إشكالية تأثير الكتاب المقدس في فلسفة كانط الأخلاقية
(دراسة تحليلية)
د. روبير مطانيوس معّوض*
مقدمة
يُعدُّ كانط (1724م – 1804م) من أبرز فلاسفة العصر الحديث، بل مضى البعض إلى اعداده أعظم فلاسفة عصره، فقد عمل على التّصالح بين العلم والدّين بطريقة تبدو أكثر نعومة وأشدّ تأثيرًا من ليبنتز (1646م – 1716م)([1]) ، أسس المثاليّة «النقديّة» أو المتعالية، كما اتسمت فلسفته الأخلاقية بالمثالية. عرّف الأخلاق – عامة – بأنها: «مجال الحرية الإنسانية، المتميّز من ميدان الضرورة الخارجية والسببية الطبيعية، فأصبحت بمعنى أكثر ملموسية، مجال اللازم (ما يجب أن يكون) الذي له طابع كلي في الأخلاق (الآمر القطعي)»([2]).
لقد أبدى اندهاشًا كبيرًا وشعورًا عارمًا حيال أثر عظمة الكون، والقانون الأخلاقي في عقله ونفسه، خاتمًا كتابه «نقد العقل العملي» بقوله الشهير: «شيئان كلما تأملنا فيهما مزيدًا من إمعان، يملآن الذهن بإعجاب ورعب جديدين أبدًا، متزايدين دومًا، إنهما السماوات المرصّعة بالكواكب فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في داخلي. وليس عليّ أن أبحث عنهما، أو أحدس راجمًا بالغيب فيهما، كما لو أنّهما كانا مقنّعين بديجور، أو كانا في صقعٍ مستشرف يقع ما وراء أفقي. إنني أراهما أمامي، وأربطهما مباشرة، بإدراكي وجودي»([3]).
يتمحور هذا البحث حول إشكاليّة تأثير الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد في فلسفة كانط الأخلاقيّة. يتكوّن من مبحثين وخاتمة. سأتناول في المبحث الأول الأبعاد الأخلاقية في الكتاب المقدّس. أما المبحث الثاني فخصّصته لتبيان موقع فكر كانط الأخلاقي في الكتاب المقدّس. عاصر كانط الثورة الفرنسيّة، فكانت هذه الأخيرة بالنسبة إلى الألمان حدثًا ملهمًا من الناحيتين الفلسفية والأخلاقية، وقد قال هاربرت ماركيوز: ذات مرة أن الفلاسفة الألمان المعاصرون للثورة الفرنسية قد كان شغلهم الشّاغل هو الحصول على مفهوم فلسفي للثورة، بينما كانت فرنسا تغلي، وترتفع فيها أصوات الجماهير المناديّة بدستور جديد يقوم على الحرية.
إنّ كانط في محاولته بناء فكر أخلاقي يقوم على الحرية لم يستطع غضّ الطرف عمّا كان يحصل في فرنسا. وقد عبّر عن إعجابه بالثّورة الفرنسيّة في مقالة ما التّنوير؟ وفي مقال السلام الدائم. لا بوصفها ثورة سياسية، بل بوصفها ثورة أخلاقية في المقام الأول. لكن الأخلاق الكانطية لم تكن ملزمة بالنظر فقط في النموذج الأخلاقي كما عبّر عنه الكتاب المقدّس، بل كانت ملزمة بالنّظر أيضًا إلى النّموذج الأخلاقيّ الذي مثّلته الثورة الفرنسيّة.
إنّ البحث في فكر كانط الأخلاقي من منظور الحريّة، يجعله بحثًا في النصوص الدينية كذلك، انطلاقًا من فرضية مفادها أن كانط في بنائه لفكره الأخلاقي لم يكن ليغضّ الطرف مطلقًا عن الكتاب المقدّس، وما يعتمل فيه من أوامر أخلاقيّة تضمّنتها القصص العديدة التي يحفل بها العهدان القديم، والجديد. تتضمّن إشكالية هذا البحث التساؤلات الآتية:
هل تضمّن حقًا الكتاب المقدس ما يمكن عدّه أساسًا لفلسفة أخلاقية متكاملة؟ وأين يمكن تلمّس لقاء فكر كانط الأخلاقي مع الكتاب المقدس؟ أو على الأقل أين نستطيع التعرّف على توظيف جوانب محدّدة من الكتاب المقدس في فلسفة كانط الأخلاقية؟
ولمعالجة هذه الإشكالية، اتّبعت المنهج التحليلي؛ إذ كان عليّ إخضاع عينات منتقاة من نصوص الكتاب المقدّس وتحليلها، جنبًا إلى جنب مع نصوص فلسفة كانط الأخلاقية، ومن ثمَّة الاستعانة بمنهجية المقارنة. أما في الخاتمة فقد استخلصت الاستنتاجات التي توصلتُ إليها في هذه الدراسة.
المبحث الأول: الأبعاد الأخلاقية في الكتاب المقدّس
نقصد بالأبعاد الأخلاقية جملة الخلاصات التي توصلنا إليها بعد قراءات معمّقة لعدد من القصص في الكتاب المقدّس بقسميه اليهودي والمسيحيّ. نرى في العهد القديم كيف اختار الله شعبه. لقد وعد الربّ إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب أنه سيخلصهم، ويحرّرهم مما لقوه في أرض العبودية مصر حيث كانوا مستعبدين، وتمليكهم أرض الخيرات. «ومتى أتى بك الرّب إلهك إلى الأرض التي حلفَ لآبائك إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب أن يعطيك، إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها»([4]).
ولكن ذلك الخلاص كان مشروطًا باتباع التعاليم والوصايا التي أوصاهم أن يحفظوها، ويعلموها أبناءهم، وأبناء أبنائهم. قامَ الرب الإله بطرد سبع شعوب أرادوا امتلاك الأرض التي وعد بها شعبه، وأتى ببني إسرائيل وافيًا بالوعد الذي وعدهم إياه، بعد أن عملوا على تنفيذ الشرط الذي اشترطه عليهم. «متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخلٌ إليها لتمتلكها، وطرد شعوبًا كثيرة من أمامك: الحثيين، والجرجاثيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، سبعَ شعوب أكثر وأعظم منك»([5]).
تمثّل الشعوب السبعة، شعوبًا مفصولة عن بني إسرائيل، وقد ورد في سفر التثنية تحذير من أشكال مخالطتهم كافة، «فإنك تُحرّمهم لا تقطع لهم عهدًا، ولا تشفق عليهم، ولا تصاهرهم، بنتَكَ لا تعط لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك»([6]). وانطلاقًا من فكرة الاختيار نجد أن الأخلاق التوراتية مركّزة على فئة محدّدة من الناس، وعلى شعب معين. ولهذا فإنّ الفعل الأخلاقي لا يمكن أن يكون عامًا عند مختلف الناس، فالقاعدة الخُلقية هنا تتصّف بالضيق والمحدودية، حيث لا يمكنها أن تشمل جميع البشرية، وإنّما تخصّ مجموعة من الأفراد. «لأنك أنت شعبٌ مقدّس للربّ إلهك. إياك قد اختار الربّ إلهك لتكون شعبًا أخصّ من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض»([7]).
إذًا يتضّح لنا من نصّ التثنية أن الاختصاص الإلهي قد تحقّق لبني إسرائيل، لا بوصفهم شعبًا يحبّه الله فقط؛ وإنما بوصفه شعبًا يمثل أنموذجًا للخيرية، ومن ثمّة للأخلاقية. ولكن أي فكرة يمكن أن نستخلصها من هذه النصوص؟
تعبّر الفكرة الأولى عن عدم صلاحية أي قاعدة عامة للحكم على مدى أخلاقية هذا الفعل، أو ذاك عند بني إسرائيل، ما لم تكن هذه القاعدة قد تمّ تحديدها وفق نموذج الاختصاص الإلهي كما عبّر عنه سفر التثنية، وهو ما يطرح مشكلة المعيار العقلي الذي يساعدنا في إصدار نوع من الأحكام الأخلاقية.
أما الفكرة الثانية فهي ذاك الجدل الذي تثيره قضية الاختيار نفسها، وفقَ أي أساس تمّ؟ أكان أثرًا من آثار النعمة الإلهية، أو الرحمة فقط، أم هو جزاءً مستحقًا جراء صنيع أخلاقي قام به بنو إسرائيل في الأزمنة الغابرة؟ يرد في سفر التثنية دومًا: «ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقلّ من سائر الشعوب؛ بل من محبّة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية، من يد فرعون ملك مصر»([8]).
وإذا بحثنا عن صورة الإرادة وطبيعتها في نصوص العهد القديم، فإننا نجدها غير محدّجة سلفًا وغير متحرّرة دومًا، فالمخيّر مخيّر بين حدّين، أحدهما النجاة، وآخرهما الهلاك، ومن ثمّة فنتيجة الاصطفاء ستكون معروفة دومًا. «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلتُ قُدامك الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك»([9]).
في هذا النصّ تبدو صورة الاختيار غير مكتملة الأركان، وإن كانت الجملة «قد جعلتُ قدامك الحياة والموت، والبركة واللعنة» توهمنا بتحقّق أساس حرّ للاختيار بين طرفي الفعل الأخلاقي، لكن الجملة المُبتدأة بفعل أمر يقول: «اختر الحياة؛ كي تحيا أنت ونسلك» تسلب الجملة الأولى قيمتها المعيارية.
إذًا؛ فالإرادة في النصوص التوراتية أو عند اليهود مستعبدة، فليس لديهم الحرية في اختيار الفعل الذي يريدون القيام به، ذلك أن الله هو الذي يختار ما سيفعلون. وكذلك من خلال فكرة الاختيار نتوصل إلى أنّ المختارين الذين هم أصحاب المبادئ الأخلاقية، لم يكن تخلّقهم نابع من إرادتهم الحرة، بل هو نابع من الإرادة الإلهية. فالله هو الذي أراد أن يكون بنو إسرائيل شعبًا خيرًا. ولا يُمارس هذا الشعب إرادته، إلاّ عند ارتكاب الخطايا والمعاصي. ونجد أيضًا في الكتاب المقدّس بعهده القديم أن طبيعة الأوامر مرتبطة بفكرة الجزاء. «أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك. لا تقتل، لا تزن. لا تسرق»([10]).
نلتمس في هذا النصّ الديني الأمر الشرطي على شاكلتين، الأولى: إفعل كذا لتحصل على كذا، «أكرم والديك، لكي تطول أيامك في الأرض»، والثانية: لا تفعل كذا لتحصل على كذا، «لا تقتل ولا تزن ولا تسرق لكي يطول عمرك». «ومن أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام، وتحفظونها، وتعملونها يحفظ لك الربّ إلهُك العهد والإحسان اللذين أقسم لآبائك، ويحبّك، ويُباركك، ويكثرك، ويبارك ثمرة بطنك، وثمرة أرضك قمحك، وخمرك، وزيتك، ونتاج بقرِك، وإناث غنمك على الأرض التي أقسم لآبائك أنه يعطيك إياها»([11]). ونجد أيضًا، «فاحترزوا لتعملوا كما أمركم الرب إلهكم. لا تزيغوا يمينًا ولا يسارًا. في جميع الطريق التي أوصاكم بها الرب إلهكم تسلكون لكي تحيوا، ويكون لكم خير وتطيلوا الأيام في الأرض التي تمتلكونها»([12]).
ولن يتأخر الوعيد في حالة عدم الاستجابة لهذه الأوامر، يقول: «لكن إن لم تسمعوا لي، ولم تعملوا كل هذه الوصايا، وإن رفضتم فرائضي، وكرهت أنفسكم أحكامي فما عملتم كل وصاياي، بل نكثتم ميثاقي، فإني أعمل هذه بكم. أسلّط عليكم رُعبًا، وسلاًّ، وحُمى تُفني العينين، وتتلفُ النفس، وتزرعون باطلًا زرعكم فيأكله أعداؤكم»([13]). «فإذا سمعتم لوصاياي التي أنا أوصيكم بها اليوم لتحبّوا الرب إلهكم، وتعبدوه من كل قلوبكم، ومن كل أنفسكم أُعطي مطر أرضكم في حينه المُبكّر والمتأخّر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك، وأُعطي لبهائمك عُشبًا في حقلك فتأكل أنت وتشبع. فاحترزوا من أن تنغوي قلوبكم فتزيغوا، وتعبدوا آلهة أخرى، وتسجدوا لها، فيحمي غضب الرب عليكم، ويُغلق السماء فلا يكون مطر، ولا تعطي الأرض غلّتها، فتبيدون سريعًا عن الأرض الجيدة التي يعطيكم الربّ»[14].
إذًا، لقد ارتبطت كل هذه الأفعال بمبدأي الثواب والعقاب، فالكل يحصد ما يزرع، ومن زرع الشرّ حصد الشر، ومن زرعَ الخير حصد الخير، فإذا اتبع الإنسان تعاليم الربّ، والوصايا التي أوصى بها كانت له خيرات من حيث لا يعلم، أما إذا عصى تعاليم الرب، ووصاياه، وفعل ما يُخالف أوامره فجزاؤه الحرمان من كل هذه الخيرات. أما في العهد الجديد فترتكز التعاليم الإنجيلية على فكرة البشارة. لقد جاءت المسيحية في شكل بشارة على خلاف ما جاءت به الدّيانة اليهودية، فلم يرسل يسوع المسيح إلى جماعة معيّنة من البشر وشعب محدد، بل أُرسل إلى البشرية جمعاء، «فقال لهم إنه ينبغي لي أن أُبشّر المدن الأخرى أيضًا بملكوت الله لأني لهذا قد أرسلت»([15])، وبما أنها بشارة لجميع الناس، فإنّ تعاليمها الأخلاقية ستُبنى على قواعد شاملة، وعامّة. أما بالنسبة إلى صورة الإرادة في العهد الجديد فهي مغايرة كما كانت في العهد القديم. إذا كانت توراة اليهود قيّدت الإرادة الإنسانية واستعبدتها، فهل يعني هذا أنّ إنجيل المسيحيين الذي يُعدُّ تكملة للتوراة، جاء بمثل ما جاءت به التوراة أم أن هناك ما هو جديد يدعو للمناقشة؟ «لأنه ما من شجرة جيدة تُثمر ثمرًا رديئًا، ولا شجرة رديئة تثمر ثمرًا جيدًا، لأن كل شجرة تُعرف من ثمرها. فإنهم لا يجتنون من الشوك تينًا، ولا يقطفون من العليق عنبًا. الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يُخرج الشرّ. فإنه من فضلة القلب يتكلم فمُهُ»([16]).
يحفل النص الإنجيلي بالرموز، وهذا أمر في غاية الدقّة والوضوح، لكن الاتفاق حول مدى حضور الرمزية في هذا النص، يحيل بدوره إلى ضرورة الاستعانة بقراءة تأويلية لفهمه، وتفسيره، وشرحه. فالشجرة في هذا النص لا تُشير فقط إلى موضوع نباتي، كما أن الثمرة هنا لا تُشير فقط إلى شيء يمكن أكله، أو التلذّذ به، بل تُشير إلى معانٍ مستترة خلف حدود الكلمات. فكلّ إنسان يمتلك إرادة شريرة سيكون صاحب خُلق شرير، وكل إنسان يمتلك إرادة خيّرة سيكون صاحب خُلقٍ خيّر؛ لكي نقول إنّ أحدهم خيّر فننظر إلى الإرادة التي تنطلق منها أفعاله. لذلك فإنّ الإنجيل يحكم الفعل انطلاقًا من إرادة الفعل. فهو لا يهتم بالمقدّمات ولا بالنتائج. فالإنسان الذي يفعل الخير لن يُعدّ خيرًا إذا لم يكن نابعًا من إرادة خيرة. «طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله»([17])، ويكفي أنّ لديك إرادة شريرة لتعاقب، فلا يجب أن يحدث الفعل لكي تُحاسب عنه، فبمجرّد أنك تحمل نيّة سيئة سوف تنال جزاء تلك النية «قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر لامرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه»([18]). فالخطيئة تحدث بمجرد التفكير فيها. لذلك على المؤمن أن ينقّي إرادته، لأنّ الحكم على الأفعال في مدى شرّها وخيرها، يكون انطلاقًا منها. فالربّ يعلم ما تعلنه القلوب، وما تخفيه، ولذلك يجب أن تكون نيّتك حسنة لأن ما تحمل قلبك من شرّ أو خير يجازيك. «يا مُراؤون حسنًا تنبأ عنكم إشقياء قائلًا: يقترب إليّ هذا بفمه، ويُكرمني بشفتيه. وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا، وباطلًا يعبدونني، وهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس»([19]).
والمؤمن لكي يكون ذا إرادة خيّرة يجب أن تكون لديه إرادة حرّة. وهنا لا بد لنا من طرح السؤال الآتي:
هل يرى الإنجيل أنّ للإنسان إرادة حرة أم تقوده الحتمية؟ «يشبه ملكوت السموات إنسانًا ملكًا صنع عرسًا لابنه، وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا. فأرسل أيضًا عبيدًا آخرين قائلًا: قولوا للمدعوين: هوذا غذائي الذي أعددته، ثيراني، ومسمناتي قد ذُبحت، وكلّ شيء معدّ. تعالوا إلى العرس»([20]).
فالله إذًا؛ هو صاحب المبادرة والدعوة. ولكن المدعوين أحرار، ولهم الحقّ في أن يقبلوا الدعوة أو يرفضوها. وعندما كان لهم حقّ الاختيار، فلقد اختاروا رفض الدعوة، وعلى الرغم من ذلك أرسل الرب إليهم دعوة أخرى، وكان لهم الردّ نفسه.
ونجد أيضًا فكرة الإرادة الحرّة في إنجيل لوقا «وقال للجميع إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني. فإنّ من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن يُهلك نفسه من أجلي فهذا يخلّصها»([21]). لذلك فالإنسان مخيّر وليس مسيّرًا. «وإذا واحد تقدم وقال له أيّها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحدٌ وهو الله. ولكن إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا»([22]).
وبذلك فإنّ الإرادة الحرة لكي تكون خيّرة يجب أن تكون خاضعة للقانون، عندما نقول القانون فإننا نقصد بذلك القانون الإلهي لا القانون الطبيعي أو الوضعي. كان يسوع المسيح يدعو الناس، وكانت رغبته هي إنقاذ أورشليم، ولكن أورشليم كانت حرّة ولم تستجب «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرّة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تُريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا»([23]).
فالإنسان في علاقته مع الله كشخص يخاطب آخر هذه الاستجابة تتضمن سماع صوت الله، ومحبته وطاعته، وهكذا نرى أن العقل، أو الفهم يدخل في هذه الطبيعة، ولكنها أكثر من مجرد الفهم ذلك، لأن القدرة على الفهم وحدها يمكن أن تنحرف، وتصبح أداة للشر لا للخير إذا لم تصاحبها إرادة مستعدة أن تطيع. لذلك فالتجاوب المطلوب هو الطاعة والمحبة. عندما يتجاوب الإنسان هكذا مع الله، تظهر بوضوح صورة الله فيه([24]). فعند خضوع الإرادة الإنسانية إلى القانون فهو بذلك يسلم من اقتراف الأفعال الشريرة، وتسلم روحه من الخطيئة. وبالتالي ذلك الخضوع لا يعني أن الإرادة مستعبدة، بل هو خضوع نابع من سمتها الخيرية، فاندفاعها نحو الخير هو الذي يجعلها مرتبطة بالقانون السماوي. تأخذ الطاعة معناها الحقيقي عندما تمارس بحريّة، ومن دون الحريّة تكون الطاعة عبودية، كما أنّ الحرية من دون الطاعة تكون اعتسافًا. وفي شخص المسيح يجمع المؤمن بين الطاعة والحرية جمعًا مثاليًا، فلقد كان عصيان آدم سببًا لطبيعته الإنسانية الذي انتقل إلى كلّ سلالته، فصاروا بدورهم خطأة. أما المسيح الإله الكامل، والإنسان الكامل أخضع مشيئته الإنسانية لمشيئة الله، وأطاع أباه حتى الموت على الصليب. هكذا حرّر المسيح الجنس البشري من مسؤولية العصيان، وأعاد فتح طريق الطاعة التي توصل إلى الحرية الحقيقية([25]). لقد كانت الحياة المسيحية مرتبطة بوازع الثواب، حيث كان كلّ فعل خيّر يقوم به المسيحي مرتبطًا بالثواب الذي يطمع فيه. ورد في إنجيل متى «قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب، وبع أملاكك، واعطِ الفقراء فيكون لكَ كنزٌ في السماء وتعال اتبعني»([26]).
فحتّى السير في طريق الله مرتبط بما سيحصل عليه المرء، وما يبدو زهدًا، وتخليًا عن متاع الحياة، من أملاك عينية، وجعلها كلّها بين أيدي الفقراء، ما هو إلاّ فعل يوجّهه الطمع في نيل الكمال؛ بل طمع في ما هو أقلّ من الكمال بكثير، إنّه نيل الكنوز المخبوءة في السماء. وفي مرقس نقرأ: «ودعا الجمع مع تلاميذه وقال لهم من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن يُهلك نفسه من أجلي، ومن أجل الإنجيل فهو يخلّصها»([27]). إذًا، يتضح بجلاء أن كل فعل يؤتى يقابله أثر يتحقق؛ فالحصول على الرفقة متوقف على إنكار النفس، والخلاص متوقّف على إذلال الذات، وإرهاقها بالصلاة والعبادة، وأخيرًا لا يتحقق وجود النفس إلا بإفنائها. إنّ استخلاص طبيعة الأوامر من هذه العينة القصصية المقتبسة من الأناجيل، إنما يتعيّن على هذا النحو:
أ – إنها أوامر ذات طبيعة جدلية.
ب – إنها أوامر شرطية.
ج – إنّ شروطها مادية.
كذلك ورد في الكتاب المقدس نوع من الأوامر، وهي الأوامر المطلقة، إذ نجد في قوله: «وسأله الجموع قائلين فماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم: من له ثوبان فليعطِ من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا. وجاء عشّارون أيضًا ليعتمدوا فقالوا له: يا معلم، ماذا نفعل؟ فقال لهم: لا تستوفوا أكثر ممّا فُرض لكم. وسأله جنديون أيضًا قائلين: وماذا نفعل نحن؟ فقال لهم: لا تظلموا أحدًا، ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم»([28]). «لكنّي أقول لكم أيها السامعون: أحبّوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لأعينكم، وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم، من ضربك على خدّك فاعرض له الآخر أيضًا، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضًا. وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه. وكما تريد أن يفعل الناس بك افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا»([29]). «فأجاب وقال: تُحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ قدرتك، ومن كلّ فكرك، وقريبك مثل نفسك»([30]). وهذه النّصوص الدينية تثبت لنا أنّ الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد تناول أوامر قطعية، تتوقّف على الفعل ذاته مجرّدة من كلّ ميل أو هدف، وأن على المؤمن أن يفعل الخير لذاته، لا من أجل تجنّب العقاب وتحصيل الثواب.
المبحث الثاني: موقع فكر كانط الأخلاقي في الكتاب المقدّس
ترتكز الحياة الأخلاقية عند كانط على جملة من المرتكزات، أهمّها: الواجب والإرادة الطيّبة، والقانون الأخلاقي، والخير الأخلاقي. بعد أن قمت في المبحث الأول بتوضيح الأبعاد الأخلاقية في الكتاب المقدس، سأتناول في هذا المبحث موقع فكر كانط الأخلاقي في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، أي أين تلتقي فلسفة كانط الأخلاقية مع الأخلاق الإنجيلية؟ نرى في العهد القديم كيف قام كانط بتعقّل الكتاب المقدّس بهدف استخلاص دين أخلاقي – عقلي كوني يخصّ كلّ الشعوب، بدل الدين التاريخي الخاص بشعب واحد. لكن عند قيامه بدراسة العهد القديم، وتعقّله للقصص التي وردت فيه، توصل إلى نتيجة مفادها أن المبادئ الأخلاقية في التوراة ليست المبادئ التي سيستند عليها في بناء فلسفته الأخلاقية. لقد جاء في كتاب كانط: «الدين في حدود مجرّد العقل» أن هناك صراع بين مبدأين متضادين في الإنسان تضاد الليل والنهار؛ كل منهما يريد إثبات صحة دعواه([31]).
السؤال المطروح هنا هو الآتي: أي المبدأين سيخضع له الإنسان؟ وعلى أي أساس سيخضع له؟ وهل خضوعه له كان بملء حريته وإرادته أم أنه مجبر على ذلك؟
ذهب كانط إلى أن مبدأ الخير في التوراة يحفظ مكانته من خلال فكرة الجبر، فالله قام باختيار فئة معينة من الناس مثلت مبدأ الخير عنده، فيقول في هذا المجال: «بلا ريب فلقد حفظ مبدأ الخير نفسه بفضل مطالبته المشروعة بالسيادة على البشر، عبر إرساء شكل من الحكم تمّ تنظيمه فقط على التمجيد العمومي المحصور لاسمه (يهوه)»([32]). ففي التوراة ليس في إمكان الإنسان اختيار أي مبدأ سيكون ضمنه، بل الله هو الذي يختار، من سيكون شريرًا ومن سيكون مباركًا، من سيكون ملعونًا ومن سيكون مباركًا. إذًا، الإنسان لا يمتلك حرية الاختيار ذلك لأن الإرادة الوحيدة المتحقّقة هي الإرادة الإلهية. ورد في سفر التثنية: «وواعدك الرب اليوم أن تكون له شعبًا خاصًا، كما قال لك، وتحفظ جميع وصاياه، وأن يجعلك مستعليًا على جميع القبائل التي عملها في الثناء والاسم والبهاء، وأن تكون شعبًا مقدّسًا للربّ إلهك، كما قال»([33]). إذًا، فإن الله اختار فئة معينة من الناس، فرَدهم عن غيرهم بالبركة. وبما أنّ الإنسان في هذا العالم يحكمه النزوع نحو خيرات العالم، ولهذا لم يكن يريد أن يكون محكومًا بشيء آخر سوى الجوائز والعقوبات([34])، ومن ثمّة بقية الأحكام التي نصدرها على الأفعال أنّها خيّرة أم لا، متوقّفة عن الأثر الذي سينجم عن هذا الفعل. «لا تظلم أجيرًا مسكينًا وفقيرًا من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك، في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته، ولا تغرب عليها الشمس، لأنه فقير وإليها حامل نفسه، لئلا يصرخ عليك إلى الربّ فتكون عليك خطيّة»([35]). حيث لم تكن قادرة على أية قوانين أخرى إلاّ التي كانت تحكمها العادات والتقاليد، أي القوانين التي وجدوا عليها آبائهم، وهذه القوانين لم تكن أخلاقية لأنها لا تستند على النيّة الخُلقية، وبذلك فهي لا تقف ضدّ مبدأ الشر، لأن الخير ليس في ظاهر الفعل، بل في باطنه([36]). وهذا يتنافى ويتعارض بما نادت به الأخلاق الإنجيلية. ومن خلال ما سبق نستنتج أن كانط في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل» يوجّه نقدًا شديدًا ولاذعًا للأخلاق التي نادت بها التوراة، ذلك لأنها أخلاق تجعل من الإنسان مستعبدًا ومقيّدًا من طرف الرب، كما تجعل الربّ مستبدًّا لأنه سيعاقب الإنسان على فعل لم يكن له إرادة حرة، بل كان مكرهًا عليه. كما أنه ينتقد فكرة الاختصاص الإلهي لفكرة الخيرية والمبادئ الأخلاقية. أما في العهد الجديد، فنرى كيف حاول كانط في كتابه «الدين في حدود مجرّد العقل» فهم طريقة الكتاب المقدّس في تقديم ما هو أخلاقي، فيقول: «إن الكتاب المقدس إنما يعرض الأخلاقي، والعقلي في نمط من القصص»([37]). وهو ما يجعلنا نستنتج بشكل واضح وجلي أنّ العقل الأخلاقي في الفلسفة يقابله كل القصص الواردة في الإنجيل، أي إنّ فهم القصص الإنجيلية هو الطريقة الوحيدة لاستيعاب، وتحصيل ما هو عقلاني – أخلاقي، فكل هذه القصص لها بعد أخلاقي. يستند كانط إلى القصة التي اتخذ منها حجة لنفي وجود إرادة حرة عند بني إسرائيل، لتبرير أن المسيحي له إرادة حرة. فيذهب إلى أنّ الأخلاق في التوراة بلغت أعلى درجات السوء؛ ولهذا أرسل الله لبني إسرائيل يسوع ليعيد للأخلاق مكانتها السامية، فهو قدوة ومثال قابل للتمثّل والمحاكاة من طرف أي كان، وهذا الشخص لم يكن جزءًا من العقد الذي أبرمه الأولون مع مبدأ الشر. وهذا مناقض لمَا جاء في إنجيل متى «وإذا واحدٌ تقدم وقال له: أيّها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله»([38]). ومتى كان الإنسان في صفّ هذا الشخص ويعمل وفق التعاليم والمبادئ التي جاء بها، وقام بمقاومة إغراءات الشيطان وعقد النية على الابتعاد من الشر، فإن الغلبة ستكون لمملكة الخير، التي هي مملكة الحرية، حيث لا أحد فيها عبد لأحد، إلا من كان يريد ذلك([39]). يمنح كانط يسوع المسيح مكانة الله الذي تجسّد في هيئة بشر، وقد أتى إلى ملكه ولم يستقبله أهله، أمّا الذين استقبلوه فقد منحهم القدرة على أن يتسموا أبناء الله الذين سموا باسمه([40])، «طوبى للرحماء لأنّهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله، طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون، طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأن لهم ملكوت السموات»([41]). والمغزى الخُلقي من هذه الفكرة هو أنه فتح باب الحرية، لكل من يريد، مثله تحديدًا، أن يموت عن كل ما يشده مقيّد إلى الحياة الدنيا على حساب الأخلاق. وأن يجمع شعب يسعى إلى العمل الصالح([42]). والمخرج الخُلقي من هذه القصة من هذا الخلاف من جهة الصالح حتى وإن لحق به ضرر، ليس هو انتصار مبدأ الشر؛ بحسبانه لم يندثر ولا تزال مملكته قائمة، ويجب أن تأتي حقبة جديدة يدمّر فيها، بل هو فقط نحو الانكسار لقوّته التي لم يعد في إمكانها أن تبقي الذين خضعوا له طويلًا ضد إرادتهم؛ في الوقت الذي يوجد فيه سيادة خُلقية أخرى هي بمثابة الملجأ الذي سيحمي أخلاقياتهم عندما تكون لديهم إرادة للتخلي عن أخلاقهم القديمة([43]).
كما صرّح كانط بجملة أفكار تحوي في طيّاتها دلالات كثيرة تقول: «إنه من أجل أن يصبح المرء إنسانًا خيّرًا في خُلقه، لا يكفي أن يدع بذرة الخير الكامنة في جنسنا تنمو بلا عائق، بل عليه أن يصارع علّة الشر التي تُوجد وتتجذّر فينا عن طريق الرجوع إلى الإرادة الخيرة([44])، لأن الشرّ لا يستطيع أن يفسدها ويخرّبها، صحيح أن يستأصل الحرية، ولذلك فعلى الإنسان أن يجدد الاستعداد للخير في النفس الإنسانية. ولا يتجلى تأثر كانط بالأناجيل في فكرة الإرادة الحرة فقط، فنلتمس أيضًا تأثّره بفكرة البشارة التي تعدّ من أهم ما يميّز الحياة المسيحية عن الديانة اليهودية، حيث جاءت البشارة إلى البشرية جمعاء، فلم تختصّ بشعب واحد فقط، أو بفئة من الناس دون غيرها. وهذا ما نجده عند كانط عندما جعل هدفه بناء قوانين أخلاقية تتصف بالشمولية والكلية. كما نجد أنه استمد منها قاعدة التعميم والتي هي أولى قواعد الفعل الأخلاقي.
وقد وجّه كانط أيضًا النقد إلى الأوامر الشّرطية التي وردت في النصوص الإنجيلية «والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقى في النار»([45]). عند التأويل الخُلقي لهذا النّص الدّينيّ، نجد أن كل فعل إذا لم يكن له أثر، أو لم يُوصل إلى منفعة فمن الأحسن ألا نقوم به. وهذا ضد الأخلاق الكانطية القائمة على الأوامر المطلقة. ومن بين القصص الواردة في الإنجيل نجد قوله: «لذلك يُشبه ملكوت السموات إنسانًا ملكًا أراد أن يُحاسب عبيده. فلما ابتدأ في المحاسبة قُدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة. وإذا لم يكن له ما يُوفي أمرَ سيده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكلّ مآله، ويوفي الدين. فخرّ العبد وسجد له قائلًا: يا سيد تمهّل علي فأوفيك الجميع. فتحنّن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين. ولما خرج ذلك العبد وجد واحدًا من العبيد رفقائه كان مديونًا له بمئة دينار، فأمسكه وأخذ بعنقه قائلًا: أوفني ما لي عليك. فخرّ العبد رفيقه على قدميه، وطلب إليه قائلًا: تمهّل عليّ فأُوفيك الجميع. فلم يرد، بل مضى وألقاه في سجن حتى يُوفي الدين. فلما رأى العبيد رفقاؤه ما كان، حزنوا جدًّا، وأتوا، وقصّوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذٍ سيده، وقال له: أيها العبد الشرير كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إلي. أفما كان ينبغي أنك أيضًا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا»([46]).
عندما ننظر إلى هذه القصة الإنجيلية بالمنظور الأخلاقي – العقلي، نجد أن الفكرة الخُلقية في ظاهرها. أفعل ما أحب أن يفعل بي، في هذا فعلي متوقّف على ما سيفعله الناس لي. وهذا النوع هو من الأوامر الشرطية.
خاتمة
في ختام هذا البحث، وبعد دراستنا لإشكالية تأثير الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد في فلسفة كانط الأخلاقية توصلنا إلى أنّ فكره الأخلاقي كان يرتكز على فكرة الإرادة الخيّرة في ذاتها، على خلاف ما ذهب إليه مارتن لوثر، وكالفن على سبيل المثال لا الحصر. وأنه لا يمكننا الحكم على إرادة ما أنها خيّرة، إلا إذا كانت حرة، فلو كانت مستعبدة لاستحال علينا إصدار أي حكم عن طبيعتها، أهي شريرة، أم خيّرة. وفي ما يتعلق بالفعل الأخلاقي فكانط لم يكتف بأن يكون مطابقًا للواجب مادية، أو خارجية فحسب، بل اشترط أن يكون نابعًا من الشعور بالواجب نفسه؛ أي أن يأتي الفاعل الفعل انطلاقًا من مسلّمة مهيّئة لتكون قانونًا كليًا عامًا يستند عإليه الفاعلون في أفعالهم. كما كان من نتائج هذا العمل استخلاص شروط القاعدة الأخلاقية التي من أهمها استحالة بنائها على الأوامر الشرطية، وأن الأوامر المطلقة هي التي يجب أن تستند إليها القوانين الخُلقية، ذلك أنها تمدها بالقيمة المطلقة، وتزيح عنها الصبغة النسبية. لقد جردت التوراة الإنسان على حد تعبير كانط من الإرادة الحرة، وربطت كل أفعاله بفكرة الجزاء، إفعل كذا لتحصل على كذا، ولا تفعل كذا كيلا تتعرض لكذا، حيث أصبحت الأفعال مقيدة بفكرة الثواب والعقاب، فلا يقوم الفرد بالفعل لذاته أبدًا، إلا من أجل تحقيق مصلحة بعينها.
أما الأخلاق الإنجيلية، فتقوم على فكرة الإرادة الحرة، وأن المؤمن لديه حرية اختيار الفعل الذي يريد القيام به، كما أنه مسؤول عن ذلك الفعل. وتقوم أيضًا على نوعين من الأوامر: الأوامر المطلقة، والأوامر الشرطية. إذًا، قام كانط بتوجيه نقد للأخلاق في التوراة، لأن المبادئ التي أسست عليها لا تصلح لبناء قانون أخلاقي كلّيّ، يخص البشرية جمعاء.
لا يمكن نفي تأثر فكر كانط الأخلاقي بالأخلاق الإنجيلية، كما لا يمكن نفي كل صلة بين فكرة الإرادة الحرة والأوامر المطلقة من جهة، وما ورد في القصص الإنجيلية من أوامر مشروطة بمبدأي الثواب والعقاب من جهة أخرى. وبما أن كانط ينتهج المنهج النقدي، فقد نالت الآيات الإنجيلية نصيبها من ذلك النقد الذي أفضى إلى نموذج خُلقي تصور كانط أنه النموذج الأكثر اكتمالًا، بوصفه نموذجًا يتجاوز الأخلاقية القائمة على فكرتي الثواب والعقاب، إلى الأخلاقية القائمة على الحرية المتمثّلة من قبل الإرادة بوصفها حرية اختيار في الدرجة الأولى.
يعود الفضل لفكر كانط الأخلاقي عمومًا، وكتابه: «نحو سلام دائم، محاولات فلسفية» خصوصًا في إرساء، الأسس القانونية والأخلاقية لميثاق عصبة الأمم المتحدة، والميثاق العالمي لحقوق الإنسان. والدعوة إلى إشاعة قيم المحبة والخير في نفوس الإنسانية جمعاء.
المصادر والمراجع
(1) انظر، الدكتور، بدوي، عبد الرحمن، «موسوعة الفلسفة»، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984م، ص 269. ولويس، جون، «مدخل إلى الفلسفة»، تعرجمة، أنور عبد الملك، الطبعة الثالثة، دار الحقيقة، بيروت، 1978م، ص 121.
(2) سلّوم، توفيق، المترجم، «معجم على الأخلاق»، بإشراف، إيغوركون، دار التقدم، موسكو، 1984م، ص 313.
(3) كنت، عمانوئيل، نقد العقل العملي، ترجمة، أحمد الشيباني، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت، 1966م، ص 266.
(4) التثنية، الإصحاح 06: 10.
(5) التثنية، الإصحاح 07: 01.
(6) التثنية، الإصحاح 07: 03.
(7) التثنية، الإصحاح 07: 06.
(8) التثنية، الإصحاح 07: 07 – 08.
(9) التثنية، الإصحاح 30: 19.
(10) الخروج، الإصحاح 20: 12 – 15.
(11) التثنية، الإصحاح 07: 12 – 13.
(12) التثنية، الإصحاح 05: 32 – 33.
(13) لاويين، الإصحاح 26: 14 – 16.
(14) التثنية، الإصحاح 11: 13 – 17.
(15) لوقا، الإصحاح 04: 43.
(16) لوقا، الإصحاح 06: 43 – 45.
(17) متى، الإصحاح 05: 08.
(18) متى، الإصحاح 05: 27 – 28.
(19) متى، الإصحاح 15: 07 – 08.
(20) متّى، الإصحاح 22: 02 – 04.
(21) لوقا، الإصحاح 09: 23 – 24.
(22) متى، الإصحاح 19: 16 – 17.
(23) متّى، الإصحاح 23: 37 – 38.
(24) فارس، فايز، علم الأخلاق المسيحية، دار الثقافة، ط1، 1987م، ص 131.
(25) منز ريزي، جورج، الأخلاق المسيحية، ترجمة ميشال نجم، د.م.، د.ط.، د.س.، ص 94.
(26) متى، الإصحاح 19: 20.
(27) مرقس، الإصحاح 08: 34 – 35.
(28) لوقا، الإصحاح03: 10 – 14.
(29) لوقا، الإصحاح 06: 27 – 31.
(30) لوقا، الإصحاح 10: 27.
(31) كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول، بيروت، ط1، 2012م، ص 141.
(32) المصدر نفسه، ص 142.
(33) التثنية، الإصحاح 26: 18 – 19.
(34) كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص 143.
(35) التثنية، الإصحاح 24: 14 – 15.
(36) كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص 143.
(37) كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص 141.
(38) متّى، الإصحاح 19: 16 – 17.
(39) كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص ص 143 – 144.
(40) المصدر نفسه، ص 146.
(41) متى، الإصحاح 05: 07 – 10.
(42) كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص 146.
(43) المصدر نفسه، ص ص 146 – 147.
(44) المصدر نفسه، ص ص 113 – 114.
(45) لوقا، الإصحاح 03: 09.
(46) متى، الإصحاح 18: 23 – 33.
** أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة – كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – الفرع الأوّل.
[1] – انظر، الدكتور، بدوي، عبد الرحمن، «موسوعة الفلسفة»، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984م، ص 269. ولويس، جون، «مدخل إلى الفلسفة»، ترجمة، أنور عبد الملك، الطبعة الثالثة، دار الحقيقة، بيروت، 1978م، ص121.
-[2] سلوم، توفيق، المترجم، «معجم علم الأخلاق»، بإشراف إيغور كون، دار التقدّم، موسكو، 1984م، ص 313.
[3] – كنت، عمانوئيل، نقد العقل العملي، ترجمة أحمد الشّيباني، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت، 1966م، ص 266.
[4] – التثنية، الإصحاح 10:06.
[6] – التثنية، الإصحاح 03:07.
[7] – التثنية، الإصحاح 06:07.
[8] – التثنية، الإصحاح، 07: 07 – 08.
[9] – التثنية، الإصحاح 30: 19.
-[10] الخروج، الإصحاح 20: 12 – 15.
[11] – التثنية، الإصحاح 07 : 12 – 13.
[12] – التثنية، الإصحاح 05: 32 – 33.
[13] – لاويين، الإصحاح 26: 14 – 16.
[14] – التثنية، الإصحلاح 11: 13 – 17.
[15] – لوقا، الإصحاح 04 : 43.
[16] – لوقا، الإصحاح 06: 43 – 45.
-[18] متّى، الإصحاح 05: 27 – 28.
[19] – متّى، الإصحاح 15: 07 – 08.
-[20] متّى، الإصحاح 22: 02 – 04.
[21] – لوقا، الإصحاح 09: 23 – 24.
-[22] متّى، الإصحاح 19: 16 – 17.
-[23] متّى، الإصحاح 23: 37 – 38.
[24] – فارس، فايز، علم الأخلاق المسيحية، دار الثقافة، ط1، 1987م، ص 131.
-[25] منزريذي، جورج، الأخلاق المسيحية، ترجمة ميشال نجم، د.م.، د.ط، د.س.، ص 94.
[26] – متى، الإصحاح 19: 20.
[27] – مرقس، الإصحاح 08: 34 – 35.
[28] – لوقا، الإصحاح 03: 10 – 14.
-[29] لوقا، الإصحاح 06: 27 – 31.
[31] – كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول، بيروت، ط1، 2012م، ص 141.
[33] – التثنية، الإصحاح 26: 18 – 19.
[34]– كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرّد العقل، مصدر سابق، ص 143.
[35]– التثنية، الإصحاح 24: 14 – 15.
[36]– كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص 143.
[37]– المصدر نفسه، ص 141.
[38]– متّى، الإصحاح 19: 16 – 17.
[39]– كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص ص 143 – 144.
[40]– المصدر نفسه، ص 146.
[41]– متّى، الإصحاح 05: 07 – 10.
[42]– كانط، إيمانويل، الدين في حدود مجرد العقل، مصدر سابق، ص 146.
-[43] المصدر نفسه، ص ص 146 – 147.