تعريف التاريخ، وفلسفته وأهمية دراسته
Definition of history, its philosophy, and the importance of studying it
Dr.houssein badran د.حسين بدران (1)
الملخّص
يعالج هذا البحث مسألة اختلاف النظرة إلى التاريخ ومستوى الاهتمام بدراسته كعلم إنساني عريق، وذلك بين من لا يرى فيه أهمية تذكر وبين من يراه بالغ الأهمية، كما يورد تعريفات للتاريخ من مصادر ثقافية متعدّدة وحقب مختلفة، ويبيّن التغيّر الذي طرأ على اهتمامات المؤرخين مع الوقت، ويميّز بين علم التاريخ وفلسفة التاريخ، ويوضح الغاية من فلسفة التاريخ بالاستفادة من بعض الأمثلة عن نظريات فلسفيّة عدّة، ثمّ يعرض الفوائد المهمّة التي يفترض أن يستفيدها كلّ من الأفراد والمجتمعات من دراسة التاريخ كمكوّنٍ أساسي في تنشئة سليمة للأجيال، ومسار إجباري لفهم الحاضر، وضروري للاعتبار والتطوير الذاتي والمجتمعي وصولاً إلى إصدار الأحكام واتخاذ المواقف السليمة من القضايا التّاريخيّة وغيرها من الفوائد، ثم يبيّن أهمية تقويم التصوّرات المغلوطة عن التاريخ في أذهان الناس انطلاقًا من تقويم هذه التصوّرات في أذهان الناشئة ومسؤولية المعلمين والمؤرّخين في تعديل هذه النّظرة من خلال اعتماد الأدوات السليمة في معالجة المواضيع والروايات التّاريخيّة.
الكلمات المفاتيح: علم التاريخ، فلسفة التاريخ، المؤرّخ، التصوّرات، النظريات، السنن الحاكمة.
Abstract
The aim of this research is to shed the light on the differences of view as to history and the level of interest in studying it as an ancient human science, and it’s between those who see a very little significance and those who find it of high importance, this research also provides definitions of history from multiple cultural resources and different time periods. It also shows the change that occurred to the historians’ interests throughout time, and it differentiates between historiography and Philosophy of history. It also explains the purpose of philosophy of history, as well as providing some examples from various philosophical theories. Then, it displays the top benefits that should be gained by individuals and societies from studying history as an essential component for a proper upbringing for generations, and a compulsory route to understand the present, and necessary for self and social development, down to making judgments and taking sound positions from historical issues, in addition to other benefits. Then, it indicates the importance of reforming the false perceptions in people’s minds about history, starting from reforming them in the youths’ minds and the responsibility of teachers and historians to adjust this view by adopting the proper tools in dealing with historical topics and accounts/narratives.
Key words: historiography, philosophy of history, historian, perceptions, theories, governing norms
_________________________________________
1- أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية -كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – قسم التاريخd.hus.a.h.bedran@gmail.com-
مقدّمة
ظهر اهتمام الإنسان بالتاريخ منذ بداية تشكّل الوعي الإنساني بالزمن وسيرورته، وإن اختلفت طبيعة نظرة الإنسان حينها للتاريخ وماهيّته باختلاف اهتماماته وأولوياته، وباختلاف الثقافات السائدة في المجتمعات في عصر محدّد أو في عصور مختلفة، وفي هذا السّياق جاء اهتمام بعض الملوك بتسجيل انتصاراتهم على أعدائهم كنوع من الإجلال لأنفسهم في حياتهم وتخليدًا لها في ذاكرة الأجيال اللاّحقة، وكذلك جاء نقل خُبرات الآباء لأبنائهم كنوع من التاريخ الشفوي غالبًا والمكتوبِ أحيانًا وذلك انطلاقًا من محبّتهم لأبنائهم وحرصًا منهم على سلامتهم وازدهارهم.
وبمرور الأيام وبعد انتشار التدوين والتوثيق بمصدريه الرسمي والفردي، تراكمت في خزائن الذاكرة البشرية -أكانت على شكل نقوشٍ أو كتبٍ أو غيرها من وسائل الحفظ القديمة والحديثة- معطيات ضخمة عن تاريخ الإنسان والمتغيرات التي طرأت على حياته، وشكّلت هذه المعطيات مادّة أوليّة غنيّة لكل راغبٍ بالبحث، والتعمّق في مجريات الأحداث في الأزمنة السّابقة في سياق ما بات يعرف بدراسة التّاريخ، وهي ليست بالعمليّة اليسيرة لأنّها تتعامل مع آثار خلّفها أسلافنا على هذه الأرض، ومن بينها ما هو ناقص أو مُبهم أو مضلِّل أو كاذب أو مضخّم أو غير ذلك.
بنتيجة تلك الصعوبات وبعد وقوع العديد من الكُتّابِ والمهتمّين بأخطاء في الاستنتاجات، انتشرت بين غالبية الناس أفكار مغلوطة حول التاريخ ترى بأن التاريخ كلّه (أو أغلبه) مكذوب وموضوع، ولا حاجة لدراسته بوصفه علمٌ لا ينفع مَن عَلِمه ولا يضّرّ من جَهله وبات خارج اهتمام غالبية الناس.
أمام هذا التناقض في النظرة إلى التاريخ وأهميته، كان لا بدّ من البحث عن إجابات شافية عن الأسئلة حول التاريخ وماهيّته، أهو فنّ أو علم؟ وكيف تطوّرت النظرة إليه؟ وما علاقته بالفلسفة؟ وما الفوائد التي نتوخّاها من دراسته؟
وتكمن أهمية هذا البحث في أنّه جمع بين إجاباتٍ من ثقافات وخلفياتٍ فكريّة متعدّدة، وقدّم هذه الإجابات بأسلوب ميسّر ومبسّط، ما يجعل قابليّة الاستفادة من هذه الإجابات كبيرةً أمام كل الشّرائح المعنيّة بالإجابة عن التّساؤلات المذكورة كالتّربويين ومعلّمي مادّة التاريخ الذين اعتادوا سماع شكوى التلامذة من دراسة التاريخ ونكرانهم لأهمية هذه الدراسة.
1-التاريخ، تعريفاته ومواضيعه
أ-تعريف كولنجوود: عرّف المفكّر البريطاني ” روبن جورج كولنجوود” التاريخ في كتابه “فكرة التاريخ” أنّه “تصوير جديد لأحداث الماضي” (كولنجوود، 1961 ، ص483)، وجاء اعتماده لمصطلح “تصوير” لقناعته أنّه لا يمكن لإدراكنا الحسّي أن يفهم أحداث الماضي كما يفعل مع الظواهر الواقعة أمامنا، ولمّا لم يكن المؤرّخ شاهد عيانٍ على الأحداث التي يقوم بوصفها لذا تكون معرفته بمجريات الأحداث التّاريخيّة معرفة غير مباشرة، وهي معرفة متأتية عن تمثيل هذه الأحداث في عقله وهذا ما يسمّى بالتفكير التاريخي، والتفكير التّاريخي عملية لا تتّسم بالسهولة واليسر برأيه (ص483-484).
فمجالات المعرفة التاريخيّة “تتناول كل ما يمكن أن تتمثّله أو تعيد تصويره عقلية المؤرّخ ولذا نجد في أوّل الأمر أنّ هذا الذي يمكن أن تتمثّله عقلية المؤرخ يجب أن يكون في إطار التّجارب الإنسانيّة” (ص 516). ونستنتج من خلال ذلك أن “كولنجوود” أخرج الطبيعة من إطار التّفكير التّاريخي وحصر موضوعات التاريخ بما له علاقة بالتجارب الإنسانيّة فقط، وأدخل ضمن دائرة هذا التفكير موضوعات الفن، والدين والعلم والفلسفة والسياسة وسواها من الأنشطة الإنسانية، وأنّ عملية التفكير التاريخية التي يقوم بها المؤرّخ هي ما يمكن تسميته بعلم التاريخ (ص 522).
ب-تعريف ابن خلدون: كان المؤرخ العربيّ “عبد الرحمان بن خلدون” قد عرّف التاريخ في مقدّمته بقوله “فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الركائب والرحال…إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسّوابق من القرون الأول…وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق…”(ابن خلدون، 1569/1981، ص4).
ويوحي كلامُ ابن خلدون بوجود اختلافات في النّظرة إلى التاريخ، بين من يراه في ظاهره بأنّه ليس سوى مجموعة أخبار عن الأمم والشّعوب السّالفة، وبين من ينظر إليه على أنه علم من العلوم الأصيلة والعريقة، لما يستوجب العمل فيه من التزام بخطوات التدقيق والتحقيق والتعليل والربط بين الأسباب والنتائج وطبعًا كان هو من أنصار الرأي الثاني، كما لفت “ابن خلدون” في كلامه إلى الصلة التي تربط التاريخ بالحكمة – أي الفلسفة وفق اصطلاح زمانه – فهو “أصيل في الحكمة” أي لا ينفكّ عنها.
ج-تعريف الدكتور شوقي الجمل: وتأتي التّعريفات المعاصرة للتاريخ لتثبت الأصل الذي بنى عليه “ابن خلدون” وتوضح بعض جوانبه، ففي كتابه “علم التاريخ” يعرّف الدكتور “شوقي الجمل” التاريخ أنّه “تعريف بالوقت…والتاريخ على العموم يعني التوقيت أي تحديد زمن الأحداث وأوقات حدوثها” (الجمل، 2000، ص 8)، وهو بذلك يشير للمفهوم العام الذي بدأت فيه عملية التأريخ كعملية ربط للحدث بالزّمن الذي وقع فيه، ثم يشير إلى مسار تطوّر هذه العمليّة مع تعاقب الأمم والحضارات، فمنذ القدم ومنذ ما قبل مرحلة اكتشاف الإنسان للكتابة ترك الإنسان القديم؛ رسومات على جدران بعض المغاور التي سكنها والتي يُستدلّ منها على اهتمامه بفكرة الرواية التاريخية – بوصفه وثّق برسوماته تلك بعض أنشطته كالصيد مثلاً- وقد استمرّ هذا الميل الإنساني بالنموّ، والتطور لا سيما بعد ظهور الحضارات القديمة كالمصرية واليونانية وحضارات بلاد ما بين النهرين، لكن المقاربات النقديّة في عملية التأريخ لم تظهر برأيه إلاّ في القرن الرابع عشر الميلادي أكان ذلك مع “ابن خلدون” عند العرب أو مع بعض المؤرخين الأوروبيين كالإيطالي “فلافيوس بلوندوس” لتترك النهضة الأوروبية بعد ذلك أثرها على التأريخ من خلال ازدياد اهتمام المؤرخين في تلك المرحلة وبعدها بالنقد والتمحيص والتوثيق (ص 13). وبذلك خرج التأريخ من مجرّد كونه عملية ربط بين الحدث وزمان حصوله وتحوّلت عملية التأريخ إلى ممارسة علمية لها أصول وقواعد ثابتة ودقيقة.
د-تعريف الدكتور مصطفى النشّار: أمّا الدكتور “مصطفى النشّار” فقد عدَّ في مقدمة كتابه “فلسفة التاريخ” أن “التاريخ اصطلاح برّاق نشير به إلى الأحداث التي حدثت على مدى الحياة البشرية على كوكب الأرض” (النشار، 2016، ص 9) وذلك بصرف النّظر عن تفاوت النّظرة إلى تلك الأحداث بين تقدير وتوهين، ذلك أن نظرة التوهين التي ينظر بها البعض إلى التاريخ تدلّ على تشوّش مقاربتهم لسيرورة الزمن وتقسيماته بين الماضي والحاضر والمستقبل، وللعلاقة التي تربط هذه الأقسام ببعضها، ذلك أنّ وعي الإنسان لحاضره لا ينفكّ عن وعيه بأحداث الماضي، وهي بدورها لا تنفكّ عن أحداث المستقبل، ويضيف “النشّار” إلى عناصر تعريف التّاريخ خاصّية “توقع المستقبل” (ص 11)، فالتاريخ ليس فقط عملية تدوين وتوثيق مجموعة الأحداث التي حصلت في الماضي من المؤرخين، بل هو أيضًا توقّعٌ للمستقبل بالاستفادة من تلك المعلومات المدوّنة.
مع التأكيد أن عملية تدوين وتوثيق تلك المجموعة من الأحداث والوقائع تفرض على المؤرخ مقاربتها، ودراستها بأدوات التحليل والربط وصولًا إلى الاستنتاج وإصدار الأحكام (ص 15). وبذلك يربط النشّار بين ماهيّة التّاريخ كمجموعة الأحداث التي حصلت في الماضي وعلميّة التّاريخ من خلال اعتماد المؤرّخ لأدوات التّحليل والربط والنقد وغيرها وصولاً إلى الاستنتاج، وغائية التاريخ لناحية إصدار الأحكام وتوقع المستقبل. وفق ما سبق يمكن القول إنّه عدَّ التاريخ علمًا من العلوم الإنسانيّة المهمّة، ذلك أنّ “كلّ مجموعة من المعارف المحصّلة عن طريق منهج ثابت وثيق للبحث في نوع واحد معيّن من الوقائع” تتوافر فيها الشروط اللازمة لتسميتها بالعلم(النشار، 2004، ص6).
ج-مواضيع اهتمام علم التاريخ: يشترك التاريخ مع العلوم الوصفيّة في بعض خصائصها، فالعلوم الوصفية تسعى إلى التعرّف على الوقائع بجزئياتها، إمّا في المكان وحده كما هي حال علم الجغرافيا وعلم النبات، وإمّا في المكان مع توالي الأزمنة كما هي حال علم الجيولوجيا، لكنّه يختلف عن العلوم الوصفيّة لناحية مجالات الوقائع التي يدرسها، إذ إنّه يعنى بدراسة نوعين من الوقائع:
-الأول: الوقائع المادّية التي تُعرف من خلال الحواس، كأفعال النّاس وأقوالهم.
الثاني: الوقائع والانفعالات النّفسيّة من أفكار وأحاسيس وعواطف، والتي لا يمكن إهمالها لما لها من أثر ودور في قيادة الناس في أفعالهم وأقوالهم (ص 10).
لكن تطوّر مصطلح التاريخ بين عدَّه مجموعة من الأحداث التي وقعت في الماضي، وبين عدَّه العلم الذي يسجّل أحداث الماضي بأسلوب علمي عبر التّوثيق والتمحيص وبالاستفادة من الأدلة والآثار الموثوقة، قد مرّ في محطات متتاليّة تغيّرت خلالها حتى المواضيع التي تدخل ضمن نطاق الدّراسة التّاريخيّة.
وقد بدأت الملامح الأولى للمصطلح بالظهور في اليونان مع “هيرودوتس” وكانت غاية التاريخ حينها تتبّع “الأحداث التّاريخيّة التي صنعها الإنسان في الأزمان الماضيّة” (ص 13) بالإضافة إلى وصف كل المظاهر الحضاريّة من ديانات وعمارة وفنون.
لكن بعض فلاسفة اليونان توسّع في استخدام المصطلح ليشمل مجالات عديدة كتاريخ الفلسفة السّابقة لعصرهم، وكذلك وقائع أخرى من خارج سياق الأنشطة الإنسانيّة، ومن الأمثلة على ذلك كتاب “أرسطو” الذي ألّفه بعنوان “تاريخ الحيوان”، ثم عادت المواضيع لتُحصر خلال العصور الوسطى بالأنشطة والفاعليّات الإنسانيّة السياسة والعسكريّة (دول وممالك وحروب..) لتتوسع من جديد في العصر الحديث إلى دراسة كل ما له علاقة بماضي البشريّة أيّ كل ما كان للإنسان فيه دور أو تربطه به علاقة، وذلك التوسع ترافق مع تقدم الأدوات العلمية المعتمدة في تلك الدراسة (أيّ من خلال منهج بحث علمي له قواعد واضحة).
د-دور المؤرّخ في تعزيز علميّة التاريخ: تكمن أهمية دور المؤرّخ في أسلوب مقاربته للتاريخ وعدم اقتصاره على تسجيل الأحداث والوقائع وسردها، فهذا الدور هو الذي يعطي التّاريخ مكانته كعلم من العلوم الإنسانيّة المهمّة، إذ يفترض بالمؤرخ خلال عمله أن يسير وفق المراحل الآتية:
الأولى: مرحلة جمع المعلومات (أو الوقائع المفترضة) وذلك بالاستفادة من الوثائق المكتوبة ومن النقوش والآثار المختلفة، وهي عملية تستدعي توافر مجموعة من المواصفات الشّخصيّة والعلميّة في المؤرّخ العالم، كالصبر والدقّة والدراية بعلوم اللغات والآثار، وذلك ليستعين بها على جمع المعلومات بشكل منظّم وعلى إسقاط كل ما هو فاقد للصدقيّة ابتداءً (هيرنشو، 1944، ص 9).
الثانية: مرحلة النّقد والتحليل والتي يجري خلالها تفحّص الوثائق ومضمونها ومستوى موثوقيتها ودقة روايتها، وحتى خلفيّة كاتبها(ص 9)، وهي عمليات تتطلب أيضًا الكثير من الصبر والأناة والدقّة والربط والمقارنة مع أحوال العصر.
الثالثة: مرحلة التّفسير وهي عملية عقلية يقدّم من خلالها المؤرّخ ما يفترضه تفسيرًا أو تأويلًا معقولًا للأحداث، وذلك طبعًا بالاستناد إلى منهج علمي رصين وبالاستفادة من المرحلتين الأولى والثانية.
وبذلك يتحوّل التاريخ إلى علم حقيقي، ولا يبقى ضمن دائرة النّظرة، التي تنظر إليه على أنه مجرد سرد لروايات من الماضي من دون هدف أو تفسير أو حكم واضح.
2-التاريخ بين العلم والفلسفة
أ-الاختلاف في الدّور والتّعريف: يختلف عمل الفلاسفة عن العلماء من نواحٍ شتّى، فالعالِم ينطلق من واقعة جزئية محدودة ويكون موضوع دراسته الوقائع أو الظواهر الجزئيّة، بينما “ينطلق الفيلسوف في تأملاته إلى ما وراء هذا الواقع المحسوس ويتجه بتلك التأملات إلى ما وراء تلك الظواهر المادّية المحسوسة أيًّا كان نوعها، ويكون هدف الفيلسوف خلال تأملاته في تلك الجزئيات ملاحظة مدى ارتباط هذه الجزئيات بظاهرة كلّية معينة، ويتّبع الفيلسوف في ذلك منهجًا عقليًّا يستند على النّظرة الكلّية الشاملة للظواهر التي يفكّر فيها ويتأمّلها” (النشار، 2004، ص21).
ويستدلّ من خلال ما سبق أن الفيلسوف لا يبحث في الأسباب القريبة والمباشرة، إنما يحاول الوصول إلى العلّة الكليّة التي تفسّر الظاهرة موضوع التأمّل. وإذا احتسبنا أنّ التّاريخ هو العلم الذي يدرس الأحداث، والظواهر الإنسانيّة ليسجّلها وفق معايير الدّقة والنّزاهة ويحاول تفسيرها وربطها بأسبابها، فإنّ فلسفة التّاريخ هي محاولة فهم سيرورة الأحداث التّاريخيّة للإنسانيّة عمومًا من أجل الوصول إلى محرّكها وإلى علّتها الكليّة، واستخلاص القواعد العامّة أو السنن التي يسير بموجبها تاريخ الإنسانيّة.
وما يجب التأكيد عليه أن وجود فوارق بين علم التاريخ، وفلسفة التّاريخ لا يعني أبدًا القطيعة بينهما فعمل المؤرّخ “ضروري جدًا لعمل الفيلسوف وكذلك هناك حاجة لأن يستفيد المؤرّخ في عمله من النّظرة الفلسفيّة الشاملة” (ص 24). أي بمعنى آخر يقدّم المؤرّخ من خلال علم التّاريخ المادة الأساسيّة التي يعتمدها الفيلسوف في بحثه عن العلّة الكليّة، وإذا نجح المؤرّخ نفسه في اعتماد النّظرة الفلسفيّة، فإنّ ذلك قد يساعده على رؤية أكثر وضوحًا للعلل والعلاقات الكليّة وعلى استخلاص المنفعة من عمله في هذا العلم.
ب-نماذج عن نظريات في فلسفة التاريخ: برزت خلال تاريخ البشرية عدّة اتجاهات فلسفيّة صُنّفت ضمن خانة فلسفة التاريخ ومنها:
أولًا-الفلسفة اللاهوتيّة والتي ارتبطت بالقديس “أوغسطين” (توفي 430م) الذي يعدُّ من أبرز فلاسفة القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وكان ينظر للتاريخ الإنساني على أنّه حقبة من “الزّمن تتحقق فيه خطة الله في خلاص الإنسان منذ أن وقع آدم في الخطيئة، وقسمات هذه الخطة المهمّة: خلق العالم، خطيئة آدم، فناء الدّنيا، القيامة ويوم الحساب” (الخالدي: 2007، ص1)، وجاء كتابه “مدينة الله” كنوع من الردّ على مقولات الوثنيين بأنّ ما جرى من تدمير وتخريب لروما في بدايات القرن الخامس كان بسبب انتشار المسيحيّة.
ثانيًّا- الفلسفة المثاليّة التي كان من أبرز منظّريها الفيلسوف الألماني “هيجل” (توفي 1831) الذي ميّز بين ثلاثة طرق للكتابة التاريخيّة (هيجل، 1974، ص23)، وهي:
أ-التّاريخ الأصلي: ويقصد به التّاريخ الذي يدوّن فيه المؤرخ أحداث عصره بوصف أنه قد عاصرها وكان شاهدًا عليها أو سمعها من معاصريها، وهذا ما يجعلها واضحة بالنسبة إليه.
ب-التّاريخ النّظري: وهي الكتابة عن أحداث لم يعايشها، وهي تأتي ضمن أشكال وغايات متنوعة بين فهم وتحليل واستخلاص عبر.
ج-التاريخ الفلسفي: وهو قائم على قاعدة أن ما يميّز التّاريخ البشري هو الوعي المتأتي عن العقل والفكر، وأنّ مسار التطوّر التاريخي هو مسار تطوّر العقل الإنساني، وبحسب “هيجل” فإنّ فهم التطوّر التّاريخي هو فهم حركة الفكر أو العقل، ولا قيمة لهذه الحركة إن لم تتجسّد بدولة، والتاريخ هو “علاقة الدّول بعضها ببعض وعلاقتها بالرّوح العامّة السائدة في العالم، وتاريخ العالم هو مجلس قضاء يمسك فيه بصولجان الحكم شعب واحد، ويظلّ كذلك إلى أن يظهر شعب آخر أقدر منه فينتزع منه ذلك الصولجان.” (الجمل، 2000، ص 24). وبذلك يكون الدّافع والمحرّك الرئيس للتاريخ هو الفكر.
ثالثًا- الفلسفة الماديّة، ومن أبرز منظّريها كارل ماركس، بليخانوف، لينين وسواهم، دعم بليخانوف وجهة نظر “فولتير” الدّاعية إلى وضع المفهوم اللاّهوتي للتاريخ جانبًا وتفسير الظواهر بأسبابها الطبيعيّة، وأيّد آراء “ماركس” الذي رأى أن المحرّك الرئيس للتاريخ هو الصراع بين الطبقات ذلك “أن علاقات الإنتاج تحدّد جميع العلاقات الأخرى التي توجد بين الناس في حياتهم الاجتماعيّة” (بليخانوف، غير مذكور ت.ن.، ص 9)، وعليه فإنّ السّبب الرئيس الكامن وراء التّطور الاجتماعي ووراء كلّ حركة تاريخيّة هو سبب مادّي مرتبط بالصّراع الذي يخوضه الإنسان مع الطبيعة في سبيل وجوده واستمراريته(ص 46)، وبذلك يناقضُ أنصارُ الفلسفة المادية رأي “هيجل” حول محورية دور الفكر في حركة التاريخ.
رابعًا- السنن الحاكمة في حركة التاريخ، ومن أبرز منظّريها المؤرّخ “جواد بولس” والسيّد “محمد باقر الصدر” الذي يعدُّ أنّ السّاحة التّاريخيّة لها سُننٌ وضوابط تمامًا “كما يكون هناك سنن وضوابط لكل السّاحات الكونيّة” (الصدر، 2011، ص 64)، ففي القرآن الكريم دعوة واضحة للناس للتفكّر والتدبّر في حركة التاريخ، كما يقدّم أمثلة داعمة لرأيه من خلال القرآن الكريم كالآية التي تقول: ﴿ذلك بأنّ الله لم يك مغيّرًا نعمةً أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم﴾ (القرآن الكريم، سورة الأنفال: الآية 53)، ففي الآية الكريمة إشارة واضحة على العلاقة والرابط بين فعل الإنسان ونتيجة هذا الفعل، لكن بما لا يخرج تلك السنن عن دائرة حريّة التصرُّف والاختيار عند الإنسان، ولأنّ لكل تصرّفٍ أو خيار نتائجه وفق السننِ الإلهية، فعلى الإنسان أن يطّلع على هذه السنن بما يتيح له الاستفادة منها كأيّ قانون من قوانين الساحات الكونية الأخرى.
ويستخلص “الصدر” أنّ لهذه السّنن حقائق ثلاث:
أ-الاطراد والتتابع “ولن تجد لسنة الله تبديلا”.
ب-ارتباطها بالإرادة الإلهية من دون أن يعني ذلك انتزاع الحادثة التّاريخيّة من سياقها بل هي تسير وفق مبدأ العلاقات والأسباب التي وضعها الله تعالى(الصدر، 2011، ص 71).
ج-ارتباطها بإرادة الإنسان واختياره، وذلك في مقابل اعتقاد البعض أن الإقرار بوجود السنن الإلهية يعني تنازل الإنسان عن حرية اختياره وإرادته، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿إن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم﴾ (القرآن الكريم، سورة الرعد: الآية 11).
وبذلك يكون الإنسان حرًّا في اختياره ولكن يكون لاختياره هذا نتائج تحكُمها سنن التاريخ، مثلما تحكم القوانين المناخيّة مثلًا عمل المزارِع الذي عليه أن يكتشف هذه القوانين، وأن يُحسن اختيار الصنف الذي يريد زراعته إضافة إلى الزّمان والمكان والشروط الملائمة كلّها كي يحصل على الثمار المرجوّة لعمله.
3-الفوائد المرجوّة من دراسة التاريخ: تتنوّع الفوائد المرجوّة من دراسة التاريخ وتتفاوت أهميتها باختلاف الفئة المستفيدة، فمنها فوائد عامّة تعود على الشعب أو على الأمّة، ومنها فوائد خاصّة تعود بالنّفع على الفرد بذاته، وكلا النّوعين له انعكاسه الإيجابي على الآخر، وأكثرهذه الفوائد أهمّيّة:
أ-تعزيز الانتماء الوطني: يسعى المخطّطون التربويّون –في كلّ دول العالم- إلى تحقيق جملة من الأهداف التّربوية العامّة تراعي بناء التكامل في شخصيّة المتعلّم، ويأتي على رأس قائمة الأهداف هذه الأهداف المتعلّقة بالانتماء الوطني، وما يترتّب على هذا الانتماء من التزام بقضايا الوطن والاهتمام بشؤونه، وفي ما يلي عرض لبعض الأهداف العامّة التي اعتُمدت في لبنان كمنطلق لعملية تطوير المناهج التّعليميّة العام 1997م(المرسوم 10227، 1997):
*المعتزّ بوطنه لبنان وبالانتماء إليه والالتزام بقضاياه.
*المعتز بهويته وانتمائه العربيين والملتزم بهما.
*المتمثل تراثه الروحيّ النابع من الرّسالات السّماوية والمتمسّك بالقيم والأخلاق الإنسانيّة.
*المستوعب تاريخه الوطني الجامع، بعيدًا من الفئوية الضيًقة وصولًا الى مجتمع موحّد ومنفتح إنسانيًّا.
*العامل على إعلاء المصلحة العامة والملتزم بالقوانين انسجامًا مع ميثاق العيش المشترك.
*العامل على توطيد روح السّلام في الذات وفي العلاقات بين الأفراد، وفي العلاقات الاجتماعيّة الوطنيّة.
من خلال قراءة مبسّطة للأهداف الواردة أعلاه يمكن استنتاج محورية دور التاريخ في هذه العملية التربوية، فكيف يمكن للمتعلّم (أو المتربّي) أن يعتزّ بانتمائه الوطني أو يلتزم قضايا وطنه من دون أن يتعرّف على وطنه وقضاياه من خلال التاريخ، وكيف له أن يفهم حقيقة انتمائه العربي أو أن يدعم قضايا أمّته من دون فهم متكامل لتاريخها، وحتّى التراث الروحي للرسالات فهو شديدُ الالتصاق بالتاريخ.
نستنتج ممّا تقدّم أن دور التاريخ أساسيّ في العمليّة التربوية، ما جعله في رأس سلّم اهتمامات الدول والحكومات، وهذا ما يجعل الدول عمومًا تعنى بكتاب التاريخ المدرسي عناية خاصّة وأكثرها يحتكر عملية إعداده، كما تهتمّ السّلطات التّربوية بالمقاربة التّعليميّة المطلوبة لتعليم المادّة، ومن الأمثلة على ذلك التركيز الواضح في المناهج البريطانية المعدّلة سنة 1995م في مادّة التاريخ على محوريّة (المؤثرية أو الأهمية) كمفهوم بنائي ذي موقعيّة أساسيّة في تعليم التاريخ، فاكتساب المتعلمين لمعارف تاريخية وامتلاكهم لمهارات التفكير العليا يجب أن يخدم تحقيق هذا المطلب، ويعينهم حتّى على تمييز “نتائج حدث ما” عن “أهمّية تلك النتائج” ) Cercadillory, 2000,p34).
كما أن أهميّة المادّة جعلتها محور اهتمام اللجان الثقافيّة والتربويّة في منظمة الأمم المتحدة، إذ تتضمّن الصكوك الدّوليّة مؤشّرات مهمّة تتعلق بأهداف التعليم، ومما له أهمية خاصّة في هذا السّياق المادّة 29 من اتفاقيّة حقوق الطفل والتي توافق الدّول الأطراف بموجبها على أن يكون التعليم موجّهًا نحو تنمية شخصيّة الطفل واحترام القيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه، كما نظّم مجلس حقوق الإنسان لهذه الغاية فاعليات عدّة منها حلقة نقاش تحت عنوان “تدريس التاريخ وعمليات تخليد الذكرى” (تقرير المفوض الأممي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 2014، ص 9).
ب-وعي الحاضر: يقول المؤرّخ “جواد بولس” إن التاريخ علم خبري، يقدّم للناس والمجتمعات تنويعًا غنيًّا من الاختبارات الاجتماعيّة والركائز الدائمة…ما يجعل تعاليمه العمليّة ذات قيمة عالية…فالحياة هي استمرارية التّاريخ لأنّه لا يمكن أن ينفصل الماضي عن الحاضر، وهكذا فالإنسان لا يفهم حاضره إلّا بماضيه، وماضيه إلّا بحاضره (جواد بولس، 1973، ص 17).
فعلى الصّعيد الاجتماعي: تكمن أهميّة هذا الوعي في أنّه يقدّم لنا صورة واضحة نسبيًّا عن المجتمعات في المحيط الذي نعيش فيه، ويساعدنا على فهم الاختلاف القائم بين الشّعوب بأصولها وعاداتها، وتقاليدها بصرف النظر عن تقييمنا لتلك التقاليد أو الموروثات. كما أنّه و”من خلال التاريخ يمكن لنا أن نعرف كيف بُنيت المجتمعات والأنظمة والإيديولوجيات …إن التاريخ الغنيّ للعالم يساعدنا على رسم صورة مفصّلة حول موقعنا حيث نقف اليوم”.(Anglia, 2020. P1).
وعلى الصعيد السياسي: من الثابت أن ارتباط السياسة بالتاريخ وثيق جدًّا، فالسياسي “يحتاج للتاريخ بوصف أن التاريخ هو سياسة الماضي وأن السياسة تاريخ الحاضر” (يزبك، 1990، ص 71). ويرى المؤرّخ الإنكليزي جون سيلي “أنّ التاريخ مدرسة السياسة، ومن دون مقدار يسير منه على أقل تقدير لا يمكن للإنسان أن يُعنى عناية معقولة بالشؤون السياسية، ومن دون حظّ موفور منه لا يمكنه أن يصدر حكمًا معقولًا في أي شأن من شؤونها، إن التاريخ دراسة مهمّة لكل مدني، ولكن هو الدراسة المهمّة الوحيدة الخليقة برجال الحكم” (الجمل، 2000، ص 78).
يشكّل التاريخ خزّانًا معرفيًّا مليئًا بالتجارب، التي يجب على كل من يعمل في الحقل السياسي أن يطّلع عليها، وتشكّل المعرفة التاريخية شرطًا لازمًا من شروط العمل السياسي، تعينه على فهم الحاضر وإصدار الأحكام في القضايا التي يتعامل معها، يقول “جواد بولس” حول السياسة والتاريخ “إن تطبيقنا لثوابت التّاريخ ومقاييسه على المشاكل السياسيّة، يجعلنا نكتشف بفضل المعطيات الحقيقية الرابط واللُّحمة والحلّ”( جواد بولس، 1973، ص 19)، وبالمقابل يشكّل جهل السياسي بالتاريخ نقطة ضعف قاتلة عادةً ما ترتدّ سلبًا عليه وعلى الجهة التي يمثّل أكانت حزبًا أو جماعةً أو حتّى دولة.
إن دور التاريخ في المساعدة على وعي الحاضر لا يقتصر على الجانبين السياسي والاجتماعي، فالحاضر بكل مجالاته السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والاقتصاديّة … يحتاج إلى التاريخ لكشف ما جرى عليه من تحوّلات أوصلته إلى ما هو عليه اليوم، وفي هذا السياق يمكن لنا ضرب أمثلة بسيطة مأخوذة من حياتنا اليومية، فتوزّع الدول وحدودها وأعراق سكانها وانتماءاتهم الدّينيّة والمذهبيّة، ومذاهبهم الفكريّة وحتى عاداتهم الاجتماعيّة والثقافيّة والدّينيّة والغذائيّة وتقاليدهم ..لا يمكن فهمها ولحظ تحوّلاتها من دون السياق التاريخيّ الذي مرّت خلاله، وهي بالتأكيد عملية مستمرّة باستمرار الأجيال.
ج-استخلاص العبر ورسم المستقبل: وردت إشارات عديدة في الكتب السماوية لأهمية الاعتبار من التاريخ، ومن بينها على سبيل المثال الآية القرآنية التي تقول﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب﴾(القرآن الكريم، سورة يوسف: الآية 111). والآية التي تقول ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْل…﴾ (القرآن الكريم، سورة الروم: الآية 42). كما تشيرُ الأناجيل إلى اعتماد المسيح (ع) الرواية والأمثال في أسلوبه في الدّعوة والتبشير ليستفيد السامعون من عبرها، و الاعتبار السّليم يحتاج إلى التفكّر والتبصّر، وهو فعل عقلي إرادي كما يحتاج إلى قرارٍ وقناعةٍ بضرورة العمل وفق ما تُمليه العبرة المستفادة.
ويقول “ابن خلدون” حول أهمية التاريخ “إعلم أنّ فنّ التاريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا…” (ابن خلدون، 1569/1981، ص9). فالمنفعة الحقيقيّة للتاريخ تكمن إذًا في ما يقدّمه لنا التاريخ من عبر مستوحاة من حياة من سبقنا من الأمم والشعوب. إن استخلاص العِبَر من التاريخ أمرّ يعود بالمنفعة على الصعيدين:
الأول: على الصعيد الشخصي، فالعقل يفترض أن يستفيد المرء من تجاربه الذاتيّة أو من تجارب الآخرين التي شهدها أو اطّلع عليها، وتراثنا الشعبيّ يعجّ بالكثير من الأمثال والحكم التي تؤكّد هذا الأمر كالقول المأثور عن النبي محمد(ص) “المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين”، وفيه دلالة واضحة على وجوب الاعتبار من تجارب الماضي، وأكثر الناس اليوم لم يتعرضوا للدغة العقرب، لكنهم يتجنبون لمسه لما وصل إليهم من علم بتجارب من تعرّض للسعة العقرب وهذا بحدّ ذاته اعتبار من التاريخ. كما وتدخل عملية الاعتبار أيضًا في العملية التربويّة، ويستفاد منه حتى على صعيد التربية الأخلاقيّة، ويتفق التّربويون أن هناك الكثير من العبر والدروس التي على الأطفال تعلّمها، ويمكن لهم تطبيقها والاستفادة منها في حياتهم اليومية.( Anglia, 2020, P1).
الثاني: على الصعيد المجتمعي، أكان ذلك على مستوى السلطة الحاكمة التي تدير المجتمع أو على مستوى الحراك الاجتماعي بذاته، ففي كتابهما “عبر التاريخ” يستخلصُ الكاتبان “ول و أريل دورانت” مجموعة من العبر كخلاصة لنتاجهما البحثي الطويل في التاريخ- أي كتاب قصة الحضارة- وهي عبر متنوّعة في مواضيعها بتنوع الأنشطة الإنسانيّة، ومن الأمثلة عن العبر الاجتماعيّة يركّزان على فكرة “التعاون المثمر” بين أفراد المجتمع الإنساني ففي ظل وجود مبدأ المنافسة في الحياة فإنّ المزاحمة بين الناس على الموارد (كالغذاء مثلاً) قد تتحوّل من منافسة سلميّة إلى عنيفة ضارية “بينما التعاون المثمر يزيد المجتمع نموًّا وازدهارًا” (دورانت، 1992، ص 22)، فالتاريخ يحوي بين صفحاته الكثير من تجارب الأمم والمجتمعات السّالفة، وهي حاضرة لتزودنا بخلاصات حول تلك التجارب، وما عايشته تلك المجتمعات من نجاحات أو إخفاقات وكلّ ما علينا هو بذل الجهد المطلوب، واستخدام الوسائل العلميّة المناسبة لنستخرج أسباب نجاح المجتمعات وإخفاقها.
لكن استخلاص عبر التاريخ – أكان على الصعيد الشّخصي أو كان على الصعيد العام-لا يجب أن يتوقف عند حدود الفهم والاستنتاج، بل إن غايته الحقيقيّة هي في الفرصة التي توفّرها هذه العبر في قراءة وتوقع المستقبل، وهذا بالذات ما يميّز الأمم والشعوب وحتى الأفراد عن بعضهم البعض، ذلك أنّ “قراءة أحداث المستقبل والتنبّؤ بها إنما يعتمد في الأساس على أخذ العبرة من التاريخ وأحداثه السابقة” (النشار، 2004، ص 10)، وهذا ما يتيح لمن يقوم بهذه العمليّة أن يخطّط للمستقبل، وأن لا يتعامل مع ما سوف يأتي من الأحداث من موقع المتلقي فقط، بل يكون له الدور المؤثّر فيها، وهذا ما يتيح له حصد الإيجابيات من هذا الاعتبار والتخطيط.
وهنا تبرز أهمية المؤرّخين وعلماء الاجتماع، فمن خلال أبحاثهم العلميّة البعيدة من الذاتية، يمكن لهم أن يقدّموا مادة تاريخيّة اجتماعيّة قيّمة و”أن يسهموا إسهامًا بالغ الأهمية في فهم الماضي وفي رسم سياسات قائمة على التّجارب الماضيّة، ذلك أن تفسيرات التجارب الماضيّة هي النقاط التي نستند إليها عند تكوين الآراء ورسم السياسات” (أتكن، 1982، ص 91)، نستنتج إذًا؛ صوابيّة ما ذهب إليه “هيرنشو” في كتابه علم التّاريخ أن “التاريخ يكسبنا تصوّرًا صحيحًا لما سيأتي بناء على ما مضى” (هيرنشو، 1944، ص 109)، وأن هذا التصوّر لا يقف عند حدود مجال واحد من مجالات الأنشطة الإنسانيّة، إذ بات التخطيط للمستقبل من أساسيات النجاح المطلوبة أكان ذلك على مستوى الأفراد أو المؤسّسات أو الدول، وفي المجالات كافة السياسيّة والاقتصاديّة والعلميّة والتّربويّة وغيرها، وهذا يتوافق مع رؤية الفيلسوف الألماني نيتشه” الذي يرى أن “معرفة الماضي مطلوبة لكي تكون في خدمة الحاضر والمستقبل” (الجمل، 2000، ص، 77).
د-استنتاج السنن والقواعد التاريخية: كان من الممكن دمج هذه الفائدة بما سبقها لكنّ أهميتها تفرض تخصيص حيّز لها لمزيد من تسليط الضوء عليها ولفت الأنظار إليها، فالسنن أو القواعد التي تحكم مسيرة التاريخ قد لا تكون حاضرة في ذهن أو بال الكثير من المؤرخين أو علماء الاجتماع، لكنها ومن منطلق أهميتها وما لها من تأثير مباشر على أيّ عمليّة تغيير يسعى الإنسان إليها، تستدعي العمل الدؤوب على كشفها وفهمها بما يتيح له الاستفادة القصوى منها إذ لا يمكن للإنسان أن يكون فاعلًا ومؤثرًا بصورة إيجابيّة في محيطه من دون أن يتعرف إلى تلك القوانين والسنن، وبما يتيح له التحكّم بنواتجها(الصدر، 2011، ص 35).
ففي مقابل أهمية اكتشاف سنن التاريخ لما يمكن أن تمدّ به علماء الاجتماع والسياسة من توجيهات مفيدة تكمن خطورة الجهل بهذه السنن أو التغاضي عنها، فمنذ أقدم العصور وحتّى اليوم، لم يتغيّر فعل وتأثير سنن التاريخ ونشاطُها ما زال مسيطرًا ومستمرًّا، فالطبائع النفسيّة للمجتمعات لم تتبدّل قط منذ ما قبل التاريخ، وإنّ كان العقل قد حقّق تقدمًا بمرور الزّمن لكن الانفعالات العاطفيّة البشريّة المؤثرة في حركة الإنسان ما تزال على حالها(بولس، 1973، ص 17).
ففي ظل اضطراد وثبات هذه السنن يؤدّي الجهل بها أو التغافل عنها إلى الوقوع في “حسابات خاطئة فأحداث الماضي تظهر بوضوح أن خرق سنن التاريخ لا يبقى من دون عقاب، وأنّ كلّ عمل إنساني مخالف لهذه السنن لا بدّ وأن ينقلب أو يتحطّم عاجلاً أم آجلاً، لا شكّ أن الحرية تؤدي دورًا مهمًّا في حياة الإنسان ونشاطه، لكن هذا النّشاط لا ينجح ولا يدوم إلا إذا تناغم مع سنن الحياة” (بولس، 1973، ص 19).
خلاصة القول ن لاكتشاف سنن التاريخ فوائد بالغة الأهميّة على الأفراد والمجتمعات، فمن خلال بذل الجهود لاكتشافها وفهمها والعمل وفقها وتجنّب معارضتها يسهل تحقيق النّجاح والازدهار، وإلا فستذهب تلك الجهود سدىً.
ه-إصدار الأحكام واتخاذ المواقف: إنّ إنسانية الإنسان وعقلانيّته تفرض عليه الاهتمام بالشّؤون الإنسانيّة، والقضايا العامّة ذات الصلة بها وكثير من هذه القضايا هي قضايا خلافيّة يتنازع حولها أفراد أو مجموعات بشرية، وبعض هذه النزاعات لها جذور تاريخية موغلة في القدم، وبعضها الآخر حديث العهد، وبصرف النّظر عن قِدَمها أو حداثتها، فإنّ تلك النزاعات أثّرت وتؤثّر على حياة الكثيرين، ولا يمكن التّغاضي عنها أو عدم اتخاذ موقف منها ولو بالكلمة حتى لو لم يرتّب ذلك الموقف تصرّفًا أو عملًا ما.
إن الباحث في حقيقة هذه القضايا يشبه في دوره القاضي، الذي يراجع تاريخ القضية وأحداثها للكشف عن المُذنِب لتحميله مسؤولية ذنبه وعن المظلوم بهدف استرداد حقّه، وأكثر تلك القضايا تنطوي على مواجهة بين الخطأ والصواب وبين الحقّ والباطل، ومن المسلّم به أنّ السكوت عن الباطل ليس من الصفات الإنسانيّة الحميدة، وبمعنىً آخر يساعد فهمنا ومعرفتنا بتاريخ القضايا المحيطة بنا على اتخاذ الموقف المناسب منها، والعمل على تقويم الخلل الحاصل تفاديًا لاستمراره ومنعًا لتراكم سلبياته. والحدّ الأدنى من الدّور المطلوب هو التعبير عن هذا الموقف بحريّة وجرأة وإلّا فقد الإنسان حريتّه التي تشكّل إحدى مظاهر إنسانيته المهمّة.
و-الحاجة النفسية: يرى المؤرّخ الإنكليزي “آرثر مارفيك” في كتابه “طبيعة التاريخ” أن دراسة التّاريخ ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانيّة “فهي تسدّ حاجة غريزية إنسانيّة أساسيّة، وتفي بحاجة أصيلة من حاجات البشر الذين يعيشون في المجتمع” (مؤنس، 1984، ص 35)، وذلك يعني أنّ دراسة التاريخ تلبّي ميلًا رئيسًا من الميول الإنسانيّة، هو ميله لمعرفة نفسه وفهم علاقته بمحيطه وبماضيه.
خلاصة القول إنّ تلك الفوائد المذكورة (وغيرها) المحصّلة من دراسة التاريخ تجعل من الواجب على كلّ عاقل، أن يعطي لهذه الدراسة كل أهمّيّة واعتبار، فمن خلالها يفهم واقعه ويتجنّب الأخطاء التي وقع فيها من سبقه، ويحدّد موقفه من قضايا محيطه، ويخطّط لمستقبله وبذلك يخطو نحو التقدّم والنجاح في شؤونه كافة.
4- بناء تصورات سليمة حول التاريخ في أذهان الناشئة: من المعلوم أن التصوّر الذي يبنيه المتعلّم حول مادّة أو علم معيّن يحدّد له موقفه ومستوى اهتمامه اللاحق بهذا العلم، وإذا “شئنا أن يأخذ الطلبة ما يتعلّمونه في دروس التاريخ جدّيًا كمعرفة علميّة، فلا بدّ لنا من أن نركّز الجزء الأكبر من جهودنا كأساتذة تاريخ على تطوير فهم الطلبة للتاريخ كحقل علمي” (تشابمان، 2012، ص 308) بمعنى أن نقدّم لهم التاريخ كمادّة علميّة مفيدة، وأن يتلمّسوا بأنفسهم وتباعًا فائدة هذه المادّة بما يبني لديهم تصوّرات سليمة حول أهميّتها وجدوى دراستها.
وبكلام مختصر، إذا أردنا أن يأخذ الطلبة مادّة التاريخ على محمل الجدّ ” يجدر بنا أن ندرّبهم على التفكير بطرق تاريخيّة محدّدة لتفسير التاريخ” (ص 309)، وهذا يقتضي طبعًا أن نمكّنهم من مهارات التفكير التاريخي وأدوات البحث المعتمدة في علم التاريخ والتي تجعل منه علمًا نافعًا ومفيدًا.
إن تكوين التصوّر السليم لمادّة التاريخ في ذهن المتعلّم، يستدعي أيضًا إزالة الشبهة التي يقع فيها المتعلّمون عادة ومفادها أنّ التاريخ بمعظمه مغلوط، ذلك أننا “نعتمد على الروايات لتفسير الماضي والتي غالبًا يصعب التأكدّ منها وقد تختلف التفسيرات حولها لأسباب عديدة ما يجعل ما بين أيدينا منها صعب التصديق” (ص 311)، وبذلك لا حاجة برأيهم للخوض في التاريخ.
ويمكن إزالة هذه الشبهة من خلال تدريب المتعلمين على “مهارات دراسة التاريخ”، وعلى “أسس الكتابة التّاريخيّة” القائمة على مقاربة الروايات التّاريخيّة بأسلوب المحقّق، الذي يدقّق في موثوقيّة مصادرها، وبين سطورها وكلماتها بحثًا عن إجابات الأسئلة التي تدور في ذهنه وعن الخلاصات والاستنتاجات المعقولة.
إنّ هذا النوع من الاستجواب الفاعل للآثار التاريخّية من نصوص ومصادر متنوعة، والتي يمكن للمتعلّم نفسه أن يلمّ بقواعده وأن يتمكّن من مهاراته، يتيح للمتعلّم تمحيص تلك النصوص والخروج بإجابات يراها معقولة من دون أن يطلق حكمه المسبق على كل الروايات التّاريخيّة.
ومن المفيد لكل معلّم يريد النجاح في تكوين تصوّرات صحيحة لدى متعلميه، أن يباشر عمله في تعليم المادّة من خلال استطلاع هادف للتصوّرات الأولية في أذهانهم حول المادّة، وأهمية دراستها، وذلك من خلال بناء استمارة خاصة تتمحور أسئلتها حول فهم المتعلم للتاريخ والفائدة المتوقعة من دراسته، ثم يقوم بتحليل نتائج الاستمارة ومناقشتها مع المتعلمين واعتمادها كمنطلق إحصائي في عملية تصويب التصوّرات أو بناء تصوّرات بديلة.
وقد أثبتت تجارب عديدة من هذا النوع لباحثين متخصّصين أن لدى بعض الطلاب تصوّرات أولية قائمة على أسس سليمة وإن كانت غير مكتملة، لكن الغالبيّة عادةَ ما كانت تجيب حول السؤال عن الغاية من دراسة التاريخ بإجابات من قبيل: “لنتعلم عن الماضي،..، لكن لا أعرف لماذا هذا مهمّ” (ص 348)، لذلك يأتي نقاش نتائج الاستمارة مع التلامذة، مدخلًا مناسبًا لتعريفهم بعلم التاريخ وبأهمية وفائدة دراسته.
وإذا نجح المربّون في تشكيل تصوّر سليم حول التاريخ وأهمية دراسته في أذهان الناشئة، فلن يمضي وقت طويل حتّى يسود هذا التصوّر في المجتمعات البشرية، ليأخذ التاريخ حينها حقّه من الاهتمام والدراسة.
المصادر والمراجع
*الكتب والأبحاث:
1- أتكن، هيوغ (1982). دراسة التاريخ وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية(ط2)، تر. محمود زايد. بيروت: دار العلم للملايين.
2- ابن خلدون، عبد الرحمان (1981). المقدمة (ط 4). بيروت: دار القلم.
3- بليخانوف، جورجي (1977): المفهوم المادي للتاريخ (ط3)، تر.عامر عبدالله. بغداد: مطبعة الأديب البغدادية.
4- بولس، جواد (1973). لبنان والبلدان المجاورة (ط2). بيروت: مؤسّسة بدران.
5- تشابمان، آرثر(2012): تعلّم مادة التاريخ وتعليمها: دروس من لبنان وإلى لبنان. “أبعد من التحيز والذاتية” ورقة بحثية ألقاها خلال مشاركته في المؤتمر التربوي الثالث الذي نظمته الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، السبت 26 آذار 2011، الكتاب السنوي السابع.
6 – الجمل، شوقي(2000). علم التاريخ نشأته وتطوره ووصفه بين العلوم الأخرى ومناهج البحث فيه، القاهرة: المكتب المصري للمطبوعات.
7-الخالدي، محمد(2007): “فلسفة التاريخ”. عدد جريدة الأنباء الصادر بتاريخ 6/8/2007. تم الاسترجاع عن موقع الجريدة الإلكتروني https://www.alanba.com.kw/ بتاريخ 2/3/2012.
8- دورانت، ول وأريل(1992). عبر التاريخ، تر. انطوان رزق الله مشاطي. بيروت: دار العلم للملايين.
9- الصدر، محمد باقر(2011). السنن التاريخية في القرآن، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
10-كولنجوود، جورج(1961). فكرة التاريخ، تر. محمد بكير خليل، القاهرة: لجنة التأليف والنشر.
11- مؤنس، حسين(1984). التاريخ والمؤرخون، القاهرة: دار المعارف.
12- النشار، مصطفى(2004). فلسفة التاريخ بحث منشور ضمن إصدارات سلسلة الشباب، (ط1). القاهرة: شركة الأمل للطباعة والنشر.
13- النشار، مصطفى (2016). فلسفة التاريخ نشأتها تطورها من الشرق القديم حتى توينبي(ط1)، القاهرة: نيوبوك للنشر والتوزيع.
14-هيجل، جورج(1974). محاضرات في فلسفة التاريخ، العقل في التاريخ، ج 2. القاهرة: دار الثقاقة للطباعة والنشر.
15-هيرنشو، فوسي(1944). علم التاريخ، تر. عبد الحميد العبادي. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر.
16- يزبك، قاسم(1990). التاريخ ومنهج البحث التاريخي، (ط1)، بيروت: دار الفكر اللبناني.
*النصوص والمنشورات الرسمية
17- المركز التربوي للبحوث والإنماء، المرسوم رقم 10227 تاريخ 1997، تحديد مناهج التعليم العام ما قبل الجامعي وأهدافها، تم الاسترجاع عن الموقع الإلكتروني للمركز التربوي بتاريخ 3/3/2021 www.crdp.org › curriculum-target CRDP Lebanon
18-منشورات الجمعية العامة للأمم المتحدة: الوثيقة A/68/296، تقرير المقرّرة الخاصة في مجال الحقوق الثقافية، الدورة الثامنة والستون. تم الاسترجاع عن الموقع الالكتروني الرسمي لوثائق الأمم المتحدة بتاريخ 20/3/2021. https://undocs.org/ symbol=ar/A/68/296
*الكتب والمراجع الأجنبية
19– Cercadillo, Lis (May 2000). Significance in History– Institute of Education- University of London.p34.
20-Nord Anglia(2020). why is it important to study history? Nord Anglia Education https://www.nordangliaeducation.com/ /