قيام الحركات التحرريّة في الوطن العربيّ
The conduct of liberation movements in the Arab World
Abdallah Ahmad Ghieh عبدالله أحمد غيّة([1])
الوطن العربي بمشرقه ومغربه محط أنظار الغزاة لموقعه الجيوسياسي المهمّ والخيرات الموجودة فيه من مواد أوليّة ومساحات زراعيّة شاسعة ومياه وعلى رأس الأنظار أنّه مهد الأديان السّماوية اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة.
تعرّض لعدّة حملات منها الرومانيّة والفرس والمغول والتتار والصليبيين وغيرهم. وأُخرجوا وألحقوا الهزيمة بهم على يد المماليك(قطز) والقائد صلاح الدّين الأيوبي وغيرهم من القيادات العربيّة والإسلاميّة. وتوالت الأطماع تجاه العالم العربي تحت عدّة أسباب ومسميات.
عاشت المنطقة العربية مدّة من الزمن حوالى 400 سنة تحت الحكم العثماني، فكانت تقسم إلى ما يسمى بالولايات والسّناجق والمناطق وكانت تدار من السّلطنة العثمانيّة التي أحكمت السّيطرة عليها. فكانت هذه السّلطة تمرّ بمراحل من العدل ضمن الحكم الإسلامي والشّريعة الإسلاميّة، ولكن في المراحل الأخيرة من السّلطنة العثمانيّة، حاولت تضييق الخناق على العرب من خلال تتريك القرآن والتّجنيد الإجباري والضرائب وسياسية المقطاعجيّة وغيرها، ما حمّل بعض الجمعيّات والحركات مدّ اليد إلى الدول الأجنبيّة والاستعانة بها للتخلص من الحكم التركي. كما حصل تعاون وكان جلّه مع الشّريف حسين وابنه، ولكن هذا التّعاون لم يفضِ إلى الوعود التي أطلقها الإنكليز والفرنسيين وغيرهم من الدّول الغربيّة.
مع بداية القرن العشرين وظهور النّفط في الدول العربيّة، وضعها أمام أعين الغزاة وأطماعهم الاستعماريّة للسيطرة على منابع النّفط واستعماله بأقلّ الأسعار والكلفة، وبذلك تَتحسّن اقتصادياتهم التي كانت تمرّ بعثرات متعددة.
وهذا الغزو نجح في إلحاق الهزيمة بالسّلطنة العثمانيّة بعد أن وصلت إلى حالة الرّجل المريض عبر الحربين العالميتين الأولى والثانية ومن ثم اقتطاع الأقطار العربية وتقسيمها، وسحب منها النّفوذ والسّيطرة على هذه الأقطار ووِضعت تحت الاحتلال والانتداب الغربي، وكانت السّيطرة على منابع النفط والتّحكم بأسعاره واستغلاله بما يخدم المصالح الغربيّة التّجاريّة والعسكريّة والاقتصاديّة.
وكانت لمؤتمرات “بال” و”سايكس-بيكو” و”فيرساي” وغيرهم الدّور الكبير في تمزيق الوطن العربي وتقسيمه إلى أقطار، رُسّمت حدوده بطريقة يبقى النّزاع قائم بينها على التّداخل الجغرافي ومنابع الأنهار ويتغذى من وقت إلى آخر تحت مسمى “فرّق تسدّ”.
بدأت الثّورات والحركات العربيّة والجمعيّات بالخروج على المحتل والمستعمر من أجل الاستقلال مستفيدين من الثورة الشّيوعيّة والبلشفيّة في العالم، فمنهم من رُويِّض وبدأ ينفذ أجندات المستعمر بعلمه أو بغبائه ومنهم من بقي يجاهد حتى الشهادة أمثال القائد عمر المختار ويوسف العظمى وغيرهم من الشهداء الأحرار وصولًا إلى الضباط الأحرار في مصر والحكم البعثي في الشّام والعراق وحكم الضباط في ليبيا وغيرها من البلدان العربية وتحويلها إلى أنظمة جمهوريّة. وللأسف، تجدّد الغزو الأميركي الصهيوني على العراق والسيطرة على النفط مجددًا تحت ذريعة الاحتلال العراقي للكويت، ومن ثمّ التّدخل في الدول العربيّة وسياساتها بحجّة الربيّع العربي وحرية الرأي والديمقراطيّة وإسقاط الرؤساء الجمهورية في كل من تونس واليمن ومصر والعراق والتدخل العسكري في سوريا، كل ذلك من أجل السّيطرة على النّفط بحجج وعناونين مختلفة لا تمت للواقع بصلة، على أمل أن يعي الشّعب العربي مسؤوليته تجاه ثروته والحفاظ عليها والتّحرر من التبعيّة والسيطرة الأجنبيّة.
الكلمات المفاتيح: البلدان العربيّة، الحركات التحررية، الحرب العالمية الثانية، الوطن العربيّ.
Abstract
The West and South Arab World is the focus of attention of the invaders due to its important geopolitical location and the bounties that includes raw materials, vast agricultural areas, water. The most important concept that he is the cradle of the major monotheistic religions, Judaism, Christianity, and Islam.
The Arab World was exposed to many campaigns including Roman, Persians, Mongol, Tatars, Crusaders and others. The latter were evacuated and defeated by the Mamluks (Qutuz) and the leader Salah al-Din Al-Ayyubi and other Arab and Islamic leaders. The ambitions against this Arab world continued under several reasons and misleading statements.
The Arab region has lived a period of time about 400 years under the Ottoman rule, was subdivided into the so-called states, sanjaks, and regions and was conducted by the Ottoman authority, which tightened to control this Arab region. This authority was passing through steps of justice within Islamic rule and law, however, in the last stages of the Ottoman Empire, the latter has tried to strangle the Arabs through Turkification of the Quran, conscription, taxes, the policy of boycotts and others. This strangling has led some associations and movements to reach out to foreign countries and benefit from them to dispose of Turkish rule. In addition, a cooperation took place and the majority was with Sharif Hussein and his son, but this cooperation did not lead to the promises made by the English, the French and other Western countries.
In the beginning of the twentieth century and the discovery of oil in the Arab countries, the Arab region was set before the invaders and their colonial ambitions to control the sources of oil and use it at the lowest prices and costs, and thus improve their economies that were going through multiple pitfalls.
This invasion succeeded in defeating the Ottoman Empire after it became a scandalous situation through the First and Second World Wars. The Arab countries were divided, the powers were withdrawn and these countries were controlled and placed under occupation and Western mandate. Thus, the sources of oil and its prices were controlled and exploited to serve the Western commercial, military and economic interests.
The conferences of “BAAl”, “Sykes-Picot”, “Versailles” and others had a major role in tearing the Arab World apart and dividing it into countries, whose borders were drawn in which the conflict remains between them based on geographical overlap and the sources of rivers and is fueled occasionally under the name of “divide and rule”.
Arab revolutions, movements, and associations began to departing from the occupier and colonizer for independence, taking advantage of the communist and Bolshevik revolutions in the world. Some of these persons, were tamed and began to implement the agendas of the colonizer, with their knowledge or stupidity, and some of them remained striving until martyrdom, such as the greatest Commander Omar Al-Mukhtar, Youssef, and free martyrs, reaching the Free Officers in Egypt, the Baathist rule in the Levant and Iraq, the rule of officers in Libya and other Arab countries, and their transformation into republican regimes. Unfortunately, the American-Zionist invasion of Iraq and oil control was re-renewed under the pretext of the Iraqi occupation of Kuwait, and then the intervention in the Arab countries and their policies under the pretext of the Arab Spring, freedom of opinion and democracy, the overthrow of the republican presidents in Tunisia, Yemen, Egypt and Iraq, and the military intervention in Syria, in the purpose of oil control with different pretexts and titles that are not related to reality, hoping that the Arab people will become aware of their responsibility towards their wealth, preserve it, and liberate themselves from foreign dependence and control.
Keywords: Arab countries, Liberal movements, World War II, The Arab world.
مقدمة
مع بداية القرن العشرين الميلادي، كانت الدّول العربيّة تترنح تحت السيطرة العثمانيّة أو النّفوذ البريطاني أو الفرنسي، ومن ثمّ النفوذ الإيطالي كما في ليبيا. ولكن هذا القرن بالتّحديد شهد بروزًا لافتًا للحركات الثّورية العربيّة، في معظم الدّول العربيّة من الحجاز إلى بلاد الشّام فالعراق، فمصر والجزائر وتونس وليبيا وغيرها. ومن الجدير بالذّكر أنّ معظم هذه الدّول كانت تخضع للحكم الملكي والأنظمة الملكيّة، ثمّ جاءت الثّورات والحركات التّحرريّة وساهمت في انتقال معظم البلاد العربيّة إلى النظام الجمهوري. والمترقّب لهذه الحركات التّحرريّة والاستقلاليّة يلاحظ أنّ معظمها كان حركات شيوعيّة وماركسية وأحزاب يسارية كانت تحث على التّحرك والثورة على المستعمر بغية الحصول على الاستقلال.
كما ذكرنا إنّ البلاد العربية كانت تعيش التخبّط واللااستقرار السياسي بأوضح معانيه، فلا قيادات بارزة والأفكار مشتركة تؤصّل لتجمعها، باستثناء رابط اللغة والدّين.
ومع بداية القرن العشرين بدأت بعض الدّعوات التّحررية والأفكار الثوريّة تدعو إلى الوحدة وعدم القبول بالاحتلال والهيمنة على البلدان العربيّة، وربما كانت بعض هذه الأفكار ناتجة عن طمع بعض أبناء الملوك بالتوسّع والتربّع على عرش المنطقة العربيّة بأسرها، كما فعل الشّريف حسين الذي أطلق ما يُسمّى بالثورة العربية الكبرى، والتي قدّمت أكبر خدمة للغرب بالاستحواذ على البلاد العربية وبسط نفوذها عليها، من خلال خداع الشريف حسين ومن بعده ابنه الملك فيصل، ثمّ الانقلاب عليهما وتحجيمهما، وإطلاق يد الموالين للاحتلال والدّاعمين له.
ولقد نجحت هذه السياسة الاستعماريّة في تقسيم المشرق العربي والجزيرة العربيّة إلى مقاطعات ومناطق نفوذ. (النقيب، 2008: ص151).
إنّ المتمعن في الأحداث التي جرت في أوائل القرن الماضي سيّما بعد الحرب العالميّة الأولى، يستبصر بوضوح أنّ بعض الحركات التّحرريّة والمجموعات الثوريّة، كانت وليدة المستعمر الأجنبي وتخدم استراتيجيته وأهدافه، سواءً من عمالة واضحة أو جهالة وفي الأحوال كلّها، دفعت الأمّة العربيّة الثمن غاليًّا من خلال تفككها وشرذمتها، وما وعد بلفور واتفاقيّة سايكس بيكو إلّا خير دليل على ذلك.
وبعد هذا الوعد الجائر والاتفاقيّة المُجحفة، شرّعت دول الغرب الانتداب وأمعنت بتقسيم الدول العربيّة، وسلخها عن محيطها وأرست ما يُعرف بالانتداب وهو الاسم المموّه والمجمّل للاحتلال والإاستعمار. وهذا ما دفع بالقوميين العرب إلى رفض هذه الإتفاقيات وتأسيس حزب الاستقلال العربي العام 1919 (صفاقسي، 2017: ص 41). وسرعان ما بدأت تتوالى الثورات العربيّة المناهضة للاحتلال وأبرزها ثورة العشرين في العراق (الوردي، 2012: ص 86)، والمؤتمر السوري الوطني العام 1945 والذي أعلن عن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية بما فيها فلسطين ضمنًا.
وسنقوم خلال هذه الدّراسة بتسليط الضوء على البلاد العربيّة في ظل الحركات التّحرريّة من خلال تقسيمها في إطار زمنيين، قبل الحرب العالميّة الثانيّة، وما بعدها. وسنحاول أن نعلم هل استطاعت هذه الحركات أنّ تحقق أهدافها التّحرريّة ؟ وهل فعلًا أوصلت العرب إلى مبتغاهم من الحرية والانطلاق أم أنّهم ظلّوا رهينة التّبعيّة والتّشرذم؟.
وانطلاقًا من ذلك يمكن أن أطرح التساؤلات الآتية:
- هل كانت الحركات التّحرريّة على مستوى طموح الشّعوب العربيّة؟
- هل استطاعت تلك الحركات تحرير البلاد العربيّة أم أن الاستقلال أتى نتيجة عوامل أخرى؟
يهدف هذا البحث، إلى تسليط الضوء على حقبة الحركات التّحرريّة العربيّة في مرحلتي ما بين الحربين العالميتين وما بعد الحرب العالميّة الثانية، حتى نيل الاستقلال للدول العربيّة كافة، في إطار موضوعي موضحًا للعديد من الظروف والأحداث التي جرت خلال تلك الحقبة .
تتبلور أهمية الموضوع في تطرقه لمرحلة دقيقة في التّاريخ العربيّ، وكيف أنّ الشّعوب العربيّة الثائرة والمناضلة في سبيل حريتها، كانت تلاقي الكيد من أبناء جلدتها أحيانًا ممن يدّعون أنّهم فرسان الحركات التّحرريّة.
لقد دفعني لدراسة هذا الموضوع أسباب شخصيّة تتمخض في الوقوف على أوضاع الدّول العربيّة والحركات التّحرريّة فيها إبان مرحلة ما بين الحربين، وما بعد الحرب العالمية الثانية وماهية تلك الحركات وحقيقة مواقفها.
وكذلك الأسباب العلميّة لأنّه ينبغي لكل باحث أن يعالج موضوعًا بحثيًّا جديدًا لم يسبق لأحد أن تناوله بهذه الخاصيّة، لذلك يمكن أن يضيف هذا البحث صيغة علميّة جديدة تضاف الى بنك المصادر والمراجع في جامعة الجنان ويكون نموذجًا علميًّا للطلاب الذين يريدون عمل هكذا بحث في السّنوات القادمة.
إنّ إشكاليّة الحركات التّحرريّة في العالم العربي، تحمل في طياتها العديد من التّساؤلات عن جدوى تلك الحركات، وعن ولائها ومدى جديتها في مقاومة الاحتلال وتنفيذ وعودها، وولائها لشعاراتها.
وسيُجاب عن تلك التّساؤلات المطروحة:
- خيّبت تلك الحركات طموحات الشّعوب، ولم تكن على قدر الآمال بسبب تعامل البعض من قادتها مع الاحتلال، ومساعدته على تنفيذ اجنداته الاستعماريّة.
- نالت البلاد العربية استقلالها جراء ما نتج من خسارة دول استعماريّة في الحرب العالمية الثانية، وتضرر حتى المنتصرين وعدم قدرتهم على متابعة الاحتلال واستنزاف قواتهم العسكرية..
اعتمد في هذا البحث المنهج الوصفي التحليلي، كونه يساعد على تقصي المعلومات وجمعها، ومن ثم مقارنتها وتحليلها، ليصار إلى تفسيرها وتعميمها، إضافة إلى المنهج التّاريخي الذي يقوم على جمع الوثائق للوصول إلى الصورة الحقيقية للماضي وإعادة بناء الماضي لدراسته، وهذان المنهجان يتناسبان مع إطار الدراسة.
الدّراسات السابقة
- ماجد الحسيني : ” حركات التّحرر: المشرق العربي “
ناقش الكاتب مسألة تشکيل المشرق العربي من خلال نشأة الدول العربيّة فيها في العصر الحديث، وقد ارتبطت بشکل وثيق بسقوط الدولة العثمانيّة، والظروف التي خلقها وقوع المشرق العربي تحت هيمنة القوى الاستعمارية بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى. وشهدت مرحلة النّصف الأول من القرن العشرين الميلادي بروز الحرکات الثوريّة في المنطقة، والتي کان لها دور مساهم في التأسيس والتکوين لعدد من الدول العربية في المشرق العربي (العراق والشّام ومصر)، خاصة وأنّ أغلب التّوجهات السياسيّة آنذاك کانت تتجه نحو النّظم الملکيّة، قبل أن تأتي الظروف المغايرة التي سمحت للنظم الجمهوريّة في الظهور بعد ذلك، لذا کان لا بد من دراسة طبيعة وماهية التّيارات والحرکات التّحررية التي نشطت في تلك المرحلة. وينحصر اتجاه البحث في دراسة مساهماتها التي عکست ظروف الواقع العربي، نظرًا لما في ذلك من قيمة تاريخيّة.
2 – علي الوردي : ” لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث ”
تناول هذا الكتاب الأحداث التاريخيّة التي وقعت في العراق منذ بداية العهد العثماني ولغاية العام 1924، وهو كان يرى أنّ دراسة العهد العثماني هي أشدّ الدّراسات علاقة بواقع المجتمع العراقي، إذ إنّه يقول :”نحن لا نزال نعيش في تراث العهد العثماني ولا يزال الكثيرون منا يفكرون على نمط ما كانوا يفكرون عليه في ذلك العهد” . وقسّم الكتاب الى 6 أجزاء وقد تناول في الجزء الخامس منه أسباب قيام ثورة العشرين ونشوئها في العراق ودور الوجهين فيها والعوامل التي أثرت فيها وكذلك الأحداث التي صاحبت الثورة في مناطق العراق. وفي الجزء السّادس تناول مرحلة ما بين 1920 و 1924، مرحلة ما بعد الثورة وتأسيس الدولة العراقية الحديثة وانتخاب فيصل بن الحسين ملكًا على العراق.
توزع البحث على الشكل الآتي :
- البلدان العربية في ظل الحركات التحررية قبل الحرب العالميّة الثانية.
- الحركات التحررية في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية.
- إستنتاج
- خاتمة
- المصادر والمراجع
-البلدان العربيّة في ظل الحركات التّحرريّة قبل الحرب العالميّة الثانيّة
كانت الأوضاع السياسية في مختلف البلدان العربيّة على صفيح ساخن، وذلك مع انطلاق القرن العشرين، ففي فلسطين تشكلت مجموعات مقاومة شعبيّة أخذت على عاتقها الوقوف ضدّ الاستيطان اليهودي. وفي ليبيا برزت الأطماع التوسعيّة الإيطاليّة والتي لم تجد أفضل من ليبيا امتدادًا لنفوذها السياسي والعسكري، فقامت باحتلالها وسلخها عن الإمبراطوريّة العثمانيّة، فتشكلت وحدات مقاومة وحركات تحررية جهادية ضد المحتل الإيطالي.
وفي العام 1918 أعلن سليمان الباروني ورمضان السّويحلي تأسيس الجمهورية الطرابلسيّة. وأعلن الحزب الوطني في مصر شعار “لا هدنة إلا بعد الجلاء” ورفض أعضاؤه المشاركة في أيّ حكومة ما دام المستعمر البريطاني موجودًا. واجتمع سعد زغلول ومصطفى النّحاس وأسسا حزب الوفد العام 1918، أعرق الأحزاب المصريّة وطالب بالاستقلال وجلاء الاحتلال البريطاني عن مصر. وفي العراق رفضت القوى الوطنيّة العراقيّة المعاهدة الموقعة مع بريطانيا في العام 1922 والتي نصت على بقاء الانتداب وعلى تشكيل المجلس التأسيسي، وطالب حزب النّهضة العراقي والحزب الوطني العراقي باستقلال البلاد، وقام الاحتلال بنفي قيادة الحزبين. أمّا في تونس فيعود الفضل في بث روح التحرر والثورة الوطنيّة إلى عبد العزيز الثعالبي، الذي أسس حزب الدستور سنة 1920 ضد الوجود الفرنسي. وتزايدت أعداد الأحزاب الوطنيّة الدّاعيّة إلى التّحرر والثورة والدّفاع ضد الاحتلال إلى أكثر من 25 حزبًا أبرزها حزب الاستقلال العربي الذي نشأ سنة 1919 في دمشق، وقاد حربًا نضاليّة سياسيّة ضد الاستعمار. نلاحظ مما تقدّم أنّ جمع البلدان العربيّة كانت تتخبط في أوضاع سياسيّة صعبة وكانت تواجه الاحتلال بشتى الطرق، وأنّ الغالبيّة من هذه الدول اتخذت منحىً سياسيًّا، وأنشأ الأحزاب السياسيّة المطالبة بخروج المحتل ولم ينحُ طريق الحروب والقتال والمواجهة المباشرة، تجنبًا لإراقة الدّماء، لمعرفة هذه الأحزاب قدرتها العسكرية الهزيلة مقارنة بالمحتل الغاشم. وقد سعت هذه البلدان إلى نيل الاستقلال من خلال العمل السياسي والضغط الشّعبي والدّولي. ولكنّ هذا الأمر لا ينطبق على النّموذج الجزائري الذي ناضل منذ البداية وقاد حربًا عنيفة، كانت حرب تحررية مهمّة في القرن العشرين، وقد تميّزت الحرب الجزائريّة أنّها جاءت في ظروف أفضل مما سبقها من حركات التحرّر.
أمّا في الحجاز فقد استشعرت بريطانيا الخطر الذي يشكله الشّريف حسين وابنه فيصل، فقامت بتطويق حركتهم التحررية وفتحت الطريق ممهدة لأبناء سعود شريطة الولاء لهم وعدم التّعرض للإمارات المجاورة التّابعة للسيطرة البريطانيّة. وعلى الرّغم من كل هذه الثّورات والتّحركات التحرريّة العربيّة إلّا أنّ الغرب استمر في سياسته الاستعماريّة التّعسفيّة. فكان وقوع سوريا تحت الانتداب الفرنسي نتيجةً حتميةً لضعف حركة التحرّر القوميّة العربيّة (قاسمية، د.ت: ص 29). وكما اتضحت التّوجهات البريطانيّة نحو دعم المشروع الصهيوني في فلسطين وذلك من خلال صدور الكتاب الأبيض والذي يُعد اعترافًا رسميًّا بالحركة الصهيونيّة في فلسطين. ولكن على الرّغم من الصّورة السّوداويّة للثورات والحركات العربيّة إلا أنّ بعضها كان منارة في العروبة والوطنيّة ومقاتلة المستعمر والمحتل نذكر منها على سبيل الحصر الثورة السّورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش وثورة المليون شهيد في الجزائر بقيادة عمر المختار.
– تأثر الحركات العربية بالثورة البلشفيّة
تزامنت الثورات العربية والحراك التّحرري العربيّ مع قيام الثورة البلشفيّة، وظهر جليًّا تحوّل العديد من القوميين العرب إلى نموذج الثّورة البلشفيّة، ورفع شعاراتها، الأمر الذي عزّز دور الحركات التحرريّة العربيّة ذات التّوجهات اليساريّة والتي رفضت الانتداب، وتبنّت قيادات الاستقلال ودعمت خيارات التحوّل والانتقال إلى النظام الجمهوري عوضًا عن الأنظمة الملكيّة التابعة بالضرورة إلى سلطات الانتداب بوصفها محافظة وحاميّة لمصالحها في البلاد.
ففي العراق وعلى الرّغم مما تمتعت به التّيارات الوطنية التّحرريّة من حرية التّعبير تحت النّظام البرلماني، إلّا أنّه جرت مراجعة المعادات البريطانيّة من الوطنيين، ليس فقط من ناحية كونها تعيق الاعتراف بطموحات العراق الوطنيّة، بل أيضًا من ناحية ضررها بالنّمو الاقتصادي للبلاد (الجابري، 2015: ص 354). وبدأ الشّعور القومي الذي ينادي بوحدة المشرق العربي الذي يضم سوريا ولبنان، وفلسطين وشرق الأردن بالتّطور والدّعوة إلى وحدة عربيّة أوسع خاصةً بعد الثورة السورية الكُبرى (سالم، 2010:ص 71). وكذلك أذكى شعور القوميّة العربيّة والضرورة إلى التوحد، احتلال إيطاليا لليبيا وإعلانها أنّها تطمح بالتوسّع لتشمل أراضيها شمال أفريقيا بمجملها، وإرسال المستوطنين من المعمرين لاستيطان المناطق الليبيّة. وتشكلت مقاومة ليبيّة شرسة في وجه الاحتلال، إلّا أنّ التفوّق الإيطالي في القوّة والعدد مكّنهم من إخماد المعارك وتحويل النتيجة لصالحهم (الجمل، 2007: ص 369). ولقد استمرت الحركات الثّوريّة والتّحرريّة في ليبيا في مواجهة الاحتلال الإيطالي بقيادة الزّعيم البطل عمر المختار، إذ انتقل القتال إلى الجبل الأخضر وقد ظهر عمر المختار لأول مرّة في ساحات القتال، وقام بتهيئة الليبيين لمواجهة المحتل الإيطالي، وفتح باب الجهاد، على الرّغم من محاولة الإيطاليين التّواصل مع عمر المختار عبر عملائها، واستمالته لصالحها إلّا أنّها فشلت في ذلك. وانتصرت حركة عمر المختار في العديد من المعارك التي خاضتها ضد إيطاليا وأبرزها معركة بئر بلال، إلّا أنّ الايطاليين استطاعوا احتلال مواقع المجاهدين في برقة وكبدوهم خسائر كبيرة. وكانت معركة الكفرة سنة 1931، والتي كانت نتيجتها احتلال الإيطاليين للتاج والكفرة، و قُبِض على عمر المختار وأُعدِم العام 1931 وما لبثت أن أخمدت حركة الجهاد الوطني.
– حركات لم تحقق التّحرر
إنّ الحركات التحرّر العربية والمحاولات الثوريّة، لم تكن على قدر التّطلعات ولم تؤت أُكُلُها، بل كانت إرهاصات وحركات مدّ وجزر، فهي على مدى حوالى خمسين عام من بداية القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية لم تحقق أيّ نجاح يذكر، بل نجد أنّ المحتل البريطاني والإيطالي والفرنسي، ازداد في توغّله وغطرسته ووعوده التي لم يحترمها، ولم تنل أيّ من الدّول العربية استقلالها وسيادتها إلّا من بعد الحرب العالميّة الثانية وذلك لأسباب تتعلق بالمحتل، وليس لفعاليّة هذه الحركات التّحرريّة ويمكن أن يعزى هذا الأمر إلى الأسباب الآتية:
- عمالة بعض الأحزاب العربيّة وأركانها للخارج المحتل وولاؤها له.
- الطمع وحبّ الاستحواذ عند بعض الزّعماء من خلال تلبيتهم لاستراتيجيات المحتل وانخداعهم بوعودهم على حساب القضية العربيّة الأم.
- تقسيم الغرب للدّول العربيّة وإحياء التعصّب الوطني ليحل محل القوميّة العربيّة على قاعدة فرّق تسد، وما إنشاء جامعة الدول العربيّة بناء على رغبة بريطانيّة وإصرارها المبالغ فيه إلّا تأكيد هذا المبدأ.
- تعدّد الأحزاب وتنوّع خلفياتها بين وطني وقومي ويساري وماركسي، وشيوعي وإسلامي وعروبي… ما جعل من اجتماع العرب على رأي واحد ومشروع واحد أمر أبعد من الخيال ولا يمكن إداركه.
استنتاج
إنّ البلاد العربية في ظلّ التّحركات التحررية في المدّة ما بين الحرب العالميّة الأولى والحرب العالميّة الثانية، كانت تتخبّط عشوائيًّا وتتجاذب بحس بمصالح الدول العظمى، ولم تكن تشكل الأحزاب والحركات التّحرريّة العربيّة يومًا نواةً لتجربة تحرريّة صحيحة تحاكي الغرب، على الرّغم من أنّها أخذت الكثير من الثورات التّحرريّة عن الغرب، لا سيّما الثورة الفرنسيّة والثورة البلشفيّة، إلّا أنّها بقيت ضمن دوامة الصّراع ما بين النّفوذ الدّاخلي والصّراعات ما بين الأحزاب المحليّة، والصّراع الأساسي ضد المحتل، ما أعطى المحتل الفرصة لخمد هذه التّحركات بل ذهب أكثر من ذلك أن حوّل بعضها إلى قوة له تدعم مشاريعه وتنفذ حتى أغلبها، ما جعل سلطات الانتداب في البلدان العربيّة تضرب الدّول العربيّة بأبناء جلدتها، ما سمح لها بالتّمادي وتحويل هذه الحركات الى مجرد دمى تحركها كما تشاء، باستثناء بعض تلك الثورات وأبرزها ثورة المجاهد عمر المختار التي خاضت المعارك الأشرس والأعنف ولم يقبل بالاستسلام والتواطئ على شعبه وبلده، كما حدث مع أغلب الحركات التّحررية الأخرى التي ظهرت في البلدان العربيّة خلال هذه المدّة والتي لم تحقق حتى لو شبه اعتراف باستقلال دولة أو إعطائها حكمًا ذاتيًّا على أقل تقدير. ولكنها تركت أثرًا في نفوس الشّباب العربي، لتشكيل حركات تحررية أخرى ما بعد الحرب العالمية الثانيّة، استطاعت نوعًا ما إزعاج المحتل وتحقيق استقلال الدول العربية.
الحركات التحرريّة العربيّة ما بعد الحرب العالمية الثانية
إنّ القارئ لأحداث التاريخ العربي والمنطقة العربيّة في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين، يلاحظ بوضوح وينبهر من هذه الحريّة وكثرة نيل البلاد لاستقلالها، فيظن بعض المغيبين أنّ توزيع منح الاستقلال وفرص الحريّة الملقاة على الطرقات إنّما هي ثمرة الخمسين عامًا المنصرمة، وأنّ الضغوطات السياسيّة والشّعبيّة التي مارستها الدّول العربية وشعوبها على المحتل هي التي أدّت إلى استقلالها، إلّا أنّ هذا التصوّر لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، وحقيقة الأمر أنّ الحرب العالمية الثانية، هي صاحبة الفضل في نيل العرب استقلالهم، لأنّها أرخت بظلالها على الدّول الغربيّة التي عانت الأمرّين، وتكبّدت الخسائر الجساموتلهّت بمشاغلها عن سواها، فلم تعد تقدر أن تدير المنطقة العربيّة بطريقة مباشرة، فعمدت إلى تقسيمها وإدارتها من خلال أوصياء، اختيروا بعناية لتنفيذ مخططاتها وخريطتها السياسية، وألبست تصرّفها هذا ثوب الهِبة الأخلاقيّة، والتّكرّم على العرب بتلبية مطالبهم الّديمقراطية. وإذا ما نظرنا إلى واقع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وإلى الخسائر بالأرواح والعتاد والبنى التحتيّة وتدمير مدنها، لعرفنا أنّ ما فعله الغرب المحتل إنما هو انسحاب تكتيكي لترتيب صفوفه وضمان فوزه بالمعركة.
مشروع الجامعة العربية
لقد كان مشروع الجامعة العربية الذي سعت اليه بريطانيا منذ العام 1937 حتى تأسيسها العام 1945، مؤامرة تهدف لمنع تدخل العرب في شؤون بعضهم البعض، واحترام كل منهم لحدود الدّول الأخرى وإقامة العلاقات الدبلوماسيّة في ما بينهم كما لو كانوا دولًا أجنبية (عيسى، 2010، ص 18)، وطغت الرّوح الوطنيّة والنزعات الإقليميّة والطائفيّة والمناطقيّة، بدلاً من الروح القوميّة العربيّة، وكان ذلك طعنةً قاضية للصّحوة العربيّة وللقضية الفلسطينيّة، كقضية مركزيّة في قلب العروبة، النّابض.
لقد نجحت السياسات الاستعماريّة في إقصاء مشروعات الدّول العربية والحدّ من طموحاتها، وبمجرد ما وضعت الحرب العالميّة الثانيّة أوزارها بدأت السياسات البريطانية والفرنسيّة تؤكد أن مشروعات من هذا النوع لا يجب أن تتجاوز حدود بقاء الدول العربيّة القائمة مستقلة، من دون أن يمنع ذلك من توثيق العلاقات بينها بمعاهدات ثنائيّة لا سيما في ظلّ التحوّل الذي أحدثه قرار تأسيس الجامعة العربية والتي تضمن ميثاقها بنودًا تؤكد استقلال كلّ قطر عربي (الحسيني، 2020: ص13). لقد استطاعت القوى الاستعماريّة أن تحرف مسار مشروعات التّحرر العربي والوحدة العربيّة والقوميّة، لتكتفي باستقلال كل قطر عربي، والحيلولة دون قيام أيّ مشروعات وحدويّة من العرب، فعلى سبيل المثال قامت بريطانيا بتقسيم اليمن إلى قسمين جنوبي وشمالي، الشّمالي تحت حكم النظام الملكي اليزيدي، والجنوب تحت حكم السّلاطين الخاضعين لإرادة البريطانيّة على عدن. وسمحت في الحجاز لآل سعود ببسط نفوذهم، وضمنت لهم الاستقرار والحمايّة، واستطاع مشايخ الخليج العربي أن يحظوا بالحماية لتأمين بقائهم، وأعطى الاحتلال سوريا ولبنان استقلالهما بعد أن قطع أوصالهما بالحدود الرّاهنة.
ومنحت السلطات البريطانية أبناء الشّريف حسين حكمًا ملكيًّا على العراق والأردن تعبيرًا عن امتنانها لهم لعمالتهم وتواطؤهم ضد الدولة العثمانيّة، وخدمتهم للمصالح البريطانيّة طيلة مدّة حكمهم. وما لبث أن انتقل العراق من الحكم الملكي إلى الحكم الجمهوري في خمسينيات القرن الماضي.
ظهور حزب البعث
ومن الأحداث المهمّة التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية ظهور أحزاب جديدة، حلّت محل الأحزاب التقليديّة القديمة ذات الميول القوميّة والعربيّة وخاصةً في بلاد الشّام والعراق ومصر. ومن أبرز هذه الأحزاب حزب البعث في كلّ من سوريا والعراق، وقد ارتقى هذا الحزب على سُلّم فشل الأحزاب السّابقة في مفاوضاتها المتتاليّة والغوغائيّة مع سلطات الانتداب، ليشكل تعبئة عامة لدى الشّعوب العربيّة على أنّه هو السبيل الوحيد إلى الخلاص، خصوصًا أنّه أوضح للرأي العام أنّ الأحزاب السّابقة غير قادرة على قيادة البلاد لا سياسيًّا، ولا اقتصاديًّا، وحتى إداريًّا، على أساس أنّ تلك الأحزاب هي المسؤولة عن ضياع فلسطين بسبب سياساتها الضعيفة والمترنحة تحت سلطات الانتداب.
ولقد ادّت الاتفاقات المتتالية للكيانات السياسيّة الحاكمة في المنطقة العربيّة إلى ظهور حزب البعث الاشتراكي في سوريا العام 1941، برئاسة ميشيل عفلق وصلاح الدّين البيطار، وما لبث أن انضمت إلى التنظيم مجموعة طلعت الأرسوزي في العراق العام 1945 (عفلق، 2009، ص58). وكان الجيش العراقي في تلك الحقبة اللاعب الرئيس في التّحولات السياسيّة سواء في العهد الملكي وكذلك لاحقًا في الحكم الجمهوري. وفي العام 1950 أُنشيء “نادي البعث العربي” في العراق كردة فعل على الحركات الإقليميّة التي آمنت بالتقسيمات الاستعماريّة للمنطقة العربيّة. ولقد نادى بضرورة حلّ مشاكل العرب الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتحقيق ثورة تؤدي إلى حلول جذريّة في المجتمع. وكان معظم أعضاء البعث في العراق من الطلاب، وما لبث أن ارتبط حزب البعث العراقي مع الحركة القوميّة العراقيّة المتأثرة بالثورة المصريّة والتي تعرف بثورة الضباط الأحرار أو ثورة يوليو 1952، والتي عرفت بعد ذلك بالحركة النّاصريّة نسبة إلى الزعيم جمال عبد الناصر، في العراق كما في سوريا لكن لم يجمعهم تنظيم مشترك.
وصول الضباط الأحرار إلى الحكم في مصر
لقد استطاعت ثورة الضباط الأحرار في مصر إسقاط النّظام الملكي والاستيلاء على الحكم، وتشكيل مجلس قيادة الثورة بقيادة محمد نجيب العام 1952. ولكن جمال عبد الناصر، انقلب على هذا الأخير واستلم الحكم مؤسسًا لدكتاتوريّة جديدة أكثر قسوة من دكتاتوريّة محمد نجيب، كلُ هذا على مرأى من الحكومة البريطانية ومسمعها وبموافقة ضمنيّة على مجريات الأمور كلّها، لأنّ الاحتلال كان يطمح بشتى الوسائل للإطاحة بالنّظام الملكي، والإتيان بالأنظمة العسكريّة الديكتاتوريّة للجم الشّعوب وكمّ أفواهها (صفوة،2017، ص 71). فأنشأت الأحزاب الشّموليّة والاشتراكيّة كحزب البعث في سوريا والعراق والحزب النّاصري في مصر وبوأتهم الحكم، وكانت هناك محاولات جدّية للتقارب والتوحّد بين العرب، لتصل مرحلة النّهوض القومي ذروتها أيام الوحدة بين مصر وسوريا (1958 – 1961) ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلًا، بسبب التّدخل الغربي والأطماع الدّاخليّة لكلا البلدين، وعدم توافر رؤية مشتركة وقواعد فكرية وثقافية وايديولوجيّة مترابطة بين البلدين.
الحركات التّحررية في المغرب العربي
بُعيد الحرب العالمية الثانية، وكما الحال في دول المشرق العربي، كانت دول المغرب العربي تعيش في تخبّط سياسي كبير. ففي العام 1947 تأسست “لجنة تحرر المغرب العربي” (شوقي، 2006، ص119)، بدعم من جامعة الدول العربيّة وبعضويّة سبعة أحزاب مغاربيّة، وطالبت هذه اللجنة بالاستقلال التّام لدول المغرب العربي جميعها، وأنّه لا مفاوضات مع المستعمر قبل الاستقلال التام. وكانت هذه اللجنة تحظى بتأييد عربي واسع، ولا سيما من مصر التي استضافت هذه اللجنة واحتضنتها. كما تلقت الدّعم من الجامعة العربيّة التي كانت تطمع بتوسيع نفوذها في شمال أفريقيّا، وكذلك نالت هذه اللجنة دعمًا سوفياتيًّا، وذلك من ضمن ما يعرف بسياسة المصالح والمصالح المضادة. وفي العام 1950 أُلقي القبض على أعضاء اللجنة الموجودين في الجزائر، فوجهت احتجاجًا رسميًّا إلى الأمم المتحدة طالبت فيه بإطلاق سراح جميع المعتقلين في الجزائر (المنار، 1951، ص1). وما لبثت أن بدأت اللجنة بالتّخطيط إلى إنشاء كفاح مسلّح ضد الاحتلال الأجنبي. وقد أجبرت فرنسا مع انطلاق الكفاح المسلّح، وتحت ضغط ضربات المقاومة إلى تسريع المفاوضات ، ومُنِحت تونس استقلالًا ذاتيًّا العام 1955، ثم إعلان استقلال المملكة العربيّة المغربيّة عن فرنسا في العام 1956 (رخيلة، 1999، ص 147). وبهذا تكون لجنة تحرير المغرب قد استطاعت توحيد جيوش الأقطار الثلاثة (تونس، الجزائر والمغرب) في جيش تحرير المغرب، والذي استطاع أن يضغط على فرنسا ويجبرها على الجلاء عن بلدان المغرب العربي الواحدة تلو الأخرى، ليتكلّل هذا الإنجاز بتحرير الجزائر العام 1962 بعد مقاومة شرسة لقيت فيها فرنسا ضربات موجعة، وقامت خلالها بأعمال إجراميّة وإرهابيّة تتخطى جرائم الحرب بأشواط ومسافات، إذ ارتقى في سبيل الانتصار على المحتل في الجزائر أكثر من مليون شهيد، وإلى الآن لم تعتذر فرنسا عن مجازرها بحقّ الأبرياء في الجزائر في ما عُرف بـ” ثورة المليون شهيد”.
استقلال ليبيا
كانت ليبيا وما تزال تحت نير الاحتلال الإيطالي، ولكن نتيجة خسارة دول المحور بما فيهم ألمانيا وإيطاليا، فكان لا بدّ من انسحاب المحتل وإعلان الاستقلال، فلا مكان للخاسر في لعبة الأمم، فخرج الجيش الإيطالي من ليبيا، وحلّ مكانه الجيشين البريطاني والفرنسي اللذين احتلا برقة ومصراته وطرابلس وفزان، ثمّ ما لبثوا أن أعطوا ليبيا استقلالها الصوري مع تتويج إدريس السنوسي ملكًا على البلاد مع ولائه الأصيل لهما.
استنتاج
تميزّت حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، بظهور حركات تحررية جديدة، لتحل محلّ الحركات السّابقة سواءً كانت أحزاب سياسيّة أو مقاومة مسلحة، فأفول نجم الزّعيم عمر المختار ألقى بظله على المشهد، وتراجعت القوى العربيّة المجاهدة، والمقاومة ليظهر محلّها أحزاب قوميّة كحزب البعث والحزب النّاصري، تلك الأحزاب التي سيطرت على المشهد السياسي بل وتبوأت الحكم في مصر وسوريا والعراق على حدٍ سواء. وعلى الرّغم من أنّ البلاد العربية جميعها قد نالت استقلالها في ظل وجود هذه الحركات التّحرريّة إلّا أنّ تأثيرها المباشر لم يكن كما أُوهمت الشّعوب العربيّة بأنّها هي صاحبة الكلمة الفصل في استقلال الشّعوب العربيّة، بل إنّ نتيجة خسارة دول في الحرب العالميّة الثانيّة وضعف آخرين ألقى بظلاله على عمليّة تحرير الدّول العربيّة.
الخاتمة
إنّ الحركات التّحرريّة في الوطن العربي، سواء في مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية، أو ما بعد الحرب الثانيّة، كانت متفاوتة في التأثير على المشهد السياسي، على الرّغم من تأديتها لأدوار أقل ما يقال عنها أنّها مزعجة للاحتلال. ولعل مناداة تلك الحركات جميعها بالاستقلال وجلاء المحتل عن الأراضي العربية، كان مدماكً يبنى عليه، على الرّغم من أنّ البعض منها كانت يلبي رغبات المحتل وينفذ مخططاته الاستعماريّة غير المباشرة ويخدم مصالحها.
وإذ إننا نجد أنّ البلاد العربية، بعد الحرب العالمية الثانية، قد نالت استقلالها الوطني وليس بالضرورة السياسي، وأنّ هذا الاستقلال لم يكن نتيجة للحركات التّحرريّة ولا للثورات العربيّة ولا كُرمى لعيون العرب، بل نتيجة حتميّة فرضتها نتائج الحرب العالميّة الثانيّة، وقد أرست قوى الاستعمار بقواعدها الاستعماريّة من خلال عملائها التي أبقتها على رأس إدارة البلاد، ومن خلال الامتيازات والمعاهدات الجائرة والمجحفة بحق الدول المستقلة، وبهذا تكون قد طويت حقبة الاحتلال العسكري للبلاد العربيّة، ففلسطين هي أرض يسوع المسيح ، ورسالته الإلهية وهي الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وهي الأرض التي يحتلّها اليهود ويعيثون فيها فسادًا وإجرامًا وتخريبًا وعدوانًا. هي الأرض التي يتآمر عليها العالم كلّه ليجردها من صفاتها التي خصّها بها الله جل جلاله . فلا يصح إيمان إن لم يرتبط بالقدس ولا يصح انتماء وطني لنا إن لم ننتم للقدس ولا يجوز لنا أن نتغنى بأخلاق لا تضع القدس في المقدمة ولا أن ننخرط في نضال إن لم يكن عنوانه القدس والمقدّسات . كل عداء لغير الكيان الصهيوني هو باطل وكل معركة مع غير العدو الصهيوني هي معركة لا طائل منها والرابح فيها خاسر، وكل حلم للسلام مع العدو الصهيوني هو غباء مطلق … وهكذا بدأت مرحلة من الاستعمار، ربّما تكون الأخطر وهي استعمار المفاهيم والموروثات والايديولوجيات، فهل من معتبر.
المصادر والمراجع
- قاعدة بيانات الوثائق الرئيسة في القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وثيقة الكتاب الأبيض الذي أصدره وزير المستعمرات البريطانية، حزيران 1922، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
- جريدة المنار، العدد 11، كانون الثاني 1951.
- رخيلة، عامر.(1999). الثورة الجزائرية والمغرب العربي، مجلة المصادر، العدد الأول.
- النقيب، خلدون. (2008). المجتمع والدولة في الخليج من منظور مختلف، مركز الوحدة العربية، الطبعة الثانية ، بيروت.
- أمينة، صفاقسي .(2017). القومية الأوروبية والعربية دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، جامعة بسكرة، الجزائر.
- الوردي، علي.(د.ت). لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 5، دار الوراق للنشر، العراق.
- قاسمية، خيرية (د.ت). مواضيع في التاريخ العربي الحديث منذ نهاية الحكم العثماني وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين، شبكة المعرفة الريفية، د.ن.
- الجابري، ستار جابر.(2015). الاستراتيجية البريطانية إزاء العراق، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية ، جامعة بابل، العدد 21.
- بنت سالم، فطيمة، .(د.ت). الثورة السورية الكبرى، رسالة ماجستير، جامعة بسكرة، الجزائر.
- الجمل ، شوقي .(2022). تاريخ افريقيا الحديث والمعاصر ، دار الزهراء، الرياض.
- عيسى، حبيب.(2019). السقوط الأخير للإقليميين في الوطن العربي، دار المسيرة، بيروت.
- الحسيني ، ماجد .(2020). دور حركات التحرر في تشكيل المشرق العربي، مجلة بحوث كلية الآداب، جامعة المنوفية، مصر.
- حزب البعث العربي الاشتراكي، تأسيس البعث، سلسلة ملفات بعثية، دمشق.
- نجدة، صفوة .(2017). من نافذة السفارة، العرب في ضوء الوثائق البريطانية، ط2، دار الساقي للطباعة والنشر، بيروت.
- شوقي، محمد .(2006). علاقة الثورة الجزائرية بلجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة، ثورة التحرير والاستعمار الفرنسي، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت.
- الصراع العربي الإسرائيلي1918 – 1973 للعميد الركن الدكتور عبدالله ضاهر صادر عن دار الايمان .
- القضية الفلسطنية .خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة للكاتب محسن محمد صالح ، موقع مركز الزيتونة للدرسات .
[1] – طالب دكتوراة في جامعة الجنان – طرابلس، دراسات إسلاميّة: فرع التاريخ الإسلاميّ
PHD student at Jinan University, Tripoli Islamic Studies: Branch of Islamic History Email: abd_gieh@hotmail.com