جولة في التّماسك النصّي وآليّاته في الخطبة الأولی
من کتاب نهج البلاغة
د. مهدي عابدي جزينيّ([1])
الملخّص
إنّ التّماسك النصّي من القضايا المهمّة التي برزت في ساحة اللّسانيات الحديثة ويقصد به مجموعة من الأدوات والآليّات التي تربط عناصر النصّ؛ إمّا علی مستوی دراسة العناصر الشّكلية(الاتّساق) أو علی مستوی دراسة العناصر الدّلالية للنصّ (الانسجام) والتّماسك النصّي يوظّف أدواته وآلياته الخاصّة به من الإحالة والحذف والتكرار والوصل و… لابراز التوحّد في النصّ ككلّ منسجم. يتبنّی البحث منهج الوصفيّ- التّحليليّ من خلال تطبيق نظرية التّماسك النصّي علی الخطبة الأولی من نهج البلاغة كملاط الدّراسة. في هذه المقاربة اللّسانية تعرض البحث لوسائل الاتّساق التي تجعل الخطبة الأولی لنهج البلاغة وحدة واحدة لا تتجزّأ، وذلك كالإحالة والتّكرار والتضامّ وغيره، وبدا أنّ هذه الخطبة نصّ لغوي متماسك، وذلك من خلال التحليل الذي أظهر غناء الخطبة بآليّات الانسجام وأدوات الاتّساق. وخلص البحث إلی نتائج عدّة منها: قد لعبت الإحالة الضميرية فی هذه الخطبة دوراً كبيراً في تماسك النصّ، إذ إنّها تُعطي المتلقّي الأداة التي بها يتمكن من إرجاع الأفعال النصّية إلی محدثها. كما أنّ التكرار اللّفظي يفضل علی الإحالة بالضّمير لما يتطلّبه موقف المشافهة من التخفيف علی ذاكرة المتلقّي وتقديم الألفاظ بأعيانها ليظلّ رابطاً أوّل الخطاب بتاليه.
الكلمات المفتاحيّة: التّماسك النصّي، نهج البلاغة، التّماسك النّحويّ، أدب الخطاب.
A study of textual coherence and its mechanisms in Nahj al-Balaghah
(The first sermon as an example)
Abstract:
Textual coherence is one of the most important issues that have emerged in the field of modern linguistics, and it refers to a set of tools and mechanisms that link the elements of the text. Either at the level of studying the formal elements (consistency) or at the level of studying the semantic elements of the text (consonance).Textual coherence employs its own tools and mechanisms of reference, deletion, repetition, linking, and etc to justify the unity of the text as a coherent text.This research based on the descriptive-analytical approach applies the theory of textual coherence to study the first sermon of Nahj al-Balagha.In this linguistic approach, the research study the elements of coherence that make the first sermon of Nahj al-Balaghahunited text, such as reference, repetition, cohesion, and others.This sermon appeared to be a coherent linguistic text, through the analysis that showed the sermon employs with the mechanisms of harmony and coherence tools. The research concluded with several results, such as:The pronoun reference in this sermon has played a major role in the cohesion of the text, as it gives the recipient the tool with which he can refer the textual verbs to their speaker.Verbal repetition is preferable to pronoun referencing what the oral stance requires in reducing the memory of the recipient and presenting the words with their specifics so that it remains a link between the beginning of the speech and the next.
Key words:Textual coherence, Nahj al-Balagha, grammatical coherence, discourse literature.
- المقدّمة
- تحديد الموضوع
التّماسك النصّي، من القضايا المهمّة التي طرحت في ساحة اللّسانيّات الحديثة ومعالجة آليّات تماسك النصّ وتلاحم تفاصيله يفتح بُعدًا مستجدًّا أمام القارئ ويوصله إلى إدراك إعجاز النّصّ ککلّ متوحّد.
وقد وقع الاختيار علی “نهج البلاغة” ليكون مضمارًا لتطبيق ذلك بأنّ أسلوب الإمام صار أسلوبًا يحتذيه البُلغاء والفصحاء، لما يمثّله من تمايز في التّعبير وتسليط الأضواء الكاشفة علی معضلات المعرفة من تصوير المعاني وتقريبها من الأفهام وتحديدها في الأذهان وهي تحتفظ دومًا بمقياس واحد وقالب تعبيري مفرد.
ولما كان الخطاب في نهج البلاغة متنوّعًا بين الشّفاهي والمكتوب وبين الخطب الطّوال والحكم القصار والرّسائل، اقتصرنا في البحث علی نصّ الخطبة الأولی وهي نصّ شفاهي، لإيماننا بأنّ تقنيات التّماسك في الشّفاهي من النّصوص تختلف عنها في المكتوب من النّصوص، ذلك بأنّ المشافهة تمثّل سياقًا تواصُليًّا يختلف عن السّياقات الأخری؛ فهي تتيح اكتمال دائرة التّواصل حيث تجتمع أركان العمليّة التّواصليّة من مرسل ومتلقٍّ وزمان ومكان.
إضافةً إلی ذلك، فإنّ المشافهة تختصر طريق المواجهة بين المرسل والمتلقّي وهو أمر قد يؤدّي من جهةٍ إلی تحديد دلالة الخطاب وبتدخّل المتلقّي يستفهم المعنی أو يعلّق علی الخطاب ما يتيح للمرسل تحديد الدّلالات والمقاصد لخطابه.
وعلی الرّغم من أن كثيرًا من الخطب والرسائل الموجودة في نهج البلاغة جاءت مقطّعة أو اجتبی منها الشّريف الرّضي مقاطع قصيرة كانت أو طويلة، غير أننا نلاحظ في مجملها إحكامًا فی النّسج والبناء.
2-1. ضرورة البحث
دراسة التّماسك النّحوي وآليّاته في خطب الإمام علي(ع) في نهج البلاغة ولاسيمّا الخطبة الأولی منه وإزاحة السّتار عن المفاهيم المحورية التي تستوعبها هذه الخطبة، تبيّن ضرورة هذا البحث ويدفع المتلقّي إلى التّفکير في صميم الرّسالة التي أراد الإمام عليه السّلام توجيهها إلى النّاس.
3-1. هدف البحث
تروم هذه الدراسة إحداث رؤية مغايرة في تلقّي النّصوص واستلام الخطابات وذلك بالکشف عن فاعليّة الآليّات النصّيّة التي تخلق دائرة دلاليّة متلاحقة في الخُطَبة الأولی من نهج البلاغة كنصّ متوحّد.
4-1. أسئلة البحث
الأسئلة التي يروم البحث الإجابة عنها تتلخّص في ما يلي:
– ما هي أبرز آليّات التّماسك النّحوي في الخطبة الأولی من نهج البلاغة؟
– كيف تجلّت مظاهر التّماسك النصّي المتمثّلة في آليّات التّماسك والانسجام في الخطبة وما دورها في تحقيق نصّية الخطبة؟
5-1. خلفيّة البحث
تسبق هذه الدّراسة دراسات عديدة، أهمّها:
- مقالة “التکرار من منظار علم لغة النصّ ودوره في تماسك النصّ على نظرية هاليدي وحسن (الخطبة القاصعة من نهج البلاغة أنموذجًا) (1436) إذ تنتهي الكاتبة إلی أنّ التکرار من منظار نحو النصّ يحظي بعناية کبيرة في الخطبة القاصعة؛ وذلك بسبب خاصيّة التکرار للتوازن بين المعلومات الجديدة والقديمة في النصّ و تسهيل فهم القضيّة للمتلقّي والکلمات الأکثر تکرارًا في الکمات العامّة هي ما ترتبط بالإنسان، وبعد ذلك ما ترتبط بالزّمان والاسم الدالّ على حقيقة.
- مقالة “الاتّساق المعجمي في رسائل نهج البلاغة (رسالة الإمام علي(ع) لمالک الأشتر النّخعي نموذجًا) (1441) وتعتقد الكاتبة أنّ التعرّف على التّماسك النصّي في هذه الرّسالة الحکوميّة والبحث عن المحاور اللّغوية الأصليّة منها والفرعيّة في التّحليل المعجميّ يبّين الترکیز الأساس في تنظيم أمور البلاد وإمعان النّظر في الأولويّات الإجرائية کدُستور حکومي.
- مقالة “مظاهر التّماسك النّحوي ووظائفه في خطب الإمام الحسن(ص) روائع الخطب نموذجًا” (2019) وخلص البحث إلى أنّ آليات التّماسك النصّي من الروابط والإحالات من التقديم والتأخير والتكرار والتوكيد واستخدام العواطف والتوابع وغيره كلّها قد تعاونت لتحقيق الرّسالة التي كان ينوي الإمام إبلاغها إلى الناس تلك الآونة.
- مقالة “الإحاله وتوظيفها في تماسك القصيدة الدّينيّة عند الشّريف المرتضی قصيدة الغدير نموذجًا” (1441) واستنتجت الباحثة أنّ الإحاله النّصّية طغت علی القصيدة، إذ أكثرَ الشّاعر من استخدام الإحالة النصّية القبليّة بالمقارنة مع الإحالة البعديّة وهذا الاستخدام أسهم بشكل كبير في تماسك أبيات القصيدة وترابطها ، وقيمتها الفنّية تكمن في مزاوجة الشّاعر بين العناصر الإحاليّة والصّور الفنّية ما جعل غرضه أقرب إلی الإدراك وأكثر إقناعًا للمتلقّي.
- وهنالك أطروحة جامعيّة من إعداد الطّالب عيسى جواد فضل محمد الوداعي وهي معنونة بـ “التّماسك النصّي، دراسة تطبيقية في نهج البلاغة” (2005) وقد درست شتّى التّماسکات النصّية على مستويات عدّة منها التّماسك النصّي، والتّماسك المعجميّ، والتّماسك النحويّ، والتّماسك الدّلالي، والتّماسك التّداولي، ثمّ طبّقت هذه المستويات على نهج البلاغة.
- والأطروحة الأخری تحت عنوان “التّماسك النصّي في الرّسالة للإمام الشّافعي دراسة في علم اللّغة النصّي”(2010) لإبراهيم جمعة سعد والتي کشفت عن مظاهر الارتباط المضمونيّ والموضوعيّ بين أجزاء الرّسالة؛ الأمر الذي يؤکّد أنّ نصوص الرّسالة کلّها لحمة وسدیً في نسيج أصول الفقه و…
ولم يثقف الكاتب علی بحث تناول قضية التّماسك النصّي وآليّاته في الخطبة الأولی لنهج البلاغة.
6-1. منهج البحث
المنهج الذي اختاره الباحث هو المنهج التّوصيفيّ-التّحليليّ وفي البداية يعرّف ظاهرة التّماسك وآليّاتها، ثمّ يقوم بالبحث عن هذه الآليّات وفاعليّتها في الخطبة الأولی لنهج البلاغة.
- التّماسك النصّي، مفهومه وآليّاته
في بداية الأمر نلاحظ وجود بلبلة مصطلحية في عرض مفهوم التّماسك (Cohesion)؛ فبعضهم يجعله مشتركاً مع مفهوم الاتّساق ويقسمه بالتالي إلی تماسك نحوي وآخر دلاليّ([1]) وآخرون يطلقون عليه لفظ الاتّساق([2]) والانسجام([3]) والرّبط النحوي- السّبك أو الاقحام([4]).
يدور هذا المصطلح في الدّراسات اللّسانيّة النصّية حول البُنية السّطحية للنصّ التي تهتمّ بمعرفة شبكة العلاقات النّحويّة- المعجميّة وتبيانها، فضلًا عن علاقات أخری علی المستوی السّطحيّ للنصّ من حيث العلاقات التي تقيمها أدوات التّماسك الرّابطة لأجزاء النّصّ أي العلاقات والرّوابط التي تؤلّف بُنية النصّ.
ووجود أدوات التّماسك لا يعني أنّ النصّ أصبح مفهومًا وذا معنیً- أي متّسقًا- لأنّ دور هذه الأدوات لا ينتهي بإقامة الرّابطة بين أجزاء النصّ، بل عليها أن تقوم بتوضيح العلاقات المفهومية وعرضها وهو ما أشار إليه هاليدي ورقية حسن بقولهما: «أنّ المفهوم الدّلالي يشير إلی علاقات المعنی الموجودة ضمن النصّ التي تعطي للنصّ كيانه النصّي»([5]).
صفوة القول إنّ التّماسك هو التّعبير السّطحي لعلاقات التناسق أيّ أنّه أداة لتوضيح العلاقات المفهوميّة وجعلها واضحة بيّنة.
كما أنّ الاتّساق أحد الجناحين لمصطلح التّماسك النصّي وجناحه الثانيّ الانسجام ومفهوم الاتّساق في الدّراسات الحديثة ليس بِناءٍ عن دلالته اللّغويّة ولا عن محيطه النّقدي؛ فحدّه عند علماء اللّسانيات: «التّماسك الشّديد بين الأجزاء المشكلة لنصّ لخطابٍ ما ويهتمّ فيه بالوسائل اللّغوية التي تصل بين العناصر المكوّنة لجزء من خطاب أو خطاب برمّته، فيكون مترابطاً من أوّله إلی آخره ذا بنية تركيبية واحدة ذات معنی»([6]).
والاتّساق يكون علی مستويين: تركيبي ومعجمي وأنّ لكلّ من المستويين مظاهره والمقصود بالمستوی التركيبي للنصّ ما يتعلّق بالجانب الدّلالي المنوط بالعلاقات المعنوية القائمة داخل النصّ ومن مظاهر الاتّساق النصّي علی المستوی التركيبيّ داخل النصّ الإحالة وهي تدلّ علی أنّ العناصر المحلّية كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل؛ إذ لابدّ من العودة إلی ما تشير إليه من أجل تأويلها([7]) وبذلك يتحقّق التلائم بين معاقد النّصوص ومفاصلها ويبرز الترابط بين أجزاء النصّ المتمثّلة في التراكيب والجمل.
والإحالة نوعان: «إحالة داخليّة وهي إحالة علی ما هو داخل النصّ تكون علی العناصر اللّفظية الموجودة في النّصّ المدروس. وإحالة خارجيّة تكون علی ما هو خارج النصّ وتتحقّق بإحالة عنصر لغوي إحالي علی عنصر إشاري غير لغوي موجود في المقام الخارجي؛كأن يحيل ضمير المتكلّم المفرد علی ذات صاحبه المتكلّم فيبرز السّياق الحالي من خلاله فيحدث الفهم والإفهام»([8]).
للتماسك شكلان: السّبك والحبك؛ فالأوّل يرتبط باللفظ والآخر يرتبط بالمعنی والدّلالة دائمًا ولا تماسك إلا بالسّبك والحبك، كما أن النصّ لا يكون نصًّا إلا بالتّماسك، فالتّماسك هو الدّليل علی نصّية نصّ ما، والتّرابط و التّماسك النصّي هو وجود علاقة بين أجزاء أو جمل النصّ أو فقراته، لفظيّة كانت أو معنويّة وكلاهما يلعبان دورًا تفسيريًّا؛ لأنّ هذه العلاقة مفيدة في تفسير النصّ([9])، كما أنّ التّماسك هو خاصيّة نحويّة للخطاب تعتمد علی علاقة كلّ جملة منه بالأخری وهو ما ينشأ عن طريق الأدوات التي تظهر في النصّ مباشرةً، كأدوات العطف والوصل والترقيم وأسماء الإشارة وأداة التعريف واسم الموصول و غيره…
من خلال هذين المفهومين ندرك أنّ التّماسك هو التحام ظاهر النصّ بباطنه وبعبارة أخری التصاق الشّكل بالمضمون ومجمل القول: التّماسك النصّي هو علاقة معنوية بين عنصر في النصّ وعنصر آخر يكون ضروريًّا لتفسير النصّ الذي يحمل مجموعة من الحقائق المتوالية؛ فإذا كانت الجملة تشير إلی حقيقة بمجموعة من الكلمات، «فإنّ توالي الجمل سوف يشير إلی مجموعة من الحقائق وعلی نحو النصّ أن يكشف عن العلاقة المعنوية بين مجموع هذه الحقائق وهذه العلاقة المعنوية تأتي غالبًا عن طريق الأدوات في ظاهر النصّ»([10]).
- مظاهر التّماسك النصّي في الخطبة الأولی لنهج البلاغة
1-3- التّكرار
يعدّ التکرار بوصفه أحد أرکان علم النصّ «أداة للتماسك النصّي والتّکرار هو إعادة عنصر معجمي أو ورود مرادف له أو شبه مرادف أو اسم عامّ أو کليّة شاملة»([11]) وأيضًا «تشاکل لغوي يلفت الانتباه ومظهر من مظاهر التّماسك المعجمي، إذ يقوم ببناء شبکة من العلاقات داخل المنجز النصّي ويحقق ترابط النصّ». إذ إنّ العناصر المکرّرة تحافظ على بنية النصّ وتغذّي الجانب الدّلاليّ والتّداولي فيه وذلك من خلال تکاثر المفردات وکثافتها، ممّا يحقّق سبك النصّ وتماسکه وإعادة تأکيد کينونته واستمراريته واطّراده([12]) ويشيع التّکرار في الکلام التّلقائي ويرجع شيوعه إلى قصر زمن التخطيط.
1-1-3. أنواع التکرار على أساس نظرية هاليدي ورقية حسن
- تکرار نفس الکلمة
وهو على ثلاثة أقسام:
أ( التکرار المباشر: وذلك تکرار العنصر المعجمي من دون تغيير.
ب ( التکرار الجزئي وهو تکرار جذر صرفي في مشتقاته المتعدّدة.
ج( الاشتراك اللّفظي: هو ما يعرف بالتکرار المعنوي؛ لأنّ اللفظة تتکرّر والمعنى يختلف([13]).
- الإحالة التکرارية أو التکرار الإحاليّ
يذهب علماء اللّغة إلى أنّ الإحالة التکراريّة من أوثق أنواع التکرار. يقول درسلر: «إنّ هذا النوع من إعادة اللفظ يعطي منتج النصّ القدرة على خلق صُور لغوية جديدة؛ لأنّ أحد العنصرين المکرّرين قد يسهل فهم الآخر([14])».
2-1-3- التكرار التامّ
تبدأ الخطبة بهذه الفقرة:
«أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَکمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَکمالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَکمالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَکمالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ کلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهَادَةِ کلِّ مَوْصُوفٍ»([15]).
تدور هذه الوحدة النّصّية حول مراتب الإيمان بالله وصولًا إلی تعريف الدّين الكامل وقد جعل الإمام تلك المراتب خمسًا؛ تبدأ بمعرفة الله وتنتهي بنفي الصّفات عنه سبحانه، ويمكن التمثيل لتلك المراتب بالشّكل التالي:
معرفة الله التصديق به توحيده الإخلاص نفي الصّفات عنه.
ومعرفة الله، القاعدة التي ينطلق منها الدّين القويم يشترك فيها الناس جميعًا لوجدها في الفطرة الإنسانيّة بل الفطرة الحيوانية وأوّل مرتبة دَعی إليها الأنبياء من المعرفة «توحيد الصّانع ونفي الكثرة عنه»([16]).
يبرز في هذه الوحدة النصّية التكرار التامّ في موضعين:
تكرار كلمة “كمال” في رأس كلّ قسم وقد حقّق هذا التّكرار التركيز علی هدف الخطاب هنا؛ إذ إنّ المقصود هو بلوغ الإنسان درجة الكمال، ليتمكن عبادة الله علی الوجه الأكمل وتكرار لفظة “كمال” أنشأ نسقًا متدرّجًا يرتبط ثانيه بأوّله وثالثه بثانيه ولا ينفك أحدهما عن الآخر كشأن السّلسلة المترابطة حلقاتها، إذا انفكت حلقة منها لم يكن لتسميتها حلقة، وجهٌ.
انطلق الإمام من معرفة العبد بالله وجعلها القاعدة التي يبني عليها البناء؛ غير أنّ تلك المعرفة قد تكون تامّة وقد تكون ناقصة ونقصان تلك المعرفة «بأن يعرف العبد للعالَم صانعًا غير العالِم، بوصف أنّ الممكن لا بدّ له من مؤثّر»([17]) ومن أجل وصول المعرفة إلی غايتها تكرّرت لفظة “كمال” والهدف كمال المعرفة وتلك المعرفة لا تحقّق إلا بالتّصديق بوجود الله ووجوبه و لمّا كان التصديق يحتمل الكمال والنّقصان، فقد تكرّرت لفظة “كمال” مرّة أخری للتدليل علی أن التّصديق الكامل لا يكون إلّا بتوحيده ووجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين ومن وحّد الله ولم ينفِ عنه الجسميّة والعرضيّة ولوازمها، كان توحيده ناقصًا وكمال توحيده، الإخلاص له وتكرار لفظة “كمال” لازمًا لإنشاء درجة جديدة من معرفة الله وهي نفي الجسميّة والعرضيّة عنه، بعد العلم بوحدانيّته سبحانه؛ وهنا يصل التدرّج في المعرفة إلی نهايته المطلوبة، فإنّ من نفی عن الله الجسميّة والعرضيّة، فلا بدّ له أن ينفي عنه الصّفات المشهودة في المصنوعين، ليمكن المتلقّي من هذا الاستنتاج أنّ الدّين الحقّ القويم هو نفي الصّفات عن الله تعالی([18]).
ولتكرار لفظة “كمال” دور أساس في تماسك الوحدة النصّية وبناء التّسلسل والتّدرّج ولو حذف كلمة “كمال” لما تمكن من الوصول إلی هدفه المنشود وهو تعريف الدّين الحقّ وجعله متوّجًّا بنفي الصّفات عنه.
3-1-3. تشابه الأطراف
وثاني وجود التكرار في هذه الوحدة النصّية، “تشابه الأطراف” وهو إعادة الشّاعر لفظ القافية في أوّل البيت التالي أو إن يعيد الناثر القرينة الأولی في أوّل القرينة التي تليها. هذا النمط الدّلاليّ/التكراريّ له أثر في تلاحم الدّلالة واتّصالها في النصّ وهذا التكرار يسير وفق خطّ هندسي يتّجه بالدالّة النصّية إلی ذروتها وهذا البناء الهندسي يعتمد علی تحويل المسند في الجملة الأولی إلی مسند إليه في الثانية والمسند في الثانية إلی مسند إليه في الثالثة وهكذا.
والاعتماد علی هذا النمط التكراري يحقّق تنامي النصّ تدريجيًّا ويمكن من الوصول إلی الحدّ الذي يرميه المرسل وهو هنا حدّ الدّين بنفي الصّفات عن الله تعالی. وبعد ثبوت معرفة الله في سريرة الإنسان، وجب علی الإنسان أن يصدّق الله وهذا التّصديق لا يمكن أن يكون دون تحقّق المعرفة وكرّر المرسل لفظة “المعرفة” تكرارًا محضًا بُغية تثبيتها في نفس المتلقّي وبناء حكم جديد ولو أنّه حذف لفظة “المعرفة” لتوهّم المتلقّي إمكان حصول التصديق من دون معرفة وهذا ما لا يرميه المرسل وبعد ثبوت التّصديق يأتي بحكمٍ جديد مرتبط به (التّوحيد والإخلاص).
لقد كان بإمكان المرسل هنا حذف العنصر المعجميّ المكرّر والاستعاضة عنه بالضّمير، فإنّه أخصر للقول ولا يختلّ تماسك الوحدة النصّية به، بل تمضي متّسقة منسجمة فتكون الوحدة النصّية هكذا: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَکمالُها التَّصْدِيقُ بِهِ وَکمالُه تَوْحِيدُهُ وَکمَالُه الْإِخْلَاصُ لَهُ وَکمالُه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ».
إنّ لكلّ من الضمير وتكرار العنصر المعجميّ دورًا في التّماسك النّصّي، غير أنّ نوع الخطاب شفويًّا كان أم مكتوبًا والهدف منه هو الذي يحدّد استعمال الضّمير أو التكرار.
وإذا علمنا أنّ هذا النوع من التكرار يلجأ اليه المرسل في الخطاب الشّفوي من دون المكتوب، علمنا بالضّرورة فضل التكرار اللّفظي علی الإحالة بالضّمير لما يتطلّبه موقف المشافهة من التّخفيف علی ذاكرة المتلقّي وتقديم الألفاظ بأعيانها ليظلّ رابطًا أوّل الخطاب بتاليه. ولو أنّنا استعضنا بالضّمير عن إعادة العنصر المعجمي لفقدنا هدف التأكيد والتركيز علی الحالة السّابقة التي يريد المرسل تثبيتها في خلَد المتلقّي وهذه الاستعاضة تؤدّي إلی تشتيت ذهن المتلقّي وتفتيته. ومرجع التّشتيت تحديد مرجع الضمير، كماله بدلًا من كمال التّصديق به والتبس الأمر علی المتلقّي في مرجع الضّمير ويحتمل عودته إلی الدّين كما يحتمل عودته إلی التّصديق، والابتعاد من التّشويش من أوّل مقاصد المرسل في الخطاب.
لو افترضنا عودة الضّمير إلی الدّين يفسد المعنی المقصود وتتساوی الأقسام والفقرات جميعًا ويكون المصدّق قد بلغ كمال الدين بمجرّد تصديقه ولا فرق بين المعرفة الفطرية ونفي الصّفات التي لا تتأتّي إلا لمن تبصّر وتدبّر.
وتجمع مرتبة نفي الصّفات كلّ الدّرجات السّابقة لها. والذي أفاد معنی الجمع والتدرّج هو التّكرار المعجميّ للعنصر المعطي وتحويله من مسند في الجملة الأولی إلی المسند إليه في الثانية، ويؤدّي إلی التّماسك في النصّ ولا يمكن فكّه ولو حذف العنصر المكرّر لاختلّ النصّ، ولم يتحقّق الهدف المرجوّ منه وتكرار التنامي بإعادة العنصر المعجمي قد اقتصر علی الشفهي من النّصوص.
2-3- التّماسك النّحوي فی الخطبة
تدور هذه الخطبة حول حمد الله وتمجيده والثّناء عليه بما هو أهله وارتكز الحمد علی محاور:
- ذات الله تعالی.
- صفاته تعالی.
- أفعاله عزوجلّ.
«الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون»
مسند إليه+ مسند+ حرف جرّ+ مجرور
سيطرت هذه الجملة علی ما جاء بعدها من جمل واتّخذ المرسل من شبه جملة (لله) من الجملة الأولی بؤرة ثانية وربط بها الجمل الآتية بواسطة الجملة واسم الموصول (الذي) وجعله محورًا لانشاء وحدات نصّية صغری جديدة وهذه الوحدة النّصّية قائمةٌ علی العطف؛ لأنّ المرسل قد اتّكأ علی العطف في سبيل تشكيل النصّ وتكوين عالمه وقد لجأ إلی العطف بالأداة ولم يستعمل غير الواو لتكون رابطًا بين جمل الوحدة النصّية الصّغری.
وعلّق المرسل بالاسم الموصول ثلاث جمل عطف بينها بالواو الذي أفادت الإحاطة بالصّفات المسلوبة عن الذّات الإلهية ومجموعها يعني عجز الوری عن مدح الله وإحصاء نعمائه. أمّا الاسم الموصول الثاني فأتی المرسل بجملتين صلةً له رابطًا بالواو ليثبت بهما، عجز أولي البصيرة والفطنة عن إدراك كُنه الله وحقيقته، تخصيص لنوع من البشر وهم العلماء وخصّص الإمام الموصول الثالث لتقديس صفات الله عن مشابهة الصّفات الحادثة بأربع جمل ربط بينها الواو.
اعتمد المرسل علی عطف الواو في إطار الوحدة النصّية الواحدة، لكي يتسنّی له الإحاطة بالصّفات التي يريد سلبها عن ذات الله تعالی وكلّ وحدة نصّية تقوم علی سلب نوع خاصّ من الصّفات وتلك الصفات مجزّأة في أذهان المتلقّين.
وأراد المرسل اثبات عجز النّاس عن بلوغ إحصاء نعم الله عليهم وإثبات عجزهم عن أداء شكرها منفردين أو مجتمعين ونفي بلوغ المدح عن صنف من النّاس(القائلون) ونفي إحصاء النّعمة عن صنف (العادّون) ونفي أداء الحقّ عن صنف (المجتهدون). واستخدم “ال” الجنسيّة مع كلّ نوع واستعمل المرسل الواو التي تعني معنی الإحاطة واستقصاء العجز وتجعل الأصناف المتعاطفة في صفة واحدة وهي العجز.
في الوحدة الثانية لجأ المرسل إلی الأداة ذاتها أي الواو لتكون رابطًا بين أقسام هذه الوحدة علی سلب صفتين عن الله والعاجز هنا صنف من النّاس وهم العلماء الذين يسبرون الأشياء ويغورون فيها وأدّت الواو العاطفة معنی نفي الدّاخل والخارج في هذه الوحدة النّصّية؛ لأنّ بُعد الهمم فيه نظر إلی الخارج البعيد وغوص الفطن تعمّق نحو الدّاخل.
والمرسل لجأ إلی الرّبط بالاسم الموصول لما فيه من الإبانة المخصّصة وينشئ الرّبط بين أحداث النصّ وقضاياه وصلته تفيد التّخصيص. إنّ القائلين والعادّين أصناف عامّة من النّاس وأراد تخصيص فئة بينهم أعني العلماء. وربط الوحدة النّصّية بسابقته بواسطة الاسم الموصول والمقصود بهذه الوحدة النّصّية، الإحاطة بصفات الله وأنّه لا اختلاف بين ذاته وصفاته.
وقد لجأ المرسل إلی تقنية العطف في الوحدة النّصّية الصّغری الرّابعة ليحيط بأفعال الله تعالی، فعطف كلّ فعل من أفعاله علی الآخر، إذ أثبت للخالق سبحانه أفعالًا ثلاثة: فهو فاطر الخلائق، وناشر الرّياح وموتّد الأرض بالجبال وقد أدّی عطف هذه الأفعال الثلاثة بعضها ببعض إلی اكتمال الدّائرة الدّلاليّة التي يريد المرسل تثبيتها في نفس المتلقّي؛ إذ أراد بمجموع الأفعال فعلًا واحدًا هو خلق الكائنات وتهيئة السُّبل لعيشهم علی هذه الأرض؛ إذ لا يكون لهم حياة من دون تهيئة الهواء الذي يتنفسّونه ومن دون تمهید الأرض لهم، حتّی لا تميد بهم فلا يستطيعون تعميرها أو العيش علی ظهرها. إنّ الأفعال المذكورة في هذه الوحدة النصّية مرتبة أشدّ الارتباط بالجملة الأولی؛ فهي توسيع لها إذ ترتبط بشبه الجملة (لله) المتعلّقة بالمسند المحذوف من الجملة الأولی؛ إذ اتّخذ المرسل بؤرة ثانوية ترتبط بها متتاليات جملية.
هنا يبرز سؤال عن سبب اللّجوء إلی الرّبط بالاسم الموصول بين الوحدات النّصّية الكبرى وتجنب العطف بأداة “الواو” أو غيرها علی الرّغم من كون الأدوات روابط أساسيّة تقوم علی الجمع بين جملة سابقة وأخری تليها؛ الأمر الذي يؤدّي إلی تماسك النّصّ ووحدته ويكون المتلقّي آنذاك مدركًا العلاقة الجامعة بين الوحدات النصّية.
للإجابة عن هذا السّؤال يحسن بنا التفريق بين الأدوات العاطفة نفسها؛ لأنّ النّحويين قرّروا معانی لكلّ أداة علی سبيل المثال: الواو العاطفة تفيد الجمع المطلق ومرادهم بالجمع هو أن لا يكون الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء كما في “أو”و”إمّا” والنحويون لا يقصدون بالجمع هنا الجمع بين المتعاطفين في الزّمان([19]).
فإذا علمنا قصور الواو عن الجمع بين المتعاطفين في الزّمان في إطار الجملة الواحدة، فإنه يتّضح لنا قصورها عن الجمع بين موضوعين مختلفين في فضاء النصّ؛ ذلك أنّ كلّ موضوع ينفرد بشخوصه وبزمانه الخاصّ، ثمّ تجتمع تلك الموضوعات الفرعية، فتؤدّي في النهاية رسالة النصّ الكلّية التي يريد المرسل إيصالها إلی المستقبل.
وعلی هذ الأساس، فإنّ ترك الواو بين الوحدات الكبری المكوّنة للنصّ أولی من ذكرها؛ إذ يكون المجال مفتوحاً أمام التّقنيات الدّلالية لتقوم بدور الرّبط بين تلك الوحدات. أمّا إذا كان بين الوحدتين النصّيتين الكبريين اشتراك في الزمان فإنّ المرسل يستعمل حينئذٍ أداة ربط عاطفة تدلّ علی الزمان ليربط الوحدتين بعضهما ببعض.
ومن ذلك استعمال الإمام أداة العطف (ثمّ) لتكون رابطًا بين الوحدات النّصّية في قوله:
«أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَلَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَلَا حَرَکة أَحْدَثَهَا… ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ… ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائکته مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرکَعُون وَرُکوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ… ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَسَهْلِهَا وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَلَاطَهَا بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَ…»([20]).
إنّ كلّ وحدة من الوحدات النصّية في هذه الخطبة تستقلّ بموضوع؛ فالأولی تتحدّث عن إنشاء الخلق وإبداعه من قِبل الخالق من غير مثالٍ احتذاه دليلًا علی قدرته سبحانه والثانية فيها تخصيص لخلق السّموات وما فيها من كواكب وملائكة وغيرها. أمّا الثالثة فقد خصّصها الإمام للحديث عن خلق آدم(ع). ولما كان الجامع بين تلك الوحدات النصّية حدوثها من فاعل واحد واشتراكها في الزمن الماضي احتاج المرسل إلی الأداة (ثمّ) لتربط بين الوحدات مع ملاحظة اشتراك وحدتين نصّيتين كبريين في الفعل ذاته (أنشأ).
3-3- قاعدة الدّمج
أعني بالدّمج أنّ الجملة الأولی تقوم بعملية تأسيس لبعض العناصر اللّغوية من خلال علاقة الإسناد التي تكوّن تلك الجمل؛ ثمّ تمتدّ تلك الجمل في الوحدة النّصّية والاستعاضة بعنصر لغويّ يؤدّي وظيفة العنصر المذكور«ويؤدّي دور الاختصار لبعض العناصر الواردة فيها ولولا الدّمج والاختصار لخرج النصّ عن كونه متماسكاً ووقع في فخّ التفكّك»([21]).
- الإحالة
هی علاقة ترتبط بين العلاقات في اللّغة والأشياء الموجودة في العالم الذي تحيل عليها تلك العبارات؛ وفي هذ النصّ، الصّدق يوازي الإحالة والكذب يوازي عدم الإحالة. ولا بدّ من إحالة أخری داخل النّصّ تقوم بعمليّة تماسك النصّ ولنجاح عملية الإحالة لابدّ من توافر ثلاثة عناصر: المرسل والمستقبل والمرجع الخارجيّ المتّفق عليه بينهما وفعل تداولي تعاوني بين متكلّم ومخاطب في بُنية تواصلية معيّنة وتنقسم الإحالة إلی قسمين: إحالة البناء وإحالة التعيين أو تنقسم إلی الإحالة المقامية(الخارجية) والإحالة المقالية(الدّاخلية) وقد قسّم النصّيون الإحالة الداخلية قسمين: الإحالة القبلية والإحالة البعدية[22].
الإحالة القبليّة: أعني استعمال كلمة أو عبارة تشير إلی كلمة أخری أو عبارة أخری سابقة في النصّ و الإحالة البعديّة: أعني استعمال كلمة أو عبارة تشير إلی كلمة أخری أو عبارة أخری سوف تستعمل لاحقًا في النصّ.
وعملية الإضمار عملية مشتركة بين المتكلّم والمتلقّي؛ لأنّ للمتلقّي دور محوري في تحديد الضّمير، والإحالة الضميرية أداة يلجأ إليها المرسل في سبيل إقامة نصّ متماسك والجملة الأولی تقوم بتحديد المرجع الإشاري في النصّ ونوع الإحالة الضميرية فيه.
وقد قسّموا المرجع الإشاري(المفسّر) قسمين: لفظ مفرد دالّ علي حدث أو ذات أو موقع في الزمان و المكان ويشمل:
الف- عنصر إشاري معجمي(مفردة)
ب- عنصر إشاري نصّي(مقطع أو جزء من النصّ).
والمرجع الإشاري يحدّد وفقًا لنوع الإحالة وكانت الإحالة ضميرية قبليّة كان المرجع الإشاري كلمة واحدة([23]).
- الإحالة القبليّة في هذه الخطبة
إنّ نهج البلاغة يتّكئ اتكاءً كبيرًا علی الإحالة الضميرية في تحقيق التّماسك داخل الوحدة النصّية ولاسيمّا في الخطبة الأولی: الحمدلله الذي لا يبلغ مدحته القائلون….
ذكر المرسل في الجملة الأولی(الحمد لله) المرجع الإشاري الذي ترتبط به الأحداث النصّية كلّها وحدّد المرجع الإشاري نوع الضّمير السّائد في النصّ(هو) والموضوع الأساس، تبيان عظمة الله وتأكيد عجز المتلقّين عن إدراك كنهه وحقيقته وكلّ الأحداث الوارد ذكرها تقود إلی مركز واحد وهذه الضّمائر ترجع لمفسّر واحد في وحدات نصّية أربع وجعل “الحمد” في ثلاثة محاور: يتّصل الأوّل بذاته سبحانه والثاني بصفاته والثالث بأفعاله في ضمن نصّ واحد. والوحدة الثانية تدور حول مراتب الإيمان وصولًا إلی الدّين التامّ في نظر المرسل ويتجلّی تمام الدّين في نفي الصّفات عنه والوحدة الثالثة حول خطورة عدم تنزيه الله الذي يؤدّي إلی الكفر ووصف الله بصفات مخلوقاته والوحدة الرابعة حول تفسير صفات الله ومقارنتها بصفات المخلوقين.
نلاحظ أنّ الجملة الأولی في النصّ قد أثّرت في باقي النصّ؛ فإذا نظرنا إلی الجمل منفردةً وجدناها مرتبطة بالجملة الأولی أشدّ الارتباط بواسطة الضّمير المحيل إلی الله وإذا نظرنا إلی الوحدات النصّية كذلك، وجدناها دائرةً في فلك الجملة الأولی ومرتبطة بها بواسطة الضّمير نفسه؛ فالجميع مرتبط بمحور واحد وهو شبه الجملة المتعلقة بالمسند إليه المحذوف من الجملة الأولی.
الإحالة الضميرية في هذا النصّ قد قامت بعمليتي ربط نصّيتين:
- بين عناصر الجملة الواحدة؛ إذ خلق الضمير تماسكًا بين أجزائها ولولاه لكان الموصول وصلته أجنبيين عن النصّ ومُفضيين إلی ما لا يريده المرسل. ولفهم ذلك نعيد- علی سبيل المثال- تركيب جملة الصّلة الأولی محذوفاً منها الإحالة الضميرية؛ فتنتج الجملة الآتية:
«الحمدلله الذي لا يبلغ المدح القائلون».
إنّ إسقاط الإحالة الضّميرية هنا يقود إلی قرائات خاطئة لا يريدها المرسل؛ ذلك أنّ غرض المرسل هو تنبيه المتلقّين إلی أنّ القائلين قد يبلغون الغاية في مدح بعض ممدوحيهم من البشر، غير أنّهم لا يبلغون ذلك أبدًا إذا ارتبط الأمر بالذّات الإلهية. فإذا سقطنا الضّمير تساوی القائلون في العجز وثبت أنّ العجز عن بلوغ غاية المدح خلقة جبلوا عليها، ومن ثمّ لن يكن لإثبات عجزهم عن بلوغ مدحة الله أثرٌ كبير؛ إذ علِم المتلقّي إنّ القائلين مجبولون علی العجز، فلن يكون بمقدورهم الإتيان بما لم يهيّأوا له.
إنّ هذه القراءة للجملة تؤدّي إلی عكس مُراد المرسل منها، فإنّما أراد تنبيه المتلقّي إلی أنّ من يعرفهم من القائلين بالغون بقولهم الغايةَ في مدح أمثالهم من المخلوقين، لكنّهم عاجزين عن بلوغ مدح الله، مهما أوتوا من براعة في القول ولا يتمّ ذلك المعنی للمرسل إلّا إذا ربط هذ الجملةَ بما سبقها، وينسحب هذا الحكم علی باقي الجمل المكوّنة للوحدات النصّية.
- الرّبط بين الوحدات النصّية المكوّنة للنصّ وأراد المرسل أن يبقی المتلقّي دائرًا في فلك الذّات الإلهية إذ يتمكن من اشتقاق الموضوعات المختلفة استنادًا إلی مقدرة المتلقّي علی ربط الموضوعات وجعلها في نسق متماسك مادام قد قدّم له المرجع الأساس الذي تدور حوله تلك الموضوعات؛ فالمتلقّي عالمٌ بارتباط الأحداث النصّية كلّها بالمحور الذي قدّمه المرسل في الجملة الأولی وهذا ما يفسّره انتقال المرسل من موضوع إلی آخر من دون اختلال في النظام النّصّي و من دون أن يلتبس علی المتلقّي المحور الأساس الذي يدور حوله النصّ.
إضافةً إلی ذلك، قد قامت الإحالة الضميريّة باختزال بعض العناصر التي لو برزت علی سطح النصّ لساهمت عند البروز في تفتیته وإن قيل إذا كانت الإحالة الضميريّة تحقّق مبدأ الاختزال في النصّ وتخلّصه من الإعادة غير المبرّرة، فلمَ أعاد المرسِل ذكر المرجع الإشاري ولم يكتفِ بذكر الضمير في قوله (فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه) في بداية الوحدة النصّية الثالثة؟
الجواب: لما كان الموقف موقف مشافهة، وكان الملتقّي فيه عرضة للتشتّت وتفكك الخطاب في ذهنه، لا يجد مرجعاً يحيل إليه الأحداث النصّية، لما كان ذلك، كذلك أعاد المرسل ذكر الوحدة الإشارية تنبيهًا للمتلقّي علی أن الحديث منصبًّا علی الذّات الإلهية المقدّسة، إضافةً إلی ما في إعادة المرجع من كسرٍ للرّتابة ودفعٍ للملل الذي قد ينشأ من كثرة تكرار صيغة نصّية واحدة.
إذًا؛ قد أدت الإحالة الضميرية دورًا كبيرًا في تماسك النصّ، إذ إنّها تعطي المتلقّي الأداة التي بها يتمكن من إرجاع الأفعال النصّية إلی محدثها، فهما تعدّدت تلك الأفعال، فإنّ المرجع في ذهن المتلقّي سيبقی واحدًا وكلّ ذلك مرتبط بالجملة الأولی التي بدأ بها المرسل النصّ، بحيث يفقد النصّ مرجعيّته وتماسكه إذا حذفت تلك الجملة.
ويمكننا من خلال التوزيع السّابق للإحالات الضّميرية التي برزت علی سطح النصّ؛ الاستنتاج بأنّ هذا النصّ أحادي الإحالة؛ إذ سيطر الضّمير الوجودي المحيل إلی الغائب علی الأحداث النصّية؛ فقام بعملية الربط بين الجمل والوحدات النصّية وتمكن بذلك من جعل الذّات الإلهية حاضرة بقوّة في النصّ، خالقًا تماسكًا شديدًا بين الوحدات النصّية. إضافةً إلی ذلك، فإنّ اللّجوء إلی الضّمير الوجودي وإخفاء الملكيّة عن هذا النصّ يسمح للنصّ بالاستمرار في الزّمان؛ لأنّ الخطاب يظلّ عاماً وصالحًا للتطبيق في كلّ زمان، ماضيًا كان أم حاضرًا. ويظهر ذلك الاستمرار الزّماني جليًّا في الوحدة النصّية الثالثة إذ كان بإمكان المرسل إبراز ضمير الملكيّة بتحويل الخطاب إلی المتلقّين مباشرةً؛ فيقول علی سبيل المثال: (فإذا وصفتم الله فقد قرنتموه…) ولو فعل ذلك لكان الخطاب مقصورًا علی متلقّي الخطاب الحاضرين ولا يشمل بالضّرورة من وصف الله أو ثنائه من الأمم السّابقة أو اللّاحقة.
4-3- العلاقات الدّلالية في إطار الوحدة النصّية
1-4-3- علاقة الإجمال والتفصيل:
تعتمد هذه العلاقة علی طرفين: أحدهما مجمل والآخر يشكل تفصيلًا لذلك المجمل من خلال إيراد عناصر أو أقسام مختلفة تجتمع كلّها لتعود بالتالي، فتعطي معنی الطّرف الأوّل.
إنّ علاقة الإجمال والتفصيل تدلّ علی أنّ العقل يتحرّك مع الإجمال والتفصيل منطلقًا من الفكرة الكلّية العامّة إلی عناصرها بطريقة تفصيليّة تكشف عن«أنّ هذه الفكرة تتحلّل إلی عناصر جزئية صغيرة غير قابلة للتجزئة أحياناً أو أنها تتحرّك مع عناصر مختلفة تكوّن هذه العناصر مجتمعة فكرة عامّة أوكلّية»([24]).
ومن ذلك قوله عليه السّلام:
«ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِﻛتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْکَعُون وَرُﻛوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَلَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَالْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْﻛانُهُمْ وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَﻛتَافُهُمْ»[25].
إنّ هذه الوحدة النصّية تعتمد علی بُنی شتّی تشكّلت بالعنصر المجمل(الملائكة) والتفصيل جاء مقسّمًا إلی أربعة أقسام؛ إذ كرّر المرسل لفظة “منهم” التي تعود إلی المجمل(الملائكة) وتذكر به في كلّ مرّة.
انطلق المرسل من كون الملائكة أصنافًا أربعة: العبّاد، والأمناء في الوحي، والحفظة والسّدنة وحملة العرش وقد بيّن الصّفات التي يتّصف به كلّ صنف وكانت الصّفات ملائمةً لكلّ صنف منهم. فلمّا ذكر العبّاد وصفهم بما يليق العابد الحقّ من عدم الملل من العبادة أو الكلل أو غير ذلك من الصّفات التي لا تليق بالعابد أو عندما ذكر وصف حاملي عرش الرّحمن وصفهم بما يليق بصفات العرش، فركز علی الصّفات الخلقية من طول وعرض وضخامة.
لما كانت العبادة علی أصناف متعدّدة، فقد كان العابدون أصنافًا مختلفة كذلك وهو أمر تنبّه إليه المرسل، فجعل صنف العابدين من الملائكة مجملًا وفصّله تبعًا لنوع العبادة؛ فذكر الملائكة المختصّين بالسّجود والمختصّين بالرّكوع والصافّين و المسبّحين وأتبع كلّا بصفته.
إنّ هذا التقسيم لملائكة العابدين يجعل الإجمال مركبًا أي أنّ هذا التفصيل المذكور يتحوّل في البنية ذاتها إلی مجملٍ يحتاج إلی التفصيل؛ الأمر الذي يحوّل الوحدة النصّية إلی دوائر من التفصيل متشابكة تعود كلّها إلی المجمل الرّئيس في الوحدة (الملائكة).
لقد بدأ المرسل بذكر المجمل(الملائكة) إذ كان المتلقّون علی معرفة إجماليّة بهم من خلال الإخبار القرآني عنهم وأنّه علی أنواع مختلفة من حيث عدد الأجنحة وقد استغلّ هذه المعرفة الإجماليّة ففصّل فيها وقسّم الملائكة أقسامًا متعدّدةً، لا بوصف الخلقة وإنّما بوصف الوظيفة الموكلة بكلّ قسم.
ويبدو أن لجوء المرسل إلی هذا التفصيل كان لإثبات علمه بذلك العالَم وهو أمر ينبني عليه انقياد المتلقّين إليه؛ فمن كان علی علمٍ بالعوالم المخفيّة عن العباد، فعِلمه بالعالم الذي يعيشونه لا يشك فيه، ومن ثمّ وجب علی المتلقّين الإنقیاد بما يأمرهم به وينهاهم عنه.
فإن قيل إنّ علاقة (الإجمال والتفصيل) في هذه الوحدة النصّية تفضي إلی إشكال؛ لأنّنا نعلم جميعًا أنّ الملائكة كلّهم عابدون لله تعالی واستعمال (مِن) في تقسيم المرسل يُفضي إلی وجود أربعة أنواع من الملائكة مختلف بعضها عن بعض، فلا يدخل الصّنف الثاني في الصّنف الأوّل؛ فتنتفي بذلك صفة العبادة عن النوع الثاني، لأنّ كلا منهما جنس قائمٌ بنفسه وإن اشتركا في صفة الملائكيّة.
والجواب هو: إنّ التفصيل هنا كان بحسب الوظيفة الرّئيسة الموكلة إلی كلّ قسم من أقسام الملائكة الأربعة؛ فالمختصّون بالعبادة غير موكلين بغيرها والسّاجد منهم غير مأمور بالرّكوع والرّاكع غير مأمور بالسّجود والأقسام الأخری، قد جعل الله لهم وظائف أخری، إضافةً إلی العبادة، كالأمانة علی الوحي أو حمل العرش أو غير ذلك.
ويدلّ علی اشتراك الأقسام كلّها في العبادة، قول الإمام في نهاية هذه الوحدة: «لَايَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ وَلَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاﻛنِ وَلَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ»([26]).
ومعلوم أنّ هذه الصّفات هي العبادة الحقّ التي يسعی المرسل إلی تقريب المتلقّين منها.
ولا تقتصر هذه العلاقة علی ربط القضايا في إطار الوحدة النصّية الواحدة ؛ بل إنّ المرسل يستخدم هذه العلاقة لربط الوحدات النصّية الكبری في النصّ بعضها ببعض محقّقاً للنصّ تماسكًا دلاليًّا قائمًا علی إدراك هذه العلاقة. وعلی ذلك يورد المرسل الطّرف الأول في الوحدة النصّية الأولی، ثمّ يأخذ في تفصيله في الوحدات النصّية التالية؛ من ذلك قوله عليه السّلام:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِي لَا يُدْرِﻛهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَلَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَلَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَلَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ»([27]).
لقد ذكر المرسل في هذه الوحدة أفعال الله بصورة مجملة؛ فذكر أفعالاً ثلاثة مجملة: فطر، نشر، ووتّد؛ ثمّ فصّل هذه الأفعال في الوحدات النصّية التالية. إنّ قول المرسل(فطر الخلائق بقدرته) يشير إلی الفعل والفاعل والمفعول دون الإشارة إلی كيفيّة الخلق ودون الوقوف علی صفات تلك الخلائق ومن ثمّ رجع المرسل لتفصيل تلك الكيفيّة بعد أن ثبّت في ذهن المتلقّي الفعل نفسه؛ فقال مفصّلاً ما أجمله:
«أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَلَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَلَا حَرَﻛةٍ أَحْدَثَهَا وَلَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَلَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَأَحْنَائِهَا»([28]).
هذه الوحدة النصّية تفصيل لما ذكر المرسل مجملاً في حديثه عن فعل الخلق من قِبل الله تعالی وقد جعل التّفصيل في طرفين اثنين: فقد بدأ بتفصيل الفعل نفسه وتبيين كيفيّته ، ثمّ أخذ بتفصيل ما يتعلّق بالخلق.
لقد بدأ المرسل بتذكير المتلقّين بالحقل الدّلالي الذي تفصّله هذه الوحدة، فذكر فعلين أكمل بهما هذا الحقل؛ إذ تقدّم منه القول في الوحدة الأولی “فطر” وأورد هنا (أنشأ وابتدأ) وإنّما فعل ذلك لأنّه فصّل هذه الوحدة عن الوحدة المذكور فيها الطّرف المجمل بوحدة نصّية كاملة.
لقد ذكر المرسل في الوحدة الأولی الفعل(فطر) الذي يعني شقّ الشئ عند ابتدائه وأردفه هنا بفعل (أنشأ) الذي يعني الإيجاد غير المسبوق بمثله والإيجاد من العدم وأكّد هذا الفعل بأمرين اثنين: فقد استخدم المصدر المؤكّد (إنشاءً) وعطف علی الفعل فعلاً آخر له المعنی نفسه توكيداً (ابتدأ). أكّد هذا الفعل بالمصدر المؤكد (إبتداءً) ومن ثمّ بدأ المرسل في تفصيل فعل (الإيجاد) متّكأ علی الجمل الحاليّة؛ إذ كان ذلك الفعل قد صدر من الله تعالی من دون حاجة إلی فكر يريده ويردّده؛ لأنّ ذلك شأن فعل المخلوقين؛ فإذا أراد المخلوق أن يصنع شيئًا فلا بدّ له من التفكير في ذلك الشّيء، كما أنّ الله لا يحتاج إلی غيره إذا أراد فعل شيء وليس هو بحاجة إلی التّجريب ومن هنا نفی المرسل صفة التّجريب عن فعل الله بقوله: (وَلَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا) وقد ساق المرسل تفصيلًا آخر لفعل الله سبحانه، ذلك أنّ فعله لا يمتّ بإحداث الحركات وإنما تعلّق بالمشيئة الربّانية.
وقد انتقل المرسل في الجزء الثاني من هذه الوحدة لتفصيل ما أجملته لفظة “الخلائق”؛ إذ كانت لفظة عامّة مجملة لم تبيّن ماهيّة الخلائق وما تتّصف به ولم تحدّد المقصود بالخلائق؟ هل الخلائق العاقلة أو عموم المخلوقات مثل الحيوانات والجماد؟ والذي أراده المرسل من الخلائق هو المعنی الثاني؛ لذلك جاء بلفظ يشمل مخلوقات الله كلّها؛ فبيّن أوّلاً أنّ الله صيّر هذه الأشياء من العدم إلی الوجود كلٌّ في الوقت المحدّد له؛ ثمّ بيّن أنه تعالی جمع بين الأضداد في تلك المخلوقات وقد أودع الله في كلّ شيء طبيعته الملائمة له وجعل كلّ شيء مختصةً بغرائز محدّدة.
إذًا، فالخلائق التي أوردها المرسل مجملةً صارت مفصّلة في هذه الوحدة؛ إذ عرف المتلقّي أنّها: مخرجة من العدم ومركبة من الأضداد، مجبول علی الغرائز والمتلقّي وهو يتلقّي هذا الجزء من النصّ، إنما يربطه بما تقدّم من إجمال في الوحدة السّابقة ومن ثمّ لا يجد المتلقّي صدعًا وتفككًا في النصّ .
وربمّا دخل الإجمال في تردّد بين الخبر والإنشاء؛ فالجملة في قوله(الحمدلله) تحتمل الإنشاء والإخبار، فهي مجملة تحتمل الوجهين معًا، فإذا كانت إنشاءً كانت دعاء، فهو لا يخضع للتصديق والتكذيب، لأنّه تقديم الحمد لله تعالی علی الكلّ جريًا علی افتتاح الخطب وتصديرها وسرّ ذلك تأديب الخلق بلزوم ثناء الله تعالی والاعتراف بنعمه عند افتتاح كلّ خطاب لاستلزام ذلك ملاحظة حضرة الجلال والإلتفات إليها عامّة الأحوال. أمّا إذا كانت الجملة (الحمدلله) إخباراً، فهي خاضعة للتّصديق والتكذيب؛ فالحمد أن تذكر محاسن غيرك سواءً أكان ذلك الثناء علی صفة من صفاته الذّاتيّة أم علی عطائه للآخرين ولا يكون الحمد إلا للحيّ العاقل وتتردّد دلالة جملة (الحمدلله) بين الخبر والإنشاء، فالله أولی بالحمد من غيره، لأنّه مجزل العطايا والهبات وهو المنعم المفضل وهذا يتضمّن معنی الدّعاء والشّكر له وأمّا دلالة الإخبار فالحمد له مطلقاً؛ بل حمده واجب علی كلّ مخلوق و«صاغ الإمام(ع) لنا بعبارات عذبة رائعة وترتبط مع عملية الحدس الترابطي ارتباطاً وثيقاً بالعفوية في الخطاب والتلقائية بناءً علی انصهار الذّات في بوتقة الشّعور ويتضمّن ذلك الخطاب من فعل دعائي نسبةً للدّعاء أو بما يتضمّنه من فعل كلامي (نسبةً للإخبار) في كلامه ارتقی إلی مستوی التأمّل»([29]).
الخاتمة
- الخطبة الأولی من نهج البلاغة جاءت كنسيج متكامل، محكم السّبك، متشابك المضامين وتضمّن استهلال الخطبة إجمال الموضوعات التي أراد الإمام الحديث عنها وقد جعلها في أربع وحدات نصّية يكون اللّاحق منها بمثابة تعليل للسّابق منها وقد فصّل فيه الحديث عن التوحيد الذاتي والأفعاليّ. وقد بنيت هذه الخطبة بناء هندسياً محكماً مبتدئًا بالاستهلال فالعرض فالختام وقائمًا علی ترابط دلالي دقيق ينمّ عن وعي تامّ بأهميّة الخطاب وأثره فی المتلقّي. تسيطر الجملة الأولی فی هذه الخطبة علی المتتاليات الجمليّة فی الوحدة الكبری التابعة لتلك الجمل والوحدة النصّية امتداد للجملة الأولی. والجملة الأولی في هذا النصّ اسميّة، فإنّ الخبر فيها(المسند) أو ما يتعلّق به لا يلبث أن يتحوّل إلی بؤرة ثانوية في النصّ تتّصل بها جمل متتالية جمليّة، قد تحتوی هی الأخری علی بؤر ثانوية وتكون المتتاليات الفرعية كلّها مرتبة بالجملة الأولی.
- أمّا بالنسبة إلى آليّات التّماسك النصّي وأدواته، فإنّ للضمير وتكرار العنصر المعجمي دورًا في التّماسك النصّي، غير أنّ نوع الخطاب، شفويًّا كان أم مكتوبًا والهدف منه هو الذي يحدّد استعمال الضّمير أو التكرار. وإذا علمنا أنّ هذا النوع من التكرار يلجأ اليه المرسل في الخطاب الشفوي من دون المكتوب، علمنا بالضّرورة فضل التكرار اللّفظي علی الإحالة بالضّمير لما يتطلّبه موقف المشافهة من التخفيف علی ذاكرة المتلقّي وتقديم الألفاظ بأعيانها ليظلّ رابطاً أوّل الخطاب بتاليه.
– وفي الرّبط بين الوحدات النصّية المكوّنة للنصّ، أراد المرسل أن يبقي المتلقّي دائرًا في فلك الذّات الإلهية بحيث يتمكّن من اشتقاق الموضوعات المختلفة استناداً إلی مقدرة المتلقّي علی ربط الموضوعات وجعلها في نسق متماسك مادام قد قدّم له المرجع الأساس الذي تدور حوله تلك الموضوعات.
– وقد أدّت الإحالة الضميريّة دورًا كبيرًا في تماسك النصّ، إذ إنّها تعطي المتلقّي الأداة التي بها يتمكن من إرجاع الأفعال النصّية إلی محدثها، فهما تعدّدت تلك الأفعال ، فإنّ المرجع في ذهن المتلقّي سيبقی واحدًا وكلّ ذلك مرتبط بالجملة الأولی التي بدأ بها المرسل النصّ، إذ يفقد النصّ مرجعيّته وتماسكه إذا حذفت تلك الجملة.
– وفي نهاية المطاف، هذا النصّ أحادي الإحالة؛ إذ سيطر الضّمير الوجودي المحيل إلی الغائب علی الأحداث النصّية؛ فقام بعملية الربط بين الجمل والوحدات النصّية وتمكن بذلك من جعل الذّات الإلهية حاضرة بقوة في النصّ، خالقاً تماسكاً شديداً بين الوحدات النصّية.
الهوامش
[1] – أستاذ مساعد بجامعة أصفهان- إيران- كلية اللغات الأجنبيّة- قسم اللّغة العربيّة- mehdiabedi1359@yahoo.com
[1] – بحيري، علم لغة النصّ المفاهيم والاتجاهات، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان) ،ص 122.
[2] – الخطابي، لسانيات النصّ: مدخل إلى انسجام الخطاب ، ص5.
[3] – الزناد، نسيج النصّ؛ بحث فيما يكون به الملفوظ نصّاً، المركز الثقافي العربي، ص15.
[4] – تمام حسان، البيان في روائع القرآن، دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني، ص 53.
[5] – .Halliday, Cohesion in English, p4.
[6] – الخطابي، لسانيات النصّ ، ص5.
[7] – م.ن، 17.
[8] – الزناد، نسيج النصّ؛ بحث فيما يكون به الملفوظ نصّاً، ص119.
[9] – عفيفي، نحو النصّ: اتجاه جديد في الدرس النحوي، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة ، ص98.
[10] – م.ن، ص 99.
[11] – .Halliday, , Cohesion in English. p288.
[12] – شبل محمد، علم لغة النصّ، النظرية والتطبيق، ص20.
[13] – م.ن، ص 107.
[14] – زارع، التکرار من منظار علم لغة النصّ ودوره في تماسك النصّ على نظرية هاليداي وحسن (الخطبة القاصعة من نهج البلاغة أنموذجاً)، ص 131-132.
[15] – علی بن أبي طالب، نهج البلاغة، الخطبة الأولی.
[16] – البحراني، شرح نهج البلاغة، منشورات دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، ج1/ 157.
[17] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي، القاهرة، ج1/73.
[18] – البحراني، شرح نهج البلاغة، ج1/ 160.
[19] – الرضي، شرح الکافية، جامعة قار يونس، ليبيا، ج1/ 363.
[20] – علی بن أبي طالب ، نهج البلاغة، الخطبة الأولی.
[21] – الوداعي، التماسك النصّي (دراسة تطبيقية في نهج البلاغة)، ص 138.
[22] – الخطابي، لسانيات النصّ ، ص17-18.
[23] – الزناد، نسيج النصّ؛ بحث فيما يكون به الملفوظ نصّاً، ص115-116.
[24] – القرعان، الإجمال والتفصيل في القرآن الكريم، ص10.
[25] – علی بن أبي طالب، نهج البلاغة، الخطبة الأولی.
[26] – م.ن.
[27] – م.ن.
[28] – م.ن.
[29] – الأرناؤوطي، الإجمال والتفصيل في نهج البلاغة، دراسة تحليلية، ص235.
المصادر والمراجع
الکتب:
- الإمام علي ابن أبي طالب، نهج البلاغة، اختاره وجمعه الشريف الرضي، ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح، دار الهجرة، قم، 1424.
- ابن أبي الحديد المعتزلي، عبدالحميد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1965.
- الأرناؤوطي، سهيل محمد حسين جعفر، الإجمال والتفصيل في نهج البلاغة، دراسة تحليلية، أطروحة دكتوراه، كلية التربية ابن رشد للعلوم الإنسانية، جامعة بغداد،2014.
- بخولة، بن الدين، الإسهامات النصّية في التراث العربي، أطروحة مقدّمة لنيل درجة الدکتوراه، علوم في اللّسانيات النصيّة، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، جامعة وهران أحمد بن بلة،2016.
- البحراني، ابن ميثم كمال الدين، شرح نهج البلاغة، منشورات دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان،1999.
- بحيري، سعيد حسن، علم لغة النصّ المفاهيم والاتجاهات، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان)، القاهرة، 1997.
- حسان، تمام، البيان في روائع القرآن، دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني، القاهرة: عالم الكتب،1993.
- الخطابي، محمد، لسانيات النصّ، مدخل إلى انسجام الخطاب، الطبعة الأولى، المرﻛز الثقافي العربي، بيروت،1991.
- الرضي الأسترآبادي، محمد بن الحسن، شرح الکافية. جامعة قار يونس، ليبيا،1975.
- الزناد، الأزهر، نسيج النصّ؛ بحث فيما يكون به الملفوظ نصّاً، المركز الثقافي العربي، بيروت،1993.
- شبل محمد، عزة، علم لغة النصّ، النظرية والتطبيق، مكتبة الآداب، القاهرة، 2009.
- الشهري، عبدالهادي، إستراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، دار الکتاب الجديد، بيروت ،
- عفيفي، أحمد، نحو النصّ، اتجاه جديد في الدرس النحوي، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2001.
- الوداعي، عيسى جواد محمد فضل، التماسك النصّي (دراسة تطبيقية في نهج البلاغة)، قدّمت هذه الأطروحة استکمالاً لمتطلّبات الحصول على درجة الدکتوراه في اللغة العربية وآدابها، کلّية الدّراسات العليا الجامعة الأردنية،2005.
- هاينة من، فولفجانج وديتر فيفيجر، مدخل إلی علم اللغة النصّي، ترجمة فالح بن شبيب العجمي، منشورات جامعة ملك بن سعود، الرياض،1419.
- Halliday, M.A.K., and Ruqaiya Hasan, (R.zy). Cohesion in English. longman,London.
المقالات:
- بوهادي، عابد، «أثر النحو في تماسك النصّ»، مجلة دراسات، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، الجامعة الأردنية، المجلد 40، العدد:1، 2014م، صص 54- 65.
- زارع، آفرين ونجمة سلطان آبادي، «التکرار من منظار علم لغة النصّ ودوره في تماسك النصّ على نظرية هاليداي وحسن (الخطبة القاصعة من نهج البلاغة أنموذجًا”)»، مجلة اللغة العربية وآدابها، سنة 11 العدد1، 1436ق.
- عابدي، مهدي وناديا دادبور، «مظاهر التماسك النّحوي ووظائفه في خطب الإمام الحسن(ص) روائع الخطب نموذجاً»، مجلة بحوث فی اللغة العربية، العدد21، 2019م.
- عبدالکريم، جمعان، «مفهوم التماسك وأهميّته في الدّراسات النصّية»، مجلة علامات، (ج61)، 2017م.
- علاوي، العيد، «التماسك النحوي أشکاله وآليّاته، دراسة تطبيقية لنماذج من شعر محمد العيد آل خليفة»، مجلة القراءات، جامعة بسکرة، 2011م.
- القرعان، فايز، «الإجمال والتفصيل في القرآن الكريم»، مجلة أبحاث اليرموك، سلسلة الآداب واللغويات، المجلد 12 العدد 1، 1994.
- محمدي، سكينة وإنسية خزعلي، «الاتساق المعجميّ في رسائل نهج البلاغة (رسالة الإمام لمالك الأشتر النخعي نموذجًا)»، مجلة اللغة العربية وآدابها، السنة 15 العدد 4، 1441ق، 613-632.