إشكاليات الالتزام في منظار النّقد والخطاب والوظيفة
د. عليّ الأحمد([1])
مقدمة
تعاقبت إشكاليات الالتزام منذ بداية هذا القرن في ضوء المتغيرات والمستجدات، ومن خلال رصد الظواهر الفنيّة لمنحى الالتزام في الحركة الشّعريّة المتأثرة بالفكرة الالتزاميّة، يمكننا القول إنّ التّعبير عن قضايا العصر، مُقترنٌ بفكرة الالتزام التي بنيت على أرضيّة العلم والفن الأدبيّ المعاصر، والدّاعية إلى الانحياز لقضايا المجتمع ومشكلاته، فقضيّة الالتزام من الميادين المُهِمّة التي اهتمّ بها الشّعراء في الأدب العربي المعاصر، فالنّاقد العربيّ حدد دائرة الالتزام في القضايا الاجتماعيّة، وفي دائرة حرية التّعبير، وقضيّة الالتزام من القضايا القديمة، فهي حاضنة بجذورها في أعماق التّاريخ الإنسانيّ، يقول شوقي ضيف: “ليس في الالتزام ما يناقض فكرة الإبداع، والتّفرد، أو يناقض قِيم الجمال، والعناصر الشّعرية، وإنّما هو وعيّ، واقتناع، وإيمان برسالة الشّعر، ومسؤوليته في تطوير الحياة، أو تغيرها”([2]) إنّ الالتزام مطلوب في الأدب عامة وفي وظيفة الشّعر والنثر خاصة، فهو انفتاح على الحياة يوقظ فيك الإحساس بمن حولك، ويوطد العلاقة التي تربط بين الأدب والحياة، وبهذا يتحدد البحث الذي تحت عنوان “فردية الاتجاه في الأدب الملتزم وإشكاليّات الرؤية الفنيّة” خلال حِقبة زمنيّة معيّنة في هذا الميدان. لنصل إلى استقلاليّة ونتيجة إيجابيّة، ويبدو أنّ طه حسين يدعو إلى الحريّة المطلقة في الأدب ونقده([3])، ويرى أنّ “العلاقة بين الأدب والمجتمع هي علاقة طبيعيّة بعيدة من الإكراه، وهو يطالب بعدم إلزام الأديب بأيّ نوع من العقائد، والآراء المسبقة، ويشدّد على توفير الحريّة له حتى يكون قادرًا على الاختيار”([4]) لإبراز الالتزام والحريّة من خلال وظيفة الخطابة، ليُضفي على شعور الأديب والفنّان إحساسًا قويًّا بأهميّة الكلمة ومدى مسؤوليتها ودورها الفعّال، فالأديب والفنّان بإحساسه وشعوره يسعى دائمًا إلى ربط معاناته بواقعه الذي يعيشه، وأنّ الناقد الأدبيّ يتخذ موقعًا يستلهم منه فكرته ليستخرج منها أصوله النّقدية، ويفرضها على أدب قومه من صدق الشّعور، والجمال الفنيّ والأدبيّ في ميزان التّطور، هذه المفارقة بين خطابَيْ النّقد ووظيفة الشّعر العربيّين لمفهوم الالتزام الأدبي (commitment literary) الدّاعية إلى التّأمل في النّقد الأدبيّ المعاصر، فالشّعر الملتزم هو ابن العقل، والفكر هو دعوة الكلمات للأيادي لتحوّل الأشياء، وتستقبل الأجيال الأخرى.
ومن الرّاجح أنّ لفظة الالتزام لم تستعمل بمعناها المتداول اليوم إلا في أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن، أي حين لاح لدى أنصار حركة الفن للفن أنّ الشّعر قد يصبح لونًا من ألوان التّرف، مبتعدًا بذلك من معترك الحياة، هادفًا إلى الجمال بذاته، منقطعًا عن أيّ مسؤوليّة، ولكن عندما أصبح التّيار الواقعيّ التّجريبيّ يهيمن على الفنون الأدبيّة بعد الحربين العالميّتين، بات التشديد على الالتزام أمرًا طبيعيًّا إن لم نقل إنّه اتخذ صفة الحتميّة، في الالتزام من منظار القضايا الإنسانيّة الكبرى، كما أنّه من الثّابت في تاريخ النّقد الأدبيّ، لا تقويم للغنى والجمال خارج أي مبدأ فكريّ، أو موقف فلسفيّ معيّن، وبما أنّ الميدان العربيّ ليس بمنأى عمّا يحدث في غيره من البقاع ونتيجة الاحتكاك بالغربيّين، انتقل هذا المفهوم، أو هذه القضيّة مع غيرها من القضايا الأخرى التي تميَّز بها الشّعر الحديث خصوصًا، وبناء على ما سبق، يتناول هذا البحث القضايا الآتية: فردية الاتجاه في الأدب الملتزم وإشكاليّات الرؤية الفنيّة، إشكاليات النسبيّة في تقييم الفنون والمذاهب الأدبيّة، إشكاليات التّبعيّة والاستقلاليّة في الفن والأدب، الفن والأدب في ميزان التّطور والتقهقر، الالتزام من منظار القضايا الكبرى، إشكاليّة الالتزام والحرّيّة، الالتزام من خلال وظيفة الخطابة، إشكاليات الالتزام والعاطفة، فلسفة النّقد والالتزام، إشكاليّة الالتزام وتعريف الشّعر والنثر، والأدب عمومًا.
فرديّة الاتجاه في الأدب الملتزم وإشكاليات الرؤية الفنيّة
لم يعد الأدب الملتزم اليوم محتاجًا إلى تعريف، لأنّ المشكلة اليوم محصورة في ضَعف الرؤية الفنيّة والالتزاميّة عند بعض من يكتبون الشّعر والقصة من شباب الأدب! هذا الفريق يجب أن يفرق بين كلمة “أدب” وبين كلمة “ملتزم”، لأنّ الأدب “تعبير” والالتزام “اتجاه”. الأدب تعبير “فني” عن تجاربنا الدّاخليّة، وهي متفاعلة مع تجارف الآخرين، في نطاق شيء اسمه الشّكل، وشيء آخر اسمه المضمون، والالتزام اتجاه “اجتماعيّ” بهذا التّعبير نحو غاية معينة، كما يرى “أرسطو أنّ مَهَمَّة الشّاعر الحقيقيّة ليست في سرد الحوادث كما وقعت بالفعل، إنّما التنبؤ بما يمكن أن يقع”([5]) هي أن تتحول الكلمة إلى أداة من أدوات الكفاح في سبيل الجماعة، فالتّعبير إذًا مرتبط في مجاله التّأثيري بالفن، في حين يرتبط الاتجاه في المجال نفسه بالمجتمع، ومن هنا يجب أن نضع الحدود الفاصلة بين المفهوم الجديد للكلمتين! إنّنا نقرأ اليوم شعرًا ملتزمًا، ونقرأ قصصًّا يقول أصحابها أيضًا إنّها قصص ملتزمة، وهناك التزام كامل، هذا صحيح، ولكن ليس هناك فن كامل، ونقصد الفنّ الرّوائيّ الذي تصبح به القصة قصة، ونقصد الفن الشّعري الذي تصبح به القصيدة قصيدة. والذي لديهم كلّ القيم الاتجاهيّة، ولكن ليس لديهم كلّ القِيم الفنيّة، ولا يمكن أن يرتبط مفهوم العمل الفنيّ في القصة والقصيدة بمفهوم الاتجاه الاجتماعيّ من ناحية الوزن والتّقسيم، نعنيّ أن كلًا منهما سيتحول حتمًا إلى “كلام ملتزم” إذا ما اعتمدنا على الاتجاه وحده، وعجزنا عن الأداء التكتيكيّ المناسب، أو عن توفير تلك اللغة الخاصة بكل لون من ألوان الأدب، وهو الأسلوب، أو طريقة العرض التّعبيريّ الذي يتميز به كل فن من الفنون، وأصبح هذا الشّعر “يخوض في الميادين التي يخوضها الكتّاب، ويكافح ما يكافحه الكتّات بمقالاتهم، يندّدون، أو يحلّلون، أو يصفون، أو ينصحون”([6]). بعض شباب الشّعر في العراق، هم الذين وضعوا نقطة البَدء لهذه الظاهرة المنحرفة وحدّدوا خطّ السير، حتى انتقلت المشكلة بصورة إيحائيّة إلى بعض شباب الشّعر في مصر. نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتيّ، وبدر شاكر السيّاب. ويقابلهم هنا عبد الرّحمن الشّرقاويّ، وكمال عبد الحليم، وصلاح عبد الصبور، هؤلاء الذين أصبحت لغة الشّعر على أيديهم أشبه بلغة البرقيات الصحفيّة! ويمكن التأكد أنّ الاقتراض اللغويّ لا يكون هواية، أو رغبة، أو إرادة جامحة، فالكلام لا يقترض: إلاّ لأنّ الحاجة ماسّة إليه، حتى إنّ الكلمة بحدّ ذاتها في نطاق الجماعة “لا توضع إلاّ وقت طلبها، وهي استجابة لحاجة عملية، وإشارة إلى الشيء المدرك”([7])، في ضوء هذا الاتجاه الالتزاميّ النّاضج الذي يسيرون فيه، باستثناء بعض التّراوح في التّجربة الملتزمة بينهم، ولكن بعضهم ضحوا بلغة الشّعر في سبيل الالتزام، وهذه هي المشكلة، لأنّ كل فن من الفنون إذا فقد إطاره التّعبيريّ المميز، فإنّ الموضوعيّة فيه يستطيع أن يؤديها فن آخر، وقد يتاح له ذلك بصورة أكمل، أعني أن المضمون الشّعري مثلًا إذا عرض في سلسلة من التّركيبات النثريّة التي تخلو من اللفظة الموحيّة، فإنّه من الأفضل لهذا المضمون أن يعرض من خلال عمل قصصيّ ملتزم، لأنّ واجهة العرض القصصيّة تكون في هذا المجال أشبه بالشّاشة “البانوراميك”، وهذا يعني أنّ الكلمة وبالتالي اللغة، لا توضع إلاّ إذا كان لها وظيفة محددة في نطاقها الاجتماعي أولًا والفردي ثانيًا، وبهذا المعنى نستطيع القول “إنّ لكل لغة طريقها في تصوير العالم”([8])، وعلى هذا الأساس إنّها بنية ذهنيّة استدعتها تصوّرات الإنسان في لحظة تاريخيّة معيّنة. ما جدوى الشّعر الملتزم إذا كانت مقالة جيّدة في الخطابة، أو قصة ناضجة يمكن أن تغنيني عن “الملجأ العشرون” للبياتيّ، أو “المدينة التي غرقت” لنازك، أو “رسالة إلى ترومان” للشّرقاوي، أو “شنق زهران” لعبد الصبور؟! “ولا ريب في أنّ هذه النّزعة هي تفسير ما نراه من إيغال بعض الناشئين من الشّعراء في التطرّف، والاندفاع وقد ظنّوا أنّ الأوزان القديمة عاطلة عن القيمة، وتعالوا حتى على القواعد الشّعريّة التي رسخت عبر مئات من سنوات الشّعر واللغة. ولن يصعب على النّاقد المتزن أن يغفر لهؤلاء المتطرفين نزق أشطرهم ورعونة قوافيهم ما دام يدرك الأساس النّفسيّ للمبالغة التي سقطوا فيها”([9]). ولا بدّ للحافظ على لغة الشّعر، ذلك لأنّ أيّ قصة، أو أيّ مقالة مهما بلغت من اكتمال الأداء، لا تستطيع أن تغنيني مثلًا عن “مقدم الحزن” لنازك، أو عن “موت طفل” لصلاح عبد الصبور على الرّغم من تعصّبي للأدب الملتزم، بل “إنّ الأثر الفنيّ تتوقف أصالته ونبله على مدى إسهامه وتعمقه في الحياة، وكذلك الحياة الاجتماعيّة، ويرون أن هذا هو أساس الحركة الواقعيّة في الفن”([10]). مشكلة تتفرع منها مشكلة، هي مستقبل الشّعر العربيّ الملتزم، ونشفق على مصير هذا الشّعر إذا فهمنا أنّه اتجاه بغير فن متميز بلغته الخاصة. ومصدر هذا الاشفاق قام به شاعر مصري من قبل، وعجز عن أن يحفر في النّفوس ذلك المجرى العميق الذي يتدفق فيه الشّعر، حتى يبلغ مصبه في كل لسان، عجز على الرّغم من نزعته الالتزاميّة المخلصة، لأنّه فهم أن الشّعر اتجاه، فكتبه بلغة النثر، ولهذا فقد الاتجاه نفسه رسالته التأثيريّة، هذا الشّاعر الذي أعنيه هو الدّكتور أحمد زكي أبو شادي! وأترك الشّعر الملتزم لأعود إلى المشكلة نفسها في القصة الملتزمة، من خلال نموذج روائيّ ظهر في مصر لعبد الرحمن الشّرقاوي. هذه القصة الطويلة التي سماها كاتبها “الأرض”، والتي صور فيها كفاح رقيق الأرض ضد كل القوى المسيطرة على وجودهم الإنسانيّ، فقد فيها الاتجاه الملتزم أيضًا – مع إخلاصه العميق – رسالته التّأثيريّة الموجهة، فقدها لأنّ الكاتب اعتنى بالاتجاه أكثر ما اعتنى بالأصول التكنيكيّة في كتابة القصة، ومن هنا خرجت “الأرض” وهي أقرب إلى “الريبورتاج” الصحفيّ في طريقته وأسلوبه، منها إلى العمل الرّوائيّ بمقوّماته الفنيّة. إنّ الاتجاه وحده – مهما كان مخلصًا – في الشّعر والقصة خصوصًا “في هذه الحِقبة، … يجعل لأدبه معنى سياسيًّا عن قصد ووعي، لكي ينهض الأدب بواجبه الأصيل في إذكاء حب الحريّة في النّفوس والإبانة عن معلم الطريق إلى الحريّة”([11]). ومن هنا لا يستطيع خدمة قضية الأدب الملتزم والفن الموجه، في هذه المرحله الحاسمة من التّطور والانتقال!
إشكاليّات النّسبيّة في تقييم الفنون والمذاهب الأدبيّة
نهضت الحياة العقلية في هذا العصر نهوضًا واسعًا، أي بهذا الميزان التّقليديّ الناتج عن تطور الذّوق والقِيم والمفاهيم، وتبعًا لهذا نحكم على الأثر الفنيّ المعاصر الذي لا يتناسب مع هذا الميزان النّقدي المتطور، نحكم عليه أنّه أثر رجعي متخلف، لأنّه لم يتفاعل مع التّجربة الإنسانيّة الحيّة المتجدّدة التي تحيط به على الصعد كافة. وغالبًا ما نسقطه – وهذا حق – من حسابنا ونحن نضع درجات التّقدير، أو مسوّغات التّقييم، حيث “يصبح الشّعر صراعًا لا هوادة فيه مع الكلمات والمعاني، كما أصبح جهادًا وتعذيبًا للقوى العقليّة من أجل الوصول إلى مرحلة الإدراك. وضُرب بالتّعريفات القديمة والتقليديّة لمعنى الشّعر عرض الحائط، فلم يعد الشّعر فيضًا عفويًّا لمشاعر عفويّة، أو وجود الكلمات في أجود نسق، بل أصبح قول ما يقال”([12]). إنّ القصة الرومانسيّة مثلًا لا تستطيع اليوم أن تجد مكانًا من ميزاننا النّقدي إذا ما أنتجها كاتب معاصر، لأنّها عندئذٍ تكون نتاج نزعة انفصاليّة عن الواقع الاجتماعيّ الكبير، أو نتاج تجربة منعزلة عن المضمون الفنيّ العام. وما يقال عن القصة يقال عن الشّعر، وعن سائر الفنون التي تنتسب إنتاجيًّا إلى العصر، ثم تشذ عن واقعيته الفنيّة والاجتماعيّة! هذا موقعنا النّقدي اليوم من الإنتاج الفنيّ المعاصر الذي لا يمثل اتجاهنا الأخير، وهو موقف سلبيّ من ناحية الإقبال على الإنتاج، أو تذوقه، أو الاهتمام به. وهذه السّلبيّة يقابلها في الجانب الآخر إيجابيّة كاملة، في موقفنا من الإنتاج المتفاعل مع المفهوم التّطوري للأدب والفن. ولكن ما هو موقفنا من إنتاج رومانسيّ مثلًا إذا كان هذا الإنتاج من آثار كاتب أو شاعر، لم يلحق المدة الصّاعدة التي انتهينا إليها، وتبلورت فيها قِيم غير القِيم ومفاهيم غير المفاهيم؟ هنا لا يحق لنا أن نستخدم الميزان النّقديّ، وإلا اتّهم هذا الميزان بمخالفة القاعدة المذهبّية التي تفضل للأدب أن يعيش تجربة عصره. إنّ لكل عصر طابعه في التّعبير والاتجاه، وعندما نقول “العصر – (Age)” فإنّما نعني كل حِقبة طبعت بنزعة تعبيريّة معينة، أو اتجاه شعوريّ معيّن، بصرف النّظر عن القصر والطول في تحديد النسبة الزّمنيّة.
إنّ النزعة الكلاسيكيّة في الأدب الأوروبيّ مثلًا قد عاصرت في نهايتها النّزعة الزّمانيّة، عندما قامت هذه على أنقاض تلك في عصر واحد، أي القرن التّاسع عشر وما بعده قد شهد النزعتين واحدة بعد الأُخرى، ومع ذلك فهما نزعتان متباينتان، لكل منهما حِقبته المتميزة أو عصره الخاص. وقياسًا إلى هذا التّحديد أي يمكننا القول إنّ الأدب العربيّ الحديث قد مرّ هو الآخر بنزعتين متعدّدتين في عصر واحد، عندما طغت عليه الرومانسيّة في الرّبع الأول من القرن العشرين، ثم انتقل في خطوات “بطيئة”، ولكنّها زاحفة نحو الواقعيّة، في الربع الثّاني بعد القرن العشرين. ما هو موقفنا النّقديّ الآن من أثر أدبيّ للمنفلوطيّ في مصر، أو من أثر أدبيّ آخر لجبران في لبنان؟ هل نسقط “العبرات” من حسابنا مثلًا لأنّها إنتاج رومانسيّ “منعزل” عن حياتنا الفنّيّة باتجاهها الاجتماعي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى “الأجنحة المتكسرة”؟ لقد عاش كل منهما في الرّبع الأول من القرن العشرين، ولم يعش تجربة عصرنا “ليس من الصّعب تقويم حقيقة جبران في الأدب، لكن من الصّعب جدًّا تصنيف ذلك، لأنّه كتب روايات، وقصصًا قصيرة، ومقالات، وقطعًا شاعريّة، وقصائد منظومة، وأبحاثًا، وحكمًا وأنواعًا أخرى من الأدب”([13]). كلاهما – المنفلوطيّ وجبران على ىسبيل المثال لا الحصر، كان يمثّل الواقعيّة في الأدب بالنسبة إلى مجتمعه الجامد المتخلف، الثائر المتطور، والاختلاف في جوهر الواقعتين هو اختلاف نسبيّ حول المفهوم. إذًا؛ أدبهما في ميزاننا النّقديّ ليس تجربة انعزاليّة، لأنّ تقييم الأدب يجب أن يكون بالنسبة إلى طابع عصره وليس إلى طابع عصر آخر. ويمكننا أن نطبق هذه النسبيّة في التّقييم على شعر “الملاح التائه” للشّاعر عليّ محمود طه؛ وعلى شعر “وراء الغمام” للشّاعر إبراهيم ناجي. ولقد مرّ شعر هذين الشّاعرين بعد ذلك في المرحلة التّطويريّة للأدب، وهي مرحلة الانتقال من الاتجاه الرومانسيّ إلى الاتجاه الواقعيّ. ولكن الشّاعر إبراهيم ناجي لم يستطع أن يعيش تجربة العصر الأخير في حياته، فبقى شعره على رومانسيته القديمة، ولم يستطع أن يتجاوب مع جوّ الواقعيّة الجديدة ؛ في حين سجّل شعر عليّ محمود طه الأخير تلك الانتفاضة الانتقاليّة من تعبير رومانسيّ إلى تعبير واقعيّ حتى شعر المرأة، وإلى تعبير واقعيّ ملتزم في كثير من شعره الذي وقف به إلى جانب الكفاح الجماعيّ ضد الاستعمار، سواء في مصر، أو سوريا، أو السّودان، أو أندونيسيا، أو فلسطين، أو أجزاء من الوطن العربيّ، ونخرج من هذا في ضوء مشكلة النسبيّة في تقييم الفن، لأنّ التّجربة الشّعريّة يجب أن تقاس بمبدأ المطابقة، أو عدم المطابقة للعصر الذي ارتبطت به وتجاوبت معه.
إشكاليّة التّبعيّة والاستقلاليّة في الفنّ والأدب
قد يذكر الناقد بضعة أسماء من دون أن يصل إلى تحديد الاسم الحقيقيّ، ومع هذا فهو صادق إذا ما نسب الشّعر المعروض عليه إلى غير شاعر، لأنّ التخطيط الخارجيّ والدّاخليّ للقصيدة، أعني التّصميم الإطاريّ والموضوعيّ في الشّعر، يكاد أن يكون واحدًا عند هذه المجموعة، أو تلك من شعرائنا الفرسان. إنّ مشكلتهم هي مشكلة الفن بين الأصالة والتّقليد، أو بين الاستقلاليّة والتّبعيّة، ومصدر المشكلة هو أنّه كلّما بدأ شاعر محاولة فريدة في تجديد الشّكل والمضمون، تبعتها على الفور محاولة جماعيّة للسير بالشّعر في اتجاه مماثل، ما دام الاتجاه الأصليّ قد تفاعل مع الأوضاع النّفسيّة والذوقيّة للجمهور القارئ. والخطأ هنا ليس راجعًا إلى تقليد التّطور الشّكليّ والمضمونيّ في الشّعر، لأنّنا نريد دائمًا أنّ تتفق فسيولوجيّة القصيدة مع سيكولوجيّة التّجربة، وإنّما يرجع الخطأ إلى تقليد الشّكل نفسه ببنائه العضويّ المعيّن، وإلى تقليد المضمون نفسه التّعبيريّة المعيّنة، وبذلك تبدو الشّخصيّة الشّعريّة، وهي باهتة لأنّها فقدت لونها الذّاتيّ المعبّر، وهذا الذي ينطبق على الشّعراء الملتزمين، وغير الملتزمين! لذلك تأتي ضرورة التّفريق بين الالتزام والإلزام. الأول يعني الاقتناع بقضيّة ما، والمسؤولية تجاهها والقدرة على اتخاد القرار ضمن حرية تنبع من الذات([14]) في ضوء ذلك كله تتضح الإشكاليّة الكبرى التي واجهها شعر الحداثة، ولا سيما في استخدامه الرموز، وهي إشكاليّة لم تمنع من توظيف الرّموز في الآداب العالميّة، ومن ثَمَّ في الأدب العربيّ الحديث، لأهداف كان الشّاعر يضمرها للتّعبير عن الحاضر بأساطير، وحكايا، ووقائع، وإشارات، ومصطلحات، تحمل في تمثلها تشابهًا لما هو في الحاضر، كأن يلجأ الشّاعر إلى استحضار حكاية عن ظلم، أو فقر، أو كفاح، لأنّ مضمونها لا يزال صالحًا للتعبير عما يجري في الواقع.
نزار قباني، هو موضوع الالتزام في القضيّة الأدبيّة، ولا شأن لنا باتجاهه غير الملتزم، لأنّنا هنا نتناول قيمته الفنيّة من زاوية الفن بين الاستقلاليّة والتّبعيّة، إنّ لهذا الشّاعر منذ بدايته، شخصيته الشّعرية المتميزة التي لم تضع معالمها بين خط منقول وخط مستعار. إنّه نسخة أصليّة ظهرت منها نسخ مكررة، هي التي تجهد محاولة النّقد التّحديديّة لاسم الشّاعر. إنّ الناقد يستطيع أن يقول عن النّسخة الأصليّة بسهولة: هذا فلان، ولكنه أمام النّسخ المكررة يقع في حَيْرَة، ولا يمكن أن يُعدّ مخطئًا في حساب النّقد إذا ما ذكر اسم لأكثر من شاعر، لقد ساير نزار قبانيّ اتجاه التّطور الشّكليّ والمضمون في الشّعر poetry))، لكنه احتفظ بشخصيته الاستقلاليّة في وضع التّصميمات الخاصة لأشكاله ومضامينه. أمّا النّسخ المكررة فقد سايرته هو وقلدته، حتى تلاشت شخصياتها في شخصيته. إنّنا نريد لشعرائنا أن يكون كل واحد منهم نسخة أصليّة، أن يكون له طعمه الخاص، ولونه المتميز، وطابعه المحدد. عندئدٍ نضمن تنوع الشّخصيّة الفنيّة في الشّعر، فلا يغني شاعر واحد عن مجموعة كاملة، نضمن توفّر الاتجاهات الشّعريّة في حقل القصيدة العربيّة الجديدة، ولا يمنع من هذا أن يكون الخط التّطوريّ للشّكل والمضمون متجانسًا في التيار العامّ. ولعل في طليعة من تصدّوا لهذه المسألة، كان ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران اللذين عاشا هذا الصراع نفسيًا ووجدانيًّا خلال إقامتهما في المهاجر الغربيّة، فعبّرا عنه في العديد من المقالات التي كتباها([15]). إذا نظرنا إلى الفن الغربيّ مثلًا في القصة، أو اللوحة، أو القصيدة، تبهرنا النّسخة الأصليّة دائمًا، إذ لا تحدث الظاهرة التّكراريّة لموضوعيّة العمل الفنيّ، مهما اتّحد الاتجاه المذهبيّ عند الكتاب، أو الشّعراء، أو المصوّرين، سارتر، وكامي، يجمعهما اتجاه وجوديّ في القصّة. وبيكاسو، وسلفادور داليّ يجمعهما اتجاه سرياليّ في التّصوير. ولكنك لن تجد واحدًا من هؤلاء – في حدود الاتجاه المذهبيّ – نسخة مكررة من الآخر. إنّهم جميعًا يمثلون هذه الظاهرة الفذة في تاريخ الفنّ، وأعنيّ بها ظاهرة الاستقلال والأصالة. وهي إن دلت على شيء، فإنّما تدل على كرامة الفنان. وإذا كان الشّعر قد عكس الكثير من المواقف الالتزاميّة قديمًا وحديثًا، فإنّ سارتر يبعده من دائرة الالتزام، لأنّه لا يصلح له، ولا يبحث عن الحقيقة، وليست غاية الشّعراء استطلاع الحقائق، أو عرضها، ولا تسمية المعاني بالألفاظ، لأنّ التسميّة تتطلب تضحية تامة بالاسم في سبيل المسمى([16]). وقد اعتمد سارتر في أعماله الفلسفيّة والأدبيّة، على الرّغم من امتزاجهما، نوعًا خاصًّا من التّحليل النّفسيّ أسماه “التّحليل النّفسيّ الوجوديّ”. وهذا النّوع من التّحليل النّفسيّ “يرتكز على الفرض الآتي: يُعَدُّ الإنسان وحدة متكاملة ومتجانسة، لأنّه ليس مجموعة، أو تشكيلة من المشاعر المتناثرة، وعلى هذا الإحساس يُعَدُّ المرء متكاملًا في تصرفاته كلها مهما كانت بسيطة أو تافهة. وعليه أن يدوّن إلى جانب هذه التصرّفات ميوله وأهواءه في كشف واضح، ثم يعمد إلى تفسير ذلك كله محاولًا استجوابها واستنباطها”([17]). وهو بذلك يُنحّي جانبًا فكرة “اللاشعور” ويبحث وينقب عن “الحادث النّفسيّ” الذي “يَعُدُّه نوعًا من التخطيط القابل للامتداد بالنسبة إلى الشّعور”([18]). ويهدف هذا التّحليل إلى تفسير معظم التّصرفات بجلاء ووضوح تأمين. وذلك بالعمل على وضع الظواهر النّابعة من كلّ منها، وتحديد مفاهيمها بصفة خاصة. فإنّها تبدأ دائمًا “بالتّجربة المرتكزة على تفهّم علم الكائنات ومدى حقيقتها عند الإنسان”([19]). ففي التّحليل النّفسيّ الوجوديّ “تتأثّر الميول العميقة بظروف أوضاعها. ولما كانت واعية ومدركة فهي تساعد الدّاعي لمعرفة أهدافه لا أن يُلِمَّ بها، ويدركها فحسب. عندئذٍ يصبح هدف المحلل النّفسيّ التّوصل إلى “الوجود، وإلى معرفة وجود الإنسان في مواجهة هذا الوجود”([20]).
الفنّ والأدب في ميزان التّطور والتّقهقر
يقول أبو حاقة: “العمل الفنّيّ يسعى إلى كشف العلاقات الاجتماعيّة، وتنوير النّاس في مجتمعات أخذ يسيطر عليها الظلام، ومعاونتهم على إدراك الواقع الاجتماعي من أجل تغييره…”([21]). ويأتي الأدب ليكون أداة معرفيّة تحمل في جوهرها أساس الصّراع بين نقيضين: قوى تعمل على إعاقة تطوّر المجتمع، وأخرى تعمل على تطويره وتقدّمه. ولقد كان هذا الأدب يعوّل على ما يجري في الحياة المادّيّة، ولا يتعالى عن المألوف إلا بقدر يدفعه إلى الأمام. وهو أدب تفاؤل، وكاتبه متفائل بالمستقبل، وبالجنس البشريّ([22]). والكاتب فيه ينبغي أن يوجه قارئه نحو هدف كبير هو التحرر من كل قوة، ووحشية، ومن كلّ أكذوبة. وكان الشّعار الذي كتبت الواقعيّة الاشتراكيّة أدبها من خلاله: “كلّ شيء ضمن الإنسان وكلّ شيء من أجل الإنسان”، وهذا ما أكّده غوركي بقوله: “إنّني بهذه العقيدة أتيت إلى الحياة. وسيأتي يوم يفهم فيه العالم أجمع: إنّ أقدس شيء على الأرض هو الإنسان”([23]). ولا ينفكّ النّقاد يعلّقون على هذا النّوع من الأدب أنّه أدب هادف، ومتفائل يحمل قضيّة السّعادة للإنسان، وهذه لا تُنال إلا بالصّراع والتّضحيّة. إنّه “أدب هادف إلى تغليب عامل الخير والثقة بالإنسان وقدرته. وإنّ واقعيّتهم، وإن كانت تتخذ مضمونها من حياة عامة الشّعب ومشاكله إلا أنّ روحها متفائلة تؤمن بإيجابيّة الإنسان، وقدرته على أن يأتي بالخير، وأن يضحّي في سبيله بكل شيءٍ من غير يأس، ولا تشاؤم، ولا مرارة مسرفة”([24]). وقد كان لويس أراغون ((Louis Aragon([25]) يعبّر دائمًا عن هذا التنوّع وابتكار الجديد، يقول: “ليس من شيء يبدو لي أكثر حمقًا من الاعتقاد بأنّ أفكار الآخرين يمكن أن تتفق مع أفكاري، ويخطئ الكاتب الذي يظن أنّه يرضيني بوصفه العالم كما يرتأي أنّي أتصوره، إنّه لا يعمل غير ما يزعجنيّ”([26]). وقد حدّد أراغون أسس فنّه الواقعيّ الاشتراكيّ كما يأتي([27]):
- تصوير الممارسات الفرديّة وسط عالم المتناقضات في العلاقات الاجتماعيّة.
- المذهب الواقعيّ في الأدب ليس له مفهوم محدّد تحديدًا نهائيًّا يمكن تعلّمه.
- الاهتمام بتجارب النّاس الذين لم يحدّد مصيرهم منذ البَدء.
- الاعتراف بالخلق، والإبداع، والإضافة على المذهب الواقعيّ، ولكن من منظور طبقيّ.
- الأثر الأدبيّ الصّالح له مضمون وطنيّ قوميّ.
- ضرورة التّفريق بين الواقعيّة الاشتراكيّة، وبين المذاهب الأدبيّة الأخرى مع الأخذ بالحسبان إمكانيّة استفادة الواقعيّة الاشتراكيّة من هذه التّجارب.
- حسبان مفهوم هذه الواقعية متحرّكًا غير جامد، إذ يجد الفنان زاده في كلّ مكان، وفي التّفاصيل التي هي في مدارك النّاس، وفي الواقع المتغيّر، وتبدّلات الحياة، لا الواقع الثّابت، واقع “الألبوم”.
- حسبان اللغة وسيلة لا غاية كي لا يصبح الأدب صورًا جميلة فقط من غير مضمون مفيد.
- ضرورة التّمييز بين أنواع الاشتراكيّة في كلّ بلد. ومن الخطأ حسبان أنّ الواقعيّة الاشتراكيّة لا تتحقق إلا في بلد اشتراكي. إنّها أداة نضاليّة أيضًا للوصول إلى النّظام الاشتراكيّ نفسه.
إنّ الماركسيّة التي أفرزت هذا الاتّجاه الأدبيّ لا تؤمن بالفرديّة، وتذييبها في المجتمع، بينما تعمّق الوجوديّة الإحساس بالفرديّة، وتجعلها فوق المجتمع. تحسب الماركسيّة الأدب وسيلة نضال اجتماعيّ لصالح طبقة معيّنة، بينما تعدّ الوجوديّة الأدب تعبيرًا عن موقف فرديّ، مسسؤول، حرّ. الماركسية تتناول الالتزام على أنّه تسخير الأدب في سبيل الجماعة، بينما تعدّ الوجوديّة اختيارًا مشروعًا فرديًّا يخدم الإنسانيّة عن طريق ما يراه الفرد جديرًا بأن يكون أو يتحقق([28]).
ولقد رأى بعض النقّاد أنّ “النّقد مهما ابتعد عن ركائزه وأصوله، فإنّه يظلّ قائمًا على النّفس. ففي مقالته “الأثر الفنّيّ بين الفهم والتذوّق” بحسب د. أنور المعدّاوي أنّ النّقد أمر يتعلّق في النّفس، وهو أداء نفسيّ “لا يكتمل معناه إلاّ وهو قائم على دعامتين، هما الصّدق الشّعوريّ، والصّدق الفنّيّ متحدّين في صورة تعبيريّة، أمّا الصّدق الشّعوريّ فهو ذلك التّجاوب بين التّجربة الحيّة، وبين مصدر الإثارة، أو هي تلك الشّرارة المشعّة التي تندلع في الوجود الدّاخليّ من التقاء تيارين: أحدهما نفسيّ متدفق من أعماق الشّعور، والآخر حسّي منطلق من آفاق الحياة. هذا هو الصّدق الشّعوريّ وميدانه الإحساس إذ يستطيع الفنّان أن يلبس تجاربه ذلك الثّوب الملائم من فنّية التّعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور”([29]).
الالتزام من منظار القضايا الإنسانيّة الكبرى
يُعَدّ الأُستاذ (المعدّاوي) ذا إحساس في التّميز بين أنواع الأدب. ولكن المسألة تأخذ وضعًا آخر عندهُ، إذ انتقل من الأحكام إلى التّعليلات، إذا انتقل من قول: هذا جيّد. وهذا رديء. إلى السؤال الذي يبدأ عند أيّ أثر خالد في النّقد: لماذا؟ (المعدّاوي)، إذ يحدّد موقفه في معركة الأدب والفنّ من الجانب المواجه للواقعيّة، يعرف مدى خطورة خصمه، وقوّته، وجماهيريّته. ومدى قدرته على إشباع حاجات النّاس، والتّعبير عن مطالبهم. وهو لذلك لن يعلن في بساطة حربًا معروفة نتائجها بين خصمين غير مكافئين، بل سيقف كأحد دعاة الواقعيّة (المتطرّفين) ليتكلّم على (ضعف الرّؤية الفنيّة في الالتزام) (فلغة الشّعراء) أصبحت عند طلائع الشّعر الواقعيّ (أشبه بلغة البرقيّات الصحفيّة!) والنّظرة السّطحيّة قد تجعلنا – للوهلة الأولى – نحكم بأنّه غير ملتزم. فإذا كان في قصيدة من قصائده صوفيًّا يزبد، وقد أسبل عينيه في خبث وديع، ويصنع له عالمًا من السموّ. وفي قصيدة أخرى وصافًا للخمر مُحَبِّبًا شربها، ويمكن أنّ نفهم رأيّ أدونيس من خلال التّوضيح الذي يضيفه إلى قوله حول التّعادل بين السياسيّ والأدبيّ بقوله: “هذا المأزق نتيجة نظرة خطأ تريد أن توجد تعادلًا بين السياسيّ والعمل الشّعري، والعمل السياسيّ مشروط بظروف معيّنة، ذاتيّة وموضوعيّة، وخاضع لمنهجيّة تكتيكيّة واستراتيجيّة، فكيف يصحّ أن نطالب بعمل شعريّ مشروط بمثل هذه الأوضاع، والظّروف، والمستويات؟ إنّ مثل هذا العمل لن يكون أكثر من نسيج برّاق من الألفاظ والشّعارات”([30]) أفلا نستطيع أن نخوض في أعماق هذا الفنّ لنفس الحقيقة التي جعلته يهرب تارة إلى الجنة، وأخرى إلى فقدان الشّعور؟ ويرى الأستاذ “المعدّاوي” أنّ هناك صراعًا بين فنون في سبيل الفن “تلتزم” البعد في مجالات الحياة. والتّوقع في متاهات اللامكان واللازمان والسّعي خلف أوهام ضبابيّة، وفنون تحمل مسؤوليّة نضال الإنسانيّة المجيد، فيبهره جمال الشّجرة، وروعتها فلا يدخل في حسابه أهمّيّة دراسة جذورها العميقة وتاريخها. وهو “بصفته أحد دعاة الالتزام المتطرفين” يرى أنّ الالتزام لا يمكن أن يوجد إلا عند الّذين يدافعون عن قضايا إنسانيّة عامة. وغير هؤلاء لا يمكن أن يكون ملتزمًا، وهذا من عيوب التّطرف. إنّ الأدب – أي أدب – هو تعبير عن فلسفة “الجماعة المتجانسة” التي تنتجه. ومن هنا كان الالتزام، فليس هناك أدب غير ملتزم، فالواقعيّة، والوجوديّة، والرومانسيّة، والسّوداويّة، والسّرياليّة، والشّكليّة، تعابير عن مجتمعات بداخلها ألوان من الصّراع الطافح في وسائل تعبيرها من الفنون المتنوّعة. إنّ المشكلة ليست مشكلة التزام، أو انحلال، وانطلاق، بل نوع القضية التي يعد الفنان نفسه للدّفاع عنها. وفي أيّ جانب من معارك الإنسان على مرّ العصور، ويصبح من الصّحيح القول: “إنّ النّقد العربيّ إنّما هو، في حقيقة تأسيسه، ومساره، وتاريخه بلاغة شكلانيّة محضة أشبه ما تكون بالمنطق الأرسطيّ. وهي بلاغة تهتم بطرق البيان، والبديع، وفنّ القول، من دون الاهتمام بالقول، أو بالمضمون، والمحتوى الإنسانيّ الاجتماعيّ، والفكريّ”([31]). وهو يبحث في الشّعر الجديد عن (بيت القصيد)، فلا نجد إلا الوحدة العضويّة بين الشّكل والمضمون، وهو لا يفرّق بين التّجربة الذّاتيّة والتّجربّة الاجتماعيّة، فيرى أنّ نزار قبانيّ (يتبجّح) بشراء امرأة بماله، ولكن الشّاعر نزار يصف مجتمعات معيّنة تعامل فيها النّساء معاملة السّلع والمتاع. والأستاذ رئيف خوري يرى الجيّد هو نتاج أشخاص أفذاذ عبقريّين، وأنّه يهبط على هذه الصّفوة كذا دفعة واحدة لاستعداد معدنهم لاستقبال الهزّات الخافتة للمشاهدات، وقد جعل للأدب وظيفة تنطلق من القول: “ينبغي للأدب أن يعلّمنا شيئين: الفرح بالحياة وبناء عالم مفرح”([32]). ولكن الآداب هي نتاج مجتمعات غير جامدة أو بليدة، “غير أنّ عدم قدرة أيّ شاعر عربيّ معاصر على تجنّب الاكتواء بما يحيط به، يجب ألا يعني بالضرورة أن استجابته تجيء دائمًا معافاة، والتأثيرات التي تتناول المفكّر في الوطن العربيّ شديدة التنوّع، بعضها تأثيرات سيّئة قد تدفع بالشّاعر أحيانًا إلى أن يقرأ التّاريخ بشكل أفقي وحسب، متجاوزًا أغواره العموديّة وأبعاده الأوسع والأعمق”([33])، وستشع هذه المجتمعات في مراحل تطوّرها آدابًا لا يمكن تحنيطها في بيت القصيد، أو في بيت يجريّ مجرى المثل، ولكنها ستظل دائمًا نبضًا “للجماعات المتجانسة” التي أنتجتها. فإذا كان الفنّ يقسم إلى قلب وقالَب، وإذا كان للقالَب وحده قيمة في الفنّ، فإنّ القالَب الذي سيقت فيه هذه المعانيّ رشيق. لكنّ القالَب وحده ليس كلّ شيء، ولا هو أكبر شيء. لا أجد شيئًا يحملني على جوانحه، أو يرفعني، أو يوحي إلي بما يسمو بي. وإنّما أجد رثاء، بل حقارة للذي دفع الدّراهم ليثبت أن في الحياة البشريّة من يتناولها! أجد فنانًا ((An artist يحمل رجلًا على أن يرى أنّ (الحديث النّاعم) إذا لم يُفِدْ مع (الحبيب) فإنّ صاحبه يجب أن يسلك طريقًا آخر. لكأنّ ظفر إنسان بامرأة عنوة واقتدارًا من أيّ سبيل يظلم المرأة، ولا هذا الإنسان الطّاغي العاتي! ولكأنّ إثبات أن امرأة من النساء تلين بالدّرهم حجّة عليها لا على المجتمع الذي انحدر بها إلى المستوى الذي ترفع فيه قيمة المادّة على حبّ قيمة الحبّ. ولكأنّ المجتمع الذي يرضى بأن تلام المرأة في هذه الحالة، ولا يلام الرجل مجتمع صحيح الحكم منصف! ومع ذلك فإنّ الشّاعر الذي صور لنا هذه الصورة يرضى في ما يلوح لي بروح هذه النّكايّة التي تحمل صاحبه على الأحساس بالنّجاح والرّاحة حين يستبعد هذه المسكنة التي لم يبق منها شيء. وأنت لا تدري لِمَ لا يبقى لدى الخاطئة المخطئة شيء بعد إذ تسقط في تجربة، كما لا تدري الغاية من أنّ فنّانًا يريد أن ينتهي صاحبه بامرأة إلى غير شيء من طريق الدّراهم. أهذه هي الحقيقة؟ خذ الجوهر واعرض عن القشور. ليست المسألة إنسانًا مشى وإنسانًا تبع. إنّ في الصورة رجلًا يتعالى وامرأة (تُذلّ) من أجل المحاولة نفسها – البيع والشّراء بالدّرهم، “وهي من الهموم الكبرى التي اهتم بها منورو العرب، ذلك أنّ المرأة عامل مهمّ من عوامل رقيّ المجتمع وتقدّمه، وإهمال هذا العامل يقود المجتمع إلى نتائج خطيرة، وفي طليعتها قضيّة سوء تربية الأولاد، وتنشئتهم على ما يخدم الولد نفسه، وعائلته، ومجتمعه، وإنسانيّته، وأن تتعلّم القراءة للولوج في عالم المعرفة، والعلم، والتفتّح على شؤون الكون”([34])، فإنّ هذا من الحقّ والحقيقة في شيء؟ وإذا كانت هذه هي طبيعة البشر التي لا نملك من أمرها شيئًا، فلم التّعالي، والتّرفع، والحقد إذًا؟ وإذا كان هذا هو الواقع، فهل واقع جميل هو؟ وهل من الحقيقة شيء أن نطلب إلى امرأة أن تُخضع الرّجل بالكلام النّاعم، فإن لم تفعل فإنّها لا بدّ من أن تخضع بالدّراهم! ولو أنّ الشاعر قال إنّ الكلام النّاعم لم يحدث أيّ أثر، فلمّا لوح الرّجل بالدّراهم انهدم عند المرأة كل حاجز، وإنّ ذلك كان من حاجتها إلى المال، أو ظمئها إلى الثّروة يحفزه الخوف أو ما شئت، ما يوهن الطبيعة البشريّة، وينحدر بها إلى أدنى، للفت نظرنا إلى وجه من وجوه الإصلاح، يحفزنا إلى محاربة الفقر، أو التّغلب على الخوف. ولو أنّه قال: إنّه يترفع عن متابعة الجمال الذي لا يعنونه بالحديث النّاعم، لأنّه أعلى من أن يقدم على حبّ بغير عاطفة، لأوحى إلينا بشيء من الكرامة في العلاقة، أو الحرّيّة في التّصرّف. ولو أنّه إشارة لطيفة إلى إمكان سقوط المرأة بالمال، ثم ارتفع بصاحبه عن التّجربة لهان الأمر، ولكن الاثنين يسقطان معًا في تجربة واحدة. ومع ذلك يكون أحدهما سيّدًا والآخر عبدًا، وعلى العموم، “فإذا كان حال المرأة شبيهًا إلى حدّ بعيد بحال المجتمع، فإنّ العلاقات الاجتماعية قد تطورت بتطور الحياة عمومًا، ونهضت كما نهضت الفنون، والآداب، والأفكار، وانفتحت الآفاق الحضارية، وأقبل العرب على النهل من الثقافة سواء الأصلية أم الدخيلة، ما حملهم إلى تغيير نظرتهم إلى الحياة، وإلى ما يجري فيها من متغيّرات، فعلى ذلك فإنّ المرأة أخذت قسطًا لا بأس به من هذه التطوّرات والتغيّرات”([35]). لا نجد إذًا؛ سبيلًا إلى تسمية هذا الكلام بالفن، بل نجد في نشره على فئات القرّاء الذين يستلهمون الوحي من رجال الفنّ مدعاة إلى نشر الوهم بدل الحقيقة، والقبح بدل الجمال، ومهما يكن من أمر فإنّ التزام الأديب بقضايا أمّته، وعصره لا ينفي اهتمامه بالقيمة الأدبيّة الخالصة المبدعة، لذا فالقول بأنّ الالتزام بقضايا الأمّة يسلب العمل الأدبيّ قيمته هو قول بعيد من الصواب إذ لا يمكن فصلها، وغايتها، وأهدافها الإنسانية المتّصلة بالحياة لأنّ “الفصل بين فنّيّة الأدب واجتماعيّته شذوذ في منطق الحياة والفن معًا”([36]).
ونحن نعلم أن أناسًا من القرّاء الكرام سيضيقون ذرعًا بهذا القول. إنّهم سيقولون كما قال قرّاء من قبل: اتركوا الأدب وشأنه يفعل ما يشاء. اتركوا الشّاعر يقول ما يوحي إليه به ضميره. وخلوا بين الفنان وبين ما ينبع عنه من فن طواعية واختبارًا. لماذا تضيقون عليهم السّبل، وتغلقون في وجههم الدّروب؟ ليكونوا أحرارًا! تلك التّجربة تعرض تطور الوعي الواقع عند شاعر عربيّ معاصر، فرضت عليه الأحداث التي مرّت على العرب تبلورًا في موقفه، الأمر الذي أدّى به إلى الدّخول إلى الالتزام طوعًا. نلمح إلى تجربة البيّاتيّ، وتجربة العديد من شعراء العربيّة الحديثين والمعاصرين، مشابهًا مستقى من الأحداث الخطيرة التي كانت تجري على الصعد كافّة. وهي مَهَمَّة أدّت إلى بلورة هذا الاتجاه الشّعري، ودخوله إلى عالم النّقد، ومصطلحاته وتعابيره، وما التّعابير بالصّورة، والرّمز، والأسطورة، وظاهرة التّشكيل الخارجيّ، والموسيقى، وقضايا مثل: الحزن والضياع، والتزام الواقعيّة الاشتراكيّة، والوجوديّة، والمذاهب الأخرى إلا من هذا القبيل، “وفي الأدب العربيّ الحديث محاولة للخروج من دوامة الاحتجاج المستمرّ إلى إيجاد صيغ تتمحور حولها بعض الحلول الذّهنيّة لمشاكل الواقع، وأزماته ضمن أفق فكريّ يمثل مجمل التّيارات الفكريّة السائدة”([37]).
إشكاليّة الالتزام والحريّة
ليس الأدب (الملتزم) إلا الحريّة بعينها، وليست الحريّة التي ندعيها لأدبائنا، يفعلون ما يشاؤون، إلا عبوديّة مقنعة تنحدر من الأجيال السّالفة، فلا يوهمني شعور الطير الحبيس بحرّيّة خادعة حين يخلي بينه وبين الفضاء فيعود إلى القفص. إنّه في ظرف غير طبيعيّ أكسبته إيّاه عادة الحبس، ولذلك لا نخضع لوهم الأديب الذي يطلب الحريّة – Freedom)) ليعيد بها ركب البشريّة إلى الخلف. إنّ الحريّة تتّجه إلى الأمام وإلى الأعلى. ولا تتّجه إلى غير هاتين النّاحيتين. فالمطالبة بحريّة الكاتب إذ يجاري الاستعمار مثلًا. عن وعي أو غير وعي. ليست إلا مطالبة بالعبوديّة.
لذلك يقال: إنّ الالتزام في الفنّ مذهبًا عابرًا، أو دعوة مؤقّتة، وإنّما هو صفة الفنان الحقيقيّ سواء عرف أنّه ملتزم أم لم يعرف، نحن التزاميون لا لأنّنا أن نكون التزامين، بل لأنّ الفنان اللهم التزاميّ. ولست أرى شيئًا غير هذا، إلا الانحراف، والخطأ، وإلا الإلقاء بالناس في مهاوي الأعراف، والذل، والعبوديّة. ولقد كانت العلوم المادّيّة مخفيّة عنا في الماضي، وكنا كذلك أجهل بطبيعة الحياة البشريّة منا الآن. ومع هذا فإن هوميروس كان يرمي إلى الجمال والحقّ، والمعريّ كان يدعو إلى التّجرد والفضل، وزولا إلى الحريّة والجمال، وتولستوي إلى السلم والمحبة. أذكر في هذه الأمثلة الفنانين الملهمين، ولا أذكر الكتّاب والفلاسفة الذين تفننوا بعد أن تحدثوا إلى الطّبيعة والكون، فاستلهموا الحقّ الذي فيها بدراساتهم العلمية السّاذجة منها والضّليعة. تحدث الكثيرون من النقّاد، في شؤون إبداع فنون الأدب الملتزم لكنّهم تجاوزوه، وأضافوا إليه وظائف عديدة، آية ذلك أنّ الأدب ونقده يبقى معوّلًا على النّص المنشأ، لا سيّما في الشّكل وحسن الصوغ والتّعبير. لكن معظم النقّاد العرب ابتدءًا من الحِقبة الزّمنية المحددة 1900م قد لا يعطي جوابًا مباشرًا عن الأوضاع النّفسيّة التي أملت على المبدع الأدبيّ أن يكون ممثلًا لها، “كما يرى فرويد (Freud) أنّ المشاعر والعواطف هي العناصر الوحيدة التي يُعتد بها في الحياة النّفسيّة، وجميع القوى النّفسيّة لا تقاس إلاّ بقدراتها على إيقاظ المشاعر والعواطف، وهذا لا يمكن أن يدرك إلاّ بارتباطها بتصورات”([38])، فوجدوا أنّ الأدب ونقده عاملان رئيسان في معركة بناء الإنسان والمجتمع العربيين، وهم يحدّدون بذلك ضرورة ملاءمتهما لما يجري في الواقع من مشكلات وأحداث تقتضي من الأديب والنّاقد أن يكونا فيها وليس خارجها. لذلك جعل النّاقد تيسير شيخ الأرض للأدب ونقده منطلقات لا بدّ منها، وهو يحدوها بالخلفيّة الذّهنيّة، وأنّ النّقد فعل تطبيقيّ أولًا، وفعل ثقافيّ ثانيًا، وتعبير اجتماعي ثالثًا، ورقيّ لغويّ، وأسلوبيّ رابعًا([39]). بينما خطا آخرون باتجاه جعل النّقد ذا وظيفة خطيرة يجب أن تتضمّن موقفًا. وهو ما عبّر عنه محمد غنيمي هلال في مقالته: معنى الموقف العام في النّقد الحديث”([40]). قد جعل الجاحظ هذه الوظيفة تشمل حياة العربيّ بأكملها، في مجمل مواقفه، وهو يؤدي عمله معبّرًا عن أوضاعه، بحسب قدرته على تملّك اللغة، وهو يملكها: “وكل شيء للعرب فإنّما هو بديهة وارتجال. وإنّما أن يصرف الخطيب همّه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، حين يمسح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع، أو في حرب. إن جميع خطب العرب من المدر والوبر، والبدو، والحضر على حزبين، منها الطوال ومنها القصار، ولكلّ ذلك مكان يليق به”([41])، ومن البديهيّ ألاّ تكون فلسفة الالتزام واضحة، أو معروفة عند العرب القدامى، وإنّما أخذت هذه الفلسفة تتوضح في العصر الحديث، ولم تنتكس مبادئها انتشارًا واسعًا بين العرب إلا بعد الحرب العلمية الثانيّة، إلا أنّ الشّعر العربيّ لم يَخْلُ من بعض مواقف الالتزام التي كانت تعبر عن قناعات أصحابها، وسلوكهم الاجتماعي الذي يسلكونه بموجب هذه القناعات، وما يمليه عليهم الضمير الحرّ ومسؤولياتهم في المجتمع، ولا ريب في أنّ الظّروف التّاريخيّة العامّة هي التي ساعدت على ظهور مواقف أخرى نجد لها أساسًا في نفسيّات الشّعراء، وأحوالهم، وظروفهم الشخصية، واتجاهاتهم الفكرية، ولم يقتصر ذلك على عصر واحد من العصور الأدبيّة القديمة عند العرب، وإنّما نجد بوادر الالتزام في تلك العصور جميعًا إلا أنّها متباينة فيما بينها([42])، وقد ساهمت الموجة الطّاغية في تطوّر الأدب العربيّ هي موجة الأدب للحياة، والأدب الهادف، و(الأدب الملتزم) بتأثير البِنية، والأوضاع التي تعرضت لها المنطقة العربيّة، وبتأثير الثّقافة الغربيّة، وتطور مفاهيم الأدب، والنّقد فإنّ الشّعر العربيّ الحديث لم يشذّ عن ذلك، ولم يكن أمامه من سبيل يبعده من الالتزام، إنّما كانت عوامل تدفعه بقوة إلى أن يلتزم. انغمس الشّعراء في الحياة العربيّة العامة، فشاركوا مجتمعاتهم همومًا، وقضايا. وانعطفوا على معضلات القرن العشرين، وأمراضه الحضاريّة، وعلى مشكلات الإنسان العربي، وتحوّلات واقعه فعالجوها في أشعارهم.([43])
الالتزام من خلال وظيفة الخطابة
ومثل هذا الموقف في وظيفة الخَطابة قد قال به أرسطو وربطه بالعاطفة الإنسانيّة. وقد “أفاض أرسطو في دراسة المواطن في كتابه الخَطابة، من جهة أنواع العواطف الإنسانيّة وطبيعتها، والفرق بين عاطفة وأخرى… وكان الاهتمام من أرسطو متّصلًا بإرشادات للخطباء، ومساعدته لهم في بيان المواقف الإنسانيّة المتعدّدة، وما يرتبط بكل موقف من عواطف ينبغي على الخطيب أن ينجح في معرفتها لينجح في عمله الخَطابيّ”([44]). والصّراع قانون أساسي من قوانين الكون، والمجتمع، والحياة الإنسانيّة. وهو صراع تأتي نتائجه متفاوتة بحسب المتلقين، وبحسب مهارة الخطيب القائل والموجّه كلامه إلى إحداث أثر في العقول والنّفوس والمشاعر والمواقف على حدّ سواء. أي عليه أن يُحدث تغييرًا في المتلقّي وبحمله على اتّخاذ موقف. لذلك قيل: إنّ “الخَطابة” هي فنّ القول بغية الإقناع والتأثير”([45])، وهذا يتطلّب استعمال مزيد من البراهين والأدلّة من أجل الاستمالة، وأفضل الخطباء من توجّه إلى المتلقّي شفاهًا، ذلك أنّ الخطابة هي فنّ مشافهة الجمهور، وإقناعه، واستمالته”([46]). وهذا التّغيير في وظيفة الخَطابة مزدوج التأثير: في النّفس أولًا وفي الواقع ثانيًّا، ذلك أنّ “التلقي نفسه محكوم بواقع عمليّ محدّد ذي ملابسات تاريخيّة واجتماعيّة”([47]). هكذا كانت خطبة الجاهليّين العرب مرتبطة بحياتهم في أدقّ تغيّراتها، لا سيّما في التّغازي، والحروب، والوفود، والتّصالح. ذلك كلّه من أجل خلق وضع جديد. وتلك وظيفة اجتماعيّة رئيسة للخَطابة، حملتها عبر العصور العربيّة المتعدّدة، فكانت أداة تغييريّة بارزة في صدر الإسلام وما بعده وصولًا إلى العصر الحديث. ظلّت الخَطابة تحتفي بنوعها إلى الزّمن الرّاهن، على الرّغم من التطوّرات الحاصلة في مضمارها. يرى أدونيس أنّنا “لا نقدر أن نحيط بنشأة الحداثة في المجتمع العربيّ على الصّعيدين السياسيّ – الفكريّ – الاجتماعيّ، من جهة، والشّعري من جهة ثانيّة، إلا إذا أدركنا معنى انتقال العرب من الخَطابة إلى الكتابة، أو من الشّفوية إلى التدوين”([48]). فهل صحيح أنّ ذلك حصل في دنيا العرب؟
ربما تكون الكتابة قد خفّفت كثيرًا من عناء المشافهة، إلاّ أنّها لم تلغها إلى الحدّ الذي يجعلنا نتحدث عن انتقال تام يسقط هذا الفنّ الخَطابيّ الذي لا يزال رائجًا إلى يومنا هذا، سواء أكان مكتوبًا أو شفويًّا. وربما شكّل قول أدونيس مدخلًا آخر للنّظر إلى الخَطابة التي أصبحت تتداخل مع فنون كتابيّة أخرى. وهو أمر تنبّه له أبو هلال العسكريّ عندما حسب “أنّ الرسائل والخُطب متشاكلان في أنّهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية. وقد يتشاكلان أيضًا من جهة الألفاظ والفواصل، والفرق أنّ الخُطبة يشافه بها بخلاف الرّسالة. والرّسالة تجعل خُطبة، والخُطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة”([49]).
وفي التّقدير أنّ هذا لا يمنع من القول: إنّ للخُطبة شروطًا تميّزها من سواها، على الرّغم من أنّ أدونيس يجعل الخُطبة والشّعر أمرين متشابهين إلى حدّ التطابق. فهو يتحدث عن الكتابة، ويرى أنّها “نشأت إلى جانب الخَطابة (الشّعر) وفي معزل عنها. لم تكن نشأتها نشأة تكامل مع الخَطابة، بل نشأة انفصال، ولم يكن هذا الانفصال في الدّرجة (كما هو الشّأن بين الخَطابة والشّعر)، بل في النّوع. فالخَطابة (الشّعر) فطريّة تقوم على البداهة والارتجال…”([50]). ودليله على ذلك أنّ النقّاد صاروا “يتحدثون عن نوعين من الكلام: الشّعر والكتابة، أي الخَطابة والكتابّة، من حيث إنّ الخَطابة صنو الشّعر. فالعسكريّ يسمّي كتابه “الصّناعتين، الكتابة والشّعر” وابن الأثير يسمّي كتابه “المثل السّائر في أدب الكاتب والشاعر”([51]). وهو إمعان في تطابق الخَطابة والشّعر، الأمر الذي يفقد الاثنين وظيفتهما. فالاثنان يشتركان في كونهما خطابًا، لكنّ شروطهما متعدّدة، وقد تتضمن الخُطبة شعرًا من دون أن تفقد خصوصيتها. أمّا العفوية فقد مرّ زمن لم يعد فيه الناس تلقائيون وعفويون، وإن وُجد بعضهم على هذه الحال. وإذا تحدّث النّقاد عن الشّعر والكتابة، فهذا لا يعني أنّ الخَطابة صارت شعرًا والعكس. ولا نزال إلى الآن نقول: كتابة القصة كما نقول كتابة الشّعر. ولا أعتقد أن بطرس البستاني في خُطبته في “تعليم النساء” كان عفويًا، أو فطريًّا، أو شاعرًا. إنّما كان يؤدي خُطبة مكتوبة، ومدروسة، ومقسّمة إلى مقاطع، وكلّ مقطع يتناول جانبًا من جوانب موضوعه، “وإذا كانت الخَطابة مرتبطة بقضيّة الحرّيّة فإنّ العرب عاشوا أحرارًا في جزيرتهم: في تفكيرهم وسلوكهم، يتباهون بإجادة القول وتحضرهم البديهة، ولغتهم الغنيّة الرنانة دائمًا، ومع ذلك لم تكن هذه الخَطابة موحَّدة الموضوع بوظائفها”([52]). ثمّ إنّ الخُطبة لا تزال تعتمد المنطق، والإقناع، والعقل سبيلًا إلى نجاحها، بينما هذا المنطق يستعصي على الشّعر ويخرجه، إذا توافر وجوده فيه، من نطاقه الشّعريّ إلى أجواء أخرى أقلّ ما يقال فيها: إنّها جافة، أو علية، أو تقريريّة، وهذا ليس من طباع الشّعر.
وظيفة الخّطابة إذًا؛ محدّدة الشّروط، والأهداف، والصوغ، وإن خالطتها المشاعر للتأثير في الآخرين.
إشكاليات الالتزام والعاطفة
ليس التّعبير عن العاطفة هو أن تصفها، “فالشّعر يجب أن يبهر النّفوس والأذواق، بما ينشئ فيه الخيال من الصور، ويجب أن يسحر الآذان والنّفوس معًا بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحيانًا بالرصانة، وتمتاز أحيانًا أخرى بالرّقة واللين”([53])، كان هذا الكلام وصفًا تعبيريًّا، لأنّ هذا الكلام ليس من الضروري أن يشير إلى حب موجود، ولذلك كان استعمال “الصفة” في الشّعر إذ يجب التّعبير أمرًا خطرًا، فإذا أردت أن تعبر عن شيء مرعب ووصفته بأنّه “مخيف”، كان هذا مجرد وصف لا تعبير والشّاعر الحقّ في لحظات الشّعر الحقّ لا يسمي العواطف التي يعبر عنها. والوصف يؤديّ التّعبير بدلًا من أن يمدّ له يد المعونة، لأنّ الوصف فيه تعميم أمّا التّعبير فيعتمد على التّخصيص، فغضبك ليس هو أيّ غضب، فإذا قلت إنّه كان غضبًا – مرعبًا – أشركت معه عموم الغضب تقريبًا، ولكنك إذا عبرت عنه تعبيرًا فقد خصصته إلى درجة أنّه لا يشبه غضبك في ساعة أخرى، والشّاعر الحقّ هو الذي يشقى في سبيل تخصيص عواصفه، وفي هذا يفترق الفنّ عن الصنعة، ويجب أيضًا ألا نخلط بين هذين المظهرين. ولنأخذ أيضًا حالة الغضب ؛ إنّ الذي يحمر وجهه أو يزمجر عند الغضب لا يسمى عمله هذا تعبيرًا، لأنّ هذه أعراض مصاحبة للغضب بطبيعته، أمّا التّعبير فإنّه يتضمّن الوعيّ بما يعبر عنه، ولكن الناس يخلطون بين هذين المظهرين ما يؤدي إلى تقديرات نقديّة كاذبة حتى ليظنّون أنّ من حسنات الممثلة إذا اندمجت في دور عاطفيّ أن تبكي بدموع حقيقيّة، وقد نسلم بهذا لو كانت الممثلة ترمي إلى إثارة الحزن في جمهورها، وأنّها لا تثير الحزن إلا بظهور أعراضه، ولكن إذا كان الفنّ هو رائدها الحقيقيّ فأنّها تكتشف العواطف التي في نفسها بواسطة التّعبيرات من كلام وحركات، وتسمح للجمهور أن يشاهد هذا الكشف حتى يتمكن من أن يكشف ما في نفسه، فبكاؤها ليس مقياسًا لجودة تمثيلها، إنّ تكوين الشّخصيّة العربية يعود إلى أمد بعيد. وهي التي تمثلّت العطاءات الغزيرة في ما مضى، وفي المستويات كلّها، ولا سيّما الدّينيّ والحضاريّ والعلميّ والثّقافيّ والأدبيّ والقيميّ.
استنادًا إلى ما سبق كان من البديهيّ أن يرافق النّقد تجلّيات الإبداع العربيّ منذ بداياته الأولى، وكان نقدًا متزامنًا مع حركة الحياة ومستوى النّاس الفكريّ. تميّزت حركة النّقد الأولى ببطئها وانحصارها في نطاق ضيّق، ثم ما لبثت أن اتسعت بظهور الإسلام ومضيّ زمن على وجوده، الأمر الذي بدأ يظهر في جملة من الحدود والقياسات كثر التعاطي بها ابتداء من العصر الأمويّ، إلى أن تعاظمت في العصور العباسيّة مستفيدة من احتكاك العرب بسواهم. إلاّ أنّ العصر الحديث، ابتداء من النّهضة، بدأ يُظهر مواقعات نقديّة كثيرة، بدأت محدودة، لكن سرعان ما شملها التّدفق ابتداء من القرن العشرين، لا سيّما بعد الحرب العالميّة الأولى، وقد انبرى للمَهَمَّة النّقديّة كثيرون ممّن هم أدباء أو شعراء، فكانوا إلى جانب ذلك نقّادًا، يقوّمون أدبهم، وأدب سواهم. وهكذا شكلّت مساءلة النّفس عنصرًا رئيسًا في دفع العرب إلى التحوّل، فإذا التردّد يصبح مرضًا ينبغي اقتلاعه، لأنّ الخطر الآتي يعيش بينهم، ويتمظهر بأشكال متعدّدة من الرّقيّ والتقدّم وإقامة المنشآت.
ولقد تبلور ذلك في كتاب “الغربال” لنعيمة([54])، وتزامنت معه حركات ثورويّة تمثّلت ببعض المدارس أو الجماعات مثل “الدّيوان” و”أبوللو” و”عصبة العشرة” وغيرها كثير. والأهم في هذا النّقد في تلك المرحلة، قد عرف الالتفات إلى الذّات الخاصة والأخرى القوميّة. وكان هذا النّقد قد عرف انفتاحه على الغرب واستفاد من التّيارات النّقديّة الحديثة. وفي خضم ذلك، كان محمد مندور متمايز في مجال النّقد، في زمنه، وكتابة “النّقد والنّقاد المعاصرون”([55])، يستعرض أنواع النّقد، وهو يرى ضمن المنهج النّقديّ الأيديولوجيّ وظيفة النّقد الأوليّة هي التّمييز بين الأساليب. وهو أمر لا بدّ منه في هذه الأعمال وتقويمها نقديًّا، لكنّ المبالغة فيها أضرّ بالعمل النّقديّ، وأبعده عن الموضوعيّة. إذ أكّد هذا الموقف وعلاقته بالمجتمع، وقد أصبح الموقف – في معناه الحيوي العام – من الاصطلاحات الفلسفيّة في العصر الحديث، عن طريق الفلسفات الوجوديّة، ومعنى علاقة الكائن الحيّ ببيئته والآخرين في وقت ومكان محدّدين. ولا سبيل إلى اتخاذ موقف إلاّ بمشروع يقوم به الفرد، مرتبطًا بما يحيط به من عوامل، يتجاوزها بمشروعه إلى غاية له يحاول بها التغيير من حالته الحاضرة.
فلسفة النّقد والالتزام
قد يضطر الباحث إلى استهلاك صفحات كثيرة للوقوف أمام اتجاهات النّقد ومدارسه، وقضيّة الالتزام واللاالتزام فيه، وقضية فلسفة النّقد وسواها من المواقف والآراء النّقديّة التي لا تنتمي إلى تيار أو مذهب معيّن. وهي لا تعدو كونها صورة للانطباعات الشّخصيّة. لكنّنا أمام الإجابة عن السّؤال: هل للنّقد وظيفة تسهم في تطوير الأدب ووظيفته؟ إنّ الإجابة ليست بهذه البساطة، ذلك لأنّ النّقد ظاهرة حيّة تنمو وتتقدّم بتقدم الأدب ورقيّه، وبالتّالي بتقدّم الإنسان على الصّعد المتعدّدة. ذلك أنّنا أمام حشد هائل من الآراء النّقدية التي تذهب بوظيفة النّقد مذاهب عديدة، كما أنّنا أيضًا نتناول مرحلة خطيرة من تاريخ العرب الحديث، إذ تصبح فيه للكلمة، سواء أكانت أدبًا أم نقدًا، أهمّيّة بالغة في عمليّة بناء النّفوس وبناء المجتمعات. لذلك كثرت الأبحاث النّقديّة التي تحمل عنوان “مسؤولية النّاقدresponsibility of the critic ” أو “وظيفة النّقد” أو “وظيفة الأدب literature funtion” أو “الأدب المسؤول” أو “النّقد المسؤولresponsible criticism”.
وفي الأحوال كلها ثمّة مسؤوليّة كبيرة تقع على النّاقد في الظروف الخطيرة التي تجتازها الأمّة. من أجل هذا كان أدب الحداثة الشّعرية ونقده لدى العرب، يلقى حياته، لأنّه كان ملائمًا للطرح القائل بضرورة تحديث الأمّة بتحديث آدابها ونقدها… وكان السّياب والبياتيّ، وصلاح عبد الصّبور وأدونيس ومحمود درويش وسواهم، شعراء ونقّادًا في الآن نفسه. وقد تلازم أدبهم بالنّقد الهادف لبناء وطن سليم وحديث وحرّ. وحياة الشّعر ليست في مفردات مستحدثة، ولا أخيلة محلّقة ولا معاني مبتكرة، وإنّما في مقدار ما يأخذ من الحياة وما يعطى لها، وفي مقدار ما يتأثّر بها ويؤثر فيها، ذلك لأنّ الشّعر فعل حيّ وحركة جدّية، تؤرّخ لنا واقعنا النّفسيّ تاريخًا لا يوم على المصدر والوثيقة، وإنّما على المعايشة والوجود. وهو بهذا التّأريخ الحيّ يؤازر بين حركاتنا ويطوّر تجاربنا ويجعل من حياتنا طريقًا إلى أيّ شيء”([56]). وعندما تلقف علم النّفس ظاهرة الأسطورة بالدّرس والتّحليل، استطاع أن يبرز نتائج مهمّة على صعد عدّة. وكانت البحوث التي أجراها يونغ ((Jung([57]) حول الأسطورة قد كشفت وظائف كثيرة لها. وقد عثر يونغ، في سياق معالجته مرضاه، على ما تؤديه الأسطورة من دور عظيم في نظريات المعرفة الانسانية.. واكتشف التشابه الكبير في سلوك البشر. فهم يحلمون بالأحلام نفسها، ويقفون أمام محبّيهم مواقف العشق نفسها، وينظرون إلى الأدب النّظرة نفسها. وهي تجارب قديمة ترسخت في نفوس النّاس.. وهي تتكرّر كلّما دعت الحاجة إليها. هي نوع من الصور الأوّلية الكامنة في اللاشعور. صور لا تعني فردًا بقدر ما تعني جماعة، وبعبارة أخرى تصبح “لا وعيًا جمعيًّا” يشترك في توكيده واختزانه البشر كلّهم. وهذه الصّور الأوّلية من الأنماط الأوّليّة في التّفكير الإنسانيّ حوّلها اللاوعي الجمعيّ إلى أنماط حياتية وبالتالي أدبيّة ونقديّة أدبيّة([58]).
أقام يونغ نظريته على أمرين رئيسين
- اللاوعيّ الجمعيّ: وهو قديم، يعود إلى زمن الإنسان الأول، إذ كان في غاية الانسجام مع الطّبيعة ومع النّاس الآخرين، فاختزن في لاوعيه كثيرًا من التّجارب والمفاهيم، وظلّت في هذا اللاوعيّ تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل.
- الأنماط الأوّليّة: إنّ اللاوعي الجمعيّ جعل يونغ يميّز فيه تصورات، أو أنماطًا مشتركة من التّفكير، والنّظرة إلى الأمور([59]). هذه الأنماط هي السّلوكات التي سلكها الإنسان سابقًا، وهي التّصوّرات التي نشأت عبر الزمن، وانضمّت إلى تراكمات اللاوعيّ. وحسب يونغ النّمط هو النّظرة نفسها إلى قضية، أو موضوع معين، كمثل تساؤله حول مصير الإنسان: إلى أيّ من العوالم الثّلاثة هو صائر: إلى العلويّ أم السّفليّ أم الأرضيّ؟ ومثل تفكيره المتشابه حول النّظرة إلى الأم، والأب، والإله، والذّكر، والأنثى، والغابة، والجبل، والماء، والكهف، والأخ، والأخت… وجد يونغ أنّ نظرة النّاس إلى هذه الأمور وسواها هي واحدة، وكلّ منها يشكّل نمطًا واحدًا.
إشكاليّة الالتزام وتعريف الشّعر والنثر
نحن في مرحلة جديدة نحاول فيها جاهدين إقرار اتّجاهات مغايرة لتقاليدنا الموروثة؛ وفي مجال الشّعر نجد هذه الظاهرة واضحة: هناك حركة الشّعر الحرّ التي حاولت أن تضعضع رتابة النّغم القديم لتخلق عالمًا جديدًا منطلقًا حرًّا غنيًّا حتى في النّغم، وفي بعض المحاولات تفوق الرّمز امتلاء غنى وخروج عن حدود التّشبيه والاستعارة، وغيره من القِيم البلاغيّة إلى الرّمز بالقصّة الحيّة الجديدة، كذلك اتجهت مضامين الشّعر إلى خدمة قضايا النّاس، “وليست العبرة بوجود نمط من أنماط الشّعر، وإنّما العبرة في معرفة الجمهور والشّعراء له بحيث يؤثر في اتّجاهاتهم. ولعلّ أبرز الأدلة على أنّ الحركة كانت وليدة عصرنا هذا، أنّ أغلبية قرّائنا لا يزالون يستنكرونها ويرفضونها، وبينهم كثرة لا يستهان بها تظن أن الشّعر الحرّ لا يملك من الشّعرية إلا الاسم فهو نثر عادي لا وزن له”([60])، والأصل في الشّعر لهفة من دون موضوع، قلب يحب ويعشق ويعاني، ولا يسعه أيّ قلب آخر، فإذًا الشّعر حركة تبدأ ولا تنتهي، الشّعر إنسان يتجاوز نفسه باستمرار إلى ما لا يدرك أحيانًا، إلى ما هو أعظم، أو أبقى. كلّ لفظة في الشّعر العربيّ لها رصيد في الحياة، أبعد ما تكون عن التّجرّد، وهذا ما جعل المسمى الواحد يحفل بالتّسميات العديدة، التي تريد كلّ تسمية منها أن تقنصه من زاوية الوضع الخاص الذي أوحى بها، كذلك نجد تعريفات كثيرة للشّعر في بطون الآثار النّقديّة العربيّة، تخرجه على هيئة خاصة تميّز وظيفته من سواها. فالنّاشئ الأكبر، أبو العبّاس، عبد الله بن محمد يحدّده بقوله: “الشّعر قيد الكلام، وعقال الأدب، وسور البلاغة، ومحلّ البراعة، ومجال الجنان، ومسرح البيان، وذريعة المتوسّل، ووسيلة المترسل، وذمام الغريب، وحرمة الأديب، وعصمة الهارب، وعذر الرّاهب، وفرحة المتمثّل، وحاكم الأعراب، وشاهد الصّواب”([61]). هذا من ناحية الشّكل، أما من ناحية المضمون، فإنّ الناشئ الأكبر يحدّده بقوله: “أول الشّعر إنّما يكون بكاء على زمن، أو تأسّفًا على زمن، أو نزوعًا لفراق، أو تلوّعًا لاشتياق، أو تطلعًا لتلاقٍ، أو أعذارًا إلى سفيه، أو تغمّدًا لهفوة، أو تنصّلًا من زلّة، أو تحريضًا على أخذ بثأر، أو تحريضًا على طلب أو تار، أو تعديدًا للمكارم، أو تعظيمًا لشريف مقاوم، أو عتابًا على طوية قلب، أو مثابًا من مقارفة ذنب، أو تعهدًا لمعاهد أحباب، أو تحسّرًا على مشاهد أخراب، أو ضربًا لأمثال سائرة، أو قرعًا لقوارع زاجرة، أو نظمًا لحكمٍ بالغة، أو تزهيدًا في حقير عاجل، أو ترغيبًا في جليل آجل، أو حفظًا لقديم نسب، أو تدوينًا لبارع أدب”([62]). وهو عند جميع المعرّفين: “كلام موزون مقفى”، يقوم على التخييل، والعاطفة، ويحتفي بالأفكار. بينما تجمع تعريفات النثر على أنّه الكلام المرسل، المتحلّل من الوزن والقافيّة، والمتخذ من العقل والتّحليل المنطقيّ، والشّرح والتّفصيل والمناقشة والتّعليل، وسائل رئيسة لإيصال فكرة معينة بطريقة واضحة، تجلو المعاني وتبيّن الهدف، بعبارة رشيقة أنيقة، متآلفة الألفاظ منسجمة الحروف، وبجمل تقصر أو تطول، تتساوى وتختلف، متضمنة إيقاعًا خاصًا منبعثًا من دربة طويلة توشي بجمال تساوق الكلام من خلال النّغم الموسيقيّ الخافت، وإجادة الأساليب الكتابيّة المعروفة في اللغات المتعدّدة. وقد يكون مسَّجعًا ترد في آخر كل جملة منه كلمات متقاربة الرّوي أشبه بالقافيّة. وهو في الأحوال كلّها طريقة للتّعبير عن الحياة العاديّة. وقد يقارب النّثر الشّعر فيسمى شعرًا منثورًا، وبحسب شوقي ضيف، في نطاق حديثه عن النّثر الجاهليّ، “أنّ الأدب الحقّ هو النثر الذي يقصد به صاحبه إلى التأثير في نفوس السّامعين، الذي يحتفل، من أجل ذلك، بالصّياغة وجمال الأداء وهو أنواع، منه ما يكون قصصًا، وما يكون خَطابة، وما يكون رسائل أدبيّة محبّرة. ويسمّي بعض الباحثين النّوع الأخير باسم النّثر الفنّيّ([63]). وإذا كان محمد عبد المنعم ثليمة يضع فواصل بين المدارس الأدبيّة التي يحسبها ثلاثًا فقط: “كلاسيكيّة، ورومنسيّة، وواقعيّة تصوغ كلٌّ منها الحاجات الجماليّة، والمثل الفنّي الأعلى لوضع تاريخيّ محدّد، لنظام اجتماعيّ ومرحلة كاملة من مراحل التّطور الاجتماعيّ. وتستند كلّ مدرسة أدبيّة، من جهة فلسفة الفنّ، إلى نظريّة بعينها: المدرسة الكلاسيكيّة إلى نظريّة المحاكاة، وتستند الرّومنسيّة إلى نظريّة التّعبير، وتستند المدرسة الواقعيّة إلى نظريّة الانعكاس”([64])، فإنّ هذا التقسيم الصّارم معرّض إلى الاختراقات، والتّداخل بين هذه المدارس الأدبيّة، إذ لا تخضع إلى التّقسيم المنطقي الذي يفصل الظواهر ولا يجعلها في دقيق القول، خصوصًا عندما نتحدّث عن الحداثة الشّعرية العربيّة، أو عن الكلاسيكيّة العربيّة، أو حتى الرومنسيّة العربيّة. فكلّها متداخلة، وقد تجدها عند شاعر واحد، كما هو الأمر عند السيّاب، والبياتي، وسعدي يوسف، وبالتالي سابقًا عند أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والبارودي، وجماعة الدّيوان، خصوصًا العقّاد الذي تأرجح فنّه بين الفنّ للفنّ من جهة، وبين الواقعيّة، والكلاسيكيّة، والرّومنسيّة من جهة ثانية([65]) لكنّ هذا التّداخل لم يمنع البعض من الالتزام بهذه الصّرامة، على الرّغم من أنّنا نجد الكثير من الأنواع الشّعريّة الجديدة قد عرفت طريقها إلى الشّعر([66]). إذ يرى تيغم Tieghem)) إنّ على الشّاعر الغنائيّ، وهو يقصد الرّومنسيّ، “أن يُخضع كلّ شيء للعقل، وأن المثال الأعلى هو شعر غنائيّ رفيع لكنّه حكيم”([67]). وبذلك نجد تيغم، يمدّ الجسور لتداخل المذاهب الأدبيّة، وهو أمر تبعه وجود بعض القواعد التّابعة لمذهب ما متداخلة في مذهب الآخر. إنّ صيحة الرّومنطيقيّة الغربيّة قبل عصر البورجوازيات الأوروبيّة، على الإقطاع كانت خطوة فاعلة وثورويّة إلى حدّ كبير. إلاّ أنّ خيبة أمل الرومنطيقيّين بهذه البورجوازيّات التي تحوّل نظامها إلى استغلاليّ وقمعيّ، يولّد الحروب، ويدمّر البلدان، ويضيّع الإنسان، ويبيح الاحتلال، ونهب الثّروات. إنّ خيبة الأمل هذه قد جعلت الرّومنسيّة تفقد الثّقة بهذا المجتمع، وترتد على نفسها لتصوّرها في أوضاعها الدّاخليّة المتعدّدة، وما يعتريها من حزن، وآلام، وحيرة، وضياع، وعزلة، وتغنّي بالذكريات، والابتعاد من صخب الحياة.
الخاتمة
إنّ الالتزام في النّهاية هو التزام بنبل الكتابة إذ تصير هذه الكتابة شهادة على ما يجري في واقع يشوهه التّاريخ، أو تحرفه السياسة، ومهما يكن يبقى الالتزام مظهرًا مطلوبًا في الأدب العربيّ كما هو الحال مع كلّ كتّاب العالم الذين يتفاعلون مع قضايا مجتمعهم متجاوزين الأطر التّقليديّة للالتزام الذي يعني فقط الولاء من دون موقف يفرضه المبدع بحرّيّة تامّة رافضًا أيّ إملاءات، أو حتى إيحاءات قد تنال من مصداقية التزامه، والالتزام في الأدب أيضًا التزام بروح جماليات النّص وأهدافه، وبمدى الثّورات التي تندلع منه محدثة التغيّير، ومن ثَمَّ الإبداع، وقد يكون الأدب شهد مرحلة فتور نالت من حضوره، لكنه دائمًا يعود بقوة لا سيما عند الجمهور الذي يلتفت إليه كلما غشيت عيناه ضبابة الغموض وعجز عن قراءة الحاضر والماضي، وعجز كذلك عن قراءة دواخله التي تعجّ بالتناقضات، والصّراع المستمد ما يحدث حوله من تغيرات سريعة لا يستطيع مجاراتها. يتضح مما سبق أنّ قضية الالتزام في الفنّ والأدب لا تزال تثار حولها إشكاليات جمة، وهي تُعَدّ مفهومًا نقديًّا لا يزال يثير العديد من الإشكاليات، ولن ينتهي الجدال في ما يتعلق بوظائف التّطور حتى بعد عصور لاحقة. فإنّ ما استجدّ في وظيفة الأدب العربيّ الحديث هو التزام تقترب مضامينه، من هذا المنطلق، نفسه، ولن نألوا جهدًا في مقاربة ما حصل لهذه الوظيفة من اتّخاذها مسارًا في أدب المرحلة، ولقد أعلن أمين الرّيحانيّ “أنّ الشّاعر الحقيقيّ مرآة الجماعات، ومصباح الظلمات، وسيف النكبات، والشّاعر الحقيقيّ يشيّد للأمة قصورًا من الحبّ، والحكمة، والجمال، والأمل”([68])، وحتى يكون الأدب صادقًا لا بدّ من أن يتكلّم على الواقع الذي يعيشه الأديب، والظروف التي تحيط به، وتؤثر على نفسيته وعلى يراعه، فتخرج حينئدٍ الكلمات نابضة بالصّدق، وتأخذ طريقها مباشرة إلى فكر القارئ ووجدانه.
ولكن الأسئلة التي نطرحها هنا: لماذا لا تُربط قضايا الالتزام بالمناهج التّطبيقيّة في العالم العربيّ؟ وما العراقيل التي يواجهها هذا المصطلح بعد التّشرذم العربيّ، وما يعانيه المجتمع العربيّ؟ من مشكلات واستحقاقات.
المصادر والمراجع
- أبو حاقة أحمد، الالتزام في الشّعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1979.
- أبو مطر أحمد، الواقعية والاشتراكية – مجلة “المعرفة”.
- أبو ملحم علي، في الأدب وفنونه، المطبعة العصرية للطباعة والنشر، صيدا، لبنان، 1980.
- أدونيس، الثابت والمتحوّل.
- أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت، 1980.
- الأرض شيخ تيسير، ما وراء النّقد الأدبيّ، مجلة الفكر العربي، السنة 4، عدد 25 كانون وشباط، بيروت، 1982.
- تليمة عبد المنعم، مقدمة في نظرية الأدب، دار العودة، بيروت، ط 2، 1979.
- التوحيدي أبو حيان، البصائر والذخائر، تحقيق إبراهيم الكيلاني، ج 2، دمشق، 1964.
- تيغيم فان فليب، المذاهب الأدبيّة الكبرى في فرنسا، ترجمة فريد أنطونيوس، منشوات عويدات، بيروت، باريس، ط 2.
- الجاحظ، البيان والتبيين، ج 3 – مطبعة السندوبي – القاهرة – ط 2 – 1932.
- الجيوسي الخضراء سلمى، ترجمة عن كتاب: الشّعر والتجربة، أرشيبالد ماكلش، بيروت، 1963.
- الجيوسي الخضراء سلمى، الاتجاهات والحركات في الشّعر العربي الحديث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007.
- حمزة مريم، الأدب بين الشرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، 2004.
- الحوراني رامز، المناهج النّقدية الحديثة، ساب للطباعة والنشر، بيروت، 1995.
- الحوفي محمد أحمد، فنّ الخَطابة، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها – ط 3 (د.ت.ط.).
- الخطيب كامل محمد، نظرية النّقد، القسم الأول، وزارة الثقافة، دمشق، 2002.
- خوري رئيف، وهل يخفى القمر، دار المكشوف، بيروت، 1967.
- خوري رئيف، التوجيه في الأدب، الأديب يكتب للكافة، دار المكشوف، بيروت، 1973.
- داري محمد ثابت، الاتجاه الواقعي في الشّعر العربي الحديث في مصر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1980.
- رومية أحمد وهيب، شعرنا القديم والنّقد الجديد، سلسلة كتب عالم المعرفة، ع 207، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، آذار 1996.
- الريحاني أمين، أدب وفن، دار الريحاني للطباعة والنشر، بيروت، 1957.
- سارتر، الوجودية فلسفة انسانية، تعريب حنَّا دميان – بيروت – 1954.
- سارتر جان بول، عبد الفتاح نفيسة، مفهوم التحليل، مجلة “عالم الفكر” العدد 2، المجلد الثاني عشر، الكويت، 1981.
- صالح عبد المطلب، دراسات في أدب الواقعية والواقعية الاشتراكية.
- ضيف شوقي، البحث الأدبيّ، دار المعارف، القاهرة.
- ضيف شوقي، العصر الجاهلي، دار المعارف، مصر، ط 8 (د.ت.ط).
- طه حسين، مقالة الحرّيّة والأدب ضمن كتابه: من تاريخ الأدب العربي، المجلد الأوّل، دار العلم للملايين، بيروت، 1970.
- عبد الرحمن عائشة، قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر، دار المعارف، القاهرة.
- عبد المطلب صالح، دراسات في أدب “الواقعية” والواقعية الاشتراكية.
- العسكري أبو هلال، الصناعتين، ص 102 (الباب الثالث). عن الفنون الأدبيّة وأعلامها لأنيس المقدسي.
- عيد رجاء، فلسفة الالتزام، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1988 م.
- فرويد سيغموند، الهذيان والأحلام في الفنّ، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 1978.
- القعود محمد عبد الرحمن، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة،الكويت، 2002، عدد، 279.
- المعداوي أنور، كلمات في الأدب، مقالة “الأثر الفني بين الفهم والتذوّق”، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1966.
- المعوش سالم، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، بيروت، 1999.
- المقدسي أنيس، الاتجاهات الأدبيّة في العالم العربي الحديث، دار العلم للملايين، ط 5، بيروت، 1973.
- الملائكة نازك، قضايا الشّعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 2000.
- منذور محمد، الأدب ومذاهبه.
- هلال غنيمي محمد، الموقف الأدبيّ – دار العلم للملايين – بيروت، 1977.
(1) أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الفرع الخامس.
(2) ضيف شوقي، البحث الأدبيّ، دار المعارف، القاهرة، ص 101.
(3) طه حسين، مقالة الحريّة والأدب ضمن كتابه: من تاريخ الأدب العربي، المجلد الأول، دار العلم للملايين، بيروت 1970 ص 53.
(4) الحوراني رامز، المناهج النّقدية الحديثة، بيروت، 1995، ص 268.
(1) حمزة مريم، الأدب بين الشرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، 2004، ص 27.
(2) المقدسي أنيس، الاتجاهات الأدبيّة في العالم العربي الحديث، دار العلم للملايين، ط 5، بيروت، 1973، ص 297.
(3) تليمة عبد المنعم ، مقدمة في نظرية الأدب، دار العودة، بيروت، ط 2، 1979، ص 22.
(9) الملائكة نازك، قضايا الشّعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 2000، ص 58.
(10) عيد رجاء، فلسفة الالتزام، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1988 م، ص 131.
(11) خوري رئيف، التوجيه في الأدب، الأديب يكتب للكافة، دار المكشوف، بيروت، 1973 ص 97.
(12) القعود محمد عبد الرحمن، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، الكويت، 2002، عدد، 279، ص 140.
(13) الجيوسي الخضراء سلمى، الاتجاهات والحركات في الشّعر العربي الحديث، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007، ص 130، 131.
(14) الجيوسي الخضراء سلمى، ترجمة عن كتاب: الشّعر والتجربة، ارشيبالد ماكلش، بيروت، 1963، ص 139.
(15) ينظر مقالات جبران في “العواصف”، “دمعة وابتسامة”، “المجنون” وسواها.
([16]) أبو حاقة أحمد، الالتزام في الشّعر العربيّ، دار العلم للملايين، بيروت 1979، ص 50.
([17]) سارتر جان بول، عبد الفتاح نفيسة، مفهوم التحليل، مجلّة “عالم الفكر” العدد 2، المجلد الثاني عشر، 1981، الكويت، ص 130، 131.
([21]) أبو حاقة، الالتزام في الشّعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت 1979، ص 31.
([22]) صالح عبد المطلب، دراسات في أدب الواقعية والواقعية الاشتراكية، ص 17.
([23]) أبو مطر أحمد، الواقعية والاشتراكية – مجلة “المعرفة” – ص 8 – عدد 221.
([24]) منذور محمد، الأدب ومذاهبه، ص 92.
([26]) عبد المطلب صالح، دراسات في أدب “الواقعية” والواقعية الاشتراكية، ص 89.
([27]) المرجع نفسه – ص 87 وما بعدها (بتصرّف).
([28]) سارتر جان بول، الوجودية فلسفة إنسانيّة، تعريب حنَّا دميان، ص 62، بيروت، 1954.
([29]) المعداوي أنور، كلمات في الأدب، مقالة “الأثر الفني بين الفهم والتذوّق”، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1966.
(30) أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت، 1980، ص 247.
(31) الخطيب كامل محمد، نظرية النّقد، القسم الأول، وزارة الثقافة، دمشق، 2002، ص 3.
(32) خوري رئيف، وهل يخفى القمر، دار المكشوف، بيروت، 1967، ص 9.
(33) الجيوسي الخضراء سلمى، الاتجاهات والحركات في الشّعر العربي الحديث، بيروت، 2001، ص 629.
(34) المعوش سالم، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، بيروت، 1999 م، ص 49، 50.
(35) المعوش سالم، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، بيروت، 1999، ص 51 – 52.
(36) عبد الرحمن عائشة، قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر، دار المعارف، القاهرة، ص 233.
(37) المعوش سالم، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، بيروت، 1999 ص 373.
(38) فرويد سيغموند، الهذيان والأحلام في الفنّ، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 1978، ص 54.
([39]) الأرض شيخ تيسير، ما وراء النّقد الأدبيّ، مجلة الفكر العربي، السنة 4، عدد 25 كانون وشباط، بيروت، 1982.
([40]) هلال غنيمي محمد، الموقف الأدبيّ – ص 119-124 – دار العلم للملايين – بيروت 1977.
([41]) الجاحظ، البيان والتبيين، ج 3 – ص 20-21 – مطبعة السندوبي – القاهرة – ط 2 – 1932.
(42) أبو حاقة أحمد، الالتزام في الشّعر الغربي، دار العلم للملايين، بيروت،ط 1، 1979، ص 62.
) أبو حاقة أحمد، المرجع نفسه، ص 387 [43](
([44]) تليمة عبد المنعم، مقدمة في نظرية الأدب، ص 150، 151.
([45]) أبو ملحم علي، في الأدب وفنونه، ص 132، المطبعة العصرية للطباعة والنشر، صيدا، لبنان، 1980.
([46]) الحوفي محمد أحمد، فنّ الخطابة، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها – ط 3 (د.ت.ط.)، ص 9.
([47]) تليمة، مقدّمة في نظرية الأدب، ص 138.
([48]) أدونيس، الثابت والمتحوّل، ص 19.
([49]) العسكري أبو هلال، الصناعتين، ص 102 (الباب الثالث). عن الفنون الأدبيّة وأعلامها لأنيس المقدسي، ص 399.
([50]) الثابت والمتحوّل – أدونيس – ج 4 – ص 20-21.
(52) المعوش سالم، الأدب العربي الحديث، دار المواسم، بيروت، 1999، ص 268.
(53) الحوراني رامز، المناهج النّقدية الحديثة، ساب للطباعة والنشر، بيروت، 1995، ص 272.
([54]) صدر في القاهرة لأول مرّة في العام 1923.
(55) صدر في القاهرة عن مكتبة نهضة مصر (د. ت. ط).
([56]) داري محمد ثابت، الاتجاه الواقعي في الشّعر العربي الحديث في مصر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1980، ص 58، 59.
([57]) كارل غوستاف يونغ Carle Gustaf Jung عالم نفساني أميركي (1875-1961).
([58]) رومية أحمد وهيب، شعرنا القديم والنّقد الجديد، سلسلة كتب عالم المعرفة، ع 207، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، آذار 1996، ص 34.
([59]) النظرية الأدبيّة والنّقد الأسطوري – ص 45 وما بعدها.
(60) الملائكة نازك، قضايا الشّعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، 2000، ص 39.
([61]) التوحيدي أبو حيان، البصائر والذخائر، تحقيق إبراهيم الكيلانيّ، ج 2، ص 117، دمشق 1964.
([62]) المصدر نفسه – ص 260-261.
([63]) ضيف شوقي، العصر الجاهلي، ص 398، دار المعارف، مصر، ط 8 (د.ت.ط).
([64]) تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، ص 166.
(65) تجد هذا الموقف في كتابه، ” يسألونك “، لجنة البيان العربي، القاهرة، 1946، ص 177.
([66]) تيغيم فان فليب، المذاهب الأدبيّة الكبرى في فرنسا، ترجمة فريد أنطونيوس، منشوات عويدات بيروت باريس، ط 2، ص 154.
([68]) الريحاني أمين، أدب وفن، دار الريحاني للطباعة والنشر، بيروت، 1957، ص 153.