الوثائق التّاريخيّة في ظلّ التقدّم العلمي، خطورة تزويرها ووجوب التحقّق من أصالتها
Historical documents in the light of scientific progress, the risk of forgery and the necessity of verifying its authenticity
Dr. Hussein Badran د. حسين بدران[1]
الملخّص
يعالج هذا البحث مسألة التحقّق من المستندات والوثائق التّاريخيّة، فيعرّف مفهوم الوثيقة ويقدّم أمثلة عن أنواعها، ويستعرض المسار التّاريخي للاهتمام بالوثائق والتّوثيق، لا سيما منذ عصر النّهضة الأوروبيّة، كما يعرّف النّقد العلمي للوثيقة، ويبيّن أهميّته، ووجوبه قبل تقبّل ما ترويه هذه الوثيقة أو تدلّ عليه، ثم يوضح آلية التحقّق من صدقية الوثائق، ومضامينها من خلال عمليّة النّقد بشقّيها النّقد الظاهري والنّقد الباطني، كما يستدلّ على دور العلم والتكنولوجيا الحديثة في المساعدة على دراسة الوثائق وكشف صدقيّتها، لكنه يحذّر من استغلال المزوّرين والمزيّفين لهذا التّقدم العلمي والتّقني في عمليات التّزييف التي يمارسونها لوثائق مزعومة، ولذلك يدعو إلى التشدّد في عملية التحقّق من صدقيّة الوثائق وإلى التّعاون بين جماعات الباحثين من ذوي الاختصاصات المتكاملة، خلال دراسة الوثائق، بهدف الوصول إلى أعلى مستوى من الموثوقيّة، كما يؤكّد أهميّة أن يمتلك الجميع أساسيّات التحقّق خلال تلقّيهم الأخبار، والروايات كي لا يقعوا ضحية التضليل والتزييف المتعمّد أو غير المتعمّد.
الكلمات المفاتيح: الوثيقة، النّقد، الأرشفة، الوثائق المكتوبة، الوثائق غير المكتوبة، العلوم المساعدة، النقد الظاهري، النقد الباطني.
Abstract
This research addresses the issue of verifying historical documents. It defines the concept of a document and provides examples of its types. It also reviews the historical path of interest in documents and this documentation, especially since the European Renaissance. Then, it defines scientific criticism of the document, and explains its importance and its obligation before accepting the what this document narrates or indicates. It then explains the mechanism for verifying the authenticity of documents and their contents, through the criticism process in its two aspects, internal criticism and external criticism. As it also cites the role of science and modern technology in helping to study documents and reveal its authenticity. However, it warns against the exploitation of this scientific and technical progress by counterfeiters and forgers in the forgery operations they practice on alleged documents. Therefore, it calls for intensification in the process of verifying the credibility of these documents, as well as the cooperation between groups of researchers from integrated specializations during the study of documents, to reach the highest level of reliability. As it also emphasizes the importance of possessing the basics of verification by everyone during their receipt of news and narratives, to not fall victim of deliberate and unintentional deception and forgery.
Keywords: document- criticism- archives – written documents– unwritten documents- helping science- external criticism – internal criticism.
_________________________________________
الوثائق التّاريخيّة
مقدمة: منذ آلاف السنين وقبل أن يبتكر الإنسان الكتابة، حاول توثيق بعض أنشطته وأخباره، وما الرّسومات التي اكتُشفت في بعض الكهوف -والتي يُظهر بعضها عملية الصيد التي كان يمارسها الإنسان القديم- إلّا محاولة من محاولات التّوثيق الإنسانيّة الأولى والتي أخذت تتنامى بعد اكتشاف الكتابة وتطوُّرها لجهة الرموز أو الأدوات، الأمر الذي ترك للبشرية المعاصرة سجلات مكتوبة عن أنشطةِ العديد من الحضارات والشعوب الغابرة أو المعاصرة وأخبارها، إضافة إلى ما تركوه من أدوات وآثار من مخلفات مبانيهم ومنشآتهم، وباتت تلك السّجلات والآثار محطّ اهتمام ودراسة كلّ باحث عن أخبار الأمم السابقة وأحوالهم، وصراعاتهم وإنجازاتهم وعلومهم.
وفي التّاريخ المعاصر وأمام تأثير الثورة العلميّة والتقدّم التقني المتسارع لا سيما في مجال توثيق الحدث، أو الخبر وتصويره ونقله عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل بالاستفادة من شبكة الإنترنت وفي مجال حفظه، وأرشفته من خلال وسائط مختلفة وفي ظلّ استمرار ظاهرة التّنافس، والصراع بين الأفراد أو الجماعات المكوّنة للمجتمع البشري (منظّمات، أحزاب سياسية، أتباع مذاهب وديانات، دول..) وما نتج عنها من محاولات دائمة لتحريف الحقائق أو تشويه صورة الخصم أو العدو، أو ادّعاء وقائع لا أساس لها وكل ذلك بالاستفادة من التّقدم التقني نفسه، ازدادت مسؤولية الباحث أو المتلقّي للخبر أوللرواية وبات ملزمًا بمضاعفة جهوده، واعتماد الحذر والحيطة تفاديًا للوقوع في فخّ المشوّهين والمحرّفين والمضلّلين وحتى السّاذجين الذين ينقلون أخبارًا من دون التثبّت من صحتها.
وتتنوّع المصاعب التي تواجه الباحث اليوم خلال اطّلاعه على المواد التّوثيقيّة لموضوع بحثه، أو لقضية محدّدة ومن بين تلك المصاعب ندرة تلك المواد أي الوثائق، وأحيانًا وفرتها الكبيرة التي تصل حدًّا يُعجز الباحث عن الاطلاع عليها بالكامل، ومن بينها أيضًا تنوّع مصادر المادّة واختلاف أهواء المشاركين في توثيقها والتي قد تنعكس في مضمونها، ومنها أيضًا القدرات المتزايدة – للقائمين على وسائل الإعلام وللناشرين على وسائل التواصل الحديثة -على التّزوير والتّحريف والطمس وغيرها من الأعمال التي تعيق عمل الباحث المُنصف.
ولمّا كانت القاعدة أن لا يقبل الباحث أيّ خبر أو رواية من وثيقة، أو مصدر وأن لا يعدُّه حقيقة تاريخيّة من دون إجراءات التّحقّق المطلوبة، وأمام خطورة المسؤولية التي تقع على عاتق الباحث لِما يترتب عن بحثه من مواقف وتبعات، كان لا بدّ من محاولة البحث عن إجابة للتساؤلات الآتية: هل اعتماد الباحث لخطوات التحقّق ونقد الوثائق التّاريخيّة، ومضامينها كفيل بالوصول إلى الاطمئنان الكامل إلى هذا المضمون؟ وهل كانت الثورة العلميّة والتقنيّة عنصرًا مساعدًا أم معيقًا في عمليات التّحقّق من صحّة الوثائق؟ وما هي أبرز العلوم والخطوات التي تساعد على التحقّق من صحّة الوثائق ومضمونها؟
1-تعريف الوثيقة: الوثيقة في اللغة هي “ما يُحكم به الأمر”، والوثيقة بحسب معجم المعاني الجامع هي المستند (الموقع الإلكتروني www.almaany.com › dict › ar-ar )، ويشتمل هذا الاصطلاح على كل مستندٍ يقدّم دليلًا أو إثباتًا أو حتّى بعض المعطيات عن حادثة أو قضيّة محدّدة.
ويعرّف “حسين مؤنس” الوثيقة أنّها “ما يوثّق كلامك ويدلّ على أنك تقول ما تقول وتكتب ما تكتب معتمدًا على أصول يمكن لغيرك أن يطّلع عليها ليتحقّق من صحة كلامك وصواب أحكامك، لأنّنا لا نُصدر في كتابة التّاريخ عن الهوى … أو الانطباع الشّخصي أو العاطفة، بل على الوقائع التي تؤيّدها الوثائق” (مؤنس، 1984، ص 53)، وهذا يعني أنّ الوثيقة التّاريخيّة تشمل كل ما يمكن الاعتماد عليه لكتابة تاريخ حادثة أو قضية أو تاريخ أمّة. ويستعمل “أسد رستم” في كتابه “مصطلح التّاريخ” مصطلح “الأصول” وذلك في إشارته إلى الوثائق، فيقول “يرى المؤرخون لزامًا في أعناقهم قبل كل شيء، أن يتفرّغوا للبحث والتفتيش عن شتّى الآثار التي تخلّفت عن السّلف والتي اصطلحنا أن نسمّيها أصولًا” (رستم، 2015، ص 53)، وذلك بصرف النّظر عن ماهيّة هذه الآثار أو نوعها.
ويشير المؤرخ عبدالله العروي إلى الاختلاف الحاصل في تعريف الوثيقة انطلاقًا من وجهة نظر المعرّف وموقعيته فيقول: “لو سألنا باحثًا في متحف أثري عن ماهيّة الوثيقة لقال على الفور “هي بقايا حجرية، حيوانيّة أو نباتيّة، لو سألنا باحثًا على عتبة مكتبة وطنية لقال: هي المخطوطات والرسائل والكناشات، لو سألنا متخصّصًا في تاريخ القرن التّاسع عشر الميلادي لقال: هي التّقارير القنصليّة والصور الشمسيّة والنقود. لو سألنا متخصّصًا في تاريخ القرن العشرين لقال: هي الخطب المسجلة والأفلام الوثائقيّة والاستجوابات والأشعار وغيرها” (العروي، 2005، ص83).
ويعرّف الموقع الإلكتروني لجامعة نيويورك الوثائق: أنّها المصادر الأصلية التي أُنتِجت في وقت قريب من مدّة حصول الحدث أكانت خطابات أو أحكامًا قضائيّة أو مذكرات وتمثلّ شاهد عيان على هذا الحدث، كما وتميّز بين مستويين منها(https://guides.nyu.edu/polisci/historical-documents):
– المصدر الأولي: الذي أُنتج بوقت متزامن مع الحدث.
– المصدر الثانوي: الذي يتمثّل بإعادة سرد الحدث بعد سنين من حدوثه.
نستنتج من خلال ما تقدّم أنّ الوثائق هي الأصول التي يستند إليها المؤرّخ أو الباحث في علم التّاريخ، فالوثائق هي الشواهد الرئيسة التي تتيح التعرّف إلى أحداث التّاريخ ومجرياته، والوثيقة التّاريخيّة -أكانت مستندًا مكتوبًا أم غير مكتوب-هي كلّ مستند يحتوي أو يدلّ على معلومات تاريخيّة بشكل مباشر أو غير مباشر، بصرف النّظر عن طبيعة هذه المعلومات (سياسيّة، عسكريّة، ثقافيّة، اجتماعيّة، دينيّة…) وبصرف النظر عن ماهيّة هذا المستند، لكن مع وجوب النظر إلى الوثائق كمادة خام على المؤرّخ تحليلها جيدًا خلال محاولته الإجابة عن تساؤلاته.
2-تعريف النّقد وتبيان خطورته: النقد في اللغة مشتقّ من فعل “نَقَدَ” وكان يُقصد به تمييز الدّراهم وإخراج الزّيف منها، ودرهم نقد هو الدّرهم الجيّد الخالي من الزيف (أنيس وآخرون، 1960، ص962)، كما كان المصطلح يستخدم أيضًا للدلالة على النّقاش فيقال ناقدتُ فلانًا أي ناقشته.
والنقد اصطلاحًا هو دراسة الأعمال والكشف عما فيها من جوانب القوّة، أو الضّعف ثم إصدار الأحكام النقديّة عليها (ابن أبي حاتم، 1952، ص5-6)، وفي معالجتهم للوثائق التّاريخيّة يقوم المؤرخون باستخدام النّقد في سياق عملية منهجيّة تقوم على التّدقيق والتّمحيص الهادف إلى كشف الزيف واستبعاده، ولما كان النقد عمليّة واعية تستهدف “ضبط النّص وتقرير أصالته ومصداقيته، وقبوله كحقيقة علميّة” (الشامي،2001، ص234)، لذلك فهي عملية تتّصف بالدّقة والصعوبة، وتُحمّل صاحبها مسؤولية علميّة وأخلاقيّة كبيرة لأنّها تنطوي في النهاية على إصدار أحكام على الوثيقة أو حول القضية التي تعالجها تلك الوثيقة.
اقتصرت مهمّة معظم المؤرّخين في التّاريخ القديم على نقل أخبار الأمم والشّعوب السّالفة أو المعاصرة لهم كما وردت إليهم أي من دون ما يكفي من تدقيق وتمحيص، وإن شذّ عن هذه القاعدة بعض المؤرخين، ومع بدايات مرحلة التّاريخ الوسيط برزت في العالم الإسلامي محاولة علماء الحديث وضع قواعد علميّة للتثبت من صحّة الأحاديث النّبويّة، “من خلال نقد الروايات والرواة الذين تناقلوا أحاديث الرسولص ( طه، 1991، ص21). ثمّ تقدّمت عملية النقد أشواطًا كبيرة مع المؤرّخ عبد الرحمن ابن خلدون الذي أشار إلى المغالط التي وقع فيها عدد من المؤرخين، لاقتباسهم الروايات من دون أدنى تحقّق ونقد وذلك بقوله “كثيرًا ما وقعوا عند نقلهم للوقائع، والحكايات لاعتمادهم على مجرد النّقل وأنّهم لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها على أشباهها…لذا علينا التّدقيق في كل الأخبار للتأكد من صحتها ومن الأسباب المقتضيّة للكذب” (ابن خلدون، 1962، ص41-42)، وفي ذلك إشارة واضحة من ابن خلدون إلى خطورة الكذب، والتّشويه الذي كان يشوب الروايات التّاريخيّة وإلى سهولة انخداع من لا يُعمل عقله بالتّدقيق والتمحيص.
وفي عصر النّهضة الأوروبيّة -وربّما تأثرًا بمنهج ابن خلدون- بدأت التحوّلات في مقاربة التّاريخ وروايته ووثائقه، فوضع الراهب “حنا مابيلون” المتوفّي سنة 1707م أسس ما اصطلح على تسميته بالنّقد الخارجي، واستمرّت عملية وضع القواعد، والأسس المنهجية للتعامل مع الوثيقة بوجهيها الخارجي والداخلي (الباطني) وذلك وفق قاعدة “تفكيك بنية الوثيقة للتعرّف إلى ظروف إنتاجها” (لوغوف، 2007،ص 129).
3-أهمية الوثائق والاهتمام بحفظها: يتّفق الباحثون والمؤرّخون على أهمية الوثائق ودورها المحوري في عملية التّاريخ، ويقول المؤرّخ “أسد رستم” حول هذه الأهمية “إذا ضاعت الأصول ضاع التّاريخ معها، هذه قاعدة عامّة لا موضع للجدال فيها، ذلك لأنّ التّاريخ لا يقوم إلّا على الآثار التي خلّفتها عقول السّلف أو أيديهم” (رستم، 2015، ص 53-54)، ويأتي عدّه أن لا جدال حول القاعدة تلك ليؤكد أصالة الارتباط بين الوثائق والتّاريخ، ويضيفُ مدعّمًا رأيه ذاك “نرى أنّ الأصول هي في غالب الأحيان صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي، فإن أخبرتنا الخبر على حقّه توصلنا إلى الحقيقة التي ننشدها، وإن أرجفت فخاضت في الأخبار المخطئة أو الكاذبة أوقعتنا في مهاوي الضلال والتضليل” (رستم، ص 82)، ويرى “بول ريكور” في كتابه “الذاكرة التّاريخ النسيان” أنّ تفحّص “علاقات التّاريخ بالشهادات المكتوبة وغير المكتوبة …يعين التّاريخ كعلم” (ريكور، 2009، ص 260)، فعلم التّاريخ إذًا يستعين بالشّهادات المكتوبة وغير المكتوبة (أي بالوثائق على اختلاف أنواعها)، ويستمدّ من معالجتها علميّته وأهميّته.
ويصف “هيرنشو” أهميّة الوثائق -لا سيما الخطّية منها- بقوله “تعدُّ الوثائق الخطّية أعظم المصادر… نعم إن هناك مصادر أخرى على شكل عُدد ومبان….إلا أنّه قد بلغ من فضل الوثائق الخطيّة على غيرها من المصادر أن … لا تاريخ بغير وثائق” (هيرنشو، 1944، ص 13)، وتركيز هيرنشو على أهمية الوثائق الخطيّة يرجع كما يبدو لغزارة ما تقدّمه هذه الوثائق من معطيات وللتفاصيل التي تضعها بين يدي الباحث.
وخلاصة القول إن المعرفة التّاريخيّة تبدأ عادة من الوثائق فنحن نعتمد عليها في كتابة التّاريخ، وأهميتها في عملية البحث التّاريخي تفرض على كل باحث عن الحقيقة بذل الجهد والمال والسفر بحثًا عن الفوائد المرجوة من الوثائق الأصليّة، “والمؤرخ الذي يهمل وثائق كان من شأنها أن توضح تلك التي في متناول يده واقتصر عليها – تكملها أو تنقضها- يكون بلا شكّ في موقف أضعف من الذي وصل إلى كل الأصول المتاحة المرتبطة بموضوعه”( الجمل، 2000، ص 128)، فسلامة البحث ومتانته وقوة استنتاجاته مرتبطة ارتباطا شديدًا بعدد الوثائق ونوعها والتي استند إليها، وتنوّع مصادرها بما يتيح له الاطلاع على وجهات النّظر المختلفة للأطراف ذات العلاقة بها، وبأسلوب التّحقق منها.
ولأنّ للوثائق هذا المستوى من الأهميّة “تحرص أغلب الدول على أن تكون لها دُورٌ خاصّة لحفظ وثائقها القوميّة التي تتعلق بتاريخها”(الجمل، ص 127)، وإن اختلف مستوى الاهتمام بهذه الوثائق أو التّنظيم أو الرعايّة بين دار وآخر، أو بلد وآخر، وكان الاهتمام بالتوثيق والأرشفة قد ازداد مع بداية عصر النّهضة الأوروبيّة، وبرزت على هذا الصعيد دور الراهب الفرنسي البندكتي “مابيلون” (Mabillon) الذي وضع كتابًا بعنوان “علم الوثائق الرّسميّة” وضمّنه قواعد مقاربة الوثائق الأرشيفيّة. وما لبثت أن انتشرت في مختلف أنحاء أوروبا دور الوثائق في الكنائس والأديرة وفي مؤسسات علميّة أو رسميّة، وتضاعفت أعدادها وتضخّمت مخزوناتها، لكن ذلك التقدّم في علم الأرشفة والتوثيق لم يتكامل كما ينبغي مع مستلزمات الكتابة التّاريخيّة على الأقل حتى بدايات القرن التّاسع عشر (Le Pellec, et autre, 1998, p38).
وكمثال عن تزايد هذا الاهتمام افتُتحت “مدرسة الوثائق” في فرنسا في العام 1821م، وتحوّلت خلال وقت قصير إلى مركز رئيس “للدراسات الببليوغرافيّة والدّبلوماسيّة في أوروبا بأسرها”( هيرنشو، 1944، ص 82)، في وقت كانت فيه جمعيّة تاريخ فرنسا التي أنشأها الوزير “ف.ب.جيزو” قد باشرت بنشر مجلدات من وثائق حول التّاريخ الفرنسي، ثم باشرت بعد ذلك الدول الأخرى القيام بخطوات مماثلة. كما تهتمّ الكثير من المؤسّسات الرسميّة والخاصة بحفظ وثائقها الذّاتيّة -كحال العديد من الكنائس والأديرة- كذلك نجد أن بعض الأفراد أيضًا يعتنون عناية خاصة بوثائق مرتبطة بماضيهم وتاريخ أُسرهم فيعمدون إلى حفظها وأرشفتها.
ومن النتائج الإيجابيّة للاهتمام المتزايد بالوثائق وحفظها أن بلغت غزارة هذه الوثائق حدًّا باتت فيه وافرة جدًا في مجالات عدّة، وتفوق أحيانًا قدرة المؤرّخين على دراستها، كما ساهمت في ظهور نوع من التّخصّص التّاريخي فبتنا نرى مؤرّخين متخصّصين بالتّاريخ الاقتصادي أو بالتّاريخ العسكري أو الكنسي (هيرنشو، ص90).
4-أنواع الوثائق: خلال دراسته للتاريخ، على المؤرّخ أن يهتمّ “بكل ما هو مكتوب ومصنوع أو مبنيّ، فالنّصّ المكتوب أيًّا كان موضوعه ومعناه يعدُّ وثيقة، وآنية الفخار وثيقة، وقطعة النّسيج وثيقة، وقطعة السّلاح وثيقة، وشاهد القبر … وكذلك التّماثيل والتّصاوير والكتابات على الأحجار وغير الأحجار… حتّى لو كانت نقلت إلى المتاحف لحفظها”(مؤنس،1984، ص 54)، ويرى بول ريكور (2009) أن “كل شيء يمكن أن يصبح وثيقة، طبعًا هناك أولًا البقايا التي تستخرج من الحفريات للتنقيب عن الآثار الباقية وبطريقة لافتة جدًا المعلومات المختلفة …من مثل بيانات الأسعار، سجلات الأَبرشيات، الوصيات..” (ص 271)، كما يرى أتباع المدرسة المنهجيّة في كتابة التّاريخ أنّ الوثيقة التّاريخيّة هي “كل الشّواهد والآثار التي خلّفها إنسان الماضي” (شارل و شارل، 1981، ص 5) لكنهم على الرّغم من ذلك ركزوا على دراسة الوثائق المكتوبة من دون سواها.
تزايدت مع انطلاقة القرن العشرين الانتقادات الموجّهة، لتركيز المدرسة الوضعانيّة (المنهجية) على الوثائق المكتوبة من دون سواها، لا سيما مع تأسيس مجلة “حوليات التّاريخ الاقتصادي والاجتماعي سنة 1929، والتي أسّست لمدرسة تاريخيّة جديدة عرفت باسم مدرسة الحوليّات والتي تبنّت تصوّرًا أشمل للوثيقة التّاريخيّة غير محصور بالوثائق المكتوبة، وفق هذا التصوّر يمكن كتابة التّاريخ ليس اعتمادًا فقط على الوثائق المكتوبة بل أيضًا على كل ما يستطيع الباحث أن يستنبطه من أي مصدر”من المفردات والرموز، … ومن مقارن الثّيران ومن فحوص العالِم الجيولوجي للأحجار ومن تحليلات الكيميائي للسيوف الحديدية” (العروي، 2005، ص 81)، على هذا الأساس عدَّ مؤرخو مدرسة الحوليّات أن مفهوم الوثيقة لا يقف عند حدود الوثائق المكتوبة، فكل ما يمكن أن يقدّم معرفة تاريخيّة يمكن عدّه وثيقة بما في ذلك النّقوش والرّسوم على الصخور، أدوات التزيين والطبخ…
ومع التقدّم التّقني الذي تسارع خلال القرن العشرين ولا يزال، ازدادت المواد التي دخلت تحت عنوان الوثيقة زيادة هائلة لا سيما منها الأفلام والمقاطع الصوتيّة والمراسلات المشفرة أو الإلكترونية، وازدادت معها مسؤولية الباحث أو المؤرخ – أو المتلقّي للرواية والخبر- في عملية التحقّق من تلك الوثائق نظرًا لغزارة تلك الوثائق من جهة ولاحتمالات التزوير التي باتت متاحة بفضل التقدّم التقني نفسه.
وهذا التوسّع في مفهوم الوثيقة عزّز فكرة التوسّع في المجالات التي تعدُّ حقلًا للدراسة التّاريخيّة، فلم تعد تلك الدراسة محصورة بالجوانب السياسيّة والعسكريّة، بل توسعت لتشمل التّاريخ الاقتصادي والاجتماعي وكل ما له علاقة بتاريخ الإنسانيّة.
نستخلص مما سبق أن تحصيل المعرفة التّاريخيّة تعتمد إذًا على نوعين من الوثائق أو الآثار:
النوع الأوّل: الوثائق أو الآثار غير المكتوبة
وتشمل الآثار كلها التي يكتشفها الباحثون عمدًا خلال التنقيب عن الآثار أو تكتشف عن غير عمد، ومن أبرز الأمثلة عن هذا النوع:
– المباني الأثرية من بيوت وقصور وقلاع وحصون وأسوار وكنائس وجوامع ومقابر…
– الأدوات التي استخدمها الناس في أعمالهم وحياتهم اليوميّة كالأواني الفخاريّة والزجاجيّة …
– الأسلحة التي استعملها الناس للصيد أو خلال الحروب كالرّماح والسّيوف …
– التماثيل والتصاوير الفنية على اختلاف أنواعها وغاياتها ومواقعها…
– العملات والمسكوكات المعدنية والتي كثيرًا ما كانت تحوي رسومًا تخلّد شخصًا أو حدثًا…
إضافة إلى أدوات الزينة والمجوهرات وسواها من الآثار، ولا فرق بين أن تكون محفوظة في موقع اكتشافها أو في المتحف لحمايتها، فقيمتها العلمية ثابتة لا تتغير.
النوع الثّاني: الوثائق أو الآثار المكتوبة
وتشمل الآثار المكتشفة كلها والتي تحوي على رموز وكتابات ذات دلالة ومعنى، ومن أبرز أنواعها:
– الوثائق الأرشيفيّة: “وهي الوثائق التي أُنشئت أثناء تأدية أي عمل من أي نوع كان، وكانت جزءًا من هذا العمل” (حسين، 1954، ص 11)، كما هو حال الوثائق الصادرة عن الدّوائر الحكوميّة والمحاكم، ووثائق الجمعيات غير الحكوميّة ومن الأمثلة عن هذا النوع: الاتفاقيات السياسيّة، المراسيم، الأحكام والمداولات القضائيّة، السجلات الخاصة بدوائر النّفوس.
– الوثائق الموضوعيّة المكتوبة: وهي كل وثيقة تتناول موضوعًا أو أكثر ولا تكون جزءًا من تأدية عمل – وفق المفهوم الذي ورد سابقًا – وذلك بصرف النّظر عن نوع المادّة التي كُتبت عليها أكانت من القماش أو الجلود (أي ما كان يعرف بالسّجل)، أو الرّق (أي الألواح الحجرية)، أو الورق ومن الأمثلة عن هذا النّوع الرّسائل الشّخصية، والمذكرات، ونصوص الروايات التّاريخيّة، الصحف والمجلات وحتّى بعض المؤلفات الأدبيّة.
– النقوش: التي نقشت على الصخور والجدران والمباني، سواء أكانت نصوصًا أو رموزًا قابلة للتفسير، ومن الأمثلة عنها الكتابات الموجودة على جدران الأهرامات أو النّقوش الموجودة على صخور نهر الكلب.
*الوثائق السمعيّة – البصريّة: بعد التقدّم العلمي والتقني واختراع أجهزة التسجيل الصوتي والتصوير على اختلافها، شهد مخزون الوثائق تضخّمًا كبيرًا بعد تسجيل الأفراد أو المؤسسات الإعلاميّة أو الجهات الرّسميّة أو غيرها من الجهات كمًّا كبيرًا من المعلومات من خلال المنتجات السمعيّة، والبصريّة وفي بدايات ظهورها كان لهذه الوثائق السمعيّة والبصريّة مصداقيّة عاليّة، لكن التقدّم المستمرّ في المجال التقني فتح الباب واسعًا أمام عمليات التّحوير، والتزوير بما فرض من جديد التعامل معها بأسلوب المحقّق للتثبت من صحتها وعدم تزييفها، ومن الأمثلة عن هذا النّوع من الوثائق الخطابات المسجلة، الأفلام الوثائقيّة، تسجيلات القِمم السياسية. أمّا الشهادات الشفهيّة لمن كانوا شهودًا على حدث معيّن فهي تدخل ضمن الوثائق لكن بعد تدوينها، فتتحول عندها إلى شهادات مكتوبة (ريكور،2009، ص 271).
5-التحقّق من الوثائق، الأهمية والكيفية
أولاً: أهمّية ووجوب التحقّق
يجمع الباحثون والمؤرّخون على قاعدة أساسية في التّعامل مع الوثائق تتلخّص بتجنّب اقتباسها، أو اعتماد محتواها كحقائق ثابتة، بل يجب على كل مؤرخ “أن يتأكّد أولًا من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوّها من كل دسّ أو تزوير”(رستم، 2015، ص 67)، وكانت القواعد الأولى لنقد النصوص والتحقّق من صحتها، قد ظهرت مع محاولات ضبط الحديث النّبوي وتحوّلت بعد ذلك إلى قواعد عامّة للضبط العلمي، ثم قام العلماء الأوروبيون ابتداءً من عصر النّهضة، بوضع قواعد لضبط النصوص وتحقيق الوثائق(مؤنس، 1984، ص56). وقبل ذلك كان أسلوب المؤرخين في التّعامل مع الوثائق قائم على تجميع ما تيسّر لهم من أخبار وروايات من دون تمحيص مصادرها الأمر الذي حوّل نتاجاتهم، وكتاباتهم إلى خليط من الوقائع والخيال (طحطح، 2012، ص67). وقد سبقت الإشارة إلى دور الرّاهب البندكتي “حنا مابيلون” الذي وضع كتابًا بعنوان “علم الوثائق الرسمية” وضمّنه قواعد مقاربة الوثائق الأرشيفيّة.
وظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المدرسة الوضعانيّة (أو المنهجيّة) وتصدّرت مجال الدراسات التّاريخيّة في فرنسا، وقد عبّرت عن أفكارها من خلالفكارها أ المجلة التّاريخيّة التي تأسست سنة 1876م، وسَعَت هذه المدرسة إلى تأكيد علميّة التّاريخ (أي جعل التّاريخ علمًا له قواعده)، وافترضت أنّ المؤرخ يمكن له تحقيق الموضوعيّة والعلميّة عندما يبني حكمه على الوثيقة الملموسة (الحسناوي، المجلة العربية، يناير 2019، ص 48).
والأصل في منطلق عمل الباحث أنّه يبحث عن الحقيقة، لذلك ولكي لا يقع خلال بحثه ضحيّة لوثائق أو أصول مزيّفة –كلّيًا أو جزئيًّا – يجب عليه التثبت من صحّتها وإلّا قادته إلى خلاصات، واستنتاجات لا قيمة لها بل وقد تكون مضلّلة له ولمن يستند إلى أبحاثه، وقد أثبتت العديد من الدّراسات أنّ بعض الكتب قد نُشرت اعتمادًا على مخطوطة تَبيّن لاحقًا أنّ بعض ما ورد فيها من أحداث قد حصل بعد موت مؤلّفها، وهذا يدلّ على أنّ تلك المخطوطات ليست أصلية بل ربّما مستنسخة مع إضافات من النّاسخ، كما أنّ بعض الوثائق لا تنقل الحقيقة كاملة وفي التّاريخ الكثير من النّماذج والأمثلة عن معاهدات كانت تخفي بنودًا سريّة أكثر أهمية وخطورة من البنود العلنيّة، كما أنّ الكثير من الكتّاب كانوا يجافون الحقيقة أو يحوّرونها تحت ضغط السلطان أو بنتيجة ميولهم وأهوائهم (الجمل، 2000، ص 149).
أمام احتمالات التحريف والتزوير والإخفاء المذكورة كلها، يقول الدكتور أسد رستم: “إنّنا نرى لزامًا في أعناقنا أن نتعرّف إلى شخصيّة المؤرّخين الذين نصّوا هذه الأصول، كي نمزّق ظلمات الإشكال ونكشف معالم الهدى، ومهمّتنا من هذا القبيل هي أصعب بدرجات من مهمّة القضاة والمحامين، إذ إن هؤلاء يتحدّثون إلى من ينقل الخبر إليهم ويمتحنونه بالاستنطاق، فهو مخبر حيّ ماثل أمامهم أمّا مخبر المؤرّخ فإنّه ميّت خلا مكانه وطويت صفحته”(رستم، 2015، ص 82).
بعد كلّ ما تقدّم من مخاطر ناتجة عن احتمالات تزوير وتحريف الوثائق أو الدّس فيها، بات التحقّق من صحّة الأصول والوثائق مسؤولية علمية وأخلاقية على كل باحث وقاعدة راسخة لها ضوابطها وخطواتها والتي ينبغي على كل باحث أو مؤرّخ اعتمادها كي لا يقع ضحية الكذب والتزوير، وجوهر هذه العمليّة قائم على مفهوم المساءلة ولائحة الأسئلة التي يجب أن يتسلّح بها المؤرخ خلال بحثه في الأرشيف(ريكور، 2009، ص270).
ثانيًا: كيفيّة التحقّق
يتطلّب التحقّق من مصداقية الوثائق توافر مجموعة من الأدوات المساعدة بين يدي الباحث، “من معاجم وأدلّة وفهارس وكشّافات مصطلحات ودوائر معارف ..”(مؤنس، 1984، ص 58)، فوجود هذه الأدوات يعين الباحث على حسن فهم الوثيقة ومصطلحاتها والظروف التي كتبت خلالها، وميول كاتبها. وخلال عمليّة التحقّق يعمل المؤرّخ على نقد نوعين من الأدلة:
أ-نقد الأدلّة الظاهريّة: ويقصد بهذه العمليّة التحقّق من صحة الوثيقة وأنها غير مزيفة، وتقتضي هذه العمليّة أن يسلك المحقّق مسارًا مؤلّفًا من خطوات أبرزها:
– طرح مجموعة من التّساؤلات حول الوثيقة لمعرفة ما إذا كانت هي الوثيقة الأصليّة أم أنّها نسخة عنها؟ وما هي الدّلائل التي تدلّ على صحتها أو على زيفها؟ إن إجابة الباحث عن هذه التّساؤلات تستوجب إلمامه بمجموعة من القواعد والضوابط (رستم،2015، ص35). ومن الأمثلة عن الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا السّياق (لا سيما في الوثائق المكتوبة):
-ما هي طبيعة الوثيقة؟ هل هي معاهدة، مقال صحفي، نصّ، أو غير ذلك؟
-ما هي طبيعة المادة التي كتبت عليها؟ وما نوع الحبر والأداة؟ وهل تتناسب مع العمر المفترض للوثيقة؟
-ما هي لغتها والمصطلحات المستخدمة فيها؟ وهل تتوافق مع اللغة والمصطلحات التي كانت مستخدمة زمن كتابتها؟
-هل هي أصليّة أم نسخة عن الأصل؟ هل هي مصورة أو منسوخة؟
-ما هي المدة الفاصلة بين الحدث الذي تتضّمنه وتاريخ إعدادها؟
– تحديد التّاريخ الذي وضعت فيه الوثيقة ذلك أنّ الكثير من الوثائق لا تحمل تاريخًا محدّدًا، لذلك فإنّ تحديد تاريخ كتابتها أمرٌ في غاية الأهمية ويجري من خلال عملية ربطٍ بين تاريخ وقوع الرواية التي تضمّنتها – وذلك بالاستفادة من مصادر أخرى- والعلوم التي تساعد على تحديد عمر المواد المستخدمة في الوثيقة.
– الاستعانة بالعلوم المساعدة، فعلم اللغة يساعد على التأكد من سلامة اللغة، ومدى مطابقتها للمصطلحات المستخدمة زمن كتابة هذه الوثيقة إضافة إلى أسلوب الكتابة المعتمد، ويساعد علم الكيمياء على التثبت من نوع المادة التي كتبت عليها الوثيقة كالورق، أو الجلد وعمر هذه المادة، والمادة المستخدمة في الكتابة كالحبر، ونوع القلم أو الأداة كما أنّ علم العهود والمواثيق يساعد على التثبت من تطابق ما ورد في الوثيقة مع عادات المراسلة، والكتابة خلال العهد الذي تنسب إليه هذه الوثيقة، ويقصد بعادات المراسلة افتتاحيّة الوثيقة وختامها، وعلم الأختام والطوابع يسهم في التثبت من أصالة هذه الوثيقة (رستم،ص 68)، وعلم الجغرافيا يساعد على التأكّد من تأثير الوسط الجغرافي على حياة المجتمع ربطًا بما كان سائدًا من ” ظروف طبيعيّة ومُناخيّة” (عثمان، 1980، ص 40)، كما يساعد علم النّميّات “أي علم النّقود والمسكوكات” على التثبت من أصالة الوثائق الماليّة كالنقود والأوراق المستخدمة في المعاملات الماليّة، وقد يحتاج الباحث إضافة إلى ما ذُكر من أدلة ومعاجم إلى مقارنة الوثيقة التي يعمل عليها بوثائق أخرى من المدّة الزمنيّة نفسها.
ب-نقد الأدلّة الباطنية
ولهذه العمليّة مستويين اثنين:
المستوى الأوّل: ويعرف بالنّقد الدّاخلي الإيجابي، ويستهدف تحليل النص وتفسير ظاهره وتحديد المعنى الحرفي لكل كلمة واردة فيه -أو مصطلح- وتحديد غرض المؤلّف منه، وهذا يقتضي معرفة الباحث بلغة ذلك العصر ومصطلحاته والاستفادة من قواعد علم التفسير ومن الكتب أو الوثائق المعاصرة للوثيقة قيد البحث.
المستوى الثاني: ويعرف بالنّقد الدّاخلي السّلبي وينطلق من مبدأ أن الشكّ والاتهام هو الأصل، ويستهدف التثبت من شخصية الكاتب ووظيفته وميوله وإذا ما كان لديه مصلحة في ما كتب، وتحديد الظروف التي أملت عليه الكتابة، ومستوى كفاءته والأخطاء التي وقع فيها ومدى تحقّق شروط المشاهدة العلميّة لديه كالمكان الذي شاهد منه، والوقت والطريقة (رستم، 2015، ص 131-136).
ومن الأمثلة عن الأسئلة التي يجب طرحها خلال عمليّة النّقد الباطني:
– من هو الكاتب؟ ما علاقته بموضوع الوثيقة؟ ما هو مستواه العلمي؟ ما هي ميوله وما هو انتماؤه؟
– أين كتبت الوثيقة؟ لماذا كتبت؟ لمن كانت موجّهة؟ في ظل أي ظروف كُتبت؟
– أين وجدت؟ أين حفظت؟ هل هي مترجمة؟ هل هي مكتملة؟ هل هي نسخة وحيدة؟
– ما هو موضوعها الرئيس؟ هل تظهر ميول الكاتب من خلالها؟
– ما هي الأحداث التي تتضمنها؟ هل الحدث المذكور قابل للتصديق؟
– ما هي الآراء التي تتضمّنها؟ هل الآراء المذكورة عقلانية وسليمة المنطق؟
-ما هي الغوامض التي لم تكشفها الوثيقة حول الموضوع؟
ويمكن للائحة الأسئلة هذه أن تطول وتزداد عمقًا بحسب بداهة النّاقد وبحسب طبيعة الوثيقة، كما يمكن أن يتولّد عن الإجابات عن بعض الأسئلة المذكورة أسئلة جديدة، وكلّما أتقن النّاقد طرح الأسئلة بدقة وحكمة كلما صار أكثر قدرة على تحقيق نتائج بمستوى عالٍ من موثوقيّة.
إنّ خلاصة عمليّة نقد الأدلّة بنوعيها الظاهري، والباطني يجب أن تقدّم للباحث إجابات واضحة عن مستوى صدقيّة الوثيقة وصحة وسلامة مضمونها، وفي أحيان كثيرة قد لا يحتاج الباحث للدخول في نقد الأدلّة الباطنية إذا ثبت لديه من خلال نقد الأدلة الظاهرية أن هذه الوثيقة لا تتمتع بالصدقية أو أنها مزيفة.
6-العلوم والتقنيات ومدى استثمارها في التحقيق أو في التزوير
في ظلّ التقدّم العلمي والتّقني الحاصل والمتسارع، استفاد الباحثون من الفرص التي تقدّمها العلوم القديمة والحديثة -كعلم الكيمياء مثلاً- للتثبّت من بعض الخصائص الظاهرية للوثائق، لكن هذا التقدّم العلمي شكّل أيضًا فرصة لأصحاب الأهواء السياسيّة أو الدّينيّة ولبعض تجّار الوثائق، والآثار لتحقيق غاياتهم ومآربهم النّفعيّة من خلال تزوير وثائق بطريقة احترافيّة يصعب اكتشاف تزويرها من الباحث العادي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قضية تزوير النّقش الذي عرف بنقش الملك التوراتي “يهوآش” الذي بلغ مستوىً عالٍ من الاحتراف، وقد نجحت مجموعة من الباحثين المشكّكين بصدقيّة تلك الوثيقة في اكتشاف التزوير بعد دراسة معمّقة للمصطلحات وللّغة المستخدمة فيه، وقصّة هذا التّزوير بدأت مع سعي جماعات صهيونيّة للبحث داخل فلسطين المحتلة عن آثار تثبت صحّة الروايات التّوراتيّة حول استيطان اليهود لفلسطين في الألف الأول قبل الميلاد، وبنائهم للهيكل على إحدى تلال مدينة القدس، وكان قد سبق لعلماء آثار صهاينة أن أعلنوا اكتشافًا أثريًّا سنة 1993 م في منطقة تل القاضي في فلسطين، زعموا فيه أن الأثر المذكور هو نصب حجري لملك آرامي يخلّد فيه انتصاره على الأسرتين الحاكمتين لمملكتي يهوذا والسامرة، لكن علماء آثار محايدين أثبتوا من خلال دراسة هذا الأثر أنّه مزيّف بالاستفادة من علم اللغات الساميّة القديمة، وعلم النّقوش وكان من أبرز هؤلاء عالم الآثار الإيطالي “جيوفاني غابريني” الذي اتّهم بنتيجة دراسته العلماءَ الصهاينة الذين ادّعوا الاكتشاف بأنهم قد زوّروه (Garbini,1994, P.461-471).
جاء في العام 2003 الإعلان من مركز المسح الجيولوجي التابع لوزارة البنى التحتية الإسرائيليّة، باكتشاف لوحة أثرية عليها نقش منسوب إلى الملك “يهوآش” الذي ذكره التوراة على أنّه كان من ملوك مملكة يهوذا في القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك بعد أن أجرى ثلاثة من الباحثين العاملين في المركز اختباراتهم على هذا النقش، وأعلنوا أنه موثوق وأنه قديم يعود أيضًا إلى القرن التاسع قبل الميلاد (سخنيني، 2003م، ص 16).
ويتحدث مضمون النقش عن قيام “يهوآش” بجمع الفضة من أنحاء مملكة يهوذا من أجل أعمال ترميم الهيكل (البيت المقدس)، وهي رواية تتطابق مع الروايات التّوراتيّة، ولذلك عمدت الجماعات الصهيونية مثل جماعة أمناء جبل الهيكل إلى استغلال هذه “الوثيقة” المدّعاة لتبرير مطالبها بوجوب تأسيس الهيكل الثالث في القدس المحتلّة اعتمادًا على مضمون هذا النقش، وكذلك فعل بعض الصهاينة العاملين في مجال علم الآثار ومن بين هؤلاء “هرشل شانكس” رئيس تحرير إحدى المجلات التي تعنى بدراسة الآثار التّوراتيّة والتي تصدر من واشنطن، والذي علّق على النقش عادًّا أنّه يدعم تاريخيّة سفر الملوك(سخنيني، 2003، ص 20).
أمّام خطورة النقش وآثاره المحتملة صبّ عدد من الباحثين الإسرائيليين جهودهم في سبيل اكتشاف مدى صدقيته، وكان من بين هؤلاء المؤرخ “ناداف نعمان” الذي عدّ أن “النقش مثير للشكّ والجدل…إنّه يحتوي على كلمات عديدة لا تظهر في التّوراة” واستشهد أيضًا بأسلوب الخاتمة التي كانت غير معتادة في النّصوص الملكيّة لتلك الحقبة التّاريخيّة (ص 23). كما توقف باحثون آخرون عند اللغة المستخدمة فيه إذ توصّل أستاذ اللغات الساميّة القديمة بجامعة تل أبيب “إد جرينشتاين” إلى “أنّ هناك استعمالات لغويّة وردت في النّقش لا تنتمي إلى عبريّة القرن التاسع قبل الميلاد” (ص 24)، كما أشار الخبير بالنقوش السّاميّة القديمة “كريستوفر رولستون” إلى أنّ النقش يدمج بين أشكال – أيّ أشكال الأحرف- من أزمنة ولغات مختلفة. كما علّق الخبير في دائرة الآثار بجامعة تل أبيب على النّقش والنتائج التي توصّل إليها خبراء مركز المسح الجيولوجي، وأثبت أنّ التركيبة الكيماوية لغشاء النّقش لا يمكن أن تكون قد تكوّنت في منطقة القدس، ولا في الهضاب القريبة منها وذلك لاختلاف مكونات التّربة في هذه المنطقة عن المكوّنات التي دخلت في تركيبة الغشاءومن أجل إثبات ما خلص إليه من نتائج قام بإنتاج نقش مماثل من حيث المواصفات للنقش المزعوم.
بعد كل هذه التدخّلات والدراسات العلميّة من أصحاب اختصاصات مختلفة، شكّلت سلطة الآثار الإسرائيليّة لجنة لدراسة النّقش المذكور، وقد ضمّت اللجنة متخصّصين بمجالات علميّة مختلفة، وجاء في خلاصة تقريرها أنّ النقش مزوّر وذلك بعد دراسة حول شكل النّقش واللغة التي كتب بها والمادة التي صنع منها وغشاء التعتيق الذي غلّفه (سخنيني، ص 28).
تكمن أهمية المثال المذكور حول نقش “يهوآش” المزعوم في أنّه يقدّم نموذجًا عن القدرات العالية التي بات يمتلكها المزوّرون الذين استخدموا العلم في عملية التزوير وعن خطورة النتائج المترتبة عن هكذا نوع من الوثائق المزوّرة والتي من الممكن أن تعبث بالحقائق التّاريخيّة، وتطاول المقدسات الدّينية وتسهم في إثارة الاضطرابات والمشاكل، كما أنّه يدلّل على الدور الكبير الذي تؤديه العلوم المساعدة خلال عمليّة دراسة مصداقية الوثائق وعلى أنّ الأهواء الذّاتيّة لبعض الباحثين قد تسهم في انسياقهم خلف هذه الأهواء على حساب المصداقيّة العلميّة.
ونتيجة لضعف الرقابة على وسائل التواصل المختلفة، والقدرة المتاحة لأيّ شخص على نشر ما يريد وادعاء ما يريد، فإن مشكلة التحريف والكذب والتزوير قد ازدادت سهولة وخطورة، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك الفيديوات التي انتشرت على مواقع التّواصل الاجتماعي على أنها تعود لأحداث فيضان درنة الذي أصاب المدينة الليبيّة في شهر أيلول العام 2023 وأوقع فيها كارثة طبيعية نتج عنها آلاف القتلى، والمفقودين إضافة إلى دمار كبير في المباني والبنى التحتية، ذلك أن العديد من الفيديوات التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بهذا الحادث الأليم، قد نُشِر على بعض الصفحات والمواقع على أنّها لحادثة الفيضان، ومنها على سبيل المثال الفيديو المنشور على موقع Face Book على الصفحة المعنونة بعنوان “محمد بدر مقاولات وتشطيبات في العين،إمارة أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة” (https://www.facebook.com/search/top?q)، ويظهر في الفيديو المذكور أن مجموعة كبيرة من الأشخاص يركضون باتجاه معين، وقد ذيل النّاشر المشهد بقوله إنّ هؤلاء ليبيون يفرّون قبل وصول الفيضان إليهم، مع العلم أنّه وبتحليل بسيط للفيديو والعناصر المكوّنة له يظهر أنّ هؤلاء كلّهم من فئة الرجال، والشّباب وأنّهم يشبهون سكان جنوب آسيا ومعظمهم يحمل في يده أداة من أدوات الحفر، وأن المكان الذي يركضون فيه هو حفريّة تشبه أرضيّة المنجم، وأنّ التوقيت يُظهر أنّهم في وضح النهار علمًا أن الفيضان وقع ليلًا، وغيرها الكثير من الملاحظات التي تقلّل من مصداقية المقطع المعروض ومن خلال عملية بحث على شبكة الإنترنت، يتبين أن الفيديو هو لمجموعة من العمال الذين يتسابقون للوصول إلى موقع للتنقيب عن الأحجار الكريمة.
ولا يقتصر الأمر أحيانًا على نقل معلومات خاطئة بل يقوم البعض عمدًا باستخدام تطبيقات حديثة من أجل تحوير صورة معينة والعبث بمحتواها، أو انتاج فيديو أو تعديله من خلال إدراج صورة شخص وتقليد صوته حتى وهو في الواقع لا علاقة له بهذا الفيديو من قريب أو بعيد، وهي برامج تزداد تقدمًا وإتقانًا لعملها مثل تطبيق التّزييف العميق (deepfake)، أو تطبيق محرّر صور الوجوه (faceapp)، وغيرها الكثير من التطبيقات التي تزداد عددًا، وتخصّصية بما يسمح لمستخدميها إنتاج صور أو تسجيلات غير حقيقيّة ونسبها لأشخاص حقيقيين، ويصعب على الباحث العادي كشف زيفها.
ومن الأمثلة عن هذه المنتجات المزوّرة، ما أوردته الكاتبة “مها فجال” في مقالها “تقنية ال Deep Fake” على موقع الجزيرة الإلكتروني الفيديو الذي يظهر فيه الرئيس الأميركي الأسبق “باراك أوباما”، وهو يتلفّظ ببعض الألفاظ النابيّة تجاه آخرين من بينهم الرئيس السّابق “دونالد ترامب” ،ليظهر في نهاية الفيديو معدّ المقطع منبهًا للخطورة التي تنطوي عليها هذه التقنيات والتي تصعّب عمليًّا إمكانية الوثوق بما نشاهده أو نستمع إليه، وكذلك الحال مع الفيديو المزوّر الذي يظهر فيه مؤسّس موقع ((face book “مارك زوكيربيرغ” الذي يقول فيه إنّ “مهمّة هذه المنصة ليست أن تساعد النّاس على التواصل كما كان يدّعي، بل الوصول لأكبر قدر ممكن من المعلومات عن المستخدمين ليسهل التنبؤ بتصرّفاتهم المستقبليّة والتحكم فيها” (فجال، 19/9/2019، المقطعين 1 و2).
ولمّا كانت المناكفات السياسيّة، وفقدان الأخلاقيّة في التعامل بين المتخاصمين هي السمة الغالبة على معظم المتعاطين بالشّأن السياسي، لم يتورّع هؤلاء عن اعتماد هكذا تقنيات لتشويه الخصوم ومن الأمثلة عن ذلك الصورة التي أُنتِجت سنة 2004 – إبان الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة الأميركيّة- وذلك عبر برنامج فوتوشوب والتي تجمع مرشح الحزب الديموقراطي “جون كيري” بالممثلة والنّاشطة “جين فوندا” أثناء خطاب لها في حشد مناهض لحرب فيتنام، بهدف ضرب التأييد الجماهيري للمرشح “كيري” بوصف أنه يقف إلى جانب من وُصِفت من بعض الأميركيين بالخيانة، لأنّها سبق أن زارت فيتنام بسبب رفضها للحرب الأميركيّة عليها، وسرعان ما نُشِر الصور عبر أشهر الصحف الأميركيّة (كصحيفة النيويورك تايمز)، علمًا أن الصورة لم تكن سوى تجميع لصورتين مختلفتين أُخِذتا بتاريخين مختلفين للشخصين المذكورين كل على حدة (فجال، 2019، المقطع 6).
إن ما يزيد الأمور تعقيدًا أن هذه التقنيات باتت متاحة عبر الانترنت للجميع، وأنها تتمتع بجودة عالية، أمام هذه المعضلة لجأت بعض المؤسسات البحثيّة أو الوكالات الإعلاميّة إلى اعتماد تقنيات وتطبيقات خاصة وتطويرها لكشف هذا النوع من التزييف، وقد أوردت “نازك تيمورخان” في مقالها المعنون “الصور الإلكترونيّة في كل مكان” والمنشور على موقع “أراجيك” مجموعة من الأمثلة عن تلك التّطبيقات ومنها تطبيق(FotoForensics)، وهي تطبيقات تعمل على كشف زيف الصور المعدّلة عبر الفوتوشوب (تيمورخان، 8 تموز 2021، المقطع 2). وانطلاقًا من حرصها على المصداقيّة والحرفيّة، تهتم بعض وكالات الأنباء والمواقع الإخباريّة العالميّة بعمليّة التّحقق من الصور والفيديوات قبل نشرها، لذلك تعتمد على تعريف العاملين لديها على أبرز تلك الأدوات والتّقنيات، وعلى سبيل المثال تقدّم الاختصاصيّة في موقع مونتي كارلو الدوليّة “نايلة الصليبي” بعض النّصائح للكشف عن صدقية الفيديو وهي تميّز بين مستويين، الأول الفيديوات المنتجة بتقنية Cheap Fakes -أيّ التّزييف الرّخيص- والتي يسهل كشفها من خلال استخدام أدوات وتطبيقات كشف الصور المزيفة، والثاني مستوى التّزييف العميق الذي يمكن له التّلاعب بالإدراك البشري، وتنصح المشاهد أن يراقب فيه رفّة العين، حركة الأنف والأذنين والشّفاه، وحتّى الظلال واختلاف لون البشرة بين الوجه واليدين، وهذا يعني عمليًّا أن اكتشاف التزييف وفق هذه الآليّة يشبه عمليّة النّقد الظاهري (المشار إليها سابقًا)، وهو ليس بالعمليّة اليسيرة خاصة أن تلك البرامج آخذة في التطور ما قد يمكّنها من التقليد شبه التام لحركات الإنسان (الصليبي، 23/1/2023).
كما ينصح “نبيل الجبوري” في مقاله حول خطوات تفادي التزييف العميق -المنشور على شبكة الصحفيين الدّوليين- باتباع مجموعة من الخطوات ومنها:
“أ-لا تصدق بشكل مطلق بل دقّق ولا تجعل نفسك مجرد متلقٍ لا يميّز بين الحقيقة والخيال. تحقق من مصدر المحتوى وطبيعة الموقع النّاشر له وبالطبع هناك مواقع غير موثوقة.
ب-قارن المحتوى مع مصادر أخرى متاحة ومؤكدة.
ج-عليك التأني …ولا تأخذ الأمور بما هي عليه وتكون فريسة الاحتيال والتّزييف.
د-قارن بين حركة الشّفاه وشاهد مقاطع الفيديو بمعدل مشهد لاكتشاف التناقضات التي وقعت عبر تقنية التزييف العميق.
هـ-دقق وتمعن جيدًا في عناصر الصورة أو الفيديو مثل الصوت وطبيعة المكان، ونوعيّة الملابس والوقت والبيئة المناخيّة الظاهرة في الصورة أو الفيديو وما إلى ذلك.
و-تفحص اسم الناشر والصفحة التي تبنت الموضوع، وما مدى مصداقيتها وهل للناشر نشاط على صفحات التواصل؟ وهل هو مختص بمثل هذه الأخبار؟ وما هي طبيعة نشاطه وعمله”(الجبوري، 6 أيلول 2023).
أما بخصوص الصور فيعدّد “الجبوري” بعض التّطبيقات والمواقع التي تساعد على كشف التزييف فيها ومنها موقع Image Edited، وموقع Euronews، وغيرها، وبخصوص الكشّف عن الفيديوهات ينصح باعتماد نظام يسمّى Reality Defender الذي يعدُّ امتدادًا لمتصفح كروم، وكذلك نظام FakeNetAl.
ويشير إلى الخطوة الأبرز في مجال العمل على كشف التزييف والتي قامت بها شركة مايكروسوفت، من خلال إطلاق تقنية Microsoft Video Authenticator، وذلك بالإضافة إلى ما كانت تقوم به من تدريب حول التزييف العميق وكيفية التعامل معه (الجبوري، 6 أيلول 2023).
يستنتج من خلال ما سبق أنّ العلوم والتّقنيات الحديثة قدّمت إسهامات كبيرة للباحثين، والمحققين الجادّين والمنصفين خلال عملهم في تحقيق الوثائق، لكنّها في الوقت عينه أتاحت للمزوّرين، والمزيّفين الاستفادة منها لإنتاج مواد على أنّها وثائق تاريخيّة قديمة أو حديثة، وبأنواعها المختلفة وبحرفيّة عالية جعلت من عملية كشف صدقيتهاعمليّة صعبة، ومعقّدة وتحتاج إلى الكثير من الجهد والتضافر بين أصحاب اختصاصات مختلفة.
خاتمة: لمّا كانت قناعات ومواقف الناس تبنى عادة على أساس ما يتلقّونه، ويصدقونه من أخبار وروايات والتي عادةً ما ينتج عنها أعمال وتصرفات لا يقتصر تأثيرها على القائمين بها، نجد أن مسؤولية التحقّق من مصداقية تلك الأخبار والروايات تعدُّ واجبًا – وإن بدرجات متفاوتة -على:
– الباحث والمؤرّخ الذي عليه اعتماد الخطوات العلميّة، والمنّهجية خلال بحثه للتأكد من مصادر رواياته وأخباره أي مستنداته ووثائقه، لأنها تؤدي دورًا حاسمًا في النتائج التي يفترض أن يتوصّل إليها.
– الناشر الذي يستطيع من خلال وسيلة النشر التي يمتلكها أن يصل إلى جمهور من القراء أو المشاهدين، وأن يؤثّر من خلال منشوراته على قناعاتهم ومواقفهم وتصرفاتهم.
– المتلقّي أي كل إنسان يسمع خبرًا أو رواية ذات أثر في بناء وعيه أو مواقفه.
وهنا تظهر أهمية الوثائق التي يفترض أن تدعّم مصداقيّة الخبر أو الرواية، إذ لا يمكن تصديق خبر أو رواية من دون دليل بيّن، وحتى في النّصوص الدّينيّة جاء تأكيد وجوب التبيُّن، وقد ورد في القرآن الكريم في الآية السادسة من سورة الحجرات ﴿…إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيّنوا…﴾.
وتظهر أيضًا أهمية التمكّن من تقنيات وأساليب النقد، والتحقيق التي تساعد الباحث على التحقق من مصداقية الوثائق وصحتها، خصوصًا بعد التضخم الكبير في أنواع وأحجام الوثائق، وبعد التقدّم الكبير الذي حققته العلوم والتّقنيات الحديثة التي يمكن لها أن تسهم بشكل كبير في عملية التحقّق والتي يجب على كل منّا أن يمتلك القدرة على اعتمادها، ولو بالحدّ الأدنى تجنّبًا للوقوع في فخّ المضلِّلين والمزيّفين.
لكن هذا التّقدم التقني والعلمي فتح الباب أمام خطر التّزوير، والتّزييف إلى حدّ جعل حتّى الباحث المتخصّص يجد صعوبة في التثبت من صحة بعض الوثائق، وقد أثبتت التّجارب مدى قدرة هؤلاء المزيّفين ومستوى مهاراتهم، أكان ذلك على صعيد تزييف وثائق قديمة كالنّقوش أو حديثة كالفيديوهات والصور، وهذا ما يستدعي العمل من خلال أسلوب يتحقّق فيه التّعاون والتّكامل بين فرق بحثية من المتخصّصين، أي أنّه كلما ازدادت عمليّة التّحقق صعوبة، وكلما كان موضوع الوثيقة حسّاسًا وخطيرًا ومؤثرًا على مصائر الشّعوب ، كلما استدعى الأمر التّعاون بين فرق بحثية متخصّصة بالاختصاصات العلميّة المناسبة، ومستقلة بقرارها وبعيدة من الأهواء، لأنّ تبعيتها لجهة معينة سيجعلها موظفة عند تلك الجهة وستتأثر برأي تلك الجهة الرّاعية.
كما أن النتائج المتوقعة لاعتماد الخطوات العلميّة في سياق عملية التحقق من صحة الوثائق، تعتمد بنسبة كبيرة على شخصية الباحث نفسه ومهاراته وفطنته، ذلك أنّها لا تتطابق مع نموذج العمل داخل المختبر بقدر ما تشبه نموذج عمل المحقّق، فكلما كانت التساؤلات التي يطرحها خلال نقده للوثيقة دقيقة وذكيّة ومتّسقة، كلما ارتفعت معدلات نجاحه في كشف مستوى مصداقيتها، لكنّ ذلك لا يعني أن النتائج التي يتوصّل إليها الباحث الخبير تكون دائمًا مضمونة بالكامل.
المصادر والمراجع
–الكتب والأبحاث العربية:
1-أنيس، إبراهيم وآخرون(1960)، المعجم الوسيط، مصر: مكتبة الشروق الدولية.
2-ابن أبي حاتم(1952)، مقدمة الجرح والتعديل، تحقيق المعلمي اليمني، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
3-ابن خلدون،عبد الرحمن(1962). المقدّمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، القاهرة: دار الشعب.
4-الجمل، شوقي(2000). علم التّاريخ نشأته وتطوره ووصفه بين العلوم الأخرى ومناهج البحث فيه، القاهرة: المكتب المصري للمطبوعات.
5-الحسناوي، عبد الرحيم(2019). “حفريات في مفهوم الوثيقة التّاريخيّة، مقاربات وتصورات”. بحث منشور في المجلة العربية (العدد 508)، الرياض: دار المجلة العربية للنشر، الرياض، ص 48.
6-حسين، محمد أحمد(1954). الوثائق التّاريخيّة، القاهرة: مطبعة جامعة القاهرة.
7-رستم، أسد (2015). مصطلح التّاريخ (ط 1). مصر: مركز تراث للبحوث والدراسات.
8-سخنيني، عصام(2003). “نقش الملك التوراتي يهوآش نموذج لتزوير التّاريخ الفلسطيني”، مجلة البصائر(العدد 2). الأردن: جامعة البترا، صفحات متعدّدة.
9-الشامي، فاطمة قدورة(2001)، علم التّاريخ: تطور مناهج الفكر وكتابة البحث العلمي من أقدم العصور إلى القرن العشرين، بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر.
10-طحطح، خالد(2012). الكتابة التّاريخيّة، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر.
11-طه، هند(1991). النظرية النقدية عند العرب، العراق: دار الرشيد.
12-عثمان، حسن(1980). منهج البحث التّاريخي، القاهرة: دار المعارف.
13-العروي،عبدالله(2005). مفهوم التّاريخ: الألفاظ والمذاهب، المفاهيم والأصول، ج1.الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
14-مؤنس، حسين(1984). التّاريخ والمؤرخون، القاهرة: دار المعارف. ، ص 53.
– الكتب الأجنبية
15-Garbini, Giovani(1994). the Aramaic Inscription from Tel Dan, translated by Ian Hutchsson,www.geocities.com. P.461-471.
16-Le Pellec,Jacqueline et autre(1998). construire L’histoire,collection didactique, Bertrad-lacoste,p.37-38.
المراجع المترجمة
17-ريكور، بول(2009). الذاكرة التّاريخ النسيان، تر. جورج زيناتي. بيروت: دار الكتاب الجديد.
18-شارل، لانجوا و سنيوبوس(1981). المدخل إلى الدراسات التّاريخيّة، ضمن كتاب النقد التّاريخي(ط4). تر.عبد الرحمن البدوي، الكويت: وكالة المطبوعات.
19-لوغوف، جاك،(2007). التّاريخ الجديد، ترجمة وتقديم محمد الطاهر. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
20-هيرنشو، فوسي(1944). علم التّاريخ، تر. عبد الحميد العبادي. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر.
محتويات مواقع انترنت (مقالات)
21-تيمورخان، نازك(8تموز 2021).”الصور الإلكترونية في كل مكان، مواقع إلكترونية تسمح لك باكتشاف الصور المزيفة والتحقق منها”، مقال منشور على موقع أراجيك الإلكتروني، تم الاسترجاع بتاريخ 2/10/2023 عبر الرابط https://www.arageek.com/tech/.
22-الجبوري، نبيل(6/9/2023). “خطوات لتفادي التزييف العميق وأدوات لكشف التلاعب بالصور والفيديوهات”، مقال منشور على موقع شبكة الصحفيين الدوليين (ijnet)، تم الاسترجاع بتاريخ 29/9/2023 من خلال الرابط https://ijnet.org/ar/story .
23-الصليبي، نايلة(23/1/2023). ” كيف يمكن كشف فيديوهات الDeepFake والصور المفبركة”، مقال منشورعلى موقع مونتي كارلو الدولية، تم الاسترجاع بتاريخ 29/9/2023 عبر الرابط www.mc-doualiya.com/chronicles/.
24-فجال، مها(19/9/2019). “تقنية الـ deep fake ..كيف ستدمر التقنية إمكان وجود الحقيقة”، مقال منشور على موقع الجزيرة الإلكتروني، مسترجع عن بتاريخ 10/1/2023، من خلال رابط https://www.aljazeera.net/midan/miscellaneous/technology/2019/9/19
مواقع إلكترونية
25-جامعة نيويورك – أبو ظبي، عن الموقع الإلكتروني: https://guides.nyu.edu/polisci/historical-documents
26-معجم المعاني الجامع، عن الموقع الإلكتروني www.almaany.com › dict › ar-ar ›
27-محمد، بدر (14/9/2023)، فيديو منشور على صفحة: بدر محمد، مقاولات وتشطيبات في العين،إمارة أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة ، على أنه لفيضان ليبيا،(الفيديو تمت مشاهدته بتاريخ 1/10/2023، عبر الرابط https://www.facebook.com/search/top?q=%D9%81%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D9%86%20%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7%202023
[1] – أستاذ مساعد في قسم التّاريخ-كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة -الجامعة اللبنانيّة.
Assistant professor-Department of History- Faculty of Letters and Human Sciences- Lebanese University- d.hus.a.h.bedran@gmail.com.