الشعـريـّة “مفاهيم نظريّـة ونماذج تطبيقيّة“
د. سهام طالب([1])
مقدمة
تعدّ الشعريّة من المصطلحات العصيّة على البوح بمكنوناتها، وعلى من يريد الغوص في مفاهيمها لا بدّ له أن ينفتح على سبل اللغة ودلالاتها فيستطيع حينها أن يبدع في إزالة اللبس والغموض فيخرجها من المكنون إلى ما يثير الذّهن والخيال، والرّغبة والاهتمام فضلاً عن بث الرّوح من جديد في ثنايا الألفاظ. وهذا يقود للتساؤل: ما الشعرية؟.
لعلّ محاولة تقصّي مفهوم الشعريّة فيه من التشويق بقدر ما فيه من الصعوبة، فهو موضوع شائك يتعذّر فيه الإلمام بفكرة ٍّمن العصر اليوناني حتى العصر الحديث؛ فالشعـريّة مصطلح متكامل تجمع أطرافه وتقدمه في إطار واضح، إذ لم ترس ُعلى برّ قديم حديث، ضارب في القدم بجذوره الممتدة من كتاب “فن الشعر” لأرسطو حينما تحدّث فيه عن المحاكاة، وحديث لتطوّره مع شتّى الحركات النقديّة الحديثة بما فيها الشكلانيّة والبنيويّة… ولهذا سنحاول تعريفها واستقصاء مفاهيمها عند الغرب أولا على أساس أنّهم السبّاقون في هذا الموضوع، ثمّ أحاول استكناه مفاهيمها عند العرب.
مفاهيم الشعريّة
- الشعريّة لغة
بالعودة إلى الأصل اللغوي لمصطلح الشّعريّة في العربيّة، نجده يرجع إلى الجذر الثلاثيّ “ش ع ر”، فقد جاء في قاموس مقاييس اللغة لصاحبه ابن فارس: “الشين والعين والراء، أصلان معروفان يدل أحدهما على ثبات والآخر على عِلْمٍ وعَلَمٍ…شعرت بالشيء، إذا علِمْتُه وفطِنْتُ له”…) [2]).
وفي لسان العرب لابن منظور، نجد) ش ع ر) بمعنى عَلِمَ… وليت شعري، أيّ ليت عِلْمِي، والشعر منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية… وقال الأزهري : الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار وقائله شاعر، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، أيّ يعلم… وسُمّيَ شاعرًا لفطنته”.(([3]
أما في أساس البلاغة للزمخشري فنجد “ش ع ر” بمعنى… عظَّم شعائر الله تعالى، وهي أعلام للحج من أعماله، ووقَف بالمشعر الحرام… وما يُشعركم: وما يُدريكم. وهو ذكي المشاعر وهي الحواس”([4]).
بالنظر إلى كل تلك المعاني الواردة في المعاجم العربيّة، ” نستنتج أن الأصل اللغوي للشعريّة (ش ع ر) يدلّ على معنيين، أحدهما مادي، وهذا المعنى لا نقصده بالبحث، أما المعنى الآخر فهو معنوي مجرّد، يدل في الغالب على العلم والفطنة، أما دلالته على الثبات، فهذا لأن الشعر كما ذكر الأزهري في لسان العرب، محدود بعلامات لا يجاوزها، وهذا ما كان ينطبق على الشّعر في ما مضى، فقائله يلتزم بقواعد ومعايير معيّنة لا يمكنه تخطيها.
والمتأمّل في العلاقة بين مفهوم مصطلح الشّعر في النّقد الحديث، وجذره اللغوي يلاحظ أنّ هناك صلة دقيقة بين معنييهما، تتمثّل في أن للشعر قوانين تحكمه، وتقومه، والشعريّة في مجملها تمثّل قوانين الخطاب الأدبي، الذي يعدُّ الشّعر من أنواعه الخاضعة لضوابط محددة، على الرّغم من كون ثباتها نسبيًا مرهونًا بالزمن، الذي سرعان ما يغيرها.
وبعد الغوص في المعاني اللغويّة لمصطلح الشعريّة، نجد أنّ له معانٍ عدّة منها:
- الدلالة على العلم، والفطنة، والدراية.
- أن لكلّ شعريّة معالم، وضوابط محدّدة تستند عليها.
- يحمل مصطلح الشعريّة نوعًا من الثبات المؤقت([5]).
2 – الشعريّة اصطلاحا
يعدُّ مصطلح الشعريّة في النقد العربي، من المصطلحات المعقّدة، على عكس ما نجده في النّقد الغربي، والسبب في ذلك يعود إلى أصل المصطلح( الشعريّة(“فهو مترجم من لغته الأصل poétique إلى اللغة العربيّة( شعريّة) وهو مصطلح فرنسي يقابله في الإنجليزية poétics وكلاهما منحدر من الكلمة اللاتينية poética المشتقّة من الكلمة الإغريقية poétikos“([6]).
“وقد أضحت الشعريّة من أشكل المصطلحات، و انغلق مفهومها وضاق بما كانت معه مجالا رحبًا تدافعت فيه الدراسات، والبحوث”[7])) “إن إشكاليّة المصطلح تبدو محيّرة في نقدنا العربي، وربما يكون النقد الغربي متجاوزًا _ إلى حد ما _ لهذه الإشكاليّة منذ أرسطو، حين سمى كتابه ب poétiks أي( فنّ الشعر) أو(في الشعريّة) كما هو شائع الآن في النقد الغربي… أما في تراثنا النّقدي، فإنّنا نواجه مصطلحات مختلفة، وربما نواجه المصطلح نفسه( الشعريّة(إلا أن مفهومها مختلف عمّا تعنيه الشعريّة بمعناها العام”([8]).
“إنّ مصطلح الشعريّة poétics على الرغم من أنّه من أكثر المصطلحات شيوعًا في مجال الدراسات الأدبيّة، والنقديّة، إلا أنّه لم يستقر على تعريف واحد، فهو يحمل تعريفات عديدة، تختلف من ناقد لآخر، ” ويبقى البحث في الشعريّة مجرد محاولة فحسب للعثور على بنية مفهوميّة هاربة دائما وأبدًا… سيبقى دائمًا مجالا خصبًا لتصوّرات، ونظريّات مختلفة([9])” ، فالشعريّة موضوع واسع، ومتشعّب له صلات وثيقة بمختلف العلوم، لذا فهو ” يستدعي منا تحديد المصطلح، والمفاهيم، وهذا المسعى محفوف بالمزالق لأن الشعريّة تتضمن معان متعددة، غير متساوية من حيث الحضور النقدي”) [10]) .
وبالتأمّل في كل ما سبق يتّضح لنا تعدّد الدلالات التي اتخذها مصطلح الشعريّة، من قبل النقَّاد بتعدد الصياغة المتبناة أصلا لهذا المصطلح، والخلاف في هذا المجال لا يمكن حصره، وإنّما هدفنا التنويه بذلك الخلاف المحتدم القائم بين النّقاد حول الشعريّة، لهذا ” يبدو أنّنا نواجه من جهة أولى مفهومًا واحدًا بمصطلحات مختلفة،- ويبدو هذا الأمربارزًا – في تراثنا النّقدي العربي، ونواجه مفاهيم مختلفة بمصطلح واحد من جهة ثانية، ويظهر هذا الأمر في التراث النقدي الغربي أكثر جلاءً”([11])، ومنه يمكن القول إن ” الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعرولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق “([12])، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات([13])” ، إن الخلاف حول موضوع الشعريّة لم يتوقّف عند هذا الحد بل تعدّاه إلى موضوعها، فمنهم من حصرها في الشّعر وحده معتبرًا إيّاها ” استعداداً طبيعيًّا لقول الشّعر، وهي تتصل بعدة أمور أهمها، الطبع المتدفّق المستعد للإبداع الشعري، والظروف، والبيئة المحيطة من حيث التربية مثلا في أجواءٍ شعريّة، والدربة، والتمرّسُ([14])“، وهذا المفهوم هو الذي نلمسه في النّقد العربي القديم، كون الشّعر هو الصناعة الرائجة في تلك العصور، فهو ديوان العرب، والحافظ لمآثرهم وأنسابهم، ما جعلهم يهتمون به أكثر من غيره من أصناف الخطاب الأدبي، عدا بعض الاستثناءات التي قدّمها الجرجاني( ت 471 ه( من خلال نظريّته في النّظم، وبعض المتأثّرين بالفلسفة كحازم القرطاجني، وهناك من النّقاد من أعطى للشعريّة مجالًا أرحب، حتى جعلها تشمل كل أنواع الخطاب الأدبي ” فالشعريّة تتعلق بدراسة خصائص الأعمال الأدبيّة، ولم يقتصر الاهتمام على الشّعر وحده، وانما تعدى هذا الاهتمام إلى الفنون الأدبيّة الأخرى، ومن أبرز الدراسات التي عنيت بالأدب الروائي انطلاقًا من هذا الفهم دراسة باختين لشعريّة دستويفسكي، التي عني بالوظيفة الفنّيّة لأفكار دستويفسكي[15]) “)، ومنه فالشعريّة يمكن إطلاقها على جميع فروع الفنّ، من رسم وموسيقى، وغيرها من الفنون كونها تهتم بالعناصر الجماليّة، حتى أنّه يمكن استخدامها للتعبير عن جمال منظر طبيعي فنقول منظر شاعري.
ويستمر الخلاف حول المصطلح المناسب لكلمة شعريّة لدى النقاد العرب لنجد منهم من يصرّ على استبدال مصطلح( الشعريّة) ب( شاعريّة) ، كما يرى عبد الله الغذامي الذي يرى أنه “بدلا من أن نقول( شعريّة( مما قد يتوجّه بحركة زئبقيّة نافذة نحو( الشّعر) ولا نستطيع كبح جماح هذه الحركة لصعوبة مطاردتها في مشارب الذهن، فبدلًا من هذه الملابسة، نأخذ بكلمة( الشاعريّة) … في النثر وفي الشعر… ويشمل مصطلحي الأدبية اولأسلوبيّ) [16])“، وعليه، تدرس الشعريّة الأشكال الفنّيّة والجماليّة والأساليب الأدبيّة.
ومن هنا، فلها علاقة وطيدة بالأسلوبيّة) la stylistique)، وعلم السرد) la narratologie)، وبلاغة الصور) des figures de style). ومن ثم، “فالشعريّة هي دراسة الفنّ الأدبي باعتبارها إبداعا تلفظيًّا”([17])، أو دراسة الصيغ الداخلية للنّص. كما تعنى الشعريّة بتوصيف النصوص الأدبيّة من جهة أولى، وجرد مكوّناتها الثابتة وسماتها المتغيّرة من جهة ثانية، ثم الاهتمام بقواعد تجنيسها من جهة ثالثة. وهنا، “نتحدث عن شعريّة الشعر، وشعريّة السرد، وشعريّة السينما، وشعريّة اللوحة التشكيلية، وشعريّة المسرح، وشعريّة الإيقاع”([18])… ومن ثم، يمكن الحديث عن شعريّة إيقاعيّة، وشعريّة صوتيّة، وشعريّة فضائيّة، وشعريّة بلاغيّة، وشعريّة تركيبيّة، وشعريّة الخطاب، وشعريّة البلاغة، وشعريّة الأسلوب، وشعريّة الجنس والنوع والنمط، وشعريّة الأدب بصفة عامة…واليوم، يمكن الحديث عن شعريات كبرى، فهناك الشعريّة البنيويّة اللسانيّة، والشعريّة التوليديّة[19]، والشعرية المعرفيّة([20])… وخلاصة القول، تعنى الشعريّة بقواعد الإبداع الأدبي والفنّي والجمالي، والبحث في مكوّناته الداخليّة المحايثة، والاستفادة من البنيويّة اللسانيّة، والتركيز على النسق التفاعلي الداخلي، وتفكيك النصوص والخطابات وتركيبها، ودراسة المستويات الصوتيّة، والإيقاعيّة، والصرفيّة، والتركيبيّة، والدلاليّة، والبلاغيّة. فضلا عن كونها تهتم بتصنيف الأنواع والأنماط والأجناس الأدبية، والاهتمام بما يميز الشعر والرواية والقصة والمسرح عن باقي الأجناس الأدبيّة والفنّيّة الأخرى.
وبعد كل هذه الآراء والتناقضات حول مصطلح الشعريّة، التي بلغت كماً هائلا، وهي في ذلك لا تزيد الأمر إلا تعقيداً، وجب علينا التسليم بمصطلح الشعريّة من دون غيره، كون ” لفظة ( الشعريّة) تعد مقابلا مناسبًا لمصطلح) poétics( ، من دون محاولة خلق جدل يزيد المسألة تشابكًا وتعقيداً.) [21])
الشعريّة من منظورغربي
من المُسلم به أن الشعريّة مصطلح قديم عند الغرب، ظهر في التراث اليوناني عند أرسطو في كتابه( فنّ الشعر) ، الذي ألّفه في القرن الرابع قبل الميلاد ولذلك وجب علينا البحث عن هذا المصطلح، واستقصاء مفاهيمه لدى الغرب أولاً، ولهذا سنختار ثلاث شخصيات مهمّة في النقد الغربي، اهتموا بالشعريّة، ونظَّروا لها حتى صار لكل واحد منهم شعريّة خاصة يعرف بها.
- الشعريّة عند تودوروف) شعريّة الخطاب)
إنَّ الشعريّة عند تودوروف تتحدد من خلال جميع نتاجه في النقد التنظيري والتطبيقي) [22])، وهي عنده تشمل الشعر والنثر، المجتمعين برابط الأدبية، ” وليس العمل الأدبي كما يرى تودوروف هو موضوع الشعريّة في حد ذاته، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي. وكل عمل عندئذ لا يعدُّ إلا تجلِيًّا لبنية محددة وعامة ليس العمل إلا إنجازًا من إنجازاتها الممكنة. ولكل ذلك فإن هذا العلم( الشعريّة) لا يُعنَي بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن، وبعبارة أخرى يُعنَى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية([23])” ، إن موضوع الشعريّة عند تودوروف ليس الأثر الأدبي الذي هو عمل موجود، وانما هو العمل المحتمل؛ أي العمل الذي يُوِلد نصوصًا لا نهائية ولقد حاول تودوروف من خلال تركيزه على النظرية الأدبية أن يحدد مجالات الشعريّة في النقاط الآتية:
1 – تأسيس نظريّة ضمنية للأدب 2 – تحليل أساليب النصوص
3 – تسعى الشعريّة إلى استنباط الشفرات المعيارية التي ينطلق منها الجنس الأدبي.
لقد أعطى تودوروف للشعريّة مجالا أوسع فهي تندرج عنده ضمن العلوم التي تهتم بالخطابات، أي مجموع ما يُكتب عن الفلسفة، والسياسة، والدين، والمنطوق اليومي، إضافة إلى السينما، والمسرح، مؤكِداً صلة الأدب من حيث هو خطاب متميز بالخطابات، اولممارسات الرمزيّة الأخرى.
- الشعريّة عند جاكوبسون(شعرية “الجمالي”)
يرى فرومان جاكوبسون أن ” الشعريّة يمكن تحديدها على أنّها ذلك الفرع من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعريّة في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة، وتهتم بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعريّة،لا في الشعر وحسب، إذ تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للغة، وتهتم بها أيضا خارج الشعر، حيث تعطى الأولوية لهذه الوظيفة أو تلك على حساب الوظيفة الشعرية “([24]) ومن خلال هذه المقولة نستنتج أن مقصد جاكوبسون من الشعرية يتلخص في ثلاثة نقاط مه=مة وأساسية هي:
- الشعريّة فرع من فروع اللسانيات.
ب- الشعريّة تعالج الوظيفة الشعريّة وعلاقتها بالوظائف الأخرى للغة، بمعنى أنّ الشعريّة لها علاقة بالبنيويّة والأسلوبيّة والسيميائيات وغيرها من علوم اللغة.
ج- تهتم بالوظيفة الشعريّة، ليس في الشعر وحسب بل حتى في النثر. وهكذا ينظر إليها – تقريبًا – تودوروف،إذ يدرجها ضمن العلوم التي تهتم بالخطاب أو المنطوق والمكتوب بما فيه الخطاب السياسي، والفلسفي لما لهذه الخطابات من الصلة الوطيدة بالخطاب الأدب( [25]) وهذا ينبهنا إلى أن الشعريّة في مفهومها الغربي لاتعتني بالشعر وحده، بل تأخذ أيضًا فنون الكلام الأخرى بالحسبان من منطلق أنها ذات صلة بالأدب،فالشعر عند جاكوبسون لغة ذات وظيفة جماليّة،أما الشعريّة فتعني حسبه الأدبية وموضوعها علم الأدب الذي يعنى بالآليات، وطرائق الصياغة والتركيب.
من منطلق أن الشعر وفنون النثر هي تشكيل فني للكلمة في سياقاتها التعبيريّة،وقد تطور مفهوم الشعريّة في أوروبا،”ولعلّ من أبرز إفرازاته ظهور التيار البنيوي الفرنسي الذي كانت اهتماماته مركّزة على كيفية قراءة النصوص بحسبانها بداية جديدة للمرموز الذي صاغ ذلك الأثر، وهكذا فملامسة النص لا تكون من طريق الرؤية وإنما من طريق الكتابة والقراءة لأن القراءة –عادة- ما تتوخى تشهيًا للنص وعشقا للأثر الأدبي”([26]) وقد تتخذ اللغة العربية من حيث أنها استخدام خاص بطغيان الشعريّة على الوظائف الأخرى.
يحدد جاكوبسون الوظيفة الشعريّة في أنها”تتجلّى في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمى، ولا كانبثاق للانفعال وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد أمارات مختلفة عن الواقع بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة”([27]) وتتحقق الوظيفة الشعريّة التي لا تعدّ الوظيفة الوحيدة للغة، ولكنها ـ حسب جاكوبسون ـ الوظيفة المهيمنة والحاسمة،لأنها تبرز الجانب المحسوس للأدلّة في” استهداف الرسالة بوصفها رسالة، والتركيز عليها لحسابها الخاص وهو ما يطبع الوظيفة الشعرية للغة”([28])هذه الوظيفة التي تتحقق في الشعر وفي النثر على حد سواء، وهي تختص بنمط من الممارسات اللغوية ذات العلاقة بممارسات دالة متعددة.
وهكذا يرى جاكوبسون أنه لا يوجد حدود فاصلة تخص الشعر، يمكن تبيانها لتميزه من غيره من فنون القول، فلا الأدوات الشعريّة ولا الجناسات والأدوات التناغمية تستطيع أن تحدد الشعر، فهذه نفسها أدوات تستعملها الخطابة، والكلام اليومي، ويرى كذلك أن اللغة ووظائفها تتشكل من ثلاثة أجزاء رئيسة تتوافر في اتصال لغوي، وهي مرسل، ومرسل إليه، ورسالة. ومن خلال ما ذهب إليه جاكوبسون في مفهوم الشعريّة نستطيع القول إن ذلك ينطبق على “الأدبيّة”،إذا ما تصورنا أن الأدبية أوسع مجالًا وأشمل من الشعريّة،أي أن الشعريّة جزء من الأدبية، وذلك بحسبان أن الشعرية مشتقة من جنس الشعر الذي ينتمي إلى حقل الأدب الواسع. هذا غير الاستعمالات الحديثة لمفهوم “القصيدة” التي خصّ بها الشعر في بادئ الأمر، ثم تعدتّه إلى النثر، بقولهم “قصيدة النثر” لقد” كان للقصيدة وجود شرعي غير قابل للنزاع، وهكذا كان يحسب قصيدة كل ما كان مطابقًا لقواعد النظم ونثرًا ما ليس كذلك، غير أن عبارة) قصيدة نثريّة) الظاهرة التناقض تفرض علينا إعادة تعريفها”([29]) فيبدو أن هذا الخلط الذي بلغه تطور الشعر،هو ما أدى بجاكوبسون إلى تعميم مفهوم الشعريّة لتتناول الوظيفة الشعرية حتى في مواضيع خارج الأدب نفسه. في ظل مرحلة انتقاليّة،طالما شهد الشعر خلالها العديد من التغيرات، بعد أن كان من قبل يلتزم بالموسيقى الخارجيّة المقننة التي لا محيد عنها، وكان يتميز عن النثر بمستوييه الصوتي والدلالي، إذ كانت”كلمة شعريّة قد عنت زمنًا طويلاً معايير نظم الشعر،ونظم الشعر وحده”([30]) من منطلق أن النثر هو اللغة الشائعة، أو المعيار الثابت المألوف،والشعر هو انزياح عن المعيار أو شذوذ من أجل تخليق جمالي في اللغة،إذ إنّ الجمال المستهدف “ليس صفة خاصة بالشيء في ذاته ولكنه الاسم الذي نعطيه لقدرته على إيقاظ الشعور بالجمال في النفوس”) [31]) وهنا تكمن الوظيفة الشعريّة.
- الشعريّة عند جون كوهين) شعرية الإنزياح)
الشعريّة عند جون كوهين علم موضوعه الشعر، أو اللغة الشعريّة، وليس دراسة الأدب، أو اللغة الأدبيّة، فهو يرنو إلى تأسيس علم الشعر ” وقد اقترح – كيما تكون الشعريّة علماً – المبدأ نفسه الذي أصبحت به اللسانيات علماً، أي( مبدأ المُحايث) ، أي تفسير اللغة باللغة نفسها هذا التضايف بين الشعريّة واللسانيات في أطروحات كوهين لا يخلو من تضايف أخر بين الشعريّة والأسلوبيّة ويبدو ذلك جليًّا في تعريفه للشعريّة بوصفها: علم الأسلوب الشعري أوالأسلوبي”([32])، وشعريته قريبة من الشعرية العربيّة القديمة التي تقتصر أيضاً على الشعر وحده، وقد انطلق في أعماله من دراسة البلاغة القديمة، محاولًا دفعها إلى الأسلوبيّة الحديثة، وقد اعتمد في أعماله على مفهوم الانزياح أو العدول… والانزياح يتحدد عنده من خلال مقابلة الشعر بالنثر، فالنثر هو الشكل المألوف العادي للغة، وبالنّظر إليه يعدُّ الشعر انزياحًا أو عُدولاً عن المعيار( لغة النثر) ، ” فالانزياح عنده يعني وجود تقليد شعري يحدده العرف العام، ويقتضي أن يكون انحرافًا وانزياحًا عن هذا التقليد الشعري، لذلك تبحث الشعريّة عنده في تميُّزِ الأساليب) [33])، فكل شعر عنده هو انزياح ” فهو يعُدّ الشعر منزاحًا عن النثر بصورة مطلقة، فالنثر –هنا- هو كل استعمال لغوي غير شعري، ويشمل ذلك النثر الأدبي”([34])، وفي نظرته للفرق بين الشعر والنثر يرى أن المسألة ” ليست مسألة وزن أو إيقاع لأن الإيقاع يوجد في النثر، وبين النثر الإيقاعي، والوزن الإيقاعي، لا يوجد أي فرق على الإطلاق، وتبعًا لذلك يقترح أن يكون التمييز بين الشعر والنثر لغويًّا، يكمن في نمط خاص من العلاقات التي يقيمها الشعر بين الدال والمدلول من جهة، وبين المدلولات أنفسها من جهة أخرى”([35]) إن تركيز جون كوهين على الشعر فقط جعل شعريّته تتسم بالتجزيئيّة، وعدم الشموليّة لأجناس الأدب كافّة، أما إذا سألناه من هو الشاعر في نظره؟ ” فالشّاعر عنده ليس من فكّر أو أحسَّ، بل من عبَّر وأبدع، فهو ليس مبدع أفكار بل مبدع كلمات، والعبقريّة تكمن في اختراع الكلمة، و يعني ذلك أن الشاعر عنده بقوله لا بتفكيره واحساسه، إنه خالق كلمات، وليس خالق أفكار، وترجع عبقريّته كلّها إلى الإبداع اللغوي، وهذا ما يسميه جون كوهين بالشعريّة الخاصة بالموضوع الشعري، إن الشاعرعنده لا يتكلم كما يتكلم الناس، فلغته شاذّة، وهذا الشذوذ يمنحها أسلوبًا والشعريّة هي علم الأسلوب الشعري، وهو يعدّ اللغة الشعريّة ظاهرة أسلوبيّة بالمعنى العام للمصطلح، والقاعدة الأساسيّة التي يركز عليها هي أنّ الشاعر لا يتحدّث كما يتحدّث الناس، فلغته) غيرعادية)، وهذا الشيء غير العادي هو الذي يمنح اللغة أسلوبًا يسمى (الشعريّة) وهو الذي يبحث خصائصه في علم الأسلوب الشعري، وهكذا يتضح لنا أن شعريّة كوهين ما هي إلا شعريّة ذات اتجاه لساني، تعتمد على الانزياح، وتهتم بالشعر من دون غيره من أنواع الخطاب الأدبيّة واللغويّة.
الشعريّة من منظورعربي
وبعد حديثنا عن الشعريّة عند الغرب نعود للحديث عن الشعريّة الحديثة عند العرب.
– 1 الشعريّة عند كمال أبو ديب) شعريّة “الفجوة”: مسافة التوتر)
يحدد كمال أبو ديب مفهومه للشعريّة، وموضوعها انطلاقًا من أسس غربيّة، فالشعريّة عنده حسب ما أورده في كتابه( في الشعريّة) خِصّيصة علائقيّة، أي أنّها تُجسّد في النّص شبكة من العلاقات التي تنمو بين مكوّنات أوّلية، سمتها الأساسيّة أنّ كلا منها يمكن أن يقع في سياق آخرمن دون أن يكون شعريّا، لكنّه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسيّة ذاتها، يتحوّل إلى فاعليّة خلقٍ للشعريّة، ومؤشّرًا على وجودها”([36])، إذاً فالعلاقات عند أبو ديب بين مكوّنات الإبداع الأدبي لها قيمتها في صبغ العمل بصبغة الشعريّة، التي ترى في النّص بنية متجانسة مكوَّنة من مجموعة أجزاء مترابطة في ما بينها، تساهم من خلال علاقاتها ببقيّة الأجزاء في إنتاج صفة الشعريّة، وهنا تكمن الخلفية البنيويّة لتعريفه للشعريّة، التي يرى أنّها ليست خِصّيصة في الأشياء ذاتها، بل في تموضُع الأشياء في فضاء من العلاقات، إن الملاحَظ من كلام أبي ديب في المقولة السابقة، أنّه يبني نظريّته على أساس لساني ونظريّته تنطلق من اللسانيات من خلال دعوتها إلى تبنّي العِلْمية وسيلة في التعامل مع النصوص، وبالتالي التركيز على البنيويّة اللغويّة من دون العوامل الخارجيذة، فبداية أبو ديب إذن هي ركيزة غربيّة رائدها سوسير، ولكن تأثُّر أبي ديب بالنظريّات الغربيذة في نظرته لمفهوم الشعريّة لم يتوقف عند لسانيات سوسير، بل نجده قد تأثر بمفهوم الانزياح عند جون كوهين، إذ إن ” التحديد البدئي الذي يطرحه أبو ديب لمفهوم الشعريّة، وكذلك لمفهوم الفجوة : مسافة التوتر، يحيل – من طرف معين – على مفهوم الانزياح عند جون كوهين، وذلك عبر تحوُّل المكوّنات الأوّلية من نص في السياق لتكون دالة على الشعريّة، غير أن أبو ديب ومن خلال مفهوم الفجوة :مسافة التوتر، يلغي الامتياز الذي يحظى به الشعر من النثر، فليس النثر معيارًا للشعر، إنهما أصلان متوازيان( سويان معياريان)”([37])، ولكن تأثُّره بكوهين لم يمنعه من انتقاده في جزء من نظريّته عن الانزياح، خاصة في تمييزه بين الشعر والنثر طبقا لمفهوم الانحرافعلى الرغم من أنّهما كلاهما يقعان تحت مظلّة الأدب، ويرى أن ” ما يُلغَى هنا ليس فقط المفاضلة القيِمة بين الشعر والنثر، وإنّما يلغي مفهوم( الأصل الانحراف) ، النثر بما هو أصل، والشعر بما هو – انحراف عن الأصل([38])، وفي هذه النقطة بالذات، ” يتمثّل التقاء أبو ديب مع تودوروف في نقد الأخير لجون كوهين“([39])، ” إضافة إلى أنّ نظريّته مرتبطة بنظريّة التماثل عند جاكوبسون من خلال تأكيده على ضرورة الانزياح وفقًا لمحور الاستبدال والتركيب)“[40](، ويستثمر أبو ديب مفهوم الوظيفة الشعريّة لجاكوبسون، ويتأكد ذلك من خلال تكوُّن الفجوة نتيجة لنوعين من الاختيار، وهو المحور الذي بنى عليه جاكوبسون مع محور التأليف نظريّته الشعريّة اختيار – على المحور الاستبدالي، واختيار على المحور السياقي أما عن الجديد في رؤية أبو ديب للشعريّة فإنه يكمن في عدّها إحدى وظائف الفجوة مسافة التوتر، التي هي في معناها العام تعني خروج الإبداع الأدبي عن كل ما هو متوقع من طرف القارئ، وهي ما يسمّى ب) خيبة أفق المتلقي) وهذا هو سرّ جمالية الإبداع الأدبي والفجوة : مسافة التوتر لديه تتشكَّل لا من مكونات البنية اللغوية وعلاقاتها فقط، بل من المكونات التصوُّرية أيضا، فلكل نص إبداعي خلفية فكرية ينطلق منها المبدع، ويظهر أثرها لامحالة في هذا النص، وبالتالي فهي تشكِل جزءًا من شعريّة النّص( أي من الفجوة :مسافة التوتر، والملاحَظ مما سبق أن أبو ديب قد حاول الإفادة من كل النظريّات الغربيّة التي تعمقت في دراسة الشعريّة، متَّجهًا نحو الجوانب الإيجابيّة في كل نظريّة، محاولا الجمع بين النظري والتطبيقي
- الشعريّة عند أدونيس(شعرية “الرؤيا”)
لم تكن بداية أدونيس عربيّة كذلك، ولم ينطلق في دراسته للشعريّة من فراغ، فقد بدأ من حيث انتهى الشكليون، وتبنى موقفهم في تفجير اللغة، وتشظّي دلالاتها، وفتح آفاق النّص، وإشراك القارئ فعليًّا في تلقّي النّص، وفي تفسيره، ويبدو أنه أفاد مما احتدم في ساحة النّقد الفرنسي حول النّقد الألسني منذ حقبة مبكرة، إذ أن مقولات رولان بارت في كتابه( درجة الصفر للكتابة) تجد صداها في أعمال أدونيس النقديّة،” وقد اهتم في كثير من كتاباته النقديّة بموضوع الشعريّة حتى أنّه سمّى كتابه ب( الشعريّة العربيّة) الذي تعرَّض فيه للشعريّة والشفويّة الجاهليّة، وأثرها على النّقد من خلال خصائصها المتمثّلة في السّماع،الإعراب، و الوزن، لكن السلبي في هذا الخطاب أنّه بقي ينظر للنّصوص الشعريّة اللاحقة بالمقياس نفسه الذي نظر به للشعر الشفوي،إذ لا يعد كل كلامٍ شعرًا إلا إذا كان موزوناً على الطريقة الشفويّة الأولى،وبذلك استبعد من مجال الشعريّة كل ما تفترضه الكتابة:
التأمُّل، الاستقصاء، الغموض، كما تطرق لعلاقة الشعريّة بالنّص القرآني مركزًا على الأفق الذي فتحته بنية هذا النّص المعجز الكتابية أمام الشعريّة العربيّة فيقول في كتابه( الشعريّة العربيّة) ، هكذا كان النّص القرآني في تحوّل جذري و شامل: به وفيه، تأسَّست النَّقلة من الشفويّة إلى الكتابة) [41])“، إن أدونيس يرى أن جذور الحداثة الشعريّة العربيّة بخاصة، والحداثة الكتابيّة بعامة، كامنة في النّص القرآني، فالدراسات القرآنيّة وضعت أسسًا نقديّة جديدة لدراسة النّص ممهِّدة بذلك إلى شعريّة عربيّة جديدة، نتيجة لظهور معايير جديدة لكتابة القصيدة الشعريّة مع كل من بشّار بن برد، مسلم بن الوليد، أبو نواس، أبو تمّام وغيرهم.
أما عن الفرق بين اللغة الشعريّة واللغة العاديّة فإن أدونيس يفرّق بينهما متَّخذا من مبدأالانحراف أساسًا لهذه المفارقة، لأن اللغة الشعريّة الحداثيّة هي دعوة إلى التحوّل عن السياقالعادي، والابتعاد عن الواضح السائد، بحجّة أن الوضوح لا يبعث في القارئ عنصر التخييل،كما أنه يقوم بخنق أبعاد النّص حتى يكون أحادي التفسير، إنّ اللغة الشعريّة المحدَثة تثير في قارئها لذّة التساؤل ومتعة الكشف، فالانحراف هو ضرورة لخلق الشعريّة الحديثة في لغتهاالمتنكِرة عن المطابقة.
وفي إطار حديث أدونيس عن الفرق بين الشعر والنثر فإنّه يرى أن الفرق بينهما ليس في الوزن، بل في طريقة استعمال اللغة، وبِنفي الشعريّة عن الوزن يصل أدونيس إلى النتيجةالمضادة، وهي حصر الشعريّة في طريقة التعبير، أو كيفية استخدام اللغة، فهو يصل إلى لغة الشعر لا من خلال فحص هذه اللغة في ذاتها، وإنّما من خلال المقايسة الخاطئة بما ليس بشعر، أيّ أنّه يحاول إسناد الشعريّة إلى المعنى بِنفيها عن الوزن. كما يظهر مما سبق فالشعريّة عند أدونيس تعدّ كتابة إبداعيّة على نحو ما فعل رولان بارت، وهو يرفض الغائية ويعدّ الشعر لوناً من السحر يهدف إلى أن يُدرِك ما لا يدركه العقل.
فالإبداع عن طريق الرؤيا يحسن تخصيب الألفاظ التي تتحوّل إلى إشارات لغويّة غنيّة بالإسقاطات الرمزيّة الموازية للواقع، كما يدفع بالمؤلف إلى امتلاك تلك الحركيّة القائمة على الالتحام باللغة والولوج فيها، وفق المرتكزات المعرفيّة للمبدع. حيث “إن الرؤيا والنّص يبقيان، في تفاعل منتج لدلالات جديدة تتحوّل فيه المفردة إلى نص سريع الانشطار”.) [42]) لذلك كانت الرؤيا هي القدرة على الكشف والخلق وإزالة ما حجبته عنّا الألفة، تسهم في نسيج علاقات دلاليّة غير مألوفة، وخلق صور لها كيانها المكثّف المحمّل بالطاقة الدلاليّة والجماليّة. كما أنّها تضيف نكهات جديدة مغايرة عن طريق الاتكاء على التكثيف اللغوي نحو مناطق المجهول. “لهذه العلّة جاءت الرؤيا لتخرج الألفاظ من دلالة القصد إلى صيرورة المعنى، وتؤسّس لبنية مفتوحة ومتحوّلة ترفض القراءة الأحاديّة لأنّها مشحونة بدلالات احتماليّة مضاعفة”([43]).
وصفوة القول من بعد رحلة ِّ سبر أغوار الشعريّة عند الغرب والعرب، أنه لا ثبات حول مفهوم محدّد ومصطلح مضبوط ِّ للشعريّة، وكذلك الاختلاف في موضوعها وهل هي متعلّقة بالشعر فقط أم تتعدّاه إلى النثر، أم هي موجودة ومتولّدة عن الخطاب الأدبي ككل، فمصطلح الشعريّة من أبرز المصطلحات التي بقيت مثارًا للجدل بين النّقاد والمترجمين. وأنّ الشعريّة هي مجموعة الخصائص التي تخوّل للعمل الأدبي أن يكون أدبيًّا متفردًا، متميّزًا عن الأعمال الأخرى.
نماذج تطبيقية
والآن لنقف وقفة شعريّة/ شاعريّة عند بعض النّماذج من النّصوص الإبداعية لبعض الشعراء الذين وجدت في قصائدهم جماليّة مميّزة لذا ارتأيت أن أوضّح نقاط الجماليّات الشعريّة الموجودة فيها من خلال تحليلها وفق أصول وقواعد النظريّة الشعريّة.
النموذج الأول:) شعريّة المكان) مقتطفات من قصيدة “السّلام” للشاعر سميح القاسم
إن المكان من أبرز العناصر التي تشكل جمال النّص الشعري، فالمكان) الجغرافي( ينبني من خلال اللغة ليشكّل الجماليّة المكانيّة، حيث تبرز رؤية الشاعر من خلال تعامله الفنّي الجمالي مع العنصر المكاني، و جوانب رؤيته له، فالشاعر العربي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالمكان الذي ولد فيه وعاش فيه، فشدّه هذا المكان إليه و تغنّى به في أشعاره، و حتى عندما كان المكان بعيدًا عنه جغرافيًا، فقد بدا قريبًا منه نفسيًّا و روحيًّا
يعدّ المكان الجغرافي في الشعر الفلسطيني أحد أهم الخصائص البنيويّة في القصيدة، ومكوّن من مكوّنات هويّة النّص الشعري الفلسطيني، وكان الشاعر العربي سميح القاسم من أكثر الشعراء تغنّيًّا بالوطن، فقد شكّل الوطن عنده العلاقة المحوريّة في شعره وصوّرلنا بعض ملامح الحياة في وطنه فلسطين بعيد النكبة.
يقول الشاعر سميح القاسم: |
ليُغنِّ غيري للسلام |
و هناك.. خلف حواجز الأسلاك.. في قلب الظلام |
جثمت مدائن من خيام |
سُكّانُها.. |
مستوطنات الحزن و الحمّى، و سلّ الذكريات |
و هناك.. تنطفئ الحياة |
في ناسِنا.. |
في أبرياء.. لم يسيئوا للحياة ! |
و هنا… ! |
هَمَت بيّارةٌ من خلقهم.. خيراً كثير |
أجدادهم غرسوا لهم.. |
و لغيرهم، يا حسرتي، الخير الكثير |
و لهم من الميراث أحزان السنين ! |
فليشبع الأيتام من فضلات مأدبة اللئام !!) [44]) |
يصوّر الشّاعر حال اللاجئين من أبناء شعبه، ويحدّد الصورة الكامنة بحدّيها “هنا وهناك” في إشارة واضحة إلى حدود المكان وأبعاده الدلاليّة. وتجلّت شعريّته من خلال المزاوجة بين اللغة الشعريّة التي استمدت شعريّتها من الوسائل البلاغية، وما أضفته من العلاقات اللغويّة الجديدة” تنطفئ الحياة”، و”همت خيرًا كثيرًا”، ولكنّه في الوقت ذاته يعبّر تعبيرًا مباشرًا عن كثير من جوانب هذه الصورة، وما يقابلها من دلالات وإيحاءات، تكشف عن التفاعل الخلاق بين المبدع وموضوعه، وتنأى بالعمل الفنّي عن المباشرة والسطحيّة. كما تمثّلت شعريّته أيضًا في توظيف اسم الإشارة “هنا”، وهو ذو دلالة على المكان” بيّارة” فالوطن ذو خير وفير، ولكن الغرباء هم من يتمتّعون بهذا الخير، في حين أنّ أبناء فلسطين الشرعيين يتضوّرون جوعًا.
وهنا دلالة إيحائيّة لأمرين أساسيين الحاضرالماثل أمام الشّاعر والذي يريد وصفه، وثانيهما ما هو مختزن في الداخل يماثله أو يضاده([45]) وتشكّل هذه المتناقضات والمتقابلات عالمًا داخليًا متّحد العناصر، وتسهم في توضيح أبعاد شعريّة الصورة وجلاء ملامحها المختلفة. وعليه فقد شكّل المكان عنصرًا رئيسًا في بناء القصيدة عند الشّاعر سميح القاسم، حيث وظّفه الشّاعر توظيفًا مثمرًا يعكس رؤيته الشعريّة للواقع الإنساني فتحوّل المكان إلى جغرافيا شعريّة حاضرة في النص، استطاع الشاعر أن يستلهم مظاهرها الحسيّة و اللاشعوريّة.
النموذج الثاني:) شعريّة العنوان) قصيدة “بطاقة ھویّة” للشّاعر محمود درويش
أصبح العنوان في الشعر الحدیث مضاھيًا لنصّه ویشكّل نصّا ثانیًا موازیًا للقصیدة، كما یمكن اعتباره ” ممثلا لسلطة النّص وواجھته الإعلامیّة التي تمارس على المتلقّي، والجزء الدال من النّص الذي یؤشّر على معنى ما، فضلا عن كونه وسیلة للكشف عن طبیعة النّص والمساھمة في الكشف عن غموضه”[46]، لھذا أصبح بإمكاننا الحدیث عنه كما نتحدّث عن القصیدة، ودراسة أسسھا الفنّية والجمالیّة. لقد احتلت القضیّة الفلسطینیّة مكانة ھامّة في شعر العدید من الشّعراء، إذ شكّلت محورًا ثقافیًّا وشعریًّا مھمًّا في الثقافة العربیّة الحدیثة، فضلا عن محورھا النضالي والكفاحي المعروف، وإن أبرز شعراء قضیّة الأرض المقدسة فلسطین؛ الشاعر محمود درویش.والملاحظ على عناوین محمود درویش التي توّج بھا قصائده/دواوینه، نجدھا تتنوع وتختلف من قصیدة إلى أخرى، وذلك ربما راجع إلى طول وثراء تجربته الشعریّة التي كان لھا أثر واضح في إضفاء تنوّع على مفردات منظومته العنوانیّة، فقد امتازت ھذه الأخیرة بجملة من الخصائص أھمّھا:
– قوة ارتباط العنوان بالقصیدة؛ وھذا راجع إلى كثافة الدلالات التي لا یمكن الولوج إلى مدلولاتھا إلا في مستوى القصیدة ذاتھا.
-امتازت العناوین عند محمود درویش بخاصیة؛ وھي كسر أفق التوقّع لدى القارئ سواء كان یخصّ العنوان في مستواه النصّي، أم في مستوى علاقته بالقصیدة المعنونة. كما امتازت عناوینه بالحضور المتناھي في مفردات الخطاب العنواني، بحیث جمع بین غزارة إنتاجه والثقافة التراثیّة الواسعة، إذ انسحبت ھذه الثقافة على عناوین قصائده شأنھا شأن متونھا؛ انسحابا واضحا طبع نتاجه الشعري بمرجعیّات نصوصیّة غزيرة.
وسنتناول النموذج”بطاقة ھویّة”:
“بطاقة ھویّة”؛ “تمثّل ھذه العبارة عنوانًا لقصیدة الشّاعر محمود درویش، والتي تعتبر أكثر شھرة وانتشارًا وتداولا، شعبیًّا والأوفر حظًّا عند القارئ العربي،) [47]) “ویمثّل عنوانھا شعریّة سخیّة، وظلال دلالیّة وارفة، لا ینتھي إلى مجاھیل أبعادھا إلا من أوتي على قدرة تأویل المعاني”([48])، إذ یشتمل على سمتین اثنتین: البطاقة + ھویّة، تُحیل كل منھا على الأخرى، فلفظة بطاقة لا تتحدّد إلا في ضوء المؤشّر ھویّة، فمفردة بطاقة تمثّل صیغة ملتبسة عند المتلقي بسبب انفتاحھا على أكثر من تأویل، لأنھا توحي بالغموض وتثیر في ذھن المتلقّي الكثیر من التساؤلات عن نوع البطاقة التي یقصدھا المتكلم، وعند إضافة مفردة ھویّة في الصیغة التركیبیّة للعنوان تتحدّد دلالة البطاقة وتكسبھا دلالة جدیدة، وتزیل عنھا الغموض والإبھام، فالعنوان “بطاقة ھویّة” یمثّل عنونة مباشرة تشیر إلى الواقع بحیث یتصوّر القارئ في ذھنه عند قراءته تلك البطاقة على مستوى بنیته الحرفیّة، تلك البطاقة المتعارف علیھا، والتي تحمل كافة البیانات والصّفات الشخصیّة؛ المتمثذلة في: الاسم، اللقب، السّن، الجنسیّة، والصّورة، “مما یوحي لنا أن الشذاعر یرید في نصّه أن یرسم لنا بالكلمات ھویّة الفلسطیني من خلال رسم مظھره الخارجي”.(([49]
إلا أن الاكتفاء بما یشیرإليه العنوان في تركیبته لا یسمح لنا بالتوسّع أكثر ممّا ھو شكلي وحسّي لبطاقة الھویّة المشار إلیھا في الواقع، ممّا یجعلنا في ھذا التأویل أن نبتعد كل البعد عمّا یقصده الشّاعر وما یریده من القارئ. لذا یتحتّم على الذات القارئة الولوج إلى عالم النّص والبحث عن التعالقات الدلالیّة بین العنوان ونصّه، ورصد جملة الأفكار التي یقصدھا الشّاعر من خلال قصیدته، إذ إنّ العنوان “لا یحیل إلى عمله بلغته… إنّه یحیل إلى عمله بكفاءته الفائقة في التحوّل من كونه واقعه لغویّة، والصعود بفعل التلقي إلى مستوى النص”.([50])
بمعنى أنّه لابد من البحث في ثنایا النّص للكشف عن دلالة العنوان، لأنّه مرتبط أشدّ الارتباط بنصّه.
وبالعودة إلى سیاق النّص نجد القصیدة یتصدّرھا فعل من الأفعال الكلامیّة، جاء بصیغة الأمر:
سجّل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانیة
وتاسعھم سیأتي بعد الصیف
فھل تغضب([51])
الشعريّة هنا تجلّت من خلال توظیف الفعل الكلامي “سجّل” ھو مخاطبة العدوّ الإسرائیلي والقارئ بشكل مباشر، ” فالفعل ھو نفسه الفعل أكتب، بدوره المقابل للفعل اقرأ، یمتلك شحنة دلالیّة واسعة وعمیقة في وجدان المتلقّي، أي أنّ الشّاعر استغلّ ثقافة المتلقّي الدینیّة وعاطفته المتأجّجة لیثیر حمیّته ویخلق تفاعلا إیجابیًّا مع النص”([52]) وبعد الفعل الكلامي” سجّل” تأتي مباشرة مقولة” أنا عربي”؛ والتي تتعالق دلالیًّا مع العنوان) بطاقة ھویّة)، إذ تُشكّل نقطة الارتكاز التي تفتح العنوان على الدلالة العامة للقصیدة، بحیث تُشكّل الإحالة الثانیة للعنوان وھي الإحالة إلى القصیدة ذاتھا، كما تقوم ھذه المقولة” أنا عربي “بتولید معظم تراكیب القصیدة بھیئة انسیابیّة، وذلك لأنّھا متكررة في جمیع مقاطع القصیدة:
أنا عربي
سُلبت كروم أجدادي
وأرضنا كنت أفلحھا
أنا عربي
لون الشعر فحمي
لون العین بني) [53])
ومن خلال الاطلاع على نّص القصیدة تتمثّل لنا شعرية العنوان في علاقته بالنّص بحیث تنصرف دلالته من الحسّي الشّكلي إلى ما ھو معنوي ثقافي وإنساني، فالشّاعر یقف أمام الضابط الإسرائیلي مُشھرا بطاقة الھویّة لیثیر غضبه ویثبت وجود الشّعب الفلسطیني بعدما حاول المتسلّط الصھیوني تھوید الأرض وطمس الھویّة العربیذة لفلسطین من خلال حصر التسریح بالهویة([54]) فبهذا تصبح قصیدة “بطاقة ھویّة” ھنا نصّ شعري مبني بناء بالغ التحدید، ویجعل من الواقع مبرر للقصیدة وركن من أركانھا الأساسیّة، وبھذا يشكل العنوان “بطاقة ھویّة” علامة تعیينیّة وإغرائیة موجهة للقارئ الصهيوني؛ تعمل على تهويده وتحذیره من غضب الشعب الفلسطیني وثورانه.
- یُشكّل الخطاب العنواني مكانة مھمة في الخطاب الإبداعي عامة، والخطاب الشعري خاصة، كونه یُمثّل خطابا موازیًا دلالیًا من جھة، ومُكمّلا جمالیًّا من جهة أخرى.
- طبیعة العنونة في الخطاب الشعري المعاصر تتمیّز بالجمالیة والإیحاء، مما یثیر القارئ ویدفعه للغوص في ثنایا الخطاب الشعري، للكشف عن دلالة العنوان، وإزالة الغموض الذي یحتمل عدة تأویلات، ومن ھنا تتجلّى قدرة الشاعر المعاصر في صیاغة عناوینه التي تستقطب القارئ وتستهويه.
النموذج الثالث) شعريّة الانزياح الدلالي) قصيدة” كتاب من سطور المستقبل ” للشاعر أحمد مطر
الانزياح الدلالي أو الاستبدالي
إنّ هذا النوع مِن الانزياح هو الأشهر والأكثر دلالةً وتأثيرًا في القارئ، يقول عنه صلاح فضل – رغم أنّه يسميه انحرافًا “الانحراف الاستبدالي يخرجُ على قواعد الاختيار للرموز اللُّغويّة؛ كمثل وضع الفرد مكان الجمع، أو الصفة مكان الاسم، أو اللفظ الغريب بدل المألوف”([55]).
وهذا النوع يُعرَف في البلاغة بالصورة الشعريّة أو البلاغيّة، ويُعَدّ التشبيه والاستعارة والمجاز مِن أهم أشكال هذا الانزياح الدلالي. فالانزياح الدلالي هو التحوّل بين المعنى المعجمي السطحي للكلمة والجملة إلى آفاق أخرى دلالية تعطي لها صفة الشعرية، ويكوّن المسافة الفاصلة بين المعنى المعجمي / السطحي وبين المعنى الدلالي الجديد، وكلّما اتّسعت هذه المسافة كانت الكلمة / الجملة ذات شعريّة أكثر من غيرها، وقد تجلت شعرية الانزياح الدلالي في الانزياح في قصائد الشّاعر أحمد مطر فيقول:
بعد ألفي سنة
تنهض فوق الكتب
نبذة
عن وطن مغترب
تاه في أرض الحضارات
من المشرق حتى المغرب
باحثا عن دوحة الصدق
ولكن
عندما كاد يراها
حيّة…مدفونة
وسط بحار اللهب
قرب جثمان النبيّ
مات مشنوقًا عليها
بحبال الكذب!
وطن لم يبقَ منه أثاره
غير جدار خرب
لم تزل لاصقة فيه
بقايا
من نفايات الشعارات
وروث الخطب
عاش حزب ال…
يسقط الخا…
عائدو…
والموت للمغتصب
وعلى الهامش سطر:
أثر ليس له اسم
إنما كان اسمه يوما
…بلاد العرب!([56])
المعجم الشعري
تقوم القصيدة على معجم شعري يتميّز بتقنيّة التلاعب بدلالة الألفاظ وإعطائها أبعاد اغير متوقّعة و يظهر ذلك في قوله : تنهض فوق الكتب نبذة، وطن مغترب باحثًا عن دوحة الصّدق، وسط بحار اللهب، حبال الكذب، نفايات الشعارات روث خطب…إلخ.ومنه أحدث عمليّة تحويل في معنى النّص بكامله بحيث يأخذ دلالات جديدة تمامًا لا تمت بصلة إلى الخط التصاعدي بالمعنى الافتراضي.
دلالة القصيدة
للقصيدة دلالات عميقة مرتبطة أشد الارتباط بما يعيشه الشّاعر من سخط و غضب فهو يرى أن المصائب التي يتخبط بها الوطن العربي إنما تعود إلى الشّعارات البرّاقة التي ترفعها الأحزاب و التي لم يجنِ منها المواطن العربي غير الهزيمة. فحضارة بلاد الرافدين وعراق المنصورة قد أصبحت وطنًا مغتربًا، في ظلّ الشّعارات الجوفاء التي يردّدها حكماء العرب، وهذا ما أكّده شاعرنا من خلال توظيفه بعض الألفاظ و العبارات الخاصّة ببيئته كأرض الحضارات، وطن شعارات، روث الخطب، حزب البعث. كما أدّت الصّورة اللونيّة دورا مكمّلا في تشكيل الصّورة وتجسيد تجربته وتعميق الاحساس. بوصفها من المفاتيح المهمّة في فهم التجربة والوصول إلى المغزى وراء النص والمتتبع للصّورة اللونيّة في الأخير يجدها أنها تحمل دلالة غير مباشرة تتمثّل في رغبة الشاعر في التعالي بعد تلويث لسانه بذكر اسم الحزب، فاكتفى بقوله : عاش حزب ال
الانزياح في المستوى الدلالي
الصّورة هي أداة الشاعر المثلى التي يمتلكها لتمثيل الخطّة الانفعاليّة والدفقة الشعوريّة التي تنتابه في أثناء عمليّة الخلق والإبداع لتكون في النهاية مرآة تعكس ما يختبئ في روحه من أحاسيس وانفعالات، ولأن مظاهر الصورة متعددة فسنقف عند:
- الاستعارة
لقد استطاع الشاعر ببصيرته اكتشاف وخلق علاقات مع أشياء مجرّدة كما في قوله :
تنهض فوق الكتب نبذة بتشخيص النبذة وجعلها تنهض على سبيل الاستعارة المكنية، ظهر بصيص من الأمل على تحسين الوضع و لما ظهر هذا البصيص دفن من جديد.
- التشيبه
استعان الشاعر بالتشبيه من أجل وضعنا في صورة قريبة من الوضع، ونلمس ذلك في قوله :
“عن وطن مغترب” فهو تشبيه بليغ فقد شبّه الوطن بالإنسان فحذف المشبّه به ولكن أبقى دليلا عليه هي صفة الاغتراب. بالإضافة إلى قوله :حبال الكذب أيضا تشبيه بليغ من باب إضافة المشبّه به بالمشبّه.
ثم سرعان ما يجذبنا تشبيه أخر في قوله وسط بحار اللهب تشبيه بليغ الغرض منه ابداء الهول والفزع والرعب الشديد. وهو ما يعرف بالتشبيه المقلوب وتقدير الكلام اللهب بحار.
- الكناية
جاء الشاعر بلغة إيحائيّة عكست قدرته على التعبير ورسم صورة رائعة معبّرة عن حالته. وهي كنايات اعتمدت النشاط الواعي في جميع أجزاء هذه الصّور الموحية المعبّرة. كقوله :”وطن لم يبقَ منه غير جدار خرب: “كناية عن الوضعيّة المزرية للوطن العربي الذي أصبح مثله مثل الجدار المهدّم.
“الموت للمغتصب “:كناية عن المستعمر المحتل المستبد.
” أرض الحضارات “:فالمعلوم أن أرض الحضارات هي بلاد الرافدين وعاصمتها بغداد فالشّاعر استعمل أرض الحضارات بدل لفظة العراق ليعطي لوطنه العراق حقّه من العظمة التي سلبت منه.
- المجاز
يعرف المجاز أنّه نوع من أنواع التوضيح والتبيين وهو علاقة صناعة وبراعة في كسوة المعنى، وتطويره بأوجه ومجازات مختلفة. ويكون التوضيح بتقديم أمثلة محسوسة، تربطها علاقات منطقية، فتألفها النّفس عن طريق تصوير أشياء معقولة بمثال حسّي. فنجد الشّاعر قد وظّف المجاز العقلي في قوله : عن وطن مغترب تاه في أرض الحضارات واسند الفعل تاه لغير فاعله الحقيقي إذ أسنده إلى الوطن وقصد به الشعب.
- البديع
إنّ التقابل المعجمي في القصيدة يخدم التناقض الوجداني الذي يميّز نفسيّة الشّاعر ومن الثنائيات الضديّة الموجودة(المغرب _المشرق) و(الصدق_الكذب) طباقان إيجابيّان أديّا الترابط بالتقابل والوظيفة فأتت إحداهما دلاليّة تتمثّل في تأكيد المعنى وتبليغه والأخرى جماليّة تتمثّل في أنّ التقابل بين الوحدات المعجميّة يؤثّر في المتلقّي.
الأساليب الخبريّة
إن معظم الأساليب التي صاغ منها الشّاعر أفكاره جاءت خبريّة يسرد من خلالها حقيقة الصّراع مع مشاعره من جهة ومع قدره المحتوم من جهة أخرى، وهي تؤكد كلّها على رغبته الجامحة للتغيير من الوضع الميؤوس منه، ويرى أنّ التغيير متأخّر عن وقته فاستطاع بذلك أن يحقّق دلالات جديدة وما هو ملاحظ في قوله :
“تنهض فوق الكتب نبذة” و”غير جدار خرب” : والغرض منهما إبداء الحيرة والتأسّف لما آلت إليه حالة الوطن.
وهكذا بَدَت ظاهرة الانزياح في شعر أحمد مطربأنواعها جليّة واضحة؛ لما تركته من أثر في تشكيل لغته الشعريّة، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشّعري.
الخاتمة
بعد هذا الطرح لمفهوم الشعريّة وأصولها العربيّة والغربيّة، والطرح لبعض النّصوص الإبداعيّة وبيان الشعريّة فيها نستخلص النتائج الآتية:
- تٔعدّ الشعريّة من أهم المناهج الأدبيّة الغربيّة والعربيّة وذلك لما فيها من انفتاح على النّص وتقف على شاعريّة النصوص الإبداعية بوصفها منهجاً يبحث في البنيتين السطحيّة والعميقة لغرض الوصول إلى شعريّة النّص وشاعريته.
- إنّ مبدأ الشعريّة أو الأساس الذي تقوم عليه هو بيان جماليّة النّصوص الإبداعيّة فهي منهج أدبي جمالي للنّصوص الإبداعية.
- إنّ دراسة النّصوص الإبداعية على أساس مبادئ وأصول وقواعد الشعريّة يوضّح بشكل مباشر شخصيّة المبدع ومدى قدرته في استعمال ألفاظ معيّنة دون غيرها أو أصوات معيّنة دون أخرى وكذا معرفة قدراته الفكريّة والإبداعيّة.
- إنّ شعريّة المكان من أبرز العناصر التي تشكّل جمال النّص الشعري، فالمكان) الجغرافي( ينبني من خلال اللغة ليشكّل الجماليّة المكانيّة، وتجلّت شعريّة المكان في قصيدة الشاعرسميح القاسم من خلال تعامله الفنّي الجمالي مع العنصر المكاني، وجوانب رؤيته له.
- تتمیز طبیعة العنونة في الخطاب الشعري المعاصر بالجمالیة والإیحاء، مما یثیر القارئ ویدفعه للغوص في ثنایا الخطاب الشعري، للكشف عن دلالة العنوان، وإزالة الغموض الذي یحتمل عدّة تأویلات، فالعنوان في قصائد محمود درویش، فرض حضوره بوصفه بنیة كتابیّة تعلو القصیدة، ویتعالق معھا دلالیًّا، فكان بناء العنوان دائریًّا ینطلق منه ویعود إلیه.
- أثبتت ظاهرة الانزياح في الشعر أثرها البالغ في تحريك مسار القيم الدلاليّة والجماليّة للنّصوص الأدبيّة، إضافة إلى ما تتيحه للأديب من صبّ موهبته في ابتداع كل جديد يشهد له بالتفرّد وتجلّت دلالاتها في شعر أحمد مطر بأنواعها الجلية الواضحة؛ لما تركته من أثر في تشكيل لغته الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري.
المصادر والمراجع
- ابن فارس، مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، طبعة اتحاد الكتّاب العرب، مادة “ش ع ر”، ج 3، د ط، 2002.
- ابن منظور، لسان العرب، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت، لبنان، ط 1، مادة “ش ع ر”، المجلد 01، ج 01، 2005 .
- إسماعيل شكري، في معرفة الخطاب الشعري: دلالة الزمان وبلاغة الجهة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م.
- بشير تاوريرت، الشعرية و الحداثة بين أفق النقد الأدبي وأفق النظرية الشعرية، ط 1، دار رسلان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق،
- جاكوبسون رومان،قضايا الشعرية،تر:محمد الولي ومبارك حنون،دار توبقال،المغرب 1988.
- جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، تر:محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، المغرب،1986ص10.
- حسن ناظم،مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994، ص 11
- رابح بوحوش،الأسلوبية وتحليل الخطاب،منشورات جامعة عنابه،الجزائرط1،2006.
- الزمخشري أبي القاسم جار الله، أساس البلاغة،منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، تحقيق: محمد باسل عيون السود،
- صلاح فضل، الأسالیب الشعریة المعاصرة، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة،1998.
- عبد الله الغذامي، الخطيئة و التكفير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 4، 1998.
- عبد الملك مرتاض، قضایا شعریة متابعة وتحلیل لأھم قضایا الشعر، المصادر، منشورات دار القدس العربي، وھران، الجزائر، ط،20091.
- عثماني الميلود، الشعرية التوليدية: مداخل نظرية، شركة النشر والتوزيع-المدارس- الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2000م.
- فيصل صالح القصري، جمالیة النص الأدبي، أدوات التشكیل وسیمیاء التعبیر، دار الحوارللنشروالتوزیع، سوریا، 2011.
- كمال أبو ديب، في الشعرية، مطبعة الأبحاث العربية، لبنان، د. ط، د. ت.
- محمد فكري الجزار، العنوان وسیمیوطیقا الاتصال الأدبي، الھیئة المصریة العامة للكتاب، مصر، 1998.
- محمد مهدي الشريف، معجم مصطلحات علم الشعر العربي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2004.
- مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق، إتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999.
- مشري بن خليفة، الشعرية العربية مرجعياتها و إبدالاتها النصية، وزارة الثقافة، الجزائر،( د، ط) ، 2007.
- يوسف واغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، منشورات الاختلاف،الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر،
يوسف واغليسي، الشعريات والسرديات قراءة اصطلاحية في الحدود والمفاهيم، منشورات مخبر السرد جامعة منتوري، قسنطينة، د.ت.
21- O.Ducrot et T.Todorov : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, article « Poétique », Paris, 1995.
- Meschonnic, Henri, 1982, Critique du rythme. Anthropologie historique du langage, Lagrasse, Verdier, 1999, Poétique du traduire, Lagrasse, Verdier. ; Dessons, Gérard et Meschonnic, Henri, 2003 [1998], Traité du rythme, des vers et des proses, Paris, Dunod
أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية.- 1
[2] – ابن فارس، مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، طبعة اتحاد الكتّاب العرب، مادة “ش ع ر”، ج 3، د ط، 2002، ص 209.
-[3] ابن منظور، لسان العرب، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط 1، مادة “ش ع ر”، المجلد 01، ج 01، 2005،ص 2044.
3 -الزمخشري أبي القاسم جار الله، أساس البلاغة،منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، تحقيق: محمد باسل عيون السود، مادة “ش ع ر”، ج 01، 1998، ص 510.
[5] – المرجع نفسه، ص 15.
[6] – يوسف واغليسي، الشعريات والسرديات قراءة اصطلاحية في الحدود والمفاهيم، منشورات مخبر السرد جامعة منتوري، قسنطينة،الجزائر،2007 م، ص 9.
[7] – يوسف واغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، منشورات الاختلاف،الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر،ط، 2008 م، ص 0
[8] – حسن ناظم،مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994، ص 11
– [10] مشري بن خليفة، الشعرية العربية مرجعياتها و إبدالاتها النصية، وزارة الثقافة، الجزائر،( د، ط) ، 2007، ص. 1
[11] – حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص 11.
[12] – مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق، إتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 104.
[13] – حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص9.
[14] – محمد مهدي الشريف، معجم مصطلحات علم الشعر العربي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2004، ص 85.
– [15] عبد الله الغذامي، الخطيئة و التكفير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 4، 1998، ص 21 – 22
[16] – مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق، المرجع السابق، ص 100.
[17] – O.Ducrot et T.Todorov : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, article « Poétique », p. 193, Paris, 1995.
[18] – Meschonnic, Henri, 1982, Critique du rythme. Anthropologie historique du langage, Lagrasse, Verdier, 1999, Poétique du traduire, Lagrasse, Verdier. ; Dessons, Gérard et Meschonnic, Henri, 2003 [1998], Traité du rythme, des vers et des proses, Paris, Dunod.
[19]– عثماني الميلود، الشعرية التوليدية: مداخل نظرية، شركة النشر والتوزيع-المدارس- الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2000م.
[20] – إسماعيل شكري، في معرفة الخطاب الشعري: دلالة الزمان وبلاغة الجهة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م.
[21] – حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص 17.
[22] – بشير تاوريرت، الشعرية و الحداثة بين أفق النقد الأدبي وأفق النظرية الشعرية، ط 1، دار رسلان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق،
سوريا، 2008، ص34.
[23] – تزفيطان تودوروف، الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ط 1،دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1987 ص 2.
[24] – جاكوبسون رومان،قضايا الشعرية،تر:محمد الولي ومبارك حنون،دار توبقال،المغرب 1988،ص35.
[25] – تزفيتان تودوروف، الشعرية،تر: شكري المبخوت ورجاء سلامة،دار توبقال، المغرب،1987،ص6.
[26] – رابح بوحوش،الأسلوبية وتحليل الخطاب،منشورات جامعة عنابه،الجزائرط1،2006 ص59.
[27] – جاكوبسون رومان، قضايا الشعرية، تر:محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال،المغرب 1988،ص19.
[28] -. رومان جاكوبسون،م،ن،ص32.
[29] – جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، تر:محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، المغرب،1986ص10.
[30] – م.ن، ص11.
[31] – م.ن، ص19.
[32] – بشير تاوريرت، الشعرية و الحداثة بين أفق النقد الأدبي وأفق النظرية الشعرية، المرجع السابق، ص50.
– [33] مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق، المرجع السابق، ص 100
[34]– حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص 115.
[35] – بشير تاوريرت، الشعرية و الحداثة بين أفق النقد الأدبي وأفق النظرية الشعرية، المرجع السابق، ص54-55.
– [36] كمال أبو ديب، في الشعرية، مطبعة الأبحاث العربية، لبنان،( د ط(،( د ت(، ص14.
[37] – حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص124.
[38] – بشير تاوريرت، الشعرية و الحداثة بين أفق النقد الأدبي وأفق النظرية الشعرية، المرجع السابق، ص 09.
[39] – حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص 124.
[40] – حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المرجع السابق، ص 125.
[41] – أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، ط 3، 2000، ص0 3.
[41] – أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، ط 3، 2000، ص0 3.
[42] – الخضر بن السائح، من المعنى إلى الرؤيا، مجلة مقاليد، ع3،ديسمرب، 2012،ص 115.
[43] – م.ن، ص109.
[44] – القاسم، سميح: الحماسة،ج 3، ص9.
[45] – الرباعي،عبدالقادر: الصورة الفنية في شعر أبي تمام، ط1، 1980، ص 29.
[46] – شعیب حلیفي، في الھویة والعلامات وبناء التأویل، القاھرة، ط 2004 1، ص9.
[47]– فيصل صالح القصري، جمالیة النص الأدبي، أدوات التشكیل وسیمیاء التعبیر، دار الحوارللنشروالتوزیع، سوریا، 2011ص119.
[48]– عبد الملك مرتاض، قضایا شعریة متابعة وتحلیل لأھم قضایا الشعر، منشورات دار القدس العربي، وھران، الجزائر، ط،20091، ص 328
[49] – صلاح فضل، الأسالیب الشعریة المعاصرة، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة،1998،ص75.
[50]– محمد فكري الجزار، العنوان وسیمیوطیقا الاتصال الأدبي، الھیئة المصریة العامة. للكتاب، مصر، 1998، ص 41.
[51] – دیوان محمود دوریش، دار العودة، بیروت، مج 1،ص 73.
[52] – صلاح فضل، الأسالیب الشعریة المعاصرة، م.س،ص 75(
[53] – دیوان محمود دوریش، مصدر سابق، مج 1، ص 73
[54] – صلاح فضل، الأسالیب الشعریة المعاصرة، م.س،،ص 78
[55] – صلاح فضل، علم الأسلوب ومبادئه وإجراءاته، دار الشروق، القاهرة، 1998، ص 212.
[56] – أحمد مطر، لافتة 1، الكويت 1684 ص 1.