلى جانـب اللّغـات الخمـس المعتمدة وهي (الإنجليزيّة – الفرنسيّة – الرّوسيّة – الصّينيّة – الأسبانيّة) في هيئة الأمم المتحدة عام 1973م ([15]).
وإن كانت اللّغات العالميّة خاصّة بمجتمعات دون أخرى، فإنّ اللّغة العربيّة، وإن كانت خاصّة بالعرب، إلا إنّها لغة المسلمين في جميع بقاع العالم وجب علـيهم فهمهـا، لتقـصّي أمـور ديـنهم وعقيدتهم، واللّغة العربيّة تعدّ من أهم أسباب منعة الأمّة العربيّة وعزّتها، وتعدّ مقياسًا لمـا وصـلت إليه من تطوّر وتقدّم([16]).
لقد كانت اللّغة العربيّة هي اللّغة العالميّة الأولى في العلوم والفنـون المتعدّدة، فـي عـصر ازدهار الحضارة العربيّة الإسلامية، منذ القرن الثّالث الهجري، وقد ظهرت عالميّتها واضحة عنـدما كانت البعثات العلميّة في الأقطار الأوروبيّة كافّة تؤمّ مراكز الإشـعاع الثّقـافي، فـي قرطبـة، وإشبيلية، وغرناطة، وفارس، وبجاية، وتلمسان، والقيروان، وغيرها من مراكز العلم، للدّراسـة العديد من العلوم والفنون باللّغة العربيّة؛ حيث كانت لغة التّدريس والبحث، ولغة المـصادر العلميـّة([17]). وقد تركت آثارها الواضحة في العديد من الجوانب اللّغوية والحضاريّة في العالم، حتّى العصر الحاضر، فكثير من المصطلحات وجدت طريقها إلى اللّغة الإنجليزية، ما يعدّ إسـهامًا علميًّا أصيلًا في النّهضة الأوروبيّة الحديثة. فاللّغة العربيّة والحروف العربيّة، باتت تحتلّ في نظـر جماهير هذه الشّعوب مكانة الاحترام والقداسة، فأصبحت هذه العالميّة تنفرد بها هذه اللّغة من بـين جميع لغات الأمم الأخرى، إذ أصبحت لغـة الثّقافـة، والإدارة، والتّجـارة، والمراسـلات، ووسـيلة الاتّصالات الدّولية.
وفـي مقـال نـشره فرجـسون، بـدائرة المعـارف البريطانيّة، عن اللّغة العربيّة قال: “إنّ اللّغة العربيّة سواء بالنسبة إلى عدد النّاطقين بها، أو إلى مـدى تأثيرها، تعدّ – إلى حدّ بعيد – أعظم اللغات السّامية جمعاء، كما ينبغي أن يُنظر إليها كإحدى اللّغـات العظمــى في عالم اليوم”([18]).
ثانيًا: تعريف التّنمية المستدامة
تتعدّد تعريفات التّنمية المستدامة، ولكن ورد مفهوم التّنمية المستدامة لأوّل مرّة في تقرير اللّجنة العالميّة للبيئة والتّنمية عام 1987م، وعرّفت التّنمية في هذا التّقرير على أنّها “تلك التّنمية الّتي تلبّي حاجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة في تلبية حاجاتهم”([19]).
وفي عام 1989م، عرّفها Barbier بشكل أكثر عموميّة، لتشمل إنشاء نظام اجتماعي، واقتصادي يضمن الدّعم لتحقيق الأهداف التّالية: زيادة في الدّخل الحقيقي، وتحسّن في مستوى التّعليم، وتحسين صحّة السّكّان.
ثالثًا: دور اللّغة في تحقيق التّنمية المستدامة في الوطن العربي
اللّغة العربيّة الفصيحة هي لغتنا الأمّ، وعنوان شخصيّتنا، ورمز ثقافتنا، وكياننا القومي، وهي وسيلة للتّواصل، وللتّعبير عن المشاعر، والأفكار، وقضاء الحوائج، وهي إلى ذلك حصننا الّذي نذود به عن هُويّتنا، وذاتيّتنا الثّقافيّة، ووحدتنا القوميّة.
ولكن مع كلّ ذلك تواجه اللّغة العربيّة الفصحى اليوم تحدّيات مزاحمة اللّغة الأجنبيّة لها في ميادين التّعليم، وميادين أساسيّة أخرى، كما أنّها تعاني من اتّساع العامّيّة في منابر كانت للعربيّة، ويكمن التّحدّي الأكبر الّذي يواجهه العرب اليوم هو تلك الفجوة الكبيرة في امتلاك التّكنولوجيا وتوطينها خصوصًا منها تكنولوجيا الاتّصال، والمعلومات الّتي أصبح المعوّل عليها في تحقيق مجتمع المعرفة الّذي يؤدّي بتحقيقه إلى تحقيق تنمية شاملة، ومستديمة في مجالات الحياة المتعددة([20]).
كلّ هذا أدّى إلى تهميش اللّغة العربيّة الفصحى، ونعتها بالتّخلف والرّكود، وأنّها ليست لغة العصر، والعلم، والمعلوماتيّة، فتعالت صيحات تنادي بإبعادها عن مجالات التّنمية، وإحلال اللّغة الأجنبيّة محلّها، إلاّ أننا نحن العرب لا ينبغي أن نقبل هذا الوضع، ولا أن نهوّن من شأنه، لأنّه يتعلّق باللّغة العربيّة الّتي هي عنوان هُويّتنا، وثابت شخصيّتنا، ومستودع حضارتنا، ومعارفنا، وتراثنا، وهي فوق كلّ ذلك لغة ديننا، وحاملة قرآننا.
فكيف لنا أن نعيد إلى هذه اللّغة مكانتها لتبقى صامدة، وتُسهم في تشكيل مجتمع المعرفة الّذي يؤدّي حتمًا إلى تنمية مستدامة وشاملة؟
- بما أنّ اللّغة الأمّ هي أساس كلّ إبداع وابتكار، وما من نهضة قامت على وجه الأرض بلغة أجنبيّة، أو بعيدة عن اللّغة الأم، لا بدّ للعرب من فرض اللّغة الأمّ لغة أساسيّة في مجال المعرفة والعلم، والتّكوين الجامعي والتّقني، لأنّها تسهم حتمًا في الإبداع، والابتكار، ولأنّها أهمّ عامل مشكّل، ومكوّن للقيم الثّقافيّة، والسّلوكيّة لأيّ مجتمع، وعامل من عوامل تحقيق نهضته وتنميته. ” فإذا علّمت شخصًا بلغته فقد نقلت العلم إلى تلك اللّغة، أمّا إذا علّمته بلغة أخرى فلم تزد على أنّك نقلت ذلك الشّخص إليها”([21]).
- عدم تعليم العلوم باللّغات الأجنبيّة في جامعات الدّول العربيّة، لأنّ استعمالها في كثير من مجالات الحياة الفكريّة، والاقتصاديّة، والاجتماعية يؤدّى إلى حدوث ازدواجيّة لغويّة مقيتة تؤدّي بدورها إلى خلخلة كبيرة في عملية التّعليم، وتنتج مجتمعًا غير متوازن، بل مضطربًا فكريًّا وثقافيًّا، وهذا بطبيعة الحال يعطّل العمليّة التّنمويّة بشكل دائم.
- الكفّ عن ملاحقة النّموذج الغربي، وتقليده، وتمثيله، لأنّ استعمال اللّغات الأجنبيّة لا يقودنا إلى مرحلة الإبداع، وبالتّالي لا يمكن أن يحرّرنا من تخلّفنا الاقتصاديّ، والاجتماعيّ، كما أنّ استعمال اللّغات الأجنبيّة لا يساعد على خدمة مصالحنا، وإنّما يساعد الدّول الأجنبيّة على بقائنا حيث نحن في حالة من التّبعية العلميّة، والفكريّة للعالم الغربي، وهو وضع لا يمكن أن يخدم هدف التّخلّف، أو التّغلّب عليه تدريجيًّا([22])“.
- تأسيس منظومة معرفيّة مع امتلاك منظومة لغويّة تكون شاملة مشتركة متجذّرة، حاملة للأبعاد المتنوّعة فكرًا وروحًا وإبداعًا، فاللّغة هي الحامل الضّروريّ المحايث لكلّ إنجاز تنموي، لأنّ اللّغة بما هي موضوع للتّعليم، وللبحث، والإنتاج ركن أساسي في كلّ مشروع اقتصاديّ.
- تجاوز مرحلة الاستيراد الجاهز إلى مرحلة الخلق، والإبداع الذّاتي للآلات، والأجهزة العلميّة، وإضافة اختراعات جديدة تحسب للحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهو أمر لا يتمّ للعرب إلّا بلغتهم، وفي مناخ ثقافتهم الأصلية ذات التّاريخ المديد، وذلك لأنّ الرّقيّ الثّقافيّ، والحضاريّ لأيّ مجتمع من المجتمعات في العالم لا يتحقّق بمعزل عن الرّقيّ اللّغويّ الّذي ينمو ويتطوّر فيه وبه فكر الأفراد”([23]).
- مع تحوّل الفكر التّنمويّ اليوم إلى الاهتمام بمجتمع المعرفة الّذي يؤدّي إلى حدوث تنمية شاملة، لا بدّ من الاهتمام بتطوير المحتوى الرّقمي، وتوحيد اللّغة بين البلاد العربيّة، وتوظيف التّكنولوجيا باللّغة الوطنية لجعلها متداولة على مستوى النّاس العاديّين لأنّ الحديث عن مجتمع المعرفة لا يعزل عن الحديث عن المحتوى الرّقمي، وكلاهما لا يمكن أن يكون إلّا باللّغة العربيّة في الوطن العربي، لأنّ من خصائص مجتمع المعرفة أن تكون المعرفة منتشرة بشكل موسع، وليست مقصورة على فئة معيّنة.
- تعريب العلوم وترجمتها ونقل المعارف إلى اللّغة العربيّة، وهذا يؤدي دورًا فاعلًا في النّموّ الحقيقي للاقتصاد العربي، وفي تحوّله من اقتصاد ريعي متواكل علميًّا، وتكنولوجيًّا إلى اقتصاد ينمو نموًّا مستدامًا مع إحراز قيمة مضافة عالية([24]).
- جعل اللّغة العربيّة الفصحى على قدم المساواة مع اللّغات الرّاقية بوصفها أداة للاتّصال، وذلك من خلال اكتساب السّمات التّقنيّة، والثّقافيّة الّتي يعتقد أنّها توجد في اللّغات المشار إليها، والّتي قد أصبحت حديثة، وعمليّة التّحديث هي عمليّة اللّحاق بالجماعة العالميّة من اللّغات الّتي يزيد النّقل بينها والمعترف بها بوصفها أدوات مناسبة للأشكال الحديثة من الحوار([25]).
خاتمة
نظرًا إلى أهمّيّة اللّغة العربيّة الفصحى، فهي اللّغة المفترض فيها أن تحقّق الإبداع والابتكار، وهي الدّافع المهمّ وراء تحقيق التّنمية المستدامة للبلدان العربيّة، وإنّ اللّغة الأجنبيّة لا يمكنها أبدًا أن تنقلنا إلى عتبة التّقدّم، ولا يمكنها أن تحقّق التّنمية المنشودة، وهي لن تقوم إلاّ بتكريس التّبعيّة الثّقافيّة، والعلميّة، والتّبعيّة لدول هذه اللّغات، وتؤدّي إلى تكريس ظاهرة نقل التّكنولوجيا وليس توطينها.
فقد أكدّت لجنة اليونسكو أنّه لا يوجد أي عائق في نظام لغة ما يحول بينها وبين جعلها لغة حضاريّة حديثة، وترى هذه اللّجنة أنّه إذا كانت اللّغة الأمّ كفيلة بأن تكون لغة للتّعليم الجامعي والتّقني فإنّه يجب استعمالها لهذا الغرض([26]).
والتّنمية المستدامة لن تحدث بعيدة من اللّغة الوطنيّة في البلدان العربيّة، وأنّ الاعتقاد بأنّ اللّغة الأجنبيّة هي الّتي تقوم بهذا الدّور في وطننا العربيّ ما هو إلاّ حديث مزعوم، وهو في الحقيقة لن يؤدّي إلى حدوث التّنمية المنشودة، بل في الحقيقة لن يكرّس إلّا التّبعيّة والتّخلّف.
فإذا أخضعنا لغتنا للتّجربة التّنمويّة، وكنّا صادقين ومخلصين في ذلك، وكنّا مقتنعين أنّها لغة الماضي والحاضر والمستقبل، وأنّها دافع مهمّ لإنجاح التّقنيّة ولكلّ نهوض، ووفّرنا لها كلّ سبل التّمكين، فإنّها بلا شكّ ستكون لغة التّنمية والنّهوض المنشودين، وإنّنا بلا ريب سنحقّق ذاتنا، وننتج، ونبدع، ونساهم كغيرنا في إنتاج المعارف والعلوم العالميّة، وستنتعش اللّغة العربيّة بذلك وتنمو وتتطوّر.
المراجع العربيّة
- ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، الخصائص، دار الهدى للطّباعة والنّـشر، القاهرة،1931م، ص 33.
- ابن خلدون، عبد الرّحمن، مقدّمة ابن خلدون، ط5، دار القلم، بيروت، 1984م.
- ابن منظور، جمال الدّين، لسان العرب، ج2، تصحيح أمين محمـد عبـد الوهاب، محمّد الصّادق، دار المعارف، القاهرة، 1999م.
- ابن نعمان، أحمد، مستقبل اللغة العربية، دار الأمّة، الجزائر، ص ١٠٩.
- جمعة، سيد يوسف، سيكولوجيّة اللّغة والمرض العقلي، سلسلة عالم المعرفة، 1990م، ص 51 .
- الخوري، يوسف قزما، نجاح الأمّة العربيّة في لغتها الأصيلة، ط1، بيروت، 1991م، ص 11.
- زاهد، زهير، العربيّة والأمن اللّغوي، مؤسسة الورّاق، عمان، الأردن، 2000م، ص 13.
- زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللّغة العربيّة، مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، القاهرة، ص 57.
- السّيّد، محمود أحمد، الموجز في طرائق اللّغة العربيّة وأدبها، ج 1، بيروت، دار العودة، 1980م، ص 12.
- عاشور، راتب، الحوامدة محمّد، أساليب تدريس اللّغة العربيّة بين النّظرية والتّطبيق، دار المسيرة للنّشر والتوزيع، الأردن، 2003م، ص 20.
- عبيد، عبد اللّطيف، اللّغة العربيّة والتّنمية الشّاملة بين المبدأ والتّطبيق، تونس نموذجا، مقال سابق، ص ٢٩١.
- عمـايرة، منصور، المسرح والوسائط، موقع مجلّة الكلمة، عدد 66، أكتوبر 2012م.
- المراياتي، محمد، أثر اللّغة العلميّة والتّكنولوجيّة في النّمو الاقتصادي العربي، ضمن كتاب أسئلة اللّغة لمجموعة من المؤلّفين، منشورات معهد الدّراسات والأبحاث للتّعريب بالرباط، يوليو ٢٠٠٢ م، ص ٠٩.
- النّفيسي، عبد الله، البعد السّياسي لقضية اللّغة العربيّة، ضمن كتاب اللّغة العربية أسئلة التّطوّر الذاتي والمستقبل، سلسلة كتب المستقبل العربي، عدد ٤٦، مركز دراسات الوحدة العربية، أكتوبر ٢٠٠٥م، بيروت، ص ٦..
- وافي، عبد الواحد، علي، فقه اللّغة، دار النّهضة، القاهرة، ص ٢٤٥.
المراجع الأجنبيّة
Ferguson ,C.Aarabic language encyclopedie britanico, 1971, p 82 – 83.
المجلّات والدّوريّات
- كتاني، إدريس، دور اللّغة في تنمية الطّاقات البشريّة وتجربة اللّغات الأجنبيّة في البلدان الإفريقيّة، مجلة اللّسان العربي، مكتب تنسيق التّعريب بالرباط، ص١٠.
اللّجنة العالميّة للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ترجمة محمّد كامل عارف، سلسلة عالم المعرفة عدد 142، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1989م، ص83.
* مدرّبة في مادة اللغة العربية في المركز التربوي للبحوث والانماء، ومرشدة لمادة اللغة العربية في مديرية الإرشاد والتوجيه.
-[1] وافي، عبد الواحد، علي، فقه اللّغة، دار النّهضة، القاهرة، ص ٢٤٥.
[2]– ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، ج2 ، تصحيح أمين محمـد عبـدالوهاب، محمد الصادق، دار المعارف، القاهرة، 1999.
-[3] ابن جنى، أبو الفتح عثمان، الخصائص، دار الهدى للطّباعة والنّـشر، القاهرة،1931، ص 33.
[4]– ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون، ط5، دار القلم، بيروت، 1984م.
[5]– عمـايرة، منصور، المسرح والوسائط، موقع مجلّة الكلمة، عدد 66، أكتوبر 2012م.
[6] – جمعة، سيد يوسف، سيكولوجيّة اللّغة والمرض العقلي، سلسلة عالم المعرفة، 199، ص 51.
-[7] زاهد، زهير، العربيّة والأمن اللّغوي، مؤسسة الوراق، عمان، الأردن، 2000م، ص 13.
-[8] عاشور، راتب، الحوامدة محمد، أساليب تدريس اللّغة العربيّة بين النّظرية والتّطبيق، دار المسيرة للنّشر والتوزيع، الأردن، 2003م، ص 20.
[9]– زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللّغة العربيّة، مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، القاهرة، ص 57.
[10]– م. ن. ص 58.
[12] زيدان، جرجي، م. س.، ص 60.
[13] م. ن. ص 61.
[14] م. ن. ص 61.
[15] زاهد، زهير، العربية والأمن اللّغوي م. س. ص 24.
-[16] السيد، محمود أحمد، الموجز في طرائق اللغة العربية وأدبها، ج 1، بيروت، دار العودة، 1980م، ص 12.
[17]– الخوري، يوسف قزما، نجاح الأمة العربية في لغتها الأصيلة، ط1، بيروت، 1991م، ص 11.
[18]– Ferguson ,C.Aarabic language encyclopedie britanico, 1971, p 82 – 83.
[19] – اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ترجمة محمد كامل عارف، سلسلة عالم المعرفة عدد 142، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،1989م، ص 83.
-[20] “تقرير التنمية الإنسانية العربية”، سنة ٢٠٠٣ م، ص ١٢٤ وما بعدها.
-[21] عبيد، عبد اللطيف، اللغة العربية والتنمية الشاملة بين المبدأ والتطبيق، تونس نموذجًا، مقال سابق، ص ٢٩١.
[22]– النفيسي، عبد االله، البعد السياسي لقضية اللغة العربية، ضمن كتاب اللغة العربية أسئلة التطور الذاتي والمستقبل، سلسلة كتب المستقبل العربي، عدد ٤٦، مركز دراسات الوحدة العربية، أكتوبر ٢٠٠٥م، بيروت، ص ٦.
[23]– ابن نعمان، أحمد، مستقبل اللغة العربية، دار الأمّة، الجزائر، ص ١٠٩.
[24]– المراياتي، محمد، أثر اللّغة العلميّة والتّكنولوجية في النّمو الاقتصادي العربي، ضمن كتاب أسئلة اللّغة لمجموعة من المؤلّفين، منشورات معهد الدّراسات والأبحاث للتّعريب بالرّباط، يوليو ٢٠٠٢، ص ١٠٩.
[25]– م. ن. ص 115
[26]– كتاني، إدريس، دور اللّغة في تنمية الطاقات البشرية وتجربة اللّغات الأجنبيّة في البلدان الإفريقيّة، مجلّة اللّسان العربي، مكتب تنسيق التعريب بالرباط، ص١٠.