البعد التّركيبي في ديوان مجازفة العارف لمحمد يعقوب وأبعاده الدّلاليّة
The synthetic dimension in the collection of The Knowledgeable Risk by Muhammad Yaqoub and its semantic dimensions
- د. عيسى بن محمد بن عبدالله السليماني)[1](
Mr. Dr. Issa bin Muhammad bin Abdullah Al-Sulaimani
الملخص
الدّراسة النّحوية ليست دراسة شكليّة بحتة تُعنى بالجملة المجردة، بقدر ما هي دراسة لإمكانات التّوافق والإدماج بين الأدلة – العناصر المؤلفة للجملة، وذلك وفق السّمات المكونة لكل عنصر تحدد وظيفته ودوره داخل الجملة . ويُفسر ذلك أنّ التّركيب النّحوي يظل في حاجة إلى التوافق الدلالي بين مكوناته ، وبالمثل تصبح الدّلالة التّركيبية ناتجة عن التّركيب النّحوي .
وعليه، فإننا سنتناول في هذا البحث، ما تعكسه التّراكيب النّحوية من أبعاد دلاليّة على النّص الشّعري كالفصل والوصل، والخـبر والإنشاء”، وقد اخترنا من شعر محمد يعقوب في ديوانه ” مجازفة العارف ” ما يمثل هذه الظواهر التّركيبية . تأتي هذه الورقة لتقرأ شعرية محمد إبراهيم يعقوب في بعدها التّركيبي من خلال ديوانه” مجازفة العارف ” فالورقة توقفت في محورين: الأول : الاتصال والانفصال . الثاني : تبادل البنيات التأليفيّة .
الكلمات المفتاحية : الفصل – الوصل – البنية التأليفية – البنية التركيبية – التأويل – البؤرة المركزية – الشعرية .
Abstract
The grammatical study is not a purely formal study concerned with the abstract sentence, as much as it is a study of the possibilities of compatibility and integration between the evidence/elements that make up the sentence, according to the features that make up each element that determine its function and role within the sentence.
This is explained by the fact that the grammatical structure still requires semantic compatibility between its components, and similarly, the syntactic meaning becomes a result of the grammatical structure.
Accordingly, in this research, we will discuss the semantic dimensions that grammatical structures reflect on the poetic text, such as separation, connection, predicate, and construction. We have chosen from the poetry of Muhammad Yaqoub in his collection, “The Knowing’s Risk,” which represents these syntactic phenomena.
This paper comes to read the poetry of Muhammad Ibrahim Yacoub in its synthetic dimension through his collection “The Risk of the Knower.” The paper stops at two axes:
The first: connection and separation. Second: exchanging compositional structures.
Keywords: separation – connection – compositional structure – compositional structure – interpretation – central focus – poetic.
المقدّمة
الشّعر بناء لغوي كغيره من الأبنيّة، تقوم على أنظمته اللغويّة مجموعة من الجمل والتّراكيب المتتابعة والمترابطة، والمتمتعة بوحدة بنيويّة، ويشكّل ذلك التّرابط ما يُسمى بالنّص . وبذلك يجد النّص نفسه مشدودًا لسلطة البناء اللغوي، إلّا أنّه لا يلبث أن ينزاح التّركيب النّحوي من رعاية النّحاة واللغويين إلى البلاغيين. فإذا كانّ النّحاة واللغويون قد أقاموا مباحثهم على رعاية الأداء المثالي؛ فإنّ البلاغيين ساروا في اتجاه آخر إذ أقاموا مباحثهم على أساس انتهاك المثاليّة والعدول عنها في الأداء الفني، وتوليد وحدات لسانيّة ثانوية هي الصور البلاغيّة )[2](، لكن ذلك لا يعني إنكار البلاغة لتلك المثاليّة التي حددها النّحاة واللغويون بل إن ذلك يؤكد إدراكهم لتحقيقه، وقد جعلوه الخلفيّة الوهميّة وراء الصياغة الفنيّة التي يمكن أن يقيموا عليها عمليّة العدول في الصياغة، كما أنّ هذه العملية عمليّة توليديّة، إذ النّحو ولَّد نحوًا ثانيًا يساوي اللغة البلاغيّة. وعليه فالترابط قائم بين البلاغة والنحو – ومن ثم- فدراسة الأدب مرتبطة ارتباطًا وثيقًا باللغة، إذ إنّ هذه الدّراسة اللغويّة إذا بلغت نضجها، عطفت على الأدب وما يستحدثه في مجال الأساليب.
والدّراسة النّحوية ليست دراسة شكليّة بحتة تُعنى بالجملة المجردة، بقدر ما هي دراسة لإمكانات التّوافق والإدماج بين الأدلة – العناصر المؤلفة للجملة، وذلك وفق السّمات المكونة لكل عنصر تحدد وظيفته ودوره داخل الجملة. ويُفسر ذلك أنّ التّركيب النّحوي يظل في حاجة إلى التوافق الدّلالي بين مكوناته، وبالمثل تصبح الدّلالة التّركيبية ناتجة عن التّركيب النّحوي، “إن المجازات والصور النّحويّة الرائعة تُعوضُ بالفعل الفقر الموجود في المجازات المعجميّة “([3]) من ذلك تظهر أهمية البناء النّحوي للنّص المتمثلة في الكشف عن العلاقات القائمة بين الأدلة المتتابعة، إلّا أنّ لغة النص تظل في حاجة إلى إضاءات تتجاوز الوحدة التّركيبية الصغرى ( الجملة ) .
من هنا ظهر ما يُسمى ( بنحو النّص ) الذي يتناول النص كظواهر تركيبيّة متعددة، تقع خارج إطار الجملة المفردة . أيّ وحدة كلية مترابطة الأجزاء، تكتسب دلالاتها في إطار الوحدة الكليّة للنص. ومعنى ذلك ” أنّ النّظام الدّلالي للجملة هو الذي يشكِّل المظهر الجديد؛ بأن يعكس المحتوى العميق لهذه الجملة أو جوهرها. وذلك لأنّ تركيبًا لغويًا ما، ذا معنى محدد ، واضح أو غامض، إنما هو حدث تُؤدي فيه العناصر اللغويّة التي تعكسه أدوارها المرسومة بحسب وظيفة كُلِّ عنصر وموقعه داخل الجملة. بل الأمر لا يقف عند هذا الحدّ؛ وإنّما يمتد ليشمل البنيّة الدّلاليّة للخطاب برمته”([4]).
وعليه، فإننا سنتناول في هذا البحث، ما تعكسه التّراكيب النّحويّة من أبعاد دلاليّة على النّص الشّعري كالفصل والوصل، والخـبر والإنشاء”، وقد اخترنا من شعر محمد يعقوب في ديوانه ” مجازفة العارف ” ما يمثل هذه الظواهر التّركيبية.
وتبرز أهمية البحث؛ كون هذا الديوان لم يدرس من هذا الجانب وفي الوقت نفسه هذا يحقق ثروة في تحليل الخطاب، والهدف من ذلك إثراء المتلقين بمثل هذه النماذج التّحليليّة، علّها تسعفهم في فهم النّص، والمنهج الذي سلكه هذا العمل هو المنهج التّحليلي الوصفي المعتمد على أبعاد النّص ببعده السّيميائي والتأولي. ونحن في انتظار أن يحيب هذا البحث على الأسئلة الآتية:
مدى الترابط بين أبعاد النص من خلال دراسة بنية الفصل والوصل والخبر والإنشاء، والبعد الدلالي الذي يصنعه ذلك الترابط .
المبحث الأول : الفصل والوصل:
الفصل والوصل لغة تركيبيّة صنعت بعدًا توتريًا من خلال الاتصال والانقطاع اللذين يحدثان على مستوى النّسج الصوتي، والتّركيبي، ذلك الفعل يؤثر على مستوى الدّلالة، فيحدث اضطرابًا على مستوى البناء، والبلاغة التي جددها عبد القاهر وغيره ممن مارسوا تجليّات هذا البناء أكدت البعد التّركيبي الذي بدوره يؤسس الدّلالة النّصية من جراء ذلك الاتصال وعدمه، فالقارئ الناقد في لغة الوصل، يبصر ذلك الحدث من خلال الروابط التي غالبًا ما تكون ظاهرة العيان؛ كالروابط اللفظيّة ، إلّا أنّ روابط أخرى تتجلى من لغة الإيحاء والرمز والتكرار، فتحدث ترابطًا ربما أقوى من الرّابط الظاهر .
إنّ الفصل والوصل بناءان أكّدتهما البلاغة العربية، إذ عرَّفت الوصل أنّه: عطف الجملة على الجملة بالواو من دون غيره قياسًا إلى عطف المفرد على المفرد، لإشراكٍ في حكم أو معنى. والإشراك يُعنى به تصوُّر معنى بين أمرين. وذلك كأن يقع الطرفان في حكم ٍ إعرابيٍ واحد مثل: جاءني سالم ومحمد” فالواو أشركت محمدًا في المجيء الذي أثبت لسالم. فعطف على الفاعليّة؛ أو كأن يكون الطرفان كالنّظيرين والشّريكين، بحيث إذا عرف السّامع حال الأول عناه أن يعرف حال الثاني مثل: زيد قائم وعمرو قاعد. فالجمع معناه هنا أنّ معرفة حالة زيد استدعت معرفة حالة عمرو.
وكذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشّبيه والنّظير أو النّقيض للخبر عن الأول ؟ فلو قلت: زيد طويل القامة وعمرو شاعر. كان خلفًا لأنّه لا مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشّعر، وإنّما الواجب أن يُقال: زيد كاتب وعمرو شاعر، وزيد طويل القامة وعمرو قصير. وجملة الأمر أنّها لا تجيء حتى يكون المعنى في هذه الجملة لفقا لمعنى في الأخرى ومضافًا له .
وأعلم أنّه إذا كان المخبرَ عنه في الجملتين واحدًا كقولنّا: هو يقول ويفعل ويضر وينفع ويسيىء. وأشباه ذلك أراد معنى الجمع في الواو قوة وظهورًا. أمّا إذا قلت: يضر ينفع من غير واو لم يجب ذلك بل قد يجوز أن يكون قولك (ينفع) رجوعًا عن قولك (يضر) وإبطالًا له([5]) .
الفصل في البلاغة العربية
إذا كانت البلاغة العربيّة قد اهتمت بارتباط الجمل بين بعضها البعض بالواو؛ فإنّها تأتي هنا لتؤكد العلاقة الخفيّة بين هذه الجملة المشكلة للخطاب من دون اتصال، وهو ما يُسمى الوصل بالقرآن وترك الواو العاطفة، وذلك ما أكده عبد القاهر في دلائله بقوله: ” واعلم أنّه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله ، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه ؛ وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد ، كذلك يكون في الجمل ما تتصل ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغني بربط معناها لها حرف عطف يربطها ما هو من الجمل … ﴿ ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾([6]) قوله ” لا ريب فيه :” بيان وتوكيد وتحقيق لقوله” ذلك الكتاب “وزيادة تثبيت له “([7]).
إنّ القراءة الأولية للفصل والوصل في البلاغة العربيّة، تساعدنا على تفكيكها إلى ثلاثة مصطلحات: الأول : الوصل. الثاني: كمال الاتصال. الثالث: كمال الانقطاع. ([8])
فالوصل- كما مرَّ بنا- إشراك الجملة إعرابًا ومعنى بواسطة الواو. أمّا كمال الاتصال: ما اتحدت فيه الجملتان في المعنى من دون الحاجة إلى رابط الواو. والثالث ما انفصلت فيه الجملتان انفصالًا تامًا في المعنى، واستغنتا بذلك عن رابط شكليّ.
إنّ التّقسيمة السابقة لأنواع الفصل والوصل، تراعي الترابط بين الوحدات الفكريّة، إذ لا يمكن وصل من دون ترابط على مستوى الوحدة الفكرية. والفصل عكس ذلك تمامًا ؛ ولا يعني ذلك إهمال البلاغة العربية الوجه الدلاليّ، إذ تصنيفها جاء شكليًّا من ارتباط الجملتين بالواو العاطفة على الرّغم من دراسته لجزئيات البعد الدّلالي بين الجملتين المنفصلتين أو المتصلتين. وقد أكد ذلك عبد القاهر الجرجاني حين عرَّف الفصل والوصل بقوله: “اعلم أن العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها “([9]).
وبعدًا من التّشعب، فإننا نقسم ذلك إلى نوعين:
الفصل الوصل
كمال الانقطاع
بالقرآن بالواو العاطفة
( كمال الاتصال ) ( الإشراك )
فالوصل والفصل يُعدَّان مظهرًا من مظاهر انسجام الخطاب. فالوصل سواء بالرابط أو من دون الرابط يحقق انسجامًا بين الجمل بسبب انسجامه الصرفيّ والوظيفي للكلمات الموصولة، المبنيّة على القاعدة النّحوية، ولا يعني ذلك بعده عن اللغة البلاغيّة، إذ الوصل المنطقي والانسجام الدّلالي يعمقان اللغة الشّعرية، بخلاف الفصل الذي يقف حدًا فاصلًا بين الجمل، فهو يقطع ذلك الانسجام والتّسلسل المنطقي المتعاقب بين الجمل والعبارات، ولكن لا يعني ذلك أنّه يفكّك النّص، بل هو أداة يعمل ضمن قانون الانزياح ونفيه.
إنّنا لا نفصل بين الوصل والفصل، ونعدُّ كلَّ واحدٍ مستقل بخطاب معين، بل هما يحققان الفاعليّة الشّعرية للنّصمع الإشارة بأن الفصل لا يمكن أن يحقق تلك الفاعليّة الشعريّة إلّا ضمن الوصل، بخلاف الوصل الذي ينسجم مع دلالته ووظيفته .
وعليه، قمنا باختيار نموذج شعر يمثل الاتصال والانفصال عند محمد إبراهيم يعقوب في قصيدته أسئلة الكتابة التي يقول فيها([10]):
الأرض أخطاء ابن آدام والكتابة والألم
والنّص يرفض فكرة روحيّة من غير فم
حِسّ التّشابه موجع والقوت خصم متّهم
تبقى الكثافة حرّة لكنّها بنت السّأم
للوقت أن يُعصى، المبادئ ما استحق ولم يقمِ
لم يبق فلك واضح والواقعي من اعتصم
والقابضين على المجاز يد، وقد تهوي القدم
هبة الكلام مشيئة كل بحصته التزم
تثق الحياة، ولم يخنها المتعبون ولم، ولم
كوميدياء سوداء، قهقة لليل لم ينم
كم حائط من فرط حكمته تخلّى وانهدم
إذ، لا حياة سوى الحياة، ولا غنائم تقتسم
الحزن أجمل ما نلوذ به، إذا القلب انهزم
إنّ الرّسائل لم تعد، لكنها لم تستلم
والحب، لله السّرائر من تعلق لم يلم
حدس القصائد لا يموت، لأنّ في الكلمات دم
نصف التّساؤل ما نريد، وما أراد الله تمّ
هل نحن إلّا ما تبقى من وجود في العدم
نأي يفكر في الغصون ولا يكف عن الندم
1 – اخترت هذه القصيدة من ديوان مجازفة العارف، لنتمثل بها في دراسة لغة الفصل والوصل عن الشّاعر محمد يعقوب، واخترتها؛ لكونها وحدة متماسكة مضمونيًّا؛ ممثلة للوحدات المنسجمة.
2 – يتشكل المقطع السّابق من وحدات صوتيّة متتابعة تناسلت مع بعضها فشكلت صورة مكتملة، يظنها المتلقّي أنّها صور متقطعة، لكن واقعيًّا تمثل صورة واحدة ضمن ضور جزئيّة، نتبين ذلك من جراء الوقوف على آليات الرّبط بين تلك الوحدات.
3 – شكل النّص السّابق توترًا شعريًّا من جراء الاتصال والانفصال، فكوَّن:
أفكارًا متعددة، تنصهر جميعها في بؤرة مركزية هي: (الأرض)، ثم تناسلت منها متتاليات فكريّة ضمن نسيج دلالي واحد، تتعالق دلالاتها بفعل الروابط اللفظيّة وغيرها، هذا التّنوع والتّغاير في الرّابط بين المتتالية والأخرى ولد توترًا نصيًّا. وسنرى ذلك من خلال هذا التّحليل:
- جاءت قصيدة محمد يعقوب معبرة عن خلجات نفسيّة الباث، إذ استهلها بمركزية الصورة “الأرض أخطاء ابن آدم ” إذ محمور القصيدة ومتتالياتها الفكريّة تعود اتصالًا وانفصالًا إلى مركزيّة الصورة. عليه يسعى هذا التّحليل ليبين لنا مدى الاتصال المباشر وغير المباشر.
- الصورة الأولى: “الأرض أخطاء ابن آدم، والكتابة والألم” . تكوّنت الصورة من جملتين اسميتين، حقق لغة الترابط بينهما الاتصال المباشر “الواو” هذا الاتصال الظاهري يستبطنه ترابط دلالي، فالبعد المفهومي يشير عبر الانزياحات بأنّ الأرض هي موطن الصّراع، وهو ما عبرت عنه اللغة المفهوميّة في قوله “والكتابة والألم” واللغة التّواصليّة العاديّة لا تحيلنا إلّا إلى ربط لفظي بينهما، لكن ذلك الرّبط اللفظي والإيحائي يحيلنا بأنّ الشّاعر استدعى الماضي من خلال قصة سيدنا آدام ونزوله من الجنة بسبب الغواية التي وقع فيها جراء اتباع ما وسوس به الشيطان، وهذا ما جعله ينزل من مقام الجنة إلى أرض الدّنيا، هذا الاستدعاء هو الذي استثمره الشّاعر في بناء نصه القائم على كون الأرض منبع الصراع وارتكاب الأخطاء للذين لم يتنبهوا لأنفسهم ولم يخططوا لحياة بعيدة من الألم .
- الصورة الثانية ” والنّص يرفض فكرة روحيّة من غير فم “جاءت الصورة الثانية منقطعة لفظيًّا عن الصورة الأولى، لكن القارئ الناقد يقرؤها قراءة أخرى. إذ الصورة الثانية عنده ذات ارتباط وثيق بالصورة الأولى، والاتصال حال بشكل مفهومي إيحائي، فمكتنزات الصورة الثانية محققة لغة الاتصال مع الصورة السّابقة؛ كونها جاءت مفسرة لواقعيّة الحدث. فالكتابة والتّعبير عن الصراع الأرضي يعيش داخل الضمير في ذاتية هذا الإنسان، والبوح به متحقق بالنّطق “الفمّ” .
- الصورة الثالثة “حسن التشابه موجع، والقوت خصم متهم” الاعتراض الدّلالي قد يكون له مسوغ عند البلاغيين والنقاد؛ خاصة إذا حقق بعدًا جديدًا في تجليّة الصورة القاتمة، وهذا ما صنعته الجملة الاعتراضيّة، إذ كتمان الصّراع الدّاخلي في خضم الضمير وعدم بثه يصنع اضطرابًا داخليًّا، فالبقاء يتطلب التّصريح، وهنا فرضت واقعيّة الحال الخروج من دائرة التّكثيف الدّاخلي إلى حيز الإبانة. لنر ذلك جليًّا في قوله :
- الصورة الرّابعة : ” تبقى الكثافة مرة، لكنها بنت السأم. الضمير العائد من الفعل ” تبقى” حقق اتصالًا بالدّائرة السّابقة، ذلك الاتصال كشف حيثيات تلك الحياة الدّاخليّة في ذاتية الإنسان التي تسعى للحريّة التّعبيريّة كما تشاء، لكن في المقابل عدم الكشف عن الأنا الدّاخليّة يبقي تلبدًا من الحياة “السّأم” وهذا ما ستخبر به الجمل القادمة .
- الصورة الخامسة: ” للوقت أن يعصى ، المبادئ ما استحق ولم يقم “أرى لغة الشاعر مضطربة بفعل الجملة الإسميّة التي قدم فيها شيه الجملة ” للوقت ” وتأخر المبتدأ من المصدر المؤول ” أن يعصى ، هل هذه العبارة حققت لغة تواصليّة عبر لغة الإيحاء العائدة إلى ” تبقى الكثافة حرة ” أم انفصلت، لكن ما يتبادر إلى المتلقي أنّ الانقطاع الكامل غير متحقق، نعم حدث انقطاع لفظي وشبه مفهومي، إلا أنّ اللغة التّواصليّة بمكتنزات النّص مترابطة وغير منقطعة، والسّياق ما برر ذلك ، فيمكن للزّمن أن يخالف ” أن يعصى ” ويخالف بالتّصريح ” وتبقى ” المبادئ حرة ” قضيّة جوهريّة طرحتها مكتنزات هذه الصورة، لماذا الكتمان والعيش في صراع نفسي؛ لعدم الإباحة، ما دامت المبادئ غاية في تحقيق البعد الجميل لهذه الذاتيّة، وعدم العصيان والإيذاء. هذا ما حققته هذه الصورة التي بحقّ تعدّ جملة تفسيريّة للصورة السابقة، ومن هنا يمكننا القول إنّ الانقطاع المفهومي غير متحقق، بل الاتصال المفهومي هو المتحقق .
- الصورة السّادسة : ” لم يبق فلك واضح، والواقعي من اعتصم ” الصورة هذه تُعدّ نموًا للصورة السابقة، وهذا يحقق بعدًا تواصليًّا بينهما، صيغت العبارة بأسلوب النّفي ” لم يبق فلك واضح ” وهنا تعتيم وضبابيّة الصورة، ولكن ما نبحث عنه لغة الوصل بين هذا السّياق وما سبقه، والمدّقق لصياغة المفردة توحي بما سبقها من سياقات، وأقرب مذكور” للوقت أن يعصى، المبادئ ما استحق، ولم يقم” فإذا كانت المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها المجتمعات رميت جانبًا، ولم تجد نصيبًا من يحققها، فهذا ضباب، وعدم جلاء في تحقيق خلافة الإنسان في الأرض. عليه جاءت سياقيّة الصورة أنّ المسيرة الإنسانيّة مجهولة تسير بغير هدى، وتتبقى النّفوس الثّابتة المعتصمة بالحبل القوي والتي لا تتأثر بمكبات الرّياح وحوادث الأيام “والواقعي من اعتصم .
- الصورة السّابعة: ” والقابضين على المجاز يدّ، وقد تهوي القدم “صورة تؤكد الصورة السّابقة تمامًا، فلغة الوصل قوية بينهما، إذ المتمسك بالمبادئ واقعًا وحقيقة في هذا العصر ضرب من الخيال، لأن غالبيّة المحيط انفرط من تلك القيم وخرج عنها. والصورة جاءت من طرفين الطرف الأول “القابضين على المجاز يد” والثانية وقد تهوي القدم “وكلها دلالات توحي بالتّزعزع ، إذًا؛ النّص يملك قوة ترابطيّة في البعد السياقي الإيحائي، ولو تبدى للمتلقي انقاطعًا مفهوميًّا، فهي مكتنزات مترابطة تؤكد صورة التقهقر أمام الزّواعج والمغيرات، وحتى المتمسك تسقط قدمه وتنهار .
- الصورة الثّامنة : ” هبة الكلام مشيئة، كلّ بحصته التزم “جملة من المسند والمسند إليه، ثابتة توحي باستمرارية هذه الفكرة، فحوادث الدّهر وما يصيب الإنسان من تزعزع ما هو إلا مشيئة الرحمن، وارتباط هبة الكلام مشيئة، التّصريح الذي خرج هو واقع، حتى ولو حاول صاحبه التّنصل سيخرج، وكل واحد ملتزم بعمله. هذا العبارة أحدثت شرخًا بينها وبين السّياق المتواصل، وربما هو من باب الاعتراض النّحوي والدّلالي الذي غايته التّفسير لبعض القضايا الغامضة في ما طرح من صور سبقت هذه الصورة ، وهذا الاعتراض لا يمكننا عزله عن سياق النّص ؛ كونه جاء مفسرًا، فهو مرتبط بالسّياق المفهومي وخرج فقط عن السّياق التّواصلي اللفظي. هذه الصورة مهدت للصورة الآتية التي تقول : الصورة التّاسعة ” تثق الحياة، ولم يخنها المتعبون ، ولم .. ولم ” الحياة في بعد الباث، كينونة قويّة في ذاتية محبها، والمتفاني من أجلها، فهي لأهلها، ولذلك عبر بقوله ” ولم يخنها المتعبون وأكد ذلك بأسلوب النفي لم ولم ، وهذه صورة امتداديّة لصور سابقة كان الرابط بينهم الدّلالة المفهوميّة، فالقابض على حياة متعب ويعيش في وهم ، وغيرها من الصور السّابقة التي أفادت أنّ الحياة مجرد مجاز ومتى ما أرادت أن تهوي بك أسقطتك. وقد وفق الشّعراء في قوله: ولم يخنها المتعبون ولم ولم . فتّعبيره ” المتعبون ” أنّهم التزموا بالحياة ولم يخرجوا عن أوامرها قيد أنملة، همّ من أصيبوا بالوهم والطمأنينة الزائفة، وقد تلقي بهم الأيام يومًا بظلالها السّوداء، وهذا ما ساقته الصورة : العاشرة : “كوميدياء سوداء، قهقة، لليل لم ينم ” أليست هذه الصورة امتداد عكسي للصورة السّابقة التي أعطت طمأنينة وهميّة غير دائمة. وجواب لتلك الصورة، إذا الحياة مجرد كوميدياء، وضحك وسهر، ولكن لمن، لأولئك المتعبون في الفراغ الذي يعيشون من دون هدف، وإلّا الحياة يمكنها الجمع بين الرّفاهيّة والمتعة والقيام بالواجب، ولكن التشاؤم الذي طغى على الصورة يفسر ذاتيّة الشّاعر المضطربة من الحياة، وسط من يعيش وسطهم همهم الاستمتاع من دون القيام بأهداف عالية سامية، هي ما جعلت مفرادته قاتمة سوداء. إذًا؛ الصورة هذه جلت لنا البعد التشاؤمي الذي يعيشه الباث، والاضطراب في حياته بين مد وجزر، وربما هي صورة المجتمع الذي ينقم عليه ذلك، والذي يحيط به. والأدلّ على استمرارية الوصل وعدم الانقطاع الدّلالي بين مكتنزات النص قوله : ” في الصورة الحاديّة عشرة ” كم حائط من فرط حكمته تخلى وانهدم “هذه الصورة بأكملها اعتراض من قبيل التمثل، فهي على وصل بالصور السّابقة، فالحائط أصله الحماية والحراسة، لكن الباث ألبسه صورة عكسيّة وهو التخلي والسقوط، وهذا يعطي بعدًا آخر فالإنسان في هذه الحياة يجب عليه التّعامل مع مجريات الحياة بحكمة وعقل، وأن يكون بعيدًا من الاندفاعيّة والتّهور، وإلّا سقط في هوة سحيقة، وهو ما عبّر عنه بكم الخبريّة. ودلالة أخرى يكتنزها النّص، مفادها أنّ الإنسان معرض للانهيار مهما عمل من احتياطات، فالجدران على متانتها وقوتها تتساقط أمام السيل العالي، وهذه لغة سواداويّة تبنتها ذاتيّة الشّاعر المتعبة بحياة مثقلة بمجموعة من المعطيات التشاؤميّة. هل نحن أمام صورة انفصلت عن سياق النّص، أم أنّها تبدت واضحة موضحة سياقات سابقة، قد ساقها الشّاعر في مفردات نصه . والدّليل على كون الشّاعر يعيش هذا البعد الاضطرابي قوله في صوة الثانية عشر” إذ لاحياة سوى الحياة، ولا غنائم تقتسم “، فكأن لغة التسليم بالواقع هو منتهى ما وصلت إليه نفسية الباث، وقد عجزت عن الحلول والمحاولات كلها والهروب من الواقع، فإن الحياة إجبار للتّعايش معها، قاسية كانت، أو عكسها. وهو ما عبر عنه ولا غنائم تقتسم، لا فائدة منها والعيش عليها، ولكن القدر هو ما فرض علي العيش عليها، قمة التّشاؤم والضابيّة، رومانسيّة إبي القاسم الشّابي بدت متزاحمة معه في سياقات هذا النص، هروب من الحياة ولا هروب، قساوة واغتراب على مستوى الذات والأرض. هل سيستمر الوصل السّياقي على هذا الشّاكلة في تسطير صوره، لنر الصورة الثالثة عشر التي يقول فيها: ” الحزن أجمل ما نلوذ به، إذا القلب انهزم ” من يبحث عن اللغة التواصليّة بين مفردات النص، يقف هما ليرى كم من القوة الصوتيّة المرتبطة بالإيقاع الدّلالي المتصل بالدّلالة النّصية للصور السّابقة، فتعبيره في الصور السّابقة يشكل اضطراب وهروب من واقع المجتمع والحياة، ولكنّه أثبتها مستسلمًا بقوله: الحياة هي الحياة، وأثبتها هنا بجملة اسميّة “الحزن وأكّدها بالخير أجمل ما نلوذ به، والشّرط، إذا القلب انهزم” إذًا النص لم ينقطع عن سياقه ولو تبدى لفظيًّا بأنّه يعيش انفصالًا عند القراءة الأولى، وهكذا استمرت لغة الرّسائل الدّلاليّة بإيحاتها تجلي ذلك الغيم الذي حاول تضبيبه في سياقاته وصوره الأولى، فلم يعد قادرًا على الكتم وهو ما باحت به مفرداته النّصيّة، وكشفت البعد الذاتي الذي يعيشه هذا الشّاعر، فقوله في الصورة الرابعة عشر: “إن الرسائل لم تعد، لكنها لم تستلم” فالرسالة تعبير عن الإخبار، وهي وسيلة تبليغ . لقد أرسل الرسائل، وينتظر جوابها، هكذا هي لغة صاحب الأمل، أمل وانتظار، الجواب لم يأت، الرسائل لم تستلم، هل هذا الشاعر بذل جهدًا كبيرًا في إيصال رسائل عدة للمجتمع في صور إصلاحية وذاتية وأخلاقية، لكن للأسف المستقبل سلبي، هذه التّصرفات، أزعجت باث الرسائل، إذ لا مقدر لنداءه وصوته حول ماذا، لنر ماذا تحمل رسائله؟ تحمل أبعادًا كبيرة كشفتها مكتنزات الصور السّابقة، وهذا ما أكّد لغة الاتصال بين خلايا النص ومفرداته وأبعاده بكل مستوياتها .
- نقف الآن مع الصورة الخامسة عشر، هل ستنفصل عن السّياق السابق، أم ستحيلنا لبعد تصوري جديد، يجلي لنا شيئا آخر”والحب، لله السرائر، من تعلق، لم يلم “انظر إلى هذه الصورة التي تتجلى مفاصلها بلغة ضبابية، فصل مفردة الحب، وجاء بعبارة لله السرائر مستقلة، ثم جاء بلغة الشرط” من تعلق، لم يلم “وضعنا أمام صورة قاتمة، الحبّ، حب من؟ هل حب الحياة بكل مستوياتها، أم حب الذات، أم حب الله، وقد رمى الكرة في ذاتية المتلقي، أنّ ذلك الحب يعلمه خالق هذه الذوات إذ هو المطلع عليهم. والصورة في ظني تعطي انفصالًا في سياقها الأول، لكنها تتصل من بعيد بالصور السابقة، لكنها صورة جاءت عارضة ولا يمكن تبين اتصالها، إلّا بالصور التي سنرصدها في ما بعد.
- الصورة السّادسة عشر “حدس القصائد لا يموت؛ لأنّ في الكلمات دم ” البعد التواصلي بدا جليا هنا من جراء استخدام مفردة” حدس” فحدس تشير إلى تأكيد ما حدث بلغة قوية أفادت قراءة الحوادث قبل وقوعها من خلال اللغة السيميائيّة التي استخدمها الشاعر، وما قرأته الصور السّابق كان حتميًّا، والدليل ” لا يموت” فهو أمر واقع ، ثم جاء بعبارة ” لأن في الكلمات دم ” ومفردة الدّم غير مرغوبة في أصلها، وهل أفادت جديدًا في ربط الصورة، نعم أفادت، إذ الوقائع التي حدثت لا يمكن إغفالها، أو تناسيها، أو الانزياح عنها بمدول بدليل؛ كونها أثّرت في الذات، وقدحت في مستوى الحياة، هكذا هي الحياة التي عاشتها ذاتيّة الشّاعر مع محيطها.
وهنا يمكننا الإشارة بأنّ التّناسل الدلالي لمستويات بناء النص الاكتنازي تسير وفق تواصل غير مباشر مع الدلالة الكبرى لمستوى النص. والصورة التي سنطل عليها الآن ربما تعطي بعدًا تلاحميًّا مع مستوى البناء التّصوري الذي بدأت به القصيدة، وعكست ثيمة عنوان القصيدة ” أسئلة الكتابة ” فالصّورة السّابعة عشر تقول: ” نصف التّساؤل ما نريد، وما أراد الله تمّ ” الغالب نهاية النّص يفصح بجلاء عن مستوى الدّلالة النّصيّة بشكل مباشر أوغير مباشر، وهنا يجيب الشّاعر على طرحه وحواره الذي تبناه على مستوى القصيدة كل فالأَسئلة المطروحة في النّص جادت به الصّور التي وقفنا مع رؤيتها، لكن الشّاعر لم يقلّ كلّ التّساؤل تمّ، بل قال نصف التّساؤل ما نريد، وهذا معناه الإجابات التي خنقت ذاته تجلّت بجلاء كاملة، والدّليل قوله: ” وما أراد الله تمّ” وهنا وضحت العقيدة المستبطنة في ذاتية الشّاعر من إيمان بما يجري في هذا الكون من جراء مسيره ومصرفه، هو الله سبحانه خالق الكون. هذه الإشارة استسلام يقيني بما حدث، وليس للذات غلا التّسليم بما يجري ويحدث، هذه الصورة تكررت سلفًا، وكأنّها اجترار لصور سابقة، وقد أشار فيها وهي ” هبة الكلام مشيئة، لا حياة سوى الحياة، وما أراد الله تمّ” ، إذًا نقول إنّ الصورة عبر قنواتها التّواصليّة سواء أكانت تركيبة معتمدة على الرابط المباشر، أو غير مباشرة معتمدة على المستوى التّرابطي الإيحائي جلت البعد التّصوري للنص. ويختم الباث نصه بقوله في صورته قبل الأخيرة : “هل نحن إلّا ما تبقى من وجود في العدم” والصّورة الأخيرة: “نأيّ يفكر في الغصون ولا يكفّ عن النّدم” هكذا جاءت نهاية النّص، إذ عبارته تؤكد نهاية الإنسان، وعدم استمراريته في هذه الحياة “هل نحن ما تبقى من وجود في العدم” وهذه مسلمة لا نقاش فيها، والإيمان بها واجب يقيني، والمفلح من احتاط لحياته من مؤثرات تذهب به إلى انحراف يوقعه في هوة لا خروج منها، ويومها لا ينفع النّدم. وإنّ الصّورة على مستوى الحياة فصورته بها أمل” نأي يفكر في الغصون ولا يكفّ عن النّدم” وبها أمل متجلٍّ في ” غصون ” والنّدم لغته جميلة ترجع الذّات إلى حاضرها وتبعث فيها روح المستقل، وإن كانت الصورة بعد انتهاء كل شيء فلات ساعة مندم .
- هكذا وصلنا بعد التّحليل الممتع مع نص طرح أسئلة الحياة بلغة تفاوتت بين الجلاء والغموض، والذي سيطر على النّص الغموض، والسبب أنّ المتحدث هو الأنا الدّاخليّة وليس اللسان، وما اللسان إلّا مجلٍّ لبعض من خلجات ذات الشّاعر الغامضة، وقد تجلى بعدها في نهاية النّص. والنّص في صورته الكبرى يمثل وحدة كبرى عن ذات الإنسان التي تعيش حياة اضطراب وتذبذب؛ خاصة للمتعبين الذين يجرون وراء أهواءهم من دون غابة من تحقيق مستوى يرفع قيمة الحياة، فالحياة من دون هدف مجرد أنفاس مرت ثم انتهت، أمّا الأنفاس التي تعيش لذاتها وغيرها وربها فهي ذاتيّة في مستوى العلياء دنيا وأخرى. هل حقّق النّص لغة التواصل عبر تقاطعاته الصوتيّة، ومفرداته الدّلاليّة، وإجابة هذا السؤال قد بدت جراء قراءة النص، وما أحدثته المتتاليات النّصيّة بين الانقطاع اللفظي والترابط الدلالي.
المبحث الثاني: تبادل البنيات التّأليفيّة :
إنّ الخطاب في الجملة العربيّة يتألف من مستويين: إخباري وإنشائي ومن المستويين معًا تتفرع ألوان أخرى، وفق التّفاعل الشّعري الذي يكمن في طبيعة العلاقات اللغويّة على المستوى الخطابي ككل .
إنّ ذلك الخطاب يتشاكل ويتباين بين الخبر والإنشاء، ما يشكل توترًا شعريًّا خطيرًا. كما أنّه ولَّد انسجامًا داخليًّا من جهة العلاقات الخفيّة التي تنتظم النّص.
ومن أمثلة ذلك ما قاله محمد إبراهيم في ديوانه”مجازفة العارف([11]): في نصه المعنون “اعترافات لم تكن سرًا”
- فلتعترف، لن نترك الأخطاء؛ لكننا نتعلم الأسماء.
- الطين صاحبنا القديم من الذي نسي الكلام وقاوم الإغواء.
- العمر للطوفان … لم نركب معًا ، كل يجرب في الحقيقة ماء.
- هذا اليقين الدّاخلي تورط، من حقّنا أنّ نجرح الأنواء .
- من قال: تاريخ السؤال مكيدة، لم يستطع أن يدرك الأشياء.
- العبقرية أن نحاول مرة، في وسعنا أن لا نعيش هباء.
- نحن النّهايات التي لا تنتهي، سرّ التّعلق أن نعود ظماء.
- تبقى الغزالة حرة ما لم تخف، والحزن أجمل ما يكون غناء.
- أوهامنا قدسيّة، لم لا نكون كما نريد، ونرفض الإملاء.
- الذئب آخر من نلوم قميصنا، نحن اقترحنا دمعيته عشاء.
- تعب المرايا واضح، لا شأن للأيام قد تخفي الجراح بهاء.
- نمضي ولا أحد يفسر مابه، عرضا نسمي ما نخاف رجاء.
- نحن التردد والتناقض، لا نرى غير الحياة سعادة وشقاء.
- الحب فوضانا اللذيذة، من يذق يفنى، وأصدق ما نحب فناء.
- لم نكتمل إلا بموت واحد، كل الوصايا لن تقيم عزاء.
إنّنا أمام نص بنيت تراكيبه على لغتين تناوبتا بين الإنشاء والإخبار، وشكل ذلك التّخالف بين اللغتين بعدًا صوتيًّا تحول صداه إلى بعد دلالي، ففهم تلك المتواليات البنيويّة المتحولة لا يتأتى إلّا من خلال نص شعري متلاحم، وعليه تمثلنا بمقطوعة من قصيدة، مثلت فكرة متآزرة من أنواع الخطاب وبنياته التأليفيّة. والنّص الذي بين أيدينا يكشف آفاقًا تحويليّة في الخطاب، إذ يتحول من الإخبار إلى الخطاب ؛ كأدوار نَظمت نظمها النّسيج الفني للقصيدة .
فالنّص السّابق تكون من خمسة عشر سطرًا شعريًّا، تمثلت لغة الإنشاء الطلبي وغير الطلبي في ستة أسطر من مجموع خمسة عشر سطرًا ، ومواطنها من النص وهي :
- فلتعترف = أسلوب أمر .
- لن نترك الأخطاء = أسلوب نهي .
- من الذي نسي الكلام وقاوم الإغواء = أسلوب استفهام.
- لم نركب معًا = أسلوب النفي .
- من قال: تاريخ السؤال مكيدة = أسلوب استفهام
- لم يستطع أن يدرك الأشياء= أسلوب نفي.
- لم لا نكون كما نريد، ونرفض الإملاء = أسلوب استفهام.
- لم نكتمل إلا بموت واحد= أسلوب نفي.
- لن تقيم عزاء= أسلوب نهي.
إنّ حضور الأسلوب الخطابي دليل على الوظيفة الانفعاليّة التي حققها النّص، لاستخدام الشّاعر أساليب الأمر، والنّهي، والاستفهام؛ ما جعل النّص يتحولَّ إلى مقصديّة الخطاب الحواري، متبادلة بين الخبر والإنشاء؛ لتحقيق المقصديّة التي سعى إليها. إذًا؛ النّص يعيش شحنات صوتيّة مشحونة بالدّلالة الضمنيّة التي يكتنزها النص، وهي بارزة في بنية النص التّركيبية. لنبرز ذلك وفق خطاطة تبين لنا التبادل بين البنى النّصيّة الإنشائيّة والخبريّة :
فلتعترف —- لن نترك الأخطاء —- لكننا نتعلم الأسماء .
الطين صاحبنا القديم —– ———— من الذي نسي الكلام وقاوم الإغواء .
-العمر للطوفان لم نركب معًا ——— —-كل يجرب في الحقيقة ماء .
-هذا اليقين الداخلي تورط ———- —-من حقّنا أن نجرح الأنواء .
من قال: تاريخ السؤال مكيدة ———– لم يستطع أن يدرك الأشياء .
-العبقريّة أن نحاول مرة ————— في وسعنا أن لا نعيش هباء .
-نحن النّهايات التي لا تنتهي،————-سر التعلق أن نعود ظماء .
تبقى الغزالة حرة ما لم تخف————- والحزن أجمل ما يكون غناء.
-أوهامنا قدسيّة —————— لم لا نكون كما نريد، ونرفض الإملاء .
الذئب آخر من نلوم قميصنا———— نحن اقترحنا دمعيته عشاء .
تعب المرايا واضح—————— لا شأن للأيام قد تخفي الجراح بهاء .
-نمضي ولا أحد يفسر ما به عرضا ——— نسمي ما نخاف رجاء .
نحن التّردد والتّناقض —————– لا نرى غير الحياة سعادة وشقاء .
الحبّ فوضانا اللذيذة —————– من يذق يفنى، وأصدق ما نحب فناء .
لم نكتمل إلّا بموت واحد ————— كل الوصايا لن تقيم عزاء .
هذا التّبادل الإيقاعي والبنائي حقق لغة صوتيّة ارتبطت بلغة الدّلالة التي يسعى الشّاعر لتحقيقها ؛ وهو البعد الإنساني الذي يسعى أن يغرسه في ذاتية المتلقي، فعبارته الأولى ” فلتعترف” التي جاءت بلغة الأمر تحمل مضمونًا مبطنًا، جاء جوابه من جراء شحنة أخرى “لن نترك الأخطاء” وفي السياق نفسه استدرك بقوله ” لكننا نتعلم الأسماء” . وهنا نطرح سؤالًا، هل ذلك الأمر كان له أثر في الاعتراف ” لكننا نتعلم الأسماء”، وما هو صيغة الاضطراب الدّاخلي” لن نترك الأخطاء ” . إذا كانت الصورة الأولى وترت الموقف بضيغتها الطلبية، فإن الصيغة الإخباريّة الآتية ” الطين صاحبنا ……. . وضحت نوع الإخبار، أو لغة الجواب، حتى تكملة السطر جاء مجليًّا الجواب، لكنه بصيغة الاستفهام الإنكاري ” من الذي نسي الكلام وقاوم الإغواء ” وهذه اللغة الإنشائيّة التي جاء تحمل بعدًا إخباريًّا، كأنّه لا يوجد من ينكر ذلك الاعترافـ فالخلق من طين، والغاية من الخلق واضحة…… وهكذا . واستمرارًا للمتواليات الفكريّة يعيش النص صراعًا بين ذاتين تحاور بعضها الأخرى، ويظهر الانتصار أخيرًا للجملة الخبريّة التي تحمل كما هائلًا من الدلالات الاكتنازيّة عبر سيميائيتها وبعدها الإخباري، والّدليل تدفق الجمل الخبريّة جوابّا لذلك السؤال” فلتعترف” …. وهو ” العمر للطوفان ……. وحتى عبارة ” لم نركب معًا” الإنشائيّة جاءت في سياق الإخبار، والتّجلي واضح في السّطر نفسه ” كل يحرب في الحقيقة ماء “. إذ الحياة طوفان جارف لا يسلم منه إلا المتحصن. إنّ لغة التردد والاضطراب بادية على مستوى البناء النّصي سواء الإخباري أو الإنشائي ” هذا اليقين الدّاخلي تورط ” انظر الجملة الخبريّة المكونة من المسند والمسند إليه جاءت مسعفة العبارات السابقة فاستمرارية الجمل الخبرية في سياقاها السّابق . والجواب للعبارة بجملة خبريّة أخرى “من حقنا أن نجرح الأنواء. وعودة للغة التبادل البنائي بين الجملتين الخبر والإنشاء، مع استغراق للجمل الخبرية دلالة على تعميق البعد اللاكتنازي لمستويات الدّلالة النّصيّة، اقرأ ” من قال تاريخ السؤال مكيدة ……… والجواب ” لم يستطع أن يدرك الأشياء “وتكملة لذلك الطرح تأتي التالية الخبريّة الأخرى لتبرز شيئا آخر “نحن النهايات التي لا تنتهي …. و تبقى الغزالة حرة …… . ثم يذهب في تعبيره الخبري إلى بعد جديد “أوهامنا قدسية ” جملة اسمية لكنه نقضها بلغة الاستفهام المطبقة على الذات ” لم لا نكون كما نريد ونرفض الإملاء ” هل كل الإملاءات نحن ملزمين بها، أم هناك شيء من الحرية. وتتدفق الجمل الخبرية مجيبة للجمل الإنشائية ” الذئب آخر من نلوم …… . استدعاء الماضي، وربطه بالواقع، أهكذا نبقى،على الرغم من صيغة الجملة كونها خبرية، لكنها مشحونة بلغة الاستفهام ” الذئب آخر من نلوم …… . وهكذا تستمر الجمل الخبرية تبعثر أوراقها الدلالية بشيء من الجلاء ، تعب المرايا ….. واضح ، …. لا شأن للأيام …… قد تخفي الجراح ….. . واضح أمر ما جاءت به سياقات هذه الجمل الخيرية . وتستمر الجمل الخبرية بين العتاب والندم ، ” نمضي ….. ولا أحد يقسر ما به ……. عرضا نسمي ما نخاف رجاء، انقلاب في الذاتية، واضطراب في السلوك، فكيف الخوف يتحول إلى رجاء . الجمل الأخيرة التي ختم النص به عبارته ” نحن التردد والتناقض …لا نرى غير الحياة سعادة وشقاء . “الحب فوضانا اللذيذة ، من يذق يفنى، وأصدق ما نحب فناء . لم نكتمل إلا بموت واحد ، كل الوصايا لن تقيم عزاء .
خلاصة القول: جاءت العبارات الأخيرة مشبعة بوصف الواقع المرير التي اجتاح الشّعوب، وجعلها طعمة لأهوائها، واضطرابها ، وعدم تمييزها بين الجيد وضده، وما جاءت تلك الاستفزازت التي صنعتها الجملة الخطابية بتنوع أساليبها إلا استنفارا للذات، حتى تستقض وتعود لرشدها، وقد وفق الشّاعر في ذلك الاستخدام الأسلوبي الذي جاء ملبيا للمشاعر الذاتية التي تعيش هذا الواقع المجتمعي، ويمكن تصنيف هذا النوع من الشعر المنتمي للمدرسة الرومانسيّة خروجًا إلى الواقع والتعبير عنه بلغة مشاعريّة .
إنّ النّص الذي تمازج بين الخبر والإنشاء يبعث توترًا شعريًّا ، وحيوية لغوية قوية ؛ بينما النص الخالي من الأساليب الخطابيّة المميزة ، يكاد يضعف أسلوب الحوار فيه .
إن تبادل الأدوار بين الخطاب والأخبار داخل النص الشّعري، يمثل حيوية للنّص، ما يجعل المتلقي في تفاعل مستمر مع النص . وبذلك يكشف البعد التصوري الذي يريد تحقيقه من تلك المتواليات الفكرية.
الهوامش
[1] – البلاغة والأسلوبية”نحو نموذج سيميائي لتحليل النص – ( هزيش بليت ) – ترجم –تعليق – د / محمد العمري – أفريقيا الشرق – ب. ط – ت 1999م . ص 68 .
2 -” قضايا الشعرية ” – رومان باكبسون – ترجمة – محمد الولي ومبارك حنون – ط 1 – دار تويقال – المغرب – ت 1988 . . ص 57 .
3 – المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام ” – الدكتور / إدريس بلمليح – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط – ط 1 . ص 126 .
4 – يعقوب، إبراهيم محمد، مجازفة العارف ، دار تشكيل للنشر ، الرياض السعودية ، ط1 ، ت 1443 ه .
5 – دلائل الإعجاز . ص 171 – 173 .
6 – سورة البقرة، آية 1_2 .
7 – دلائل الإعجاز . ص 174 ، 175 .
8 – بناء القصيدة العربية في العصر المملوكي ” – رسالة دكتوراه دولة – ت – يوسف – اسماعيل – 1997 – ( مرقون ) – جامعة محمد الخامس – كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ص 153 .
9 – دلائل الإعجاز . ص 170 .
10 – يعقوب ، محمد إبراهيم ، مجازفة العارف ، تشكيل للنشر، ط 1، ت، 2022 ، ص 34 – 39 .
11 – ديوان مجازفة العارف مرجع سابق ص 190 – 194 .
المصادر والمراجع
1- البلاغة والأسلوبية “نحو نموذج سيميائي لتحليل النص –
( هزيش بليت ) – ترجم – تعليق – د / محمد العمري – أفريقيا الشرق – ب ط – ت 1999م .
2-بناء القصيدة العربية في العصر المملوكي ” – رسالة دكتوراه دولة – ت – يوسف – اسماعيل – 1997 – ( مرقون ) – جامعة محمد الخامس – كلية الآداب – والعلوم الإنسانية.
3-” الخطيئة والتكفير ” – من البنيوية إلى التشريحية – د / عبدالله محمد الفزاحي؟ – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ط – 4 – ت 1998 .
4-” دلائل الإعجاز ” – الإمام عبد القاهر الجرجاني – تعليق – السيد محمد رشيد رضا – دار المعرفة – بيروت لبنان – ت – 1981 – ب – ط .
5- ديوان الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي – جمع وتحقيق ، عادل المطاعني ط 1 – ت 203 –
6-” ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية – تكوينية ” – محمد بنيس– ط – 1985 . بيروت –7 الدار البيضاء .
8-” قضايا الشعرية ” – رومان جاكبسون – ترجمة – محمد الولي ومبارك حنون – ط 1 – دار توبقال – المغرب – ت 1988 .
9-” المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام ” – الدكتور / إدريس بلمليح – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط – ط – 1 ت – 1995 .
[1] – أستاذ النقد الأدبي الحديث بقسم اللغة العربية – كلية العلوم والآداب – جامعة نزوى – سلطنة عمان .
Professor of Modern Literary Criticism, Department of Arabic Language, College of Science and Arts, University of Nizwa, Sultanate of Oman.E-mail: issa.alsulaimani@unizwa.edu.om
[2] – البلاغة والأسلوبية”نحو نموذج سيميائي لتحليل النص – ( هزيش بليت ) – ترجم –تعليق – د .محمد العمري – أفريقيا الشرق – ب ط – ت 1999م . ص 68 .
[3] -” قضايا الشعرية ” – رومان باكبسون – ترجمة – محمد الولي ومبارك حنون – ط 1 – دار تويقال – المغرب – ت 1988. ص 57 .
[4] – المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام ” – الدكتور / إدريس بلمليح – كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة – الرباط – ط 1 . ص 126 .
[5] – دلائل الإعجاز . ص 171 – 173 .
[6] – سورة البقرة، آية 1_2 .
[7] – دلائل الإعجاز . ص 174 ، 175 .
[8] – بناء القصيدة العربية في العصر المملوكي ” – رسالة دكتوراه دولة – ت – يوسف – اسماعيل – 1997 – ( مرقون ) – جامعة محمد الخامس – كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ص 153 .
[9] – دلائل الإعجاز . ص 170 .
[10] – يعقوب ، محمد إبراهيم ، مجازفة العارف ، تشكيل للنشر، ط 1، ت، 2022 ، ص 34 – 39 .
[11] – ديوان مجازفة العارف مرجع سابق ص 190 – 194 .