من الأسرة الرّابعة الفرعونيّة الملك خفرع (2558 – 2538 ق.م)
د. إيمان محمد فرحات ([1])
ملخّص
كانت ولا تزال الحضارة المصريّة القديمة، مصدر إلهام للعديد من الكتاب والباحثين في التّاريخ من الأجانب، للكتابة عن أوجه تقدّم تلك الحضارة، لكن الحضارة المصريّة، بكل ما تحمل من أوجه اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة وفنّيّة، كانت مادة للعديد من علماء الآثار والمصريات، ونشرت مئات الكتب، التي تحدثت عن أولى حضارات العالم القديم، نتحدث عن عظمة التاريخ المصري القديم، وكيف أنه حضارة الأجداد هي محط اهتمام من العالم أجمع، وأن الجميع لديه شغف بجميع ما يخص الحضارة المصريّة القديمة، فجاء الملك خفرع من ضمن الأسرة الرابعة عصر بناة الأهرام، سنتحدث عن هذا الملك، وما حقيقة قصة بنائه لهرم أبو الهول.
Abstract
The ancient Egyptian civilization was and still is a source of inspiration for many foreign writers and researchers in history، to write about the advances of that civilization، but the Egyptian civilization، with all its social، religious، political and artistic aspects، it was the subject of many archaeologists and Egyptologists، and it published hundreds of books that talked about the first civilizations of the ancient world، we write about the greatness of ancient Egyptian history، and how the ancestral civilization is the focus of attention from the whole world، and that everyone has a passion for everything related to the ancient Egyptian civilization، so King Khafre came from within the Fourth Dynasty، the era of the pyramid builders، we will talk about this king، and what is the truth of the story of his construction of the pyramid of the Sphinx.
مقدمة
الحضارة المصريّة هي حضارة قديمة جدًا لها تاريخ عريق ذاع صيته في العالم أجمع. وترجع إلى حوالي (4000) ق.م. حيث نشأت في مصر في الجزء الشّمالي الشّرقي من قارة إفريقيا. وقامت حدودها فوق ضفاف نهر النيل. قامت هذه الحضارة على ضفاف وادي النيل الذي يُعدُّ رمز الخصوبة والاستقرار بالنسبة إلى شعوب مصر القديمة وحتى الحديثة. وقد دونوا كتاباتهم على جدران القبور والمعابد والألواح الخشبيّة قبل أن يستخدموا ورق البردى الذي شاع، وانتشر استخدامه منذ الأسرة الأولى في بداية الألف الثالث قبل الميلاد. وتزامن قيامها مع توحيد الملك مينا لكل من مصر العليا والسفلى معًا. وعلى مرِّ ثلاث ألفيات عاشت مصر تطوُّرًا كبيرًا وظهرت سلسلة من الممالك المُستقرة سياسيًا. وحقبات غير مُستقرة نسبيًا. ثمَّ انتقلت البلاد إلى الانحدار التدريجيّ؛ فاندثر حكم الفراعنة تمامًا بعد وقوع مصر تحت حكم الامبراطورية الرّومانيّة. ويشير التّاريخ إلى أنَّ الحضارة الفرعونيّة من أكثر الحضارات التي أورثت العالم إنجازات في تاريخ البشرية. وحققت نجاحًا ساحقًا في وادي نهر النيل نظرًا لوفرة مقومات الزراعة. انصبَّ اهتمامهم على الزراعة وتربيّة الحيوانات والاستفادة منها، واهتم المصريون بالكتابة وبناء المباني العظيمة من قصور ومعابد وتماثيل للآله التي كانوا يعبدونها. وتركوا الكثير من الآثار التي لا تزال شاهدة على ازدهار حضارتهم مثل الأهرامات وأبو الهول.
الأسرة المصريّة الرابعة، هي رابع الأسر التي حكمت مصر في الحقبة من (2575 ق.م – 2465 ق.م.) ويليها الأسرة المصريّة الخامسة و الأسرة المصريّة السادسة وهم جميعًا يكوّنون عصر الدولة القديمة..وكانت عاصمة مصر في ذلك الوقت هي منف. ودراستنا في هذا البحث عن الملك خفرع بالإنجليزية Khafra، وهو رابع فراعنة الأسرة الرّابعة، ابن الملك خوفو في عصر الفراعنة، في مصر القديمة، واسمه يعني: “التجلي مثل رع”. تزوج من الأميرة مراس عنخ([2]).
لا يوجد اتفاق حول تاريخ حكمه، ولكن قد قيل بأنه حكم بين عامي 2558 ق.م. و 2532 ق.م. لقد بنى ثاني أكبر هرم في الجيزة، بالإضافة إلى أبو الهول، ومعبد.
لقد بقي تاريخ الأسرة الرابعة محاطًا بشيء كبير من الغموض على الرّغم من ظهور آثار ملوكهم للعيان، وشهرتها في كل العالم، وقد ظل الحال كذلك إلى أن قامت الحفائر العلميّة في منطقة أهرام الجيزة على الهضبة التي أقيمت عليها الأهرام المعروف بأهرام الجيزة، فكان من أهم الكشوف إماطة اللثام عن مقبرة الملكة «حتب-حرس الأولى» أم الملك خوفو، وهي بنت «حوني» وقد تزوجت «حتب حرس» هذه من الملك «سنفرو» أول ملوك الأسرة الرابعة، ورزق منها بالملك «خوفو» ثاني ملوك هذه الأسرة([3]).
من هو الملك خفرع؟
خفرع أو خفران فرعون من الأسرة الرابعة([4])، هو ثالث أو رابع فرعون الأسرة الرّابعة بالدولة القديمة حكم بين سنتي 2559 و2535 ق م هو من شيّد الهرم الثاني بالجيزة. هو على الأغلب ابن الملك خوفو من زوجة ثانوية تولى الحكم بعد الملك جدف رع الذي كان قد استولى على الحكم. هرم خفرع يشابه في عظمته هرم خوفو. ملامحه نتعرف عليها من خلال أبو الهول الموجود بجانب هرمه والمتمثل في صورة أسد يدل على القوة، برأس إنسان يدل على الحكمة. كما عُثر على صورة منحوتة بمعبده بوادي الملوك وتمثال للملك جالس موجود بالمتحف المصري. ليعرف الكثير عن مدة حكمه، ولا توجد شواهد تؤكد رواية الرحالة اليوناني هيرودت التي تصف خوفو وخفرع كطغاة.
هو أحدُ أبناءِ الفرعونِ خوفو الأصغر سنًّا، والذي عاش، وذاع صِيته خلال القرن 26ق.م، كما أنّه الملك الرّابعُ من الأسرة الرابعة التي حكمت مصرَ خلال الحقبة ما بين (2575-2465ق.م)، إذ إنّهُ خَلَف أخاه غير الشّقيق دجيدف رع (بالإنجليزيّة: Djedefra) في الحُكم، وسار على نَهجه في بيانِ أهمّية عبادةِ إلهِ الشمس (رع)، ولقَّبَ نفسَهُ (ابنَ رع)، وقد حكم مصر في الحقبة ما بين (2558-2532ق.م)، وهو الذي بَنَى الهرمَ الثانيَ من أهراماتِ الجيزة، ومن الجدير بالذكر أنّه كان قد تزوَّج من أربعِ زوجاتٍ([5]).
عندما تولى خفرع عرش مصر لم تكن يده مطلقة التّصرف بسبب المنازعات الدّاخليّة التي قامت بينه وبين أولاد «ددف-رع» غير أن ذلك لم يثن عزمه عن إقامة هرم يضارع هرم «خوفو» في عظمته وفخامته وإن كان أقل منه حجمًا بقليل، والناظر إلى الهرم الثاني الآن يجد أنه في شكله أكثر أناقة واحتفاظًا برونقه من الهرم الأكبر([6]). وأعاد للجيزة أهميتها، وأعاد لبقية أفراد الأسرة الحاكمة مكانتهم، وربما ضمن ولاء أسرة أخيه كاوعب وليّ العهد القديم بأن تزوج ابنته. وطال عهده خمسة وعشرين عامًا أو تزيد، ولكننا لا ندري للأسف عما جرى في عهده من مشاريع عمرانية أو جهود حربية غير النّادر القليل، ولا ندري معها غير أمرين: وهما أنّ لقبًا ملكيًّا جديدًا تأكد ظهوره في عهده، وأنّ آثار العمارة والنّحت التي تخلفت من أيامه تشهد بأن الفن خطا في ظل سلام عهده خطوات واسعة لا تقل عن الخطوات التي مرّ بها في عهد أبيه وعهد جده([7]).
فقد تلقب خفرع بلقب “سا رع” أي ابن رع، وكانت من المرات الأولى التي يصرح فرعون فيها ببنوته للإله رع إله الشمس، ثم أصبحت سنة ثابتة بعد عهده، واكتملت بها ديباجة الألقاب الملكية الخمسة. وكان للفرعون هدفان من لقبه الجديد أحدهما: هو مسايرة مذهب الشّمس في نشاطه الواضح الساّفر الممتد حتى عهده، وهي مسايرة بدأها الملوك منذ عصر الأسرة الثانيّة وفي أوائل عصر الأسرة الثالثة، وربنا سايرها كذلك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة حين شاد رجاله معبد شعائر أبيه إلى الشرق من هرميهما بدلًا من ناحية الشمال التي شاد ملوك الأسرة الثالثة معابدهم فيها. ثم استمر خوفو على هذه السياسة حين سمى ثلاثة من أبنائه على أقل تقدير بأسماء يتداخل فيها اسم رع، وهم: جد فرع، وباو فرع، وخفرع. أما الهدف الثاني: من اللقب الجديد فهو رغبة الفرعون في التّدليل على أنه يعتلي العرش بناء على بنوته للإله رع صاحب العرش المقدس القديم وبتفويض منه، كما تروي الأساطير الدّينيّة، وربما عن رغبة منه كذلك في أن يتبرك باسمه وأن يكتب له دوام مثل دوامه ولو خلال حياته الثانية.
دلت الحفائر التي الحديثة في جهته الشّرقية على أنّ قاعدة الهرم من جهاتها الأربع مكسوة بمداميك من الجرانيت الأحمر المحبب، ولا تزال بقايا هذه الأحجار في مكانها من الجهة الشّرقية إلى الآن. هذا وقد كشف عن المعبد الجنائزي الملاصق للهرم من جهته الشّرقية وكذلك عن الطريق الموصل إلى معبد الوادي ويبلغ طوله نحو 600 متر تقريبًا، وبجوار المعبد الجنائزي كشف عن سفن الشّمس وسفينة الحج إلى «العرابة»، وعثر في المعبد الجنائزي وما حوله على بقايا أكثر من مائتي تمثال ﻟ «خفرع» ليس بينها تمثال واحد سليم، ويرجع السّبب في ذلك إلى عصر الثّورة التي قامت بعد سقوط الأسرة السّادسة فحطمت كل ما كان أمامها. أمّا التماثيل التي عثر عليها في معبد الوادي المبني بالقطع الضخمة من الجرانيت الأحمر المحبب، وهو المعبد الملاصق لأبي الهول، فقد وجد منها اثنان سليمان، ويعد أحدهما وهو المصنوع من الديوريت من أجمل ما أخرجه الفنان المصري في كل عصوره، بل ومن القطع النادرة في عالم الفن([8]).
آثار الملك خفرع
تألفت آثار العمارة الباقية المهمّة من عهد خفرع، من هرمه ومعبديه والطريق الواصل بينهما. ويقل هرم خفرع عن هرم أبيه من حيث الضخامة والارتفاع حيث بلغ ارتفاعه 136 مترًا وبلغ ارتفاع هرم أبيه 146 مترًا أو أقل قليلًا. وبلغ طول ضلعه 210 من الأمتار وبلغ طول ضلع هرم أبيه 215 مترًا ونصف المتر، ولكن مهندس هرم خفرع شاده على جانب من هضبة الجيزة أكثر ارتفاعًا بقليل من الجانب الذي بنى عليه هرم أبيه فعوضه بعض الشّيء عن قلة ارتفاعه عنه. وسماه صاحبه أو سماه كهنته “ور خفرع” بمعنى عظيم خفرع أو جلال خفرع. ويمتاز الهرم في حالته الرّاهنة باحتفاظ قاعدته بكساء من حجر الجرانيت، واحتفاظ قمته بأجزاء من ألواح الحجر الجيري الأبيض الضخمة التي كانت تكسوه([9]).
لقد بقيت أسرة «خفرع» مجهولة في معظمها إلى عهد قريب، فلم يكن يعرف من أولاده أكثر من ثلاثة، أمّا الآن فقد كشف عن معظم أفراد الأسرة ويبلغ عدد أولاده نحو ١٦ فردًا من الذّكور والإناث، وقد وجدت مقابر بعضهم سليمة لم تصل إليها أيدي اللصوص، ومعظمهم قد نحتوا لأنفسهم قبورًا في الصخر، وهي إمّا في الجهة الشّرقية أو الجهة القبليّة من هرمه، وإمّا بجوار الطريق الموصل بين معبده الجنائزي ومعبد الوادي. والظاهر أن «خفرع» لم يتمكن من بناء أهرام صغيرة في الجهة الجنوبيّة من هرمه لزوجاته، كما فعل «خوفو» من قبله و«منكاورع» من بعده، وربما كان السّبب في ذلك قيام المشاحنات على العرش، وقد كانت قائمة بينه وبين أخلاف «ددف-رع»، ويظهر ذلك جليًّا في الهرم الذي أخذ في تشييده بالجهة الجنوبيّة ولكن لم يكتمل بناؤه، ويحتمل أنه لم يدفن فيه أحد، وبقاياه لا تزال موجودة إلى الآن، وربما كان عدم قيامه بحملات إلى البلاد الأجنبيّة شمالًا أو جنوبًا يرجع إلى السبب نفسه ؛ إذ الواقع أننا لم نعثر على اسم «خفرع» في الجهات التي كان فراعنة مصر يرسلون إليها البعثات أو الحملات التأديبيّة أو للبحث عن المعادن، وما يعزز هذا الرأي إن مقابر أسرته العدة التي كشف عنها حديثًا لم يكن قد تم نحتها عند الدفن، وبقيت كذلك إلى الآن، وقد كان المفروض أن مقابر الأسرة تعطى عناية عظيمة من الملك في نحتها ونقشها.
هو ابن الملك “خوفو”، تولى بعد حكم أخيه “جدف – رع”. فأراد أن يشيد هرمه وملحقاته جنبًا إلى جنب مع والده، وهذا الملك له إنجازات كبيرة، حيث شيد الهرم الثاني ومعبد الوادي والمعبد الجنائزي، وأيضًا “أبو الهول” الذي ينتسب له، وهو الملك الرابع في الأسرة الرابعة، تزوج من الأميرة «مراس عنخ»([10]).
يذكر المؤرخون أنه حكم ستًّا وعشرين عامًا، تولى الحكم وكانت خزانة الدّولة عامرة، وهذا يعطينا إشارة إلى الرّخاء الذي كان يعم البلاد في ذلك الزمان، ما يجعلنا ننفي ما يقوله بعض الحمقى من أن “خوفو” بنى الهرم على حساب مصالح الشّعب، فوصفوا خوفو بالملك المستبد، ولو كان خوفو هكذا لكانت البلاد قد أفلست، وبالتالي لم يقدر خفرع على بناء مقبرة عظيمة مثل أبيه، حيث لا يقل هرم “خفرع” روعة وإبهارًا عن هرم أبيه، وإن كان يقل عنه في الحجم بعض الشيء.
على الرغم من أنّ معظم أقارب الملك خفرع دُفِنُوا في مقابرَ رخيصةٍ إلى حَدٍّ ما (فعلى سبيلِ المثال بنى أخوه دجيدف رع قبرَهُ في منطقةِ أبو رواش)، إلّا أنّ خفرع لم يرضَ بأن يُدفنَ في مقبرةٍ غير مُميَّزةً، فانتقل إلى الجيزة، وبنى لنفسه قبرًا بجوار قبرِ أبيه، وهو هرمُ خفرع؛ أحدُ أهرامات الجيزة الثلاث([11])، وما ذُكِر في المصادر التاريخيّة أنّ مرس عنخ الثالثة إحدى زوجاتِهِ كانت قد دُفِنَت في مقبرةٍ عظيمةٍ بالقُربِ من قبرِه، وتظهرُ على الجُدران عند قبرها مشاهد تُصوِّرها بشعرِها القصيرِ، وبلباسِها الذي كانت ترتديه من جلدِ الفهدِ، كما تظهر أمّها الملكة حتب حرس الثانية (بالإنجليزيّة: Hetepheres II) إلى جانبِها، وفي هذا المشهدِ تجسيدٌ لقُوّةِ هاتين المرأتين، ودورهِما البارزِ أثناءَ حُكمِ الملكِ خفرع.
معبد الوادي
كانت الأهرام تشيد عادة داخل مجموعة جنائزية تضم عدة منشأت. وكان الجدار المحيط يشيد عادة من الطوب اللبن ويحتضن المجموعة بأكملها. فنبدأ بشرح معبد الوادي ثم المعبد الجنائزي.
إنّه من أقدم التّحف المعمارية التي أبدع فيها المهندس المصري القديم فشيدت على مستوى راقي ورفيع. يقع هذا معبد الوادي الخاص بالملك خفرع بمقربة من نزلة السمان بالهرم فهو أكثر الأبنية اكتمالاً لمجموعة الملك خفرع. فيما عدا السقف. كانت مداخل هذا المعبد مغلقة وتحتوى على أبواب ضخمة. وبين المدخلين الدهليز الذي عثر فيه ماريت على تمثال الملك خفرع وهو معروض الآن في المتحف المصري. فقد تعرفنا عليه من قبل. فيوجد في هذا الدّهليز باب يقود إلى أكبر قاعات المعبد، ويحتوى سقف هذا المعبد على ستة عشر عهوداً من الجرانيت، لايزال العديد منهم في حالة جيدة. كما أن أرضيّة هذا المعبد تحتوى على ثلاثة وعشرين حفرة كانت مخصصة لوضع تماثيل الملك فيها. كما أن هذا المعبد تقوم فيه عملية التحنيط بالإضافة إلى الطقوس والصلوات.
وهو مَعبدٌ بُنِيَ من حجارةِ الجِرانيت إلى جانب الهرم، حيث يمتدُّ جسر يربط بينه، وبين الهرم، وفي داخله تُوجَد عدّةُ تماثيلَ للملكِ خفرع، والإلهِ حورس المعروفِ بـ(الإله الصقر)؛ لأنّه يأخذُ شكلَ الصقر، علمًا بأنّ هذه التماثيل مَبنيّةٌ من حجارةِ الديوريت التي كانُوا يأتُون بها من الصحراء النوبيّة، وإلى جانب المعبد يُوجَد تمثال أبو الهول الذي يَعتقِدُ الكثيرون أنّه يحملُ صفاتِ الملكِ خفرعَ نفسها في مظهرِهِ، ومن الجدير بالذكرِ أنّ معبدَ الوادي التابعِ لهرمِ خفرعَ هو الوحيدُ من معابد الدولة القديمة الذي لا يزالُ قائمًا، وكاملًا إلى يومنا هذا، وقد كَشَفَ علماءُ الآثارِ عن وجودِ طريقَينِ أمامَ مدخلِ المعبدِ يتَّصِلان بالمرسى الخاصّ بالقناة القديمة الواقعة مباشرةً أمام البناءِ القديمِ، وقد عُثِرَ هناك أيضاً على أحواض يُعتقَدُ بأنّها تابعةٌ لخيمةِ التطهيرِ الماثلةِ أمامَ معبدِ الوادي، والتي كانوا يضعونَ فيها جُثّةَ الملكِ؛ ليُطهِّروه بمياهِ القناة([12]).
المعبد الجنائزي
هناك طريق صاعد يصل بين معبد الوادي والمعبد الجنائزي، وكان سقف هذا الطريق مفتوحًا في المجموعات الهرميّة المبكرة ثم كان كثيرًا ما يغطى في الأزمنة اللاحقة بسقف به فتحة مستطيلة في وسطه تسمح بدخول قليل من الضوء. وكانت الشّعائر الدّينيّة الختاميّة للملك المتوفى تؤدى في المعبد الجنائزي والمقاصير الدّينيّة؛ قبل أن ينقل جثمانه إلى مدفنه داخل الهرم. وقد خصصت حفر في الأرض لكي تضم المراكب التي كانت تستخدم في نقل الجثمان الملكي والأثاث الجنائزي؛ بعد أن تفك وترص بداخل الحفر، لكي يستخدمها الملك بالدار الآخر، ولتجواله في عالم الموتى: أو مصاحباً لرب الشمس.
الهرم الثاني والطريق المقدس الموصل من المعبد الجنائز إلى معبد الوادي.
وما أروع تماثيل هذا الملك التي صنعت من الديوريت، فنجد له ثالوثًا في المتحف المصري الذي عثر عليه في معبد الوادي الخاص بالملك خفرع، يمثل الملك جالسًا على العرش ويرتدي غطاء النمس، يعلوه حية الكوبرا الملكية، ونقبة ذات طيات، ويرتدي اللحية المستعارة، ومن خلف التمثال تمثالان للإله حورس رمز الحماية، فهنا يحميه حورس بجناحيه من المحيطين به، كما أنّ يده اليسرى مفرودة على فخذه، أما اليد اليمنى فتمسك شيئًا لعله ختم الملكيّة، كما نلاحظ ملامح الوجه جديّة وحازمة، ويعدُّ هذا التمثال حقًّا من آيات الفن العظمى؛ إذ أجاد النّحات تصوير قسمات الوجه، وعضلات الجسم، على الرّغم من صلابة الحجر.
تمثال أبو الهول
أبو الهول هو تمثال لمخلوق أسطوريّ بجسم أسد ورأس إنسان وقد نحت من الحجر الكلسيّ، ومن المرجح أنه كان في الأصل مغطى بطبقة من الجص وملون، ولا زالت آثار الألوان الأصلية ظاهرة بجانب إحدى أذنيه([13]).
إن كلمة “أبو الهول” أتت من كلمة الإله “حورون”، وكان إبان الحقبة الفرعونيّة يسمى بـ”برعاه”، أي: البيت العظيم قصر الملك، ومن “حورون” إلى “برعاه”، ثم إلى حارس الجبانة، أيّ حارس المقابر الموجودة في تلك المنطقة، وعندما شاهده العرب قالوا: يا للهول، فإنّه أبو الهول كله، ومن بعدها أطلقوا عليه كلمة “أبو الهول”، وأخيرًا بالإنجليزية إلى Sphinx، يبلع طوله حوالي 57 مترًا، وارتفاع القاعدة حوالي 20 مترًا، ينتسب هذا التّمثال للملك خفرع نسبة إلى الشّبه الكبير في الملامح، ولأنّه موجود خلف هرم الملك خفرع، فيربط الطريق الصاعد بمجموعة الملك، ولكن “أبو الهول”، له حكايات عديدة، أولًا حكاية أنفه التي لم يعرفها كثير من المصريين، كما أنّه تحمّل العديد من الترميمات السيئة التي جعلته أقدم مريض في العالم، كما أنّ الكثير منا لا يعرف حقيقة كسر أنفه، فالكثير يقول بالخطأ أن نابليون أمر جنود الحملة الفرنسية بقذف أبي الهول بالقنابل حتى كسرت أنفه، ولكن هذا الاعتقاد خطأ؛ لأن القنابل والمدافع تستطيع أن تحطم أبا الهول وتجعله في تعداد الآثار المحطمة([14]).
لكن حقيقة الأمر أن هناك رجلًا من العصر الفاطميّ اسمه “صائم الدّهر”، والمعروف أن العصر الفاطميّ كان ينظر للآثار المصريّة بوصفها أوثانًا يجب عليهم تحطيمها، فحاول هذا الرّجل جهدًا لكي يدمر أبا الهول، ولكن ضعف الإمكانيات إبان العصر الفاطميّ لم تساعده، فاكتفى هذا الرجل بتكسير أنف أبي الهول لأنّ كسر الأنف في مصر يعرف بالذّل، فأراد هذا الرجل أن يجعل أبا الهول يعيش مذلولًا، وكلما نظرت إليه أحسست بحزن أبي الهول وكأنه يشكو حاله ويتألم مما فعل به هذا الرجل، فأنا من الذين يشعرون بأنه يتكلم معي ويبتسم في وجهي، حيث إنني لم أرَ راحتي النفسية إلا وأنا جالس أمامه، فإذا أصابتني هموم الدنيا وأحسست بسوء حظ أذهب إليه لكي أحكي ما بداخلي له، وسرعان ما يأتيني الإلهام بحل مشاكلي وارتياح نفسي وصفاء ذهني. كم أنت عظيم يا أبا الهول، فإنك من رموز الحضارة المصريّة التي نفتخر بها..
بني هذا الهرم على منطقة صخرية تعلو عدة أمتار عن مستوى الأرض التي شُيِّدَ عليها هرم أبيه “خوفو”، ولهذا يشاهد المرء من بعيد هرم “خفرع” أعلى ارتفاعًا من هرم أبيه الأكبر، وذلك على غير الحقيقة .
يبلغ طول ضلع قاعدة الهرم 215م، وزاوية الميل 53 درجة، وكان ارتفاعه الأصلي 143،5 م، أما الارتفاع الحالي للهرم فهو 136م، أي أنه يقل عن هرم “خوفو” الأكبر بخوالي متر واحد.يقع مدخل الهرم في واجهته البحرية “الشمالية”، ويرتفع 11م عن مستوى الأرض، وقد اكتشف هذا المدخل للمرة الأولى بواسطة الأثري الإيطالي “بلزوني” العام 1811م. كما يوجد مدخل آخر للهرم مقطوع في الصخر، ويقع على بعد أمتار قليلة من قاعدة الهرم.
يفسر الأثريون وجود المدخلين لهرم واحد بسبب تغيير “تصميم الهرم” أثناء بنائه، ويعتقد “د. أحمد فخري” أن وجود المدخلين مرتبط بدفن الملك، فكان أحدهما يؤدي إلى الممرات وهو مبنيّ بإتقان ومحصن بمتاريس كبيرة، أما “المدخل الثاني” فكان معدًّا لدخول وخروج العمال، وقد قاموا بإغلاقه بعد انتهاء أعمال البناء.
يؤدي مدخل “بلزوني” إلى ممر هابط، جدرانه وسقفه من الجرانيت الوردي، ثم يؤدي إلى ممر هابط، ثم نصل إلى “حجرة الدفن”، وهي حجرة فارغة ومنحوتة في الصخر، الجزء العلوي من جدران هذه الحجرة وسقفها الجمالوني المثلث مشيد بالحجر الجيري، وغرب هذه الحجرة يوجد التابوت الملكي ” 2.6 x 5.1 م”، وارتفاعه متر واحد .يتميز “هرم خفرع” عن باقي أهرامات الجيزة باحتفاظه بجزء من كسائه الخارجي “حوالي 30 – 40م ” على قمة الهرم، وهو كساء من الحجر الجيري الأبيض مصقول بعناية، وقد جلب من محاجر “طرة” و”المعصرة” على الضفة الشرقية للنيل.
حقيقة قصة بناء الملك خفرع لتمثال أبو الهول
جرت العادة عند علماء الآثار والمؤرخين أنهم عندما يكتبون عن الملك «خفرع» أن ينسبوا إليه تمثال أبي الهول قائلين بأن هذا التمثال العجيب هو للملك «خفرع» بعينه، ولذلك يعتقد الكثيرون أن المعبد المجاور له هو معبد أبي الهول، والواقع أن تمثال أبي الهول ليس له علاقة قط بالمعبد المجاور له، وأنه كان إلهًا يعبده الملك خفرع وله معبد خاص قائم أمامه، كما سنفصل ذلك فيما يلي([15]).
لم تصل إلينا معلومات عن هذا التمثال من مؤرخي اليونان الذين زاروا مصر قبل الميلاد، بل كان كل همهم موجهًا إلى الأهرام ووصفها، ولا ندري لذلك من سبب، فهل كان أبو الهول مغمورًا بالرمال أم أنه لم يلفت نظرهم؟
يقع هذا التمثال في الجهة الشّماليّة من نهاية الطريق الممتد بين المعبد الجنائزي ومعبد الوادي للملك خفرع، وهو محفور في قطعة واحدة نحتت من صخرة محلية، ولكن الناظر إليه الآن لا يصدق ذلك، والسبب في هذا أنه رمم في عصور مختلفة، ويبلغ طوله ٤٦ مترًا وارتفاعه من الأرض إلى قمته ٢١ مترًا، والظاهر يدلنا على أنه تمثال، رأسه رأس إنسان وجسمه جسم أسد([16]).
أما تاريخ نحته فقد اختلف فيه المصريون أنفسهم، فهناك نقوش متأخرة تدل على أنه نحت في عهد «خوفو»، ولكن برهن البحث العلمي على أنها نقوش دخيلة من عصر الدولة الحديثة وما بعدها، وقد غالى بعض المؤرخين فقال: إن هذا التمثال قد نحت في عهد ما قبل الأسرات، وقد بقيت الآراء متشعبة في تاريخ نحته وفي كنهه وما يرمز إليه.
وما يؤسف له أننا إلى الآن لم نعثر على تاريخ أو نقش معاصر له يدلنا على زمن نحته بالضبط، ولذلك يعده الأثريون لغزًا من الألغاز في تاريخ مصر، ولكن إذا تأملنا فيما كان يحوطه به ملوك مصر من الاحترام والتّقديس وخاصة من أوائل الأسرة الثامنة عشرة إلى آخر عهد الرومان، اتضح لنا أن هذا التمثال لا بد أن يكون معبودًا من المعبودات المصريّة القديمة، وإذا كانت الأشياء يُحكم عليها بأشباهها، فلدينا في التاريخ المصري ما يُثبت ذلك؛ إذ منذ الأسرة الخامسة نجد أن الملك كان يشبه بعد وفاته دائمًا بالإله «أتوم» الذي كان يعد أعظم الآلهة المصريّة قوة وسلطانًا، ولذلك مُثِّل هذا الإله برأس إنسان أي القوة المفكرة، وجسم أسد أي القوة الجسمانية، هذا إلى أن الملك نفسه كان يمثل نفسه بهذه الكيفية، وقد بقي هذا التمثيل إلى أواخر العهد الروماني، ومن هنا جاء الالتباس بأن «خفرع» هو الذي صنع تمثال أبي الهول ليمثله نفسه وبخاصة لأنه بجوار معبده، وقد أثبت الكشف الحديث أنه صنع في عهد الملك «خفرع» وعلى صورته، ولكنه يمثل إله الشّمس عند الغروب، وقد كان يطلق عليه للمصريون اسم «أتوم».
لكن المصريين أنفسهم قد أخبرونا كتابة أن تمثال أبي الهول هو الإله «حور إم آخت» أيّ (حور في الأفق) «الملك المتوفى»، وقد ذكره المؤرخون الإغريق باسم «حرماخيس»، وليس أدل على ذلك من اللوحة التي كتبها «تحتمس الرابع» تعبُّدًا لهذا الإله وسرد ما فعله لربه من الخدمات إجابة لطلبه عندما أظهر «حور إم آخت» رغبته في إزالة الرّمال التي كانت متراكمة حوله، ولا يزال أثر هذا العمل الجليل الذي قام به «تحتمس الرابع» باقيًا إلى الآن؛ إذ نجد أنه بعد أن أزال الرمال التي كانت متراكمة حوله، بنى من جهاته الأربع سورًا من اللَّبِن لا يزال جزء منه باقيًا إلى الآن، وعلى مسافة نحو أربعين مترًا غرب السور أقام سورًا آخر لحماية السور الأول من إغارة الرمال، وقد جاء بعده ملوك من الأسرات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين بنوا مساكن للكهنة الذين كانوا يقومون بتأدية الفرائض الدّينيّة لهذا الإله، وبخاصة عندما نعلم أنّ ملوك هذه الأسر كانوا قد اتخذوا البقعة التي حول أبي الهول مكانًا للصيد والقنص لشهرتها بحيوانات الصيد، ولذلك كانوا يطلقون على هذه الجهة اسم «وادي الغزلان»، وقد عثر أخيرًا على بيت وحمام ﻟ «توت عنخ آمون» في هذه الجهة، ربما كان لراحة الملك عند خروجه للصيد، ولما جاء «رعمسيس الثاني» نقش اسمه على هذا البيت بعد أن طُمس بطبقة من الجص نقوش «توت عنخ آمون»، ونجد كذلك أن جسم الحيوان قد رمم في أزمان مختلفة وبخاصة في عهد الأسرة الثّامنة عشرة والأسرة العشرين، وفي عهد الإغريق والرومان، ومباني هذه العصور نراها واضحة في الترميمات التي أدخلت عليه وخاصة في جانبيه وذيله.
مع كل هذا بقي الاعتقاد عند علماء الآثار سائدًا بأن أبا الهول يمثل الملك «خفرع» إلى أن كشف حديثًا عن معبد منفصل تمام الانفصال عن المعبد المجاور له، أيّ معبد «خفرع»، وموقعه في الجهة الشرقية من وجه أبي الهول، وهذا المعبد قد أقيم لعبادة هذا الإله، وقد نصبت فيه تماثيل للملك الذي أقامه، غير أنه لم يبقَ منها إلا قواعدها تدل عليها([17]).
لكن الواقع أن هذا التمثال يمثل الشمس عند الغروب، وهي تعد أكبر المعبودات عند المصريين، وأن هذا المعبد الذي أنشئ أمامه أقيم خاصة لعبادته، ولا يمكن أن يكون قد أقيم لعبادة «خفرع»؛ إذ إنه قد أقام لنفسه معبدين أحدهما جنوب هذا المعبد وهو معبد الوادي، والآخر هو المعبد الجنائزي الواقع شرق هرمه مباشرة، ولا غرابة في إقامة تمثال أبي الهول في هذه الجهة؛ إذ كان على مقربة منه بلدة عين شمس التي كانت تعد أكبر مركز لعبادة الإله «أتوم» إله هذه الجهة المحلي، وكان يمثل فيها بشكل أسد رأسه رأس إنسان، وكان أمام معبده طريق تحفه تماثيل أبي الهول الذي يمثل الإله المحلي لهذه الجهة.
ما يعزز إلاهية أبي الهول أنّ الأهلين في عصور مختلفة كانوا يصنعون تماثيل لهذا الإله ويعدونها تذكارًا في الحفلات الدينيّة التي كانت تقام له، وقد عثر منذ بضع سنوات على أكثر من عشرين تمثالًا له صغيرة الحجم في الرمال التي كانت تغطي معبده، وعلى تماثيل متوسطة الحجم أمام معبد «أمنحتب الثاني» الذي أقام فيه لوحته المشهورة.
الحقيقة إذًا؛ أن تمثال أبي الهول ليس بلغز وما هو إلا الإله «أتوم»، وإنما أخذ العالم على عاتقه أن يجعله لغزًا إلى الأبد، وسيبقى كذلك ولو ظهرت كتابات تدل على أصله وكنهه. أمّا العهد الذي نحت فيه أبو الهول فقد عرف على وجه التقريب؛ إذ دلت الكشوف الأخيرة على أنه نحت بعد إقامة الطريق الموصل بين المعبد الجنائزي ومعبد الوادي للملك «خفرع»؛ أي إن أبا الهول لا بُدَّ أن يكون قد نحت في عهد «خفرع» باني الهرم الثاني أو بعده، وهذا أول تاريخ ثابت في عمر أبي الهول([18]).
قامت مصلحة الآثار في العام 1937 بحفائر لتنظيف المنطقة التي تقع حول أبي الهول والحفرة التي هو فيها، وقد أدت هذه الحفائر إلى كشف النقاب عن نيف ومائة وخمسين لوحة تذكارية وآثار أخرى وبعض مقابر في الجهة البحرية يرجع عهدها إلى الدولة القديمة، وأهم هذه اللوحات لوحة الملك «أمنحتب الثاني»، وقد نصبها داخل معبد خاص له تذكارًا لزيارته لمنطقة الهرم وأبي الهول، وفيها ذكر أبا الهول بأنّه هو الإله «حور أم آخت» وأنه الإله «أتوم» وتكلم عن الأهرام بأنها أهرام أبي الهول؛ أي إنه نسبها إلى هذا التمثال العظيم بصفته إلهًا. أما اللوحات الكثيرة التي كشف عنها هذا العام فقد استخلصنا منها معلومات جديدة تلقي بعض الضوء على هذا التمثال فيما يلي:
دلت البحوث التي حول هذا التمثال على أن ملوك الفراعنة منذ بداية الأسرة الثامنة عشرة حتى نهاية العهد الروماني كانوا يزورون هذا المكان المقدس، وكذلك كان يتقرب الأهلون إلى أبي الهول بتقديم القرابين، واللوحات التذكارية، كما كانوا يتقربون إلى الإله أوزير في «العرابة» المدفونة، فكانت هذه المنطقة تعد في نظر القوم والملوك أنها بقعة مقدسة، وقد كانوا يطلقون على معبد أبي الهول اسم «المكان المختار»([19]).
ولا شك في أن فراعنة مصر فضلًا عن تقديسهم لأبي الهول، فإنهم كانوا يأتون إلى هذه المنطقة لصيد الغزلان والأسود، ولا غرابة في ذلك، فإن هذه المنطقة كان يطلق عليها اسم «وادي الغزلان»، وتدل اللوحات التي كشفت في هذا المكان على ما يثبت ذلك، فنجد أن من زار هذه البقعة حسب ما وصلت إليه معلوماتنا هو ابن «تحتمس الأول» ثم «تحتمس الثالث»، «وأمنحتب الثاني» صاحب اللوحة المشهورة التي كشف عنها حديثًا، وهي التي يقول فيها إنه أتي بعربته من منف إلى مكان أبي الهول الذي بنيت من أجله الأهرام، ثم «تحتمس» الرابع الذي ذكر في لوحته أنه جاء في هذا المكان وهو أمير لم يتول الملك بعد، وأخذته سِنة من النوم في ظل أبي الهول، وطلب إليه «حور إم آخت» (أبو الهول) أن يزيل عنه الرمال عندما يتولى عرش الملك، على الرّغم من أن «تحتمس الرابع» لم يكن الوارث الحقيقي للعرش، وقد برّ بوعده. ثم جاء بعده «أمنحتب الثالث»، وقد رسم في لوحة فتيا، للصيد والقنص، وكذلك حضر «توت عنخ آمون» إلى هذا المكان المقدس، وأقام في الجهة القبلية منه مكانًا للراحة باللَّبِن، وشيد فيه حمامًا ليستحم فيه بعد الصيد والقنص. وقد كشف عن هذا المكان حديثًا غير أن «رعمسيس الثاني» كعادته وضع طبقة من الجص فوق النقوش التي نقشها «توت عنخ آمون» على واجهة الاستراحة التي بناها في هذه الجهة، وكتب اسمه وألقابه، وقد وجدنا النقشين أحدهما فوق الآخر.
الفرضيات المخالفة
يعتقد بعض علماء المصريات والحفريات الأوائل في مجمع أهرامات الجيزة أن أبو الهول والمعابد المرتبطة بها تسبق حكم الأسرة المصريّة الرابعة لخوفو وخفرع ومنقرع([20]).
فلندرز بيتري كتب في العام 1883 بخصوص حالة الرأي بخصوص عمر المعابد المجاورة، وبالتالي تمثال أبو الهول: ” تأكد بشكل إيجابي أنّ تاريخ المعبد الجرانيت معبد الوادي كان أقدم من الأسرة الرابعة، لدرجة أنه قد يبدو من التسرع مناقشة هذه النقطة. ولكن الاكتشافات الحديثة، على أيّ حال، أظهر بقوة أنه لم يتم بناؤه بالفعل قبل عهد خفرع، في الأسرة الرابعة.
راينر ستاديلمان، المدير السابق لـ المعهد الألماني للآثار في القاهرة، فحص أيكونغرافيا مميزة لـ “نمس“غطاء الرأس واللحّية المنفصلة الآن وخلص أبو الهول إلى أن الأسلوب أكثر دلالة على (الملك خوفو 2589 ق.م – 2566 ق.م)، باني الهرم الأكبر ووالد خفرع. إنه يدعم هذا من خلال اقتراحه أن جسر خفرع قد تم بناؤه ليتوافق مع هيكل موجود مسبقًا، والذي، وفقًا لموقعه، لا يمكن أن يكون إلا أبو الهول.
يوافق كولين ريدر، الإنجليزي الجيولوجي الذي أجرى بشكل مستقل مسحًا حديثًا للمحاذاة، على أن المحاجر المختلفة في الموقع قد تم حفرها حول الجسر. نظرًا لأنه من المعروف أن خوفو استخدم هذه المحاجر، استنتج ريدر أن الطريق (والمعابد الموجودة على طرفيه) يجب أن تسبق خوفو، ما يلقي بظلال من الشك على التّسلسل الزّمني لمصر القديمة.
فرانك دومينغو، عالم الأدلة الجنائية في شرطة نيويورك وخبير أنثروبولوجيا طبية شرعيّة([21])، استخدم القياسات التفصيلية لأبو الهول، رسم جنائي ورسوميات حاسوبية لاستنتاج الوجه المرسوم على أبو الهول ليس نفس الوجه الذي صور على تمثال منسوب لخفرع.
أعلن فاسيل دوبريف من المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة في العام 2004 أنّه اكتشف أدلة جديدة على أن تمثال أبو الهول ربما كان من عمل الملك غير المعروف( دجيدف رع 2528 ق.م – 2520 ق.م)، الأخ غير الشقيق لخفرع وابن خوفو.
يقترح دوبريف أن دجيدف رع بنى تمثال أبو الهول على صورة والده خوفو، وعرفه بإله الشمس رع من أجل استعادة الاحترام للأسرة الرابعة. يشير دوبريف أيضًا، مثل ستادلمان وآخرين، إلى أن الجسر الذي يربط هرم خفرع بالمعابد قد تم بناؤه حول أبو الهول، ما يشير إلى أنه كان موجودًا بالفعل في ذلك الوقت.
أبو الهول مثل أنوبيس
يقترح المؤلف روبرت ك. جي. تمبل أن تمثال أبو الهول كان في الأصل تمثالًا لإله ابن آوى أنوبيس، إله المقبرة، وأن وجهه قد أعيد نحته على شكل ملك من عصر المملكة المصريّة الوسطى من قبل أمنمحات الثاني. أسس تيمبل تحديده على أسلوب مكياج العين وأسلوب الطيات على غطاء الرأس([22]).
الخصائص العرقيّة
على مر السنين، علق العديد من المؤلفين على ما يعتبرونه خصائص “زنجاني” في مواجهة أبو الهول. أصبحت هذه المسألة جزءًا من الجدل حول العرق المصري القديم، في ما يتعلق بالسكان القدماء ككل([23]).
الغرف المخفية
هناك تاريخ طويل من التكهنات حول الغرف المخفية تحت تمثال أبو الهول، بواسطة شخصيات باطنية مثل هارفي سبنسر لويس. تنبأ إدغار كايس على وجه التحديد في الثلاثينيات من القرن الماضي أن “قاعة السجلات”، التي تحتوي على معلومات من أتلانتس، ستكتشف تحت تمثال أبو الهول في العام 1998. وقد أثار تنبؤاته الكثير من التكهنات الهامشية التي أحاطت بأبو الهول في التسعينيات، والتي فقدت زخمها عندما لم يُعثر على القاعة عند توقعها.
الخاتمة
تحدثنا في هذا البحث عن الحضارة الفرعونية القديمة في الحقبة ما بين 2558 – 2538 ق.م وبالتحديد عن الأسرة الرابعة من سلالات الأسر التي تعاقبت على الحكم في تاريخ الفراعنة ما قبل التاريخ، وهذه الحقبة كانت مصدر إلهام للعديد من الكتاب والباحثين في التاريخ من الأجانب، للكتابة عن أوجه تقدّم تلك الحضارة، لكن الحضارة المصرية، بكل ما تحمل من أوجه اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة وفنيّة، كانت مادة للعديد من علماء الآثار والمصريات، ونشرت مئات الكتب، التي تحدثت عن أولى حضارات العالم القديم، وكيف أنها كانت حضارة الأجداد.
ألقينا اهتمامنا هذا البحث على الملك الثاني من الملوك الذين عمروا واحدة من عجائب الدنيا السبع ألا وهي الأهرامات حتى سُمّي عصرهم عصر بناة الأهرام، وبالتّحديد عن الملك خفرع، وقدمنا سيرة عن حياته ثم تطرقنا إلى آثاره، بما فيها تمثال أبو الهول، وقدمنا الفرضيات التي تصارعت حول حقيقة بنائه لهذا التمثال الكبير.
المصادر والمراجع
المصادر العربية والمعربة:
- إدوارد : أهرام مصر، ترجمة مصطفى عثمان، الهيئة العامة للكتاب، 1999.
- أحمد فخري: مصر الفرعونيّة، موجز تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عام 332 ق. م، مكتبة ألأنجلو المصريّة، 2004 م.
- أحمد فخري، الأهرامات المصريّة، مكتبة الأنغلو المصريّة، القاهرة، 1963.
- أنطوان بطرس: آخر عجائب الدنيا السبع، لغز الهرم الكبير.
- آني أبرنيثي بيري كيبيل، أهرامات الجيزة، ترجمة محمد عبد السلام الشامي، طبعة إلكترونية، يوليو، 2017.
- جراهام دبليو اروين: الأفارقة بالخارج، مطبعة جامعة كولومبيا، 1977.
- سليم حسن: موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الإهناسي، ج1، الفصل الخامس عشر.
- عبد العزيز صالح، حضارة مصر القديمة وآثارها، الهيئة العامة للشؤون المطابع الأميرية، ج1، القاهرة، 1962.
- عبد العزيز صالح، كتاب الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق – آثار عهد خفرع – المكتبة الشاملة الحديثة، 2019.
- فيرمونت روتشستر: التقاليد الداخلية، 2009.
- ممدوح محمد الدماطي، سعيد عبد الحفيظ: آثار مصر القديمة من أقدم العصور حتى نهاية الدولة الوسطى، مکتبة الأنجلو المصريّة.
- موقع مصر الخالدة: 23/10/2021.
- ميادة محمد الأمين، العمارة الجنائزية في الممالك المصريّة القديمة.
- نور جلال: ملامح من فيض الحضارة في العصور المصريّة القديمة، مكتبة الانجلو المصريّة، القاهرة.
المصادر الأجنبية:
- James Breasted: Ancient Records of Egypt، Part I، 1906، p 45.
- Khafra (Khephren) (c.2558 BC – c.2532 BC)”،bbc.co.uk، Retrieved 23/10/2021. Edited.
- Peter Clayton، Chronicle of the Pharaohs، Thames and Hudson Ltd، 1994،50
- Robert KG Temple : The Sphinx Mystery: The Forgotten Origins of The Sanctuary of Anubis.
[1]– أستاذ مساعد في الجامعة اللّبنانيّة، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم التّاريخ، الفرع الخامس.
[2]– Breasted, James: Ancient Records of Egypt, Part I, 1906, p 45.
[3]– Clayton, Peter: Chronicle of the Pharaohs, Thames and Hudson Ltd, 1994, p.50
[4]– الأسرة المصريّة الرابعة حكمت من العام 2613 إلى 2496 قبل الميلاد وتعدُّ العصر الذهبي للدولة القديمة والحضارة المصريّة ككل، إذ شهدت هذه الأسرة أكبر نهضة عمارة في بناء الأهرام بشكل كامل حتى سمي عصرها بعصر بناة الأهرام. ونجح ملوكها في الارتقاء بالاقتصاد وحركة التجارة والتعدين والتوسع الحربي في مواجهة قبائل ليبيا والنوبة، كما ازدهرت في عصرها الفنون والثقافة والفكر الديني نتيجة للاستقرار والرخاء.
[5]– Khafra (Khephren) (c.2558 BC – c.2532 BC)”, www.bbc.co.uk, Retrieved 23/10/2021. Edited.
[6]– الأمين، ميادة محمد: العمارة الجنائزية في الممالك المصريّة القديمة، صفحة 12. بتصرّف.
[7]– صالح، عبد العزيز: حضارة مصر القديمة وآثارها، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ج1، القاهرة، 1962، ص 95.
[8]– صالح، عبد العزيز: كتاب الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق، آثار عهد خفرع، المكتبة الشاملة الحديثة، ص 117.
[9]– المرجع السابق نفسه.
[10]– فخري، أحمد: الأهرامات المصريّة، مكتبة الأنغلو المصريّة، القاهرة، 1963، ص 35.
[11]– عجائب الدنيا السبع: مجموعة من الآثار الفنّيّة القائمة العجيبة، اشتهرت بين السياح في العهد الإسكندري. وقد ذكرت جملة إثبات من هذه العجائب، ولكن أشهرها وأقدمها الثبت الذي ذكره المؤرخ والشاعر «انتيباتر» الصيداوي، القرن الثاني ق.م. على الوجه الآتي. 1- أهرام مصر. 2- فنار الإسكندرية 3- أسوار بائل وجنائها المعلقة. 4- معبد الآلهة «أرطميس» (ديانا) في مدينة أفسس (آسية الصغرى). 5- تمثال الإله «زوس» أو «جوبتر» للنحّات اليوناني الشهير فيدياس. 6- الناووس الفخم في هليكارنا سوس (آسية الصغرى). 7- التمثال الضخم في روس.
[12]– بطرس، أنطوان: آخر عجائب الدنيا السبع، لغز الهرم الكبير، صفحة 82. بتصرّف.
[13]– موقع مصر الخالدة: 23/10/2021.
[14]– فخري، أحمد: مصر الفرعونيّة، موجز تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عام 332 ق. م، مكتبة ألأنجلو المصريّة، 2004 م، ص 87.
[15]– جلال، نور: ملامح من فيض الحضارة في العصور المصريّة القديمة، مكتبة الانجلو المصريّة، القاهرة،، ص 99.
[16]– أبرنيثي، آني- كيبيل، بيري: أهرامات الجيزة، ترجمة محمد عبد السلام الشامي، طبعة إلكترونية، يوليو، 2017.
[17]– حسن، سليم: موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الإهناسي، ج1، الفصل الخامس عشر، ص 210.
[18]– الدماطي، ممدوح محمد وعبد الحفيظ، سعيد: آثار مصر القديمة من أقدم العصور حتى نهاية الدولة الوسطى، مکتبة الأنجلو المصريّة، ص 66.
[19]– حسن، سليم: موسوعة مصر القديمة، المرجع السابق، ص 120.
[20]– إدوارد، أ: أهرام مصر، ترجمة مصطفى عثمان، الهيئة العامة للكتاب، 1999، ص 23.
[21]– حسن، سليم: موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الإهناسي، مرجع سابق، ص 155.
[22]– Robert, KG Temple : The Sphinx Mystery: The Forgotten Origins of The Sanctuary of Anubis.
روتشستر، فيرمونت: التقاليد الداخلية، 2009.
[23]– اروين، جراهام دبليو، الأفارقة بالخارج، مطبعة جامعة كولومبيا، 1977، ص. 11.