غزو الوهم
قراءة تحليلية مقارنة لرواية غزو “الإسرائيليين” لكنعان ومقارنة أحداثها المزعومة مع النتائج التي أخرجها علم الآثار
د. علي إبراهيم زين الدين
المقدمة
كنت أوردت في بحث سابق تحت عنوان (“إسرائيل” الكنعانية) وهي قراءة نقدية تحليلية مقارنة لسفر الخروج([1]) وإعادة قراءته في ضوء المكتشفات الآثارية، وبينت عدم تطاق الأحداث التوراتية “الإسرائيلية” وتعارضها تماماً مع الواقع القائم في حينه، فيما يلي سأستعرض أحداث سِفر آخر وهو سِفر يشوع الذي يختلف كلياً في الجوهر، فالهائمون التعساء الذين يطلبون الإذن لعبور أرض الأموريين في السِفر السابق (سفر العدد([2])) تحولوا إلى محاربين أشداء في سِفر يشوع اللاحق الذي يروي كيفية “غزو” فلسطين (كنعان) من قبل هؤلاء المستعبَدين في مصر واحتلال المدن الكنعانية بحد السيف وتدميرها كـ أريحا وعاي وحاصور وغيرها، ومن ثم تقديم تقييم علمي موضوعي.
الحضارة بمعناها الواسع هي ذلك المخزون المركّب من سلوكيات يكتسبها الفرد في المجتمع الإنساني بدءاً من عائلته الفردية مروراً بالمحيط الأقرب فالأقرب وصولاً إلى المجتمع ككل ضمن نطاق جغرافي معين يعرف بالوطن الكبير، بما فيه من عادات وعقائد وفنون (صغرى وكبرى) وقانون ونظام إداري من دون أن نسقط من اعتباراتنا البيئة الحاكمة وانعكاساتها السيكولوجية والفيزيولوجية المؤثرة فيتكسب منها لا إرادياً، كذلك “العنصرية” الإثنية([3]) ومن ثم تسلّقه سلّم الحضارة التي تشكل تاريخه ومستقبله بالنتيجة Del Medico, H. A.)) بناء عليه، تضافرت جهود العلماء للكشف عن تلك الحضارات الغابرة التي تركت بصماتها في المسيرة الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى يومنا الحاضر معتمدين وسائل علمية في البحث والتنقيب ،مستفيدين من علوم شتى على رأسها علم الآثار archaeology والتاريخ والجغرافيا وعلم الإنسان anthropology وغيرها وما وفرته العلوم التطبيقية المساعدة والمختبرات.
لم يكن دائماً الاعتماد على النصوص المكتوبة وحده كافياً لإماطة اللثام عن الكثير من الحقائق في هذا الخصوص فلا بد أن تقترن النصوص بالأدلة الآثارية الداعمة للرواية القصصية حول الحضارات الغابرة لتصبح ثابتة يبنى عليها فتكون من المسلمات التاريخية وإلا تبقى تراثاً شعبياً لا يعدو كونه أسطورة([4]) تحمل في طياتها الأمنيات والطموحات وأحياناً المخاوف، من هنا ندخل إلى الحضارة الكنعانية التي حاولت الرواية التوراتية رسم أطرها العامة والتفصيلية بما تضمنته من أحداث وتواريخ وأنساب للشعوب الكنعانية التي عاشت على أرض كنعان([5])، بل اعتُمد عليها في وضع تأريخ لبلاد كنعان ليتضح لاحقاً أن التواريخ والأسماء والأنساب والأحداث لا مكان لها خارج الرواية التوراتية.
وردت كلمة (كنعان) في التوراة للدلالة على أرض فلسطين ولكن هذه الكلمة ليست توراتية على الإطلاق فقد وردت في النصوص المصرية للدلالة على المناطق الجنوبية الغربية من سوريا أي الشعوب التي كانت على تماس معها منذ بدايات النفوذ المصري فوردت بصيغة “بي-كنعان” كما وردت في النصوص السورية ونعني نص الملك أدريمي ملك ألالاخ وهي المملكة التي ازدهرت في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، حين يتحدث أدريمي عن هروبه من ألالاخ ولجوئه إلى مملكة أميّا في أرض كنعان (السواح، فراس)، فالبلاد الكنعانية هي المسرح الذي أدت عليه الشخصيات التوراتية أدوارها بحسب المحرر التوراتي وهذا بالتحديد ما سنحاول معالجته في ما يلي لكشف حقيقة الرواية التوراتية بناء على المكتشفات الآثارية خلال القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، فالتوراة ليست المصدر الصالح لكتابة تاريخ فلسطين، لذا كان لزاماً وضع الرواية التوراتية جانباً وإعادة كتابة تاريخها (فلسطين) على ضوء التنقيبات والاكتشافات والأدلة الآثارية المعتبرة. بناء على المكتشفات الآثارية والتأريخية، خاصة أن _ وكما بات واضحاً_ أسفار التوراة جرى تدوينها في حقبات بعيدة من زمن “حصول” أحداثها أي في القرن السابع قبل الميلاد، ومنهم من يعتقد أنها دوّنت بين أواخر العصر الفارسي وأوائل العصر الهلنستي (323 ق. م.) على عكس بعض الآراء التي تقول إن تدوين التوراة بدأ خلال حقبة السبي البابلي (586 ق. م.) واكتمل مطلع العصر الفارسي (539 ق. م.)، ويرى أصحاب الرأي الأول أن تاريخ إسرائيل التوراتية في فلسطين هو أخيولة أدبية تجد دوافعها في المناخ الاجتماعي والنفسي للحقبة المتأخرة التي أنتجتها. (Garbini, G.)
مع تكثيف أعمال الحفر والتنقيب الآثارية خلال القرن الماضي في العديد من المواقع في الشرق ومن خلال إضافة نتائجها إلى نتائج الحفريات التي جرت في مصر وفي بلاد ما بين النهرين Mesopotamia، تكشفت الكثير من الأمور التي كانت مجهولة، انطلق العلماء من هذا الكم الهائل من النتائج التي تهدف إلى جمع البقايا المادية للحضارات القديمة والعمل على إعادة تركيب علمي للحضارات التي اندثرت ومعرفة أساليب حياتها ووضع تفسير لتاريخها الثقافي بتغيراته وتقدمه والأسباب التي دفعت إلى ذلك. ((Del Medico, H. A.
سبق أن ذكرت – في دراسة سابقة تحت عنوان (“إسرائيل” الكنعانية) وهي دراسة نقدية تحليلية مقارنة لرواية الخروج التوراتية على ضوء المكتشفات الآثارية- وبينت زيف الرواية التوراتية “الإسرائيلية” حول تلك الحادثة وتعارضها تماماً مع العلوم التي سبق ذكرها، كذلك الأمر سنستعرض في هذه الدراسة نقداً تحليلياً واقعياً مبنياً على نتائج أعمال التنقيب التي سبق ذكرها لرواية غزو بلاد كنعان من قبل “الإسرائيليين” المستعبَدين([6]) في مصر واحتلال المدن الكنعانية بحد السيف كـ أريحا وعاي وحاصور وغيرها، وتقديم تقييم علمي موضوعي لها.
تبدأ فكرة غزو أرض الكنعانيين الفاسقين عبدة العشتار والبعل والغلف الذين يزنون خلف آلهتهم من خلال وعد “الرب” لآباء بني إسرائيل: 1ثُمَّ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: 2«أَرْسِلْ رِجَالاً لِيَتَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. رَجُلاً وَاحِدًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ آبَائِهِ تُرْسِلُونَ. كُلُّ وَاحِدٍ رَئِيسٌ فِيهِمْ: (عدد13: 1-2)، 15اِحْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ الأَرْضِ، فَيَزْنُونَ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ وَيَذْبَحُونَ لآلِهَتِهِمْ، فَتُدْعَى وَتَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِهِمْ: (خروج 34: 15)، يتضح من خلال الرواية أن الرب هو المسؤول عن غزو بلاد كنعان بل بأمر منه وأنه اصطفى بني إسرائيل لهذه المهمة وكل ما قاموا به من ذبح وحرق وقتل واحتلال هو بأمر من الرب لأنه قطع وعداً معهم، حتى أنهم ظُلموا بهذا الوعد وطالبوا موسى تكراراً أن يعيدهم إلى العبودية في مصر لأنهم على الأقل يجدون قدور الطعام وحفظاً لأجسامهم: 7وَأَتَّخِذُكُمْ لِي شَعْبًا، وَأَكُونُ لَكُمْ إِلهًا. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمُ الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ. 8وَأُدْخِلُكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي أَنْ أُعْطِيَهَا لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَأُعْطِيَكُمْ إِيَّاهَا مِيرَاثًا. أَنَا الرَّبُّ. (خروج 6: 7-8)
تروي التوراة “الإسرائيلية” في سفر يشوع أنه ومن خلال عملية عسكرية خاطفة استطاع هزيمة الملوك الكنعانيين وتدمير مدنهم بالنار وأخذ أهلها بالسيف في ملحمة أسطورية مهولة يقضي فيها على عبَدة الأوثان المتجبرين في الأرض، يدفع المهزومون نتيجة هذا الاحتلال ثمناً ليس أقله الإبعاد وفقدان الممتلكات والموت، لا تخلو القصة كما ذكرنا من أساطير كانهيار أسوار أريحا بالعزف على المزامير، واحتلال مدينة عاي القوية بخدعة، ووقوف الشمس عن الحركة في جبعون، واحتراق المدينة الكنعانية العظيمة حاصور بالنار وسقوط حجارة البرد من السماء.
يموت موسى وتنتقل الإمرة على بني إسرائيل إلى يشوع بن نون فهو مفكر عسكري فذّ والساعد الأيمن لموسى: 1وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَبْدِ الرَّبِّ أَنَّ الرَّبَّ كَلَّمَ يَشُوعَ بْنِ نُونٍ خَادِمَ مُوسَى قَائِلاً: 2مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَالآنَ قُمُ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. 3كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى. (يشوع 1: 1-3)، يمتثل يشوع إلى الأمر “الإلهي” ويأمر الشعب بالتزوّد لأنهم سيعبرون نهر الأردن ويدخلون الأرض التي وعد الرب أنه سيعطيها لهم، تقدم يشوع بقواته وأمامهم تابوت العهد([7])، فما إن يصلوا إلى النهر حتى تنفلق مياهه أمامهم في معجزة ثانية كالتي حصلت أثناء عبورهم بحر سوف (البحر الأحمر) أثناء مطاردة الفرعون لهم أيام موسى هذه المعجزة الأولى (الأولى مع يشوع والثانية مع بني إسرائيل)، بعد أن عبروا إلى اليابسة عادت مياه النهر كما كانت، خيّم يشوع قرب مدينة أريحا في مكان يدعى الجلجال، لم يدم حصارهم لمدينة أريحا كثيراً لأن “الرب” أظهر هناك معجزته الثانية بحيث أمر الرب يشوع أن يدور الجنود حول أسوار المدينة كل يوم دورة وفي اليوم السابع يعمد حملة الأبواق إلى النّفخ فيها بصوت عظيم ويتبعهم جميع الشعب بهتافات مدوية فتتهاوى أسوار المدينة من تلقائها (هذه المعجزة الثانية) وتكون المدينة ومن فيها حرماً للرب([8]) أما المقتنيات الثمينة من ذهب وفضة ونحاس فتكون قدساً وتدخل في خزانة الرب، فيدخل الجنود ويذبحوا من في المدينة كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً وأطفالاً حتى المواشي ذبحت، ثم أحرقت المدينة بالنار. يتجه يشوع من أريحا إلى مدينة عاي لكن أهلها يُنزلون بالإسرائيليين هزيمة منكرة، يخبر الرب في ما بعد يشوع أن الهزيمة سببها أحد بني إسرائيل لأنه احتفظ بثوب وبعض الأمتعة لنفسه من غنائم أريحا([9])، بعد تحديد المذنب يؤخذ مع بناته وبنيه وماشيته فيرجمون ثم يحرقون، عندها يهدأ غضب “الرب”، فيشنّ يشوع حملته الثانية ويأخذ مدينة عاي ويقتل سكانها جميعاً، ولكن احتلال عاي لم يكن كما أريحا أي ليس بفضل معجزة من “الرب” بل بذكاء يشوع الذي يذكرنا بفكرة حصان طروادة وبراعة المحاربين اليونان، فبيّت عدداً من المحاربين سراً جانب أبواب المدينة وفي الصباح انطلق المدافعون عن عاي خلف الإسرائيليين فدخل رجال الكمين الإسرائيلي إلى المدينة التي بقيت من دون مدافعين، فأشعل الإسرائيليون النار فيها فرجع يشوع مع باقي الجنود ودخلوها وذبحوا أهلها وكل مواشيها تماماً كما حصل في أريحا وعلّق ملك عاي على شجرة بشكل مخزٍ. وصل خبر المذبحة إلى مدينة جبعون القريبة، فأرسل الجبعونيون إلى يشوع يطلبون الرحمة متذرعين أنهم ليسوا من السكان الأصليين _أي ليسوا ممن أمر “الرب” بذبحهم_ ولما علم يشوع كذبهم حكم عليهم أن يكونوا محتطبين وسقاة لبني إسرائيل: 27وَجَعَلَهُمْ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مُحْتَطِبِي حَطَبٍ وَمُسْتَقِي مَاءٍ لِلْجَمَاعَةِ وَلِمَذْبَحِ الرَّبِّ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ. (يشوع 9: 27).
دبّ الذعر في قلوب ملوك كنعان وخافوا، فتحالفوا للقضاء على يشوع، فشكلوا ائتلافاً عسكرياً كنعانياً ضمّ ملك أورشليم (القدس) وملك حبرون (الخليل) وملك يرموث وملك عجلون وملك لخيش، عسكر هذا التحالف الكبير قرب جبعون، ولكن علم يشوع بدهائه وحنكته العسكرية بالأمر وظلّ يزحف طوال الليل من وادي الأردن وفاجأ التحالف العسكري وقضى عليه بضربة خاطفة فهربت القوات الكنعانية إلى حافة حورون وأثناء هروبهم أمطرهم الرب بحجارة عظيمة من السماء (هذه المعجزة الثالثة): 11وَبَيْنَمَا هُمْ هَارِبُونَ مِنْ أَمَامِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي مُنْحَدَرِ بَيْتِ حُورُونَ، رَمَاهُمُ الرَّبُّ بِحِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى عَزِيقَةَ فَمَاتُوا. وَالَّذِينَ مَاتُوا بِحِجَارَةِ الْبَرَدِ هُمْ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالسَّيْفِ. (يشوع 10: 11)، فمالت الشمس إلى المغيب لكن الإسرائيليين لم ينتهوا من الذبح بعد فتوجه يشوع إلى الرب طالباً وقف حركة الشمس حتى لا تغيب كي ينجزوا المهمة كما يجب: 13فَدَامَتِ الشَّمْسُ وَوَقَفَ الْقَمَرُ حَتَّى انْتَقَمَ الشَّعْبُ مِنْ أَعْدَائِهِ. أَلَيْسَ هذَا مَكْتُوبًا فِي سِفْرِ يَاشَرَ؟ فَوَقَفَتِ الشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَلَمْ تَعْجَلْ لِلْغُرُوبِ نَحْوَ يَوْمٍ كَامِل. (يشوع 10: 13) (المعجزة الرابعة).
أعاد الكنعانيون تنظيم تحالف جديد برئاسة ملك حاصور واشتبكوا مع الإسرائيليين في معركة مفتوحة (أي في الحقول) في الجليل وفُتحت حاصور المدينة الأكثر أهمية في كنعان وأُشعلت فيها النيران وأُحرقت، وبهذا الانتصار سقطت “الأرض الموعودة” كلها بيد الإسرائيليين من الصحراء الجنوبية إلى القمة المثلجة من جبل حرمون في الشمال واستعدّ بنو إسرائيل لتقسيم الأرض لأنها ميراثهم كما وعد الرب.
تقييم الرواية التوراتية
كما الروايات التوراتية جميعها، كشف علم الآثار عن تناقض كبير جداً بين ما ورد في التوراة وبين واقع الحال للمدن الكنعانية خلال حقبة الغزو المزعوم لبلاد كنعان نهاية عصر البرونز المتأخر([10])، من المعلوم بحسب الأدلة الآثارية المثبتة أن هناك جماعة يطلق عليها إسرائيل([11]) أقامت في مكان ما من بلاد كنعان عام 1207 ق. م، وبالإطلاع على الخريطة الجيوسياسية والعسكرية لبلاد كنعان نستخلص أن قيام تلك المجموعة بذلك الاجتياح الخاطف أمر مستبعد تماماً واحتمال حصوله أصلاً بعيد كل البعد. (Finkelstein, Israel)
تتحدث التوراة عن المدن الكنعانية كممالك حصينة تحيط بها الأسوار الدفاعية ويقوم بحمايتها جنود، وفيها الكثير من المقتنيات الثمينة من ذهب وفضة وغيرها من الأواني المعدنية، لكن المعطيات الآثارية والنقوش والمراسلات تشير إلى العكس تماماً، فهناك عدد وافر من النصوص المصرية التي تعود للعصر البرونزي المتأخر تتناول الشؤون الكنعانية على شكل رسائل دبلوماسية وقوائم للمدن المفتوحة ومشاهد للحصارات نجدها على جدران المعابد وسجلات الفراعنة المصريين وحتى في التراتيل الدّينية، أكثر تلك الرسائل تفصيلاً حول أحوال كنعان في تلك الحقبة رسائل تل العمارنة([12]) وهي جزء من مراسلات دبلوماسية وعسكرية لعاهلين مصريين قويين هما أمنحوتب الثالث وابنه أخناتون اللذين حكما مصر خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أُرسلت إلى مصر من ملوك أقوياء كالحثيين في الأناضول وملوك بابل، لكن أكثر تلك الرسائل من ملوك المدن الكنعانية الذين لم يكونوا سوى تابعين لمصر (بحسب الرسائل)، نذكر منهم ملوك أورشليم (القدس)، شكيم (نابلس)، حاصور، مجدو، لخيش، المهم ما كشفته تلك الرسائل أن كنعان لم تكن سوى “مقاطعة” مصرية تقع مباشرة تحت سلطتها الإدارية. كانت “العاصمة” الإقليمة المصرية تقع في غزة وانتشرت الحاميات المصرية في أرجاء البلاد كافة ، ومع ذلك وكما سبق أن ذكرنا في رواية (التوراتية) الاجتياح الإسرائيلي للمدن الكنعانية لا نجد فيها أي ذكر لوجود قوات مصرية خارج مصر ولم تأتِ على ذكرهم في كل الحروب التي خاضها يشوع، في حين تشير الاكتشافات الآثارية أن المصريين أولوا عناية خاصة في حماية المدن الكنعانية([13])، والمثير المستغرب أن أعمال التنقيب كشفت أن المدن الكنعانية في تلك الحقبة لم تكن على شاكلة المدن التي عُرفت في المرحلة اللاحقة حتى أن ملوكها لم يكونوا أقوياء بل أشبه بحكام محليين، فهي مراكز إدارية أكثر منها ممالك بل مراكز سكن للحكام أو الملوك المحليين وأسرهم والموظفين الإداريين والفلاحين يعيشون في الغالب في قرى متناثرة، فالمدينة الكنعانية النموذجية كانت قصرًا ومعبدًا وبضعة أبنية عامة ولا يوجد أسوار دفاعية، إذا؛ً المدن الكنعانية التي تصفها التوراة بالحصينة والمنيعة لم تكن محمية أصلاً لأن هذه المهمة كانت على عاتق الحاميات المصرية، وربما السبب الآخر لعدم بناء تحصينات هي كلفتها العالية أي أن السبب اقتصادي، فالحماية المصرية لم تكن مجانية بل لقاء ضرائب مفروضة، وللإضاءة على هذا الموضوع أورد بعضاً مما ذكرته رسائل تل العمارنة مثلاً ملك أورشليم (القدس) أرسل إلى الفرعون طالباً منه الدعم بخمسين رجلاً لحماية الأرض، ورسالة أخرى من ملك مجدو يطلب من الفرعون المساعدة بمئة جندي لحماية المدينة من هجوم محتمل لجاره العدواني ملك شكيم (نابلس). (Wright, G. E)
نستنتج من العديد من الإشارات سواء أكانت أدبية أو أثرية أن كنعان كانت خاضعة بشدة للسيطرة المصرية خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد أكثر من أي وقت مضى، فحين تحصل القلاقل والنزاعات في كنعان كان الجيش المصري يعبر من سيناء بكل سهولة ويفرض سيطرته على السكان الثائرين أو المتمردين، والمدن المذكورة في التوراة لم تكن غير مجمع سكني للحاكم (الملك) المحلي المنصّب من قبل الفرعون ويدفع له الجزية مقابل الحماية، ولم يكن له حقّ التصرف بأي شيء سوى رعاية المصالح المصرية ورعاية شؤون مملكته وتقديم الطاعة والضرائب للحاكم الفعلي المصري (Kaufman, y.)، بمعنى آخر لم تكن “الممالك” الكنعانية خلال عصر البرونز المتأخر سوى “حديقة خلفية” لمصر ولنظامها الإداري الصارم وتحت حمايتها العسكرية. بما أن سفر يشوع يعكس بدقة جغرافية أرض فلسطين _وهذا الأمر لا يؤكد أي شيء فأسماء تلك الأماكن معروفة جيداً زمن تدوين التوراة المتأخر عن زمن حصول أحداثها_ كما أن مسيرة “حملته” تتبع تسلسلاً منطقياً، لذلك بذل العلماء “التوراتيون” كل جهد في سبيل محاولة إثبات رواية الغزو الإسرائيلي من خلال مطابقتها مع الأدلة الآثارية ومطابقة المواقع التوراتية مع المواقع الكنعانية المعروفة، يأتي في مقدمتهم العالم([14]William Foxwell Albright ( من جامعة Johns Hopkins – Baltimore – أمريكا، فاختار هؤلاء العلماء بعض المواقع التي يمكن مطابقتها مع المواقع المذكورة في الرواية التوراتية وبدأوا أعمال التنقيب بحثاً عن شواهد كالأسوار الساقطة أو شواهد أخشاب محترقة أو آثار دمار شامل، فكانت أكثر أعمال Albright شهرة جرت بين 1926-1932م في التل المسمى تل بيت مرسيم جنوب مدينة (حبرون) الخليل وربطه بمدينة “دبير” التي وردت في رواية الغزو الإسرائيلي: 38ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ إِلَى دَبِيرَ وَحَارَبَهَا، 39وَأَخَذَهَا مَعَ مَلِكِهَا وَكُلِّ مُدُنِهَا، وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ وَحَرَّمُوا كُلَّ نَفْسٍ بِهَا. لَمْ يُبْقِ شَارِدًا، كَمَا فَعَلَ بِحَبْرُونَ كَذلِكَ فَعَلَ بِدَبِيرَ وَمَلِكِهَا، وَكَمَا فَعَلَ بِلِبْنَةَ وَمَلِكِهَا. (يشوع 10: 38-39)، على الرغم من مطابقة الموقع إلا أن هذا الاكتشاف ظلّ معرضاً للنقد العلمي وإن كان لا يخلو من أهمية تاريخية، وذلك لأسباب سترد في ما يأتي حيث كشفت التنقيبات هناك قرية بسيطة ليست ذات أهمية وغير محصنة بأسوار دمرت خلال عصر البرونز المتأخر، فبدا هذا دليل على تاريخية الرواية التوراتية.
كما كشفت التنقيبات في القرية العربية بيتَين Beitin ومطابقتها مع المدينة التوراتية بيت إيل شمال (أورشليم) ودمرت أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد (عصر البرونز المتأخر)، طابق العلماء بينها وبين مدينة لوز الكنعانية التي دمرها الإسرائيليون أيضاً، كما وجد في التل المسمى تل الدوير Tell Eduweir وتمت مطابقة موقعه مع المدينة التوراتية لخيش آثار مدينة دمرت خلال عصر البرونز المتأخر.
أما مدينة حاصور العظيمة هي رأس المدن بحسب التوراة: 10ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ، لأَنَّ حَاصُورَ كَانَتْ قَبْلاً رَأْسَ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ. (يشوع 11: 10)، كشفت التنقيبات التي قام بها العالم الآثاري اليهودي Yadin, Yegael)) عام 1956 م عن مدينة كبيرة وتمت مطابقة موقها مع موقع التل الضخم المسمى تل الوقاص وهي كانت بالفعل أكبر المدن في عصر البرونز المتأخر ودمرت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
بقيت الأمور على هذا المنوال طوال القرن العشرين المنصرم فبدا علم الآثار مؤكداً للرواية التوراتية، لكن “لسوء” الحظ سرعان ما انفرط عقد ذلك الإجماع العلمي في النهاية بناء على علم الآثار وما أظهرته أعمال التنقيب والنصوص الآثارية، فالسؤال البسيط الذي يطرح نفسه هل يمكن للحاميات المصرية المنتشرة في أرجاء البلاد كافة أن تقف متفرجة تشاهد مجموعة من (المستعبَدين) في مصر تعيث فساداً وخراباً ودماراً في البلاد من دون أن تحرك ساكناً؟ السؤال الآخر كيف يمكن للسجلات الحربية المصرية التي لم يغب عنها أي تفصيل عسكري حتى طلب 50 رجلاً لحماية الأرض أن يغيب عنها توثيق تلك المعارك “العظيمة” التي خاضها يشوع في “الخاصرة الرخوة” للإمبراطورية المصرية؟ هذا من جهة، من جهة أخرى أكدت الأدلة الآثارية والنصوص والسجلات للقوى العظمى في حينه أنه مع نهاية عصر البرونز المتأخر اجتاحت شعوب أطلق عليها “شعوب البحر” الشرق بما فيه بلاد الشام أي المنطقة الكنعانية وتسببت بدمار شامل فأحرقت المدن بشكل عنيف، كان من نتائجها تضاؤل السيطرة المصرية والحثية على المشرق عموماً، وهذا الوضع الجديد أتاح لآخرين فرصة تأدية دور على هذا المسرح وهم من أطلق عليهم “شعوب البحر”([15])، أشارت النقوش والأدلة الآثارية بشكل خاص إلى مستوطنات أقاموها في فلسطين جنوب كنعان منها عسقلان، أشدود، الجت، عقرون وغزة، بالإضافة إلى عكا (وفلستيا) وأماكن أخرى فضلاً عن مواقع داخلية. (Zekerman, Dothan)
ليس هذا فحسب، بل انهارت الإمبراطورية الحثية، ودمرت أوغاريت، وتلاشت الحضارة المسينية، وعلى المنوال نفسه سقطت الممالك الكنعانية، وانتهى العصر الذهبي للإمبراطوريات وأصبح ذكرى وأثراً بعد عين، وتحولت إلى أسطورة خلال القرن الثامن قبل الميلاد في كتابات هوميروس وهسيودوس (Cline, H. Eric).
وهنا لا بد من طرح سؤال مفاده كيف يمكن لستماية ألف عبد تاهوا لأربعين عامًا في الصحراء، رجالًا ونساء وأطفالًا أن يتحولوا بلحظة إلى محاربين عباقرة في علوم الحرب التي لم يختبروها يوماً وهم العبيد والبنائين والرعاة، فيدخلون قرى حصينة منيعة يحميها جيش أعظم إمبراطورية فيهزمون الجنود ويهدمون الأسوار، ثم يقيمون مملكة لا يرفّ لها جفن أمام عظمة مصر في الجنوب وجبروت الحثيين في الشمال؟ بناء على ما تقدم، ماذا يقول علم الآثار في هذا الخصوص؟ ففي حالة مدينة أريحا التي تهاوت أسوارها الحصينة بالنفخ في المزامير ثم أحرقت بالنار وذبح أهلها، لم يتم العثور على أي أثر لأي مستوطنة بحسب الوصف التوراتي خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل دلت على آثار أقدم تعود للقرن الرابع عشر قبل الميلاد قامت عليها مستوطنة صغيرة وبسيطة وفقيرة وغير محصنة ولا يوجد أي دليل على التدمير أو الحريق. أظهرت أعمال االتنقيب كذلك أن المدينة دمرت في عصر البرونز المتوسط حوالى 1560 ق. م، ولم يُعاد بناؤها خلال البرونز المتأخر فما وجد من كسر فخارية أشارت إلى إعادة السكن فوق تل المدينة لحقبة محدودة خلال البرونز الوسيط لتنتهي هذه الدلائل السكنية مع نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد ومن ثَمَّ يخلو الموقع من أي دليل على الحياة فيه، ما يعني بالنتيجة أن السكن توقف نهائياً في الموقع قبل قرن على أقل تقدير من التاريخ المفترض لغزو الإسرائيليين. (Kenyon, Kathleen (1985))
في ما خص مدينة عاي التي اقتحمها يشوع بخطته الطروادية العبقرية، لقد طابق العلماء موقع خربة التل مع الموقع القديم لمدينة عاي، ويقول عالم الآثار اليهودي Judith Marquet Krause في هذا الخصوص وُجدت بقايا كثيرة لمدينة قديمة وكبيرة تعود لعصر البرونز المبكر (3000-1950 ق. م.) أرّخها قبل ألف سنة من انهيار كنعان في العصر البرونزي المتأخر، بل لم يتم اكتشاف كسرة فخار واحدة تعود لعصر البرونز المتأخر، أي كما أريحا لم يكن هناك استيطان في عاي في عصر البرونز المتأخر.
ماذا إذاً عن مدينة جبعون التي سخّر يشوع أهلها كمحتطبين وسقاة للإسرائيليين؟ هنا أيضاً أجمع العلماء أن موقع قرية الجب حالياً (شمال القدس) هو موقع جبعون التوراتية المفترض، كشفت التنقيبات هناك عن بقايا من عصر البرونز المتوسط والعصر الحديدي من دون أي أثر لعصر البرونز المتأخر، والنتيجة نفسها كان كشفها التنقيب في ثلاث قرى جبعونية أخرى (شفيرة، بيروث، كريات جياريم). (Finkelstein, Israel)
كما كشف المنقبون عن آثار دمار شامل لمدينة حاصور خلال عصر البرونز المتأخر أرجعه عالم الآثار اليهودي Yadin, Yegael)) إلى حوالي 1230 ق. م، فيما قال منقّب يهودي آخر (Mosheh Coshavi) لا يمكن تأريخ هذا الدمار إلى ما بعد 1275 ق. م، ويدعم هذا الرأي عالمة الآثار والمنقّبة (Kenyon, Kathleen) ومعظم علماء الآثار في فلسطين وهذا يعني في النتيجة أننا لا نزال خارج مسرح التاريخ المفترض لغزو الإسرائيليين. (Kenyon, Kathleen (1978))
لنلقي نظرة على الأثر الأول الذي حمل كلمة “إسرائيل” أي نصب الفرعون مرنبتاح العام 1207 ق. م، وهو النقش الذي يمثل انتصارات الفرعون وتدميره مدناً كثيرة في كنعان نهاية البرونز المتأخر ويسمي الأماكن التي دمرها ويذكر أسماء بعض القبائل التي حسم أمرها في المعركة، (الترجمة عن فراس السواح):
انطرح الأمراء على الأرض صارخين: السلام
لا ترى رأساً بين الساجدين التسعة
حيث ليبيا صارت خراباً، وحاتي هدأت خلف حدودها
أما كنعان فقد آلت إلى كل محنة وبلية
فأشقلون قد انهارت
وغزة قد محيت من الوجود
إسرائيل صار خراباً وقطع دابره
حورو صارت أرملة أمام هجوم مصر.
خضع هذا النص لنقاش مستفيض بين الباحثين محاولين تحليل الرسائل وفهمها، تلك التي أراد الفرعون توجيهها لمن يعنيهم الأمر، وقد أشار الباحثون “المحافظون” في ما يتعلق بذكر “إسرائيل” أن الفرعون يتحدث عن جماعة سفر الخروج الذين غزو كنعان مع يشوع، غير أن أكثر الباحثين “المعتدلين” لا يوافقون على هذا الرأي لأنه يعني أن جماعة الخروج توطدوا أواخر عصر البرونز في كنعان وصار لهم كيان سياسي قوي وحاضر ومؤثّر في المنطقة إذ يذكره الفرعون في نص انتصاراته، وهذا يتنافى تماماً مع النتائج التي أظهرتها أعمال البحث والتنقيب في كامل المنطقة تقريباً حتى الآن، من هذا المنطلق صُرف النظر عن فكرة مطابقة “إسرائيل” نقش مرنبتاح مع جماعة الخروج لعدة فرضيات.
ويركز الباحث (Lowrance Stager) في دراسته للنقش العام 1985 م على السطرين الأخيرين منه، فذِكر “إسرائيل في السطر الأول ومن ثم ذِكر حورو في السطر الثاني يفهم من ذلك أن الكلمتين وردتا بصيغة تبادلية، فكلمة حورو معروفة في النصوص المصرية العائدة لتلك الحقبة تشير إلى منطقة سوريا وفلسطين أو أجزاء منها إذ وردت في النص وفوقها إشارة تعريف تدل على أنها أرض أي بقعة جغرافية محددة، أما الإسم إسرائيل وردت وفوقها إشارة تعريف تدل على أنه شعب، يضيف Stager أن النص أراد بكلمة حورو الإشارة إلى الجزء الذي شمله غزو مرنبتاح من فلسطين وهي مناطق أشقلون وجازر ويانوم وغيرها، وأما ذكر النص كلمة إسرائيل فللإشارة إلى الشعب الساكن في تلك المناطق قبل قدوم جماعة الخروج، ويستعين الباحث في تحليله بمشهد مصور على جدران معبد الكرنك يمثل إحدى معارك مرنبتاح الآسيوية ويبرهن أن المشهد يصور معركته في فلسطين ضد المذكورين في النص (إسرائيل) ويرى أنهم كنعانيون من خلال أزيائهم واسلحتهم. (Callaway, Joseph)
بالإضافة إلى ما سبق، هناك وجهة نظر تلقى اليوم مزيداً من الدعم تقدم بها الباحث (Miller, James Maxwell) مفادها أن الإسم “إسرائيل” في نصب مرنبتاح يشير إلى اتحاد عدة قبائل كنعانية أقامت في الهضاب المركزية من كنعان وهي قبائل إفرايم ومنسّى وجلعاد وبنيامين، تجمعت هذه القبائل تحت قيادة غير مباشرة لأبرزها وهي قبيلة أفرايم مشكّلة نواة إسرائيل اللاحقة التي اتخذت شكلها الإثني والسياسي إبان المملكة الموحدة([16])، ويلاحظ Miller أن سفر القضاة اللاحق يقدم تفصيلات أوسع حول مسألة أصول إسرائيل في كنعان ويركز على قبيلة أفرايم والقبائل الثلاث الأخرى، وبما أن نصب مرنبتاح يسبق زمنياً عصر القاضية دبورة التي استطاعت توسيع اتحاد القبائل ليصبح عشرة بدل أربع وهي القبائل التي بدأ النص التوراتي يطلق عليها إسم إسرائيل فإن إشارة نقش مرنبتاح إلى إسرائيل هي إشارة إلى القبائل الأربع فقط. وعند قيام المملكة الموحدة في ما بعد في مناطق هضاب فلسطين بقيادة شاول ومن بعده داود فإن الإتحاد القبائلي إجتمع ليشمل اثنتي عشرة قبيلة بما فيها يهوذا الجنوبية التي كانت حتى ذلك الوقت خارج الإتحاد الشمالي، هذه القبائل كانت ذات أصول ومشارب ومعتقدات دينية متجانسة تضم بين ظهرانيها جماعة من الهاربين من أعمال السخرة في مصر، تقاربت تدريجياً في بوتقة ومعتقد ديني واحد، وباختصار أكثر، فإن الباحث يرى أن إسرائيل قد نشأت في كنعان ولم تأتِ إليها موحدة من الخارج، إستغرقت عملية توحيدها ما يناهز القرنين.
الخاتمة
إن الإحداث التوراتية تتركز في قلب كنعان (فلسطين)، لكن ولكي نفهم الأحداث التي جرت في تلك المنطقة نهاية عصر البرونز المتأخر علينا أن ننظر لما هو أبعد من ذلك أي أبعد من حدود كنعان بمعنى آخر كامل منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط، فقد كشفت الحفريات في اليونان وتركيا ومصر وسوريا أن المنطقة بكاملها شهدت أحداثاً مهولة وحروباً مدمرة وسقوطاً اجتماعياً كان انتشاره واسعاً خلال السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر قبل الميلاد وبداية عصر الحديد أي المرحلة الانتقالية ما بين ثقافة عصر البرونز وثقافة عصر الحديد إذ مرّ العالم بمرحلة إنتقالية جوهرية كان من أهم نتائجها تدمير ممالك عصر البرونز المتأخر وشكلت بداية لظهور عالم جديد، فكانت من أكثر المراحل المعروفة في التاريخ فوضوية فسقطت الامبراطوريات القديمة وحلت محلها قوى جديدة. في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد كانت هناك قوتان تحكمان المنطقة، في الجنوب كانت مصر تحكم بعظمتها في عهد رمسيس الثاني وتسيطر على كنعان بما فيها لبنان وجنوب سوريا وتسيطر على ليبيا غرباً، انشغلت مصر خلال هذه الحقبة بتشييد المباني الضخمة والأعمال العمرانية الكبيرة ومارست أعمالاً تجارية مع شعوب البحر الأبيض المتوسط فيؤمها التجار من جزيرتي كريت وقبرص وكنعان وبلاد الحثيين حاملين معهم الهدايا لفرعون، وتقوم بعثات مصرية باستغلال مناجم النحاس في سيناء والنقب، إذ لم يسبق للامبراطورية المصرية أن كانت بتلك القوة والإتساع كما كانت عليه في ذلك الوقت، ويكفي للشعور بتلك العظمة خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد إلقاء نظرة على معبد أبو سنبل في النّوبة أو المعابد المشهورة في الكرنك والأقصر. وفي الشمال كانت الامبراطورية المسيطرة الأخرى في المنطقة في بلاد الأناضول الامبراطورية الحثية، وكانت تحكم إنطلاقاً من عاصمتها حتوتشا (شرق أنقرة العاصمة التركية الحالية)، وقد سيطر الحثيون على آسيا الصغرى وشمال سوريا، بلغت الامبراطورية الحثية شأناً عظيماً في العمارة والأدب وفنون الحرب، ويكفي أيضاً للشعور بعظمة تلك الامبراطورية معاينة التحصينات الهائلة للعاصمة حتوتشا ومعبدها المحفور في الصخر.
بناء عليه فإنّ الحدود الفاصلة بين الامبراطوريتين العظيمتين تقع في سوريا، ونظراً للتنافس بينهما كان لا بد أن تقع الحرب وبالفعل هذا ماحدث بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، فالتقى الجيشان العظيمان في منطقة قادش غرب سوريا عند نهر العاصي، الجيش الحثي بقيادة مواطاليس والجيش المصري بقيادة رمسيس الثاني، لدينا سجلات من كلا الطرفين كل منهما يدعي الغلبة على الآخر، والظاهر أن الحرب انتهيت من دون أن يحقق أي منهما النصر فكان عليهما التوصل إلى تسوية فوقّع الطرفان “معاهدة سلام”. مع هذا التطور الجديد في المنطقة، أعطيت الفرصة لقوة ثالثة لاستغلال هذا الوضع، لم تكن قوة هذا الطرف الثالث ناتجة عن خبرة عسكرية عظيمة بل من خلال المهارات البحرية، إنها مهارة العالم المسيني([17])، ومن غير المعروف ما إذا كان للعالم المسيني الجديد إدارة مركزية واحدة أو عدة مراكز إدارية، أدت قبرص([18]) دوراً مهما كونها غنية بمناجم النحاس خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد وبوابة للتجارة في المشرق. مع حلول العام 1130ق. م. واقعاً جديداً أرخى بظلاله على المنطقة وتسبب بانهيار سياسي واقتصادي واجتماعي، فقدت فيه مصر معظم أراضيها وانهارت المملكة الحثية وتحولت عاصمتها إلى أنقاض وتحول العالم المسيني إلى ذكرى وتوقفت تجارة النحاس في قبرص، بالنسبة إلى كنعان دمرت أوغاريت في الشّمال عن بكرة أبيها وأُحرق مرفأها العظيم على البحر المتوسط ودمرت المدن الكنعانيّة الداخليّة المزدهرة كـ “حاصور ومجدو” وتحولت إلى أكوام من الخراب.
ما الذي حدث؟ بعد الكثير من البحث والتدقيق ترسخت لدى العلماء قناعة مفادها أن السبب الرئيس وراء ذلك التغيير هو الغزوات العنيفة والمدمرة التي شنتها مجموعات “غامضة” أطلقوا عليها شعوب البحر جاءت من الغرب من البر والبحر دمرت بعنف كل ما وجدته في طريقها، ورد ذلك في النصوص الأوغاريتية والمصرية أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، نذكر أحد النصوص الذي وجد في خرابات أوغاريت رساله وجهها آخر ملوك أوغاريت أمورابي Ammurapi إلى ملك آلاشيا (قبرص) حوالى سنة 1185 ق. م، يشكل النص شهادة مثيرة عن الوضع في ذلك الوقت يصف كيف وصلت مراكب العدو المسعورة: وأشعل العدو النار في المدن، ودمّر، وعاث فسادًاً، كانت قواتي في بلاد الحثيين، ومراكبي في ليسيا، والبلاد تركت لأدواتها الخاصة، وفي نصٍ مماثل للملك الحثي العظيم في رسالة في الحقبة نفسها إلى ملك أوغاريت يعرب عن قلقه بشأن: حضور مجموعة من شعب البحر تدعى شيقالايا الذين يعيشون على المراكب.
بعد عشر سنوات أي في العام 1175 ق. م. عمّ هذا الوضع مناطق الشمال فدمرت الإمبراطورية الحثية وآلاشيا وأوغاريت، غير أن مصر بقيت على عظمتها مصممة على الدفاع المستميت، هذا ما نجده في النصوص التذكارية لرمسيس الثالث في معبد مدينة هابو Habu يحكي عن مؤامرة أجنبية تهدف إلى تدمير البلاد المستقرة شرقي البحر الأبيض المتوسط: حاكت البلدان الأجنبية مؤامرة في جزرها، إنه لا يمكن لأي أرض ان تقف أمام أسلحتهم، كانوا يتقدمون باتجاه مصر، بينما كان اللهب قد تم إعداده أمامهم، ضمّ اتحادهم الفلسطينيين، التجيركيين، الشيكليشيين، الدنينيين، الوششيين، الذين اتحدت أراضيهم، لقد وضعوا أيديهم على الأراضي بقدر ما تتسع له دائرة الأرض، وقالوا بقلوب واثقة مطمئنة خططنا ستنجح. وفي نصٍ آخر أكثر تعبيراً: أولئك الذين وصلوا لحدودي، لم تنته بذرتهم فحسب، بل انتهت قلوبهم، وأرواحهم إلى أبد الآبدين، أولئك الذين تقدموا مع بعضهم عبر البحر، كان اللهب الكامل أمامهم، سُحبوا وأُحيط بهم، وطُرحوا على الشاطئ، ثم قتلوا، وجُعلوا أكواماً من ذيلهم لرؤوسهم.
الفلسطينيون الذين ورد ذكرهم في نص رمسيس الثالث كانوا جزءاً من شعوب البحر، والدليل الواضح يأتي من فلستيا Philistia (جنوب فلسطين)، فكشفت عن اثنين من المراكز الفلسطينية أشدود وعقرون، فقد كانت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد مراكز كنعانية مزدهرة تعيش تحت السيطرة المصرية، دمرت أشدود وأحرقت بالنار أيام رمسيس الثالث، فأسس المهاجرون الفلستيون مدنهم الجديدة على الخراب في القرن الثاني عشر قبل الميلاد يتضح ذلك من خلال استبدال المظاهر العمرانية المحلية وأنماط الفخار الكنعاني ذو التأثير المصري بعناصر جديدة تشبة عمارة وفخار بحر إيجة. (Finkelstein, Israel)
أما في الشمال، فأُحرقت حاصور وقطعت رؤوس تماثيل الآلهة في القصر الملكي، وعلى السهل الساحلي دمرت مدينة أفيق بنار عظيمة وعثر في الحطام السميك على لوح مسماري يتحدث عن “صفقة” من الحنطة بين أوغاريت ومصر، وفي الجنوب أحرقت المدينة الكنعانية البارزة لخيش وهجّر سكانها وعثر بين الأنقاض على قطعة معدنية تحمل اسم الفرعون رمسيس الثالث، وفي وادي يزرعيل الغني أحرقت مجدو ودفن قصرها تحت ستة أقدام من الطابوق وعثر في خرابها على قاعدة تمثال يحمل إسم الفرعون رمسيس الرابع (1143-1136 ق. م.) ما يشير إلى تدمير المدينة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر قبل الميلاد. إن تدمير المجتمع الكنعاني لم يتم دفعة واحدة بل استمر زمناً طويلاً ربما على مدى 100 عام، يستدل على ذلك من خلال الأنواع الفخارية التي وجدت في أنقاض حاصور عصر البرونز المتأخر فهي لا تشبه الأشكال المميزة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد إذ ربما تكون دمرت في وقت سابق، في أفيق يحمل اللوح المسماري في طبقات الدمار أسماء مسؤولين في أوغاريت ومصر يمكن تأريخها حوالى 1230 ق. م.
بعد كل ما تقدم يذكر المحرر التوراتي في رواية غزو كنعان في سفر يشوع أن المدن الأربع (حاصور، أفيق، لخيش ومجدو) تم تدميرها خلال الغزو الإسرائيلي لبلاد كنعان بقيادة يشوع، لكن الأدلة الآثارية _كما ذكرنا_ تشير إلى أن تدمير تلك المدن حدث على مدى أكثر من قرن ربما بسبب غزوات شعوب البحر العنيفة التي سبق ذكرها أو حروب داخلية، ولكن على الأرجح لم تقم به حملة عسكرية دفعة واحدة.
بات معلوماً أن أسفار التوراة “الإسرائيلية” جرى تركيبها على مدى قرون عدة من قبل محررين توراتيين وهذا ما يؤكده العالم الألماني (Alt, Albrecht) (متخصص في التوراة) إذ يشير إلى أن عدداً من القصص في سفر يشوع لم تكن أكثر من تقاليد، أو بمعنى آخر كانت أساطير تحاول تفسير كيف وقعت الأحداث الكبيرة في غابر الزمن. وهي تشبه إلى حد كبير الأساطير الرافدية التي سعت إلى وضع تفسير للتكوين والخلق مستندة على الخيال الخصب، لكن أياً من أحداثها لم يحصل في الواقع بل هي مجرد فضول لتفسير أسباب ما الات الأمور بما يتناسب مع الطموحات والأماني والعنصرية القومية _المفتعلة أحياناً_ فأحداث سفر يشوع والقصص الغريبة لغزو كنعان لم تتخط بمفاعيلها مخيلة المحرر التوراتي، فما حدث في سفر يشوع شيء وما هو واقع على الأرض بالدليل العلمي المادي شيء مختلف كلياً.
سوريا وفلسطين خلال عصر البرونز (السواح، فراس)
فلسطين خلال عصر الحديد (السواح، فراس)
مراجع البحث
1-Garbini, G. (1988) History and Ideology in Ancient “Israel“, London.
2-Del Medico, H. A. (1950) La Bible Cananenne, Payot
ترجمة جهاد هواش وعبد الهادي عباس
3-Finkelstein, I. & Silberman, N. A. (2001). The Bible Unearthed Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of its Sacred Text, New York, London, Toronto, Sydney, Singapore. (ترجمة: سعد رستم، باحث ومترجم، حلب، سوريا)
4-Wright, G. E (1940) Epic of Conquest Biblical Archaeologist.
5-Kaufman, y. (1953) The Biblical Account of the conquest of Palestine.
6-Albright, W. F. (1939) The “Israelite” Conquest of Canaan In The Light of Archaeology Bulletin of the American School of Oriental Research 74.
7-Zekerman, D. (2004) Pottery Assemblages from Tel Minque-Ekron and Ashdod, BASOR.
8-Cline, H. E. (2015) 1177 B. C. The Year Civilization Collapsed, Princeton University Press.
9-Yadin, Y. (1979) The Transition from Semi-Nomadic to a Sedentary society in the Twelfth Century BCE, in: Cross, E. M. “Symposia Celebrating in Twenty-Fifth Anniversary of the Foundation of the American School of Oriental Research” (1900-1975), Cambridge.
10-Kenyon, K. (1985) Archaeology in the Holly Land. London.
11-Callaway, J. (2011) The Settlement in Canaan, In: Shanks, H. ed, “Ancient “Israel””, Prentice Hall.
12-Miller, J. M. (1986) A History of Ancient “Israel” and Judah, London.
13-Alt, A. (1968) Essays on Old Testament History and Religion, New York.
14- السواح، ف. (1995) آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي، دمشق.
* أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية كلية الآداب الفرع الخامس قسم الفنون والآثار.
[1]- السفر الثاني في التوراة أو العهد القديم، حيث يعرض رواية قصصية لكيفية خروج “الإسرائيليين” من مصر.
[2]– يروي قصتهم مع سيحون ملك الأموريين وطلبهم الإذن لعبور أرضه.
[3]– مجموعة من الناس ترتبط في ما بينها بعناصر مشتركة من قبيل الأصل، اللغة، الثقافة.
[4]– الأسطورة هي قصة في الغالب مقدسة يرتبط أبطالها بقوى غيبية تنسب للآلهة وأحيانا تكون آلهة أو مفوضة منها تقوم بأعمال خارقة يعجز عنها البشر، جزء من الأسطورة قد يكون حقيقة لكن في تفاصيلها خيال محض يسعى لتفسير الظواهر الكونية والخلق والوجود.
[5]– كنعان أو بلاد الشام تتضمن لبنان وفلسطين وجنوب سوريا وغرب الأردن.
[6]– بحسب الرواية التوراتية فإن إستعباد بني إسرائيل في مصر استمر 430 عاماً من قبل فراعنة مصر: 40وَأَمَّا إِقَامَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَقَامُوهَا فِي مِصْرَ فَكَانَتْ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً. (خروج 12: 40)
[7]– هو الصندوق الذي يحتوى الوصايا التي أنزلها “الرب” على موسى في جبل حوريب.
-[8] الحرم في المصطلح التوراتي يعني تقديم سكان المدينة قرباناً “للرب” مع مواشيهم وكل نفس حية.
-[9] “الرب” الذي يذبح ويحرق حتى المواشي ينزل الهزيمة “بشعبه المختار” من أجل ثوب وبعض الأمتعة!
[10]– تقسيم عصر البرونز: عصر البرونز المبكر 3000 – 1950ق. م/ عصر البرونز الوسيط 1950 – 1550ق. م/ عصر البرونز المتأخر 1550 – 1200ق. م.
[11]– نقش للفرعون مرنبتاح يوثّق انتصاره على تحالف الليبيين ويذكر إسرائيل بين المهزومين عام 1207 ق. م.
[12]– العاصمة التي أنشأها أخناتون (أمنحوتب الرابع) وتحتوي أرشيف ملكي مصري يتضمن المراسلات بين ملوك الحثيين وبلاد ما بين النهرين وآخرين أكثرها رسائل من ملوك وحكام كنعان من جهة والبلاط المصري من جهة أخرى، تتضمن حوالى 400 لوح موزعة في المتاحف حول العالم.
-[13] كانت الخط الدفاعي الأول بوجه الشعوب “الآسيوية” التي كانت تغزو مصر من وقت لآخر بحثاً عن الطعام، وأيضاً البوابة التي كانت تحتمل مصر أن يدخل منها الخطر الحثي.
-[14] عالم لغوي ومؤرخ وعالم آثار ميداني.
[15]– استعمل هذا المصطلح للدلالة على مجموعة من الشعوب الإيجية وربما من أصل جنوب إيطالي أقاموا في قبرص وجنوب شرق الأناضول ومناطق أخرى في المشرق والخليج الفارسي.
-[16] المقصود مملكة داود حوالى 1050 ق. م.
[17]– نسبة إلى مدينة مسينى جنوب اليونان.