التحرّش الجنسيّ والأجنحة المُتكسِّرة
(أطفالٌ ضحيّة التحرّش)
د.إلهام الحاج حسن*
– لِمَ طرح موضوع التحرّش الجنسيّ؟
سمر شابَّة في العشرين من عمرها، تعرَّضت للتحرّش الجنسيّ من قبل والدها وهي في الخامسة، واستمرَّ الأمر حتّى سنواتها العشر، تتحدَّث عن طفولة مهدورة ومُعذَّبة، وكيف كانت والدتها مُهمِلة، وغير مُتنبِّهة لمعاناتها، وكيف كانت تتعلَّق بقدمها كلَّما أرادت الخروج تاركةً إيَّاها مع والدها ليرعاها، وكيف كانت تنتظر تحت الشتاء، والبرد خارج المنزل عند عودتها من المدرسة حتّى تتأكّد من وجود أمّها في المنزل، وكيف كانت تخشى الليل، ويجافيها النَّوم خوفًا من دخول والدها غرفتها بحجَّة قراءة قصَّة لها، وكيف كانت تُشطِّب جسدها من دون أن تعرف أنَّ السَّبب هو الرَّغبة الدَّفينة اللاواعية بتحطيم هذا الجسد الذي تسبَّب لها بالآلام، والمذلَّة. وكثيرًا ما لامت أمَّها وعدّها إمَّا غبيَّة وإمَّا متواطئة، فهي تعرف ولا تريد الاعتراف بما تعرَّضت له. ومع ذلك تحمَّلت الأمر، وانطلقت في الحياة مكسورة النفس، ومصدومة بأقرب الناس الذي تسبَّب لها بجرح لا شفاء منه. إلى أن عادت ذات يومٍ إلى المنزل، ورأت أختها ذات الأعوام الأربع مضطربة، ومُشوَّشة، وزائغة النظر، وكانت وحدها مع والدها. تقول إنَّها لا تعرف ما الذي أصابها، عادت ذكريات الماضي الأليم التي حاولت نكرانها ونسيانها، ولم تجد نفسها إلا وهي تأخذ عصًا غليظة دخلت بها غرفته وضربته على رأسه وأوقعته أرضًا، وانهالت عليه بالضرب وهي تصرخ دون وعي حتّى غاب عن الوعي، وحملت أختها وهربت بها خارج المنزل.
لو توفَّر لهذه الشَّابة فُرصة للعلاج من صدمة التحرّش من مُعتدٍ يُفترض أن يحميها من الأذيَّة لما آلت إليه الحال حيث هي الآن. اليوم نرى الضحيّة تتحدَّث، وتكسر حاجز الصَّمت، إذ باتت تلقى آذانًا صاغية، ومُتعاطفة، وحامية، وهذا ما فعلته سمر وإن متأخّرة، إذ أنقذت أختها من مصير مشؤوم، وهذا كان جزء من شفائها، وقد تابعت العلاج وهي بخير حال.
الاعتراف بالجرائم الجنسيّة المرتكبة ضدّ الأطفال هو أمر حديث، وقد استغرق الأمر الكثير من العمل، والجهد، والنِّضال من قبل النفسانيّين، والأطباء، والقانونيّين لحثِّ المجتمع على الاستماع إلى الضحايا، والاهتمام بهم، وعدم إلقاء اللوم عليهم، وتدميرهم أكثر وأكثر، وذلك بعد لامبالاة طويلة تجاه التحرّش الجنسيّ. هو مقياس حقيقيّ للأخلاق المجتمعيّة، لطالما ظلَّ الصَّمت يسحق الضحايا، ويُفيد المعتدين، وكثيرًا ما أصمَّ هذا الصَّمت آذاننا نحن النفسانيّون في محاولاتنا ترميم هذه النفوس البريئة، والعطوبة التي تكسَّرت أجنحتها قبل أن تستطيع الطيران، والتي أُجهض مشروعها الوجوديّ قبل انطلاقته.
فإنّ الاعتداء الجنسيّ أمرٌ فظيعٌ دائمًا، أيًّا كان عمر الشخص المُعتدى عليه، ومن المثير للصَّدمة أن نتخيَّل البالغين في مواقع السلطة (أباء، معلّمون…) يقومون بأفعال مهينة، ومؤلمة على أطفال عاجزين، وغير قادرين على الدِّفاع عن أنفسهم. من هنا ضرورة طرح هذا الموضوع لعلَّه يساعد الصَّامتين على الكلام، والضَّحايا على الوشاية بالمُعتدي، والأهل على حماية أطفالهم وتوعيتهم.
– ما هو التحرّش الجنسيّ؟ التحرّش الجنسيّ هو الفعل الذي يُجبِر فيه الراشد الطفل لمشاركته بفعل جنسيّ لا يناسب عمره، إنَّه استغلال راشد قويّ لطفل عاجز. هو أيضًا كلُّ فعل يتضمَّن عرض صور جنسيّة على الطفل، أو أفلامًا، أو مواقع إباحيَّة، كذلك الأمر التعرِّي أمامه، أو تعريته، وملامسته وصولاً إلى الاغتصاب.
قد لا يفهم الطفل ما هو التحرّش الجنسيّ وهو ما يُصعِّب مقاربة الموضوع معه، لكن يجب تحيُّن الوقت المناسب لطرح الموضوع، وتشجيعه على حماية نفسه من دون إعطائه الشعور بأنَّ العالم مُخيف وخطير. التحرّش ليس دائمًا عملًا عنيفًا، لكن الوعود، والتهديدات دائمًا موجودة، وحفظ السِّر دائمًا مفروض.
– الإشكاليّة:
كلّ طفل، ذكرًا كان أم أُنثى وفي الأوساط الاجتماعيّة كلّها، قد يكون ضحيّة للتحرّش الجنسيّ، والمتحرّش قد يكون غريبًا، أو من معارف الطفل، وممَّن يُحبُّهم ويثق بهم (جار، صديق، أقارب، معلّم…).
العديد من الأطفال يجهلون ما هو ممنوع، وما هو محرَّم، لا بل أكثرهم يظنُّون أنّ لأهلهم، وأصدقائهم، ومعلّميهم كلّ الحقوق عليهم، وعلى جسدهم بكلِّ تفاصيله، لذا يُستدرجون إلى هذه اللُّعبة القذرة مع كلِّ ثقتهم بهذا الآخر الكبير والموثوق. وهنا الصَّدمة الأقوى في تحرّش أقرب الناس، ونتائجها هي الأقسى على النفس، والأصعب في العلاج النفسيّ.
كيف نُعيد ثقة الطفل بالناس، وأعزُّ إنسان، والحامي الأوَّل له قد خذله؟ هل يمكن ترميم ما تكسَّر، وما السبيل إلى ذلك؟
هل قول الحقيقة حول سفاح القربى، والتحرّش الجنسيّ بالأطفال أمرٌ مزعج جدًّا لدرجة أنَّه من الأفضل إنكاره؟
في نهاية القرن الماضي، تمَّ الكشف الأوّل عن ممارسات جنسيّة محرَّمة، وتردَّد المجتمع بين الإنكار والتهميش، وكان التجاذب ما بين الرغبة في التنديد، أو في إسكات الأصوات المُتحدِّثة عن أفعال تناقضُ المُحرَّمات، والقِيم التي قامت عليها المجتمعات (GERMAIN, 2010). أمَّا اليوم، وبعد الأخذ في الحسبان الأذى الناجم عن سفاح القربى، والتحرّش الجنسيّ على الأطفال، الذي يتسبَّب باضطرابات نفسيّة جمَّة قد تظهر فورًا، أو لاحقًا في مرحلتي المراهقة والرُّشد، بات التجرُّؤ على الحديث عن هذه الآفة ممكنًا، وإدانة المعتدي، والشكوى عليه متاحًا. لكن وللأسف ما زلنا نرى الشكوك تتوجَّه غالبًا نحو الضحايا، مثلاً بالإيحاء أنَّهم مسؤولون عمَّا حدث، ومتَّهمون بقيامهم بإغراء المُعتدي (Manciaux, 1998).
تحاول كاثرين بونيت (Bonnet,2015)، فهم هذه الظاهرة، ومنع سقوط فكرة براءة الضحيّة, وقد قارنت العوارض الناجمة عن صدمة ضحايا الاعتداء الجنسيّ بأعراض ضحايا الحرب.
ثمَّة أسئلة قد تُطرح، هل يُمكن الوثوق بما يقوله الطفل حول تعرُّضه للتحرّش الجنسيّ؟ وهل يجب عدم التغاضي عن أيّ أعراض، أو تبدُّلٍ في السلوك؟ ما العمل المُساعد للطفل؟ وما دور الوالدين في الدَّعم النفسيّ والوقاية؟
لعلَّ المتابعة النفسيّة لأطفال تعرَّضوا لتحرّش جنسيّ من أقسى الأمور، لما تتركه في النَّفس من ألم، وغضب، ورغبة في عمل أيّ شيء ليستعيد الطفل أمله في الحياة، وثقته في الإنسان. لطالما أردت أن أُطلق صرخة احتجاج في وجه بعض العاملين مع الأطفال الذين يتحدَّثون عن شكوكهم بشأن ما يشكو منه الأطفال عن تعرُّضهم لتحرّش جنسيّ، متناسين أنَّ بوح الطفل بهذا الأمر لا يتمُّ بسهولة، فهو مُهدَّدٌ، وخائفٌ، ومشوَّش الفكر، ويميل إلى الصَّمت، وغالبًا جسده، وسلوكه يتحدَّثان عن معاناته، وليس لسانه.
نميل إلى الاعتقاد بأنّنا نعرف أطفالنا جيّدًا بما يكفي لاكتشاف أيّ تغييرات في سلوكهم، ومع ذلك، يقول العديد من البالغين الذين تعرَّضوا للإيذاء أثناء الطفولة إنّ والديهم لم ينتبهوا، ولم يروا شيئًا. هل من الممكن حقًا اكتشاف علامات العنف الجنسيّ عند الأطفال؟ هل هناك سلوكيّات تُنذرنا بالخطر؟
– الإحصائيّات:
أظهرت نتائج الدراسة الوطنيّة في لبنان حول التحرّش الجنسيّ بالأطفال التي تناولت 1025 طفلًا، أنّ 16.1% من الأطفال الذين شملهم المسح قد تعرّضوا لأحد أشكال الإساءة الجنسيّة، و12.5% كانوا ضحايا أفعال جنسيّة، في حين أنّ 8.7% قد تعرّضوا لمحاولات الشروع في أفعال جنسيّة، و4.9% قد أرغموا على مشاهدة صور وأفلام إباحيّة. (كفى، 2013).
أمَّا بحسب التَّجربة الفرنسيّة، هناك فتاة واحدة من كلّ 25، وصبيّ واحد من كلّ 33 يتعَّرضون للتحرّش الجنسيّ من اغتصاب، أو محرَّمات. ومن كلِّ 4 متحرّشين جنسيًّا هناك متحرّش واحد هو فرد من أفراد عائلة الضحيّة، وواحد من كلّ متحرّشين هو شخصٌ من أقارب، أو أصدقاء العائلة. (60% من محيط الطفل: جيران، مدرِّسين، 30% أقرباء: آباء، أعمام، 10% غرباء)(THIBAUT, 2015) .
أمَّا في كندا فقد أَبلغ حوالي 5000 شخص عن تعرُّضهم لاعتداءات جنسيّة في كيبيك في عام 2011 وحده. ويشمل ذلك الأشخاص من جميع الأعمار، والخلفيّات الاجتماعيّة ومن الجنسيّن، مع الأخذ بالحسبان جميع أشكال الاعتداء التي يسجِّلها القانون (الإغراءات، واستعراض الجسد، والتلصُّص، وزنا المحارم، والتنمُّر الإلكترونيّ، إلخ) (Verdrager,2013). إلى هذا الرَّقم المُخيف، هناك العديد من الأمور المثيرة للقلق:
لا يتمّ الإبلاغ عن 90 ٪ من الاعتداءات الجنسيّة للشُّرطة، كما أنَّ أعمار ثلثي الضحايا أقلّ من 18 عامًا، و80٪ من الضحايا من الإناث مقابل 98 ٪ من الجناة هم ذكور، و20٪ من مرتكبي هذه الأعمال تقلُّ أعمارهم عن 18 عامًا. نجد في 80٪ من الحالات أنَّ مرتكب الجريمة من أقارب الضحيّة، وفي 1/3 منها هو أحد أفراد الأسرة (الأب، العمّ، الأخ، إلخ) (Bonnet,2015).
– هل من مؤشّرات واضحة تجعلنا نتنبَّه لتعرُّض الطفل لإساءة ما أو تحرّش جنسيّ؟
حدَّدت العديد من الدراسات العلميّة سلسلة من المؤشِّرات، والأعراض الجسديّة، والنفسيّة التي ينبغي أن تساعد البالغين (الآباء، والمعلّمين، والإخصائيّين) على اكتشاف سلوك غير مُعتاد لدى الأطفال المُقرَّبين منهم. ومع ذلك، في كثير من الأحيان لا يرى المعنيُّون شيئًا، ويبقى الأطفال وحيدين، ومعزولين يعانون بصمت دون أن يجرؤوا على الكلام.
ما الذي يمنع الطفل من الكلام عن معاناته وصدمته؟
أوّلًا: الخوف، إذ عادة ما يُهدِّد المُعتدي الطفل بإيذاء شخص يُحبُّه إذا تحدَّث بما جرى.
ثانيًا: حُبّ الطفل وتعلُّقه بالمعتدي، أو المتحرّش (الوالد، العائلة المقربة)، وعدم رغبته في التسبُّب له بالأذيَّة.
ثالثًا: هذا الموضوع غريب عن الطفل، ولا يعرف كيفيّة التعامل معه، إضافةً إلى شعور خفيّ بالذنب، والتشويش، إذ يعتقد بأنَّه مسؤول، ومُشارك، ومُذنب كما المعتدي، وهذا الأخير يُكرّر التهديد، وكلمات تشوِّش فكر الطفل، وتُشركه في الفعل، كأن يقول “إنت مبسوط متلي، وحبَّيت اللي صار، وهيدا سرُّنا ما لازم حدا يعرف، وإلا بموت حدا بتحبُّوا”.
أضف إلى ذلك المحيط غير المُتقبِّل، أو الذي يغضُّ الطَّرف عمَّا حصل لأنّه من المُحرَّمات، والأقارب يعتقدون دائمًا أنّ هذا يحدث مع الآخرين، أو مع الأسر التي تعاني من مشاكل، وفي بيئة اجتماعيّة مفكَّكة فقط.
لكن ما هي المؤشّرات التي تستدعي القلق حول تعرُّض الطفل للتحرّش الجنسيّ؟ لا يوجد دليل على فعل التحرّش لأنّه يتمُّ في خلوة، وللأسف يندر أن نجد برهانًا عليه، لكن هناك سلوكًا ما قد تغيَّر لدى الطفل، فالعديد من المؤشِّرات الجسديّة والنفسيّة يجب أن تُنبِّه البالغين المسؤولين عن الطفل بأنَّه تعرَّض، أو يتعرَّض لأمر خطير وأبرزها: (Gabel, 2009)
. التغيُّر والتبدُّل العامّ في السلوك.
. العزلة والانزواء، الطفل يعزل نفسه طواعية.
. الميل إلى الصَّمت، لا يُخبر أحدًا بأمور أيَّامه، ولا يقول ماذا يفعل.
. اللااكتراث، يبدو غير مهتمّ بما يُحبُّ عادة القيام به.
. الخوف، يبدو خائفًا، ورافضًا الذهاب بمفرده إلى مكان ما.
. الإِفراط الحركيّ، وتشتًّت الانتباه، ونقص التركيز.
. تراجع في الآداء المدرسيّ، درجاته تتدهور.
. البرود العاطفيّ، يرفض الحنان، والقُرب الجسديّ، والعناق.
. الحياء الشديد، يرفض أن يكون عاريًا أمام شخص بالغ (الأهل أو الطبيب).
. سريع الانفعال، قلق، عصبيّ، كثيرًا ما يبكي، أو يغضب، عدوانيّ على الآخرين.
. التبوّل الليليّ.
. فقدان الشهيَّة.
. الأرق، يعاني من الأرق، ويخشى أن يغفو كي لا يرى كوابيس متكرِّرة.
. شعور بالقذارة، ونظافة متشدِّدة، الاستحمام مرَّات عديدة، وكأنّه يودُّ تنظيف هذا الجسد الذي تدنَّس.
. وعي جنسيّ مُبكّر، يتحدّث عن الأمور الجنسيّة التي لا يجب أن يكون على علم بها في عمره، ويحاكي الألعاب الجنسيّة (مع كلابه، مع الدُّمى، مع الأطفال الآخرين).
. الخجل من النَّفس.
. يبدو أنّه مهتمًّ بالحياة الجنسيّة عن قرب: الأسئلة، والرسومات الواضحة (رسم الأعضاء التناسليّة).
. الغثيان، وأوجاع المعدة، والرأس، والتعرُّق، وصعوبة التنفس، والرَّجفة والدوار…
. أذيّة الجسد، وتشطيبه وصولًا إلى التفكير بالانتحار.
. التشوُّش، والحَيرة، والضياع.
. فقدان الثقة بالراشد (الأهل غالبًا)، وعدم الإحساس بالأمان.
بعض العلامات المادّيّة التي يجب ألَّا نُهملها:
. كدمات على الفخذين، أو في أيّ مكان آخر من الجسم.
. ألم وجروح غير مفسَّر في المناطق الشَّرجيّة والتناسليّة.
. تهيُّج الأعضاء التناسليّة.
. التهابات المسالك البوليّة المتكرِّرة.
. نقص أو زيادة الوزن.
أمَّا لدى المراهقين فنلاحظ اضطرابات الأكل، وعلامات التشطيب الذاتيّة، والندبات كما تعاطي المخدَّرات، والكحول (VAN der Kolk, 2019).
– كيف نساعد الطفل ونحميه من التَّبعات المؤذية للتحرّش الذي تعرَّض له؟
الآباء (الجديرون بالأبوَّة) يريدون دائمًا الأفضل لأطفالهم، ويصابون بالصَّدمة في حال معرفتهم بتعرُّض طفلهم للأذى، وفي متابعتنا النفسيّة للأطفال كان لا بُدَّ من متابعة الأهل، ودعمهم نفسيًّا ليتخطُّوا محنتهم كي يتمكَّنوا من مساعدة طفلهم. والنصيحة الأفضل لأعطائها لهم هي أن يمدُّوا جسور التواصل، والحوار مع أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، ومتابعة أمورهم الحياتيّة اليوميّة، وبهذه العادة قد، وأكرِّر، قد يخبرونهم بما يتعرّضون له. لكنَّنا نعرف أنَّ الأطفال المُتحرَّش بهم يميلون إلى الصَّمت، وعدم التحدُّث عن الفعل. لذا، إن تحدَّث طفل ما عن التحرّش فيجب تصديقه، لأنّه لا يبوح بسهولة بهكذا محنة، نظرًا إلى تشوُّشه، وغرابة ما أصابه، والرُّعب الذي يعتريه.
من الخطوات المساعدة هي اللجوء إلى إخصائيّ نفسيّ كي يساعد الطفل في استيعاب الصَّدمة، والحدِّ من أضرارها، وبعدها اللجوء إلى قوى الأمن، ورفع شكوى قانونيّة، فجزء من علاج الضحيّة هو معاقبة الجلَّاد. لكن المشكلة في اللجوء إلى قوى الأمن، والقضاء، هي في اضطرار الطفل أن يسرد ما عايشه من اعتداء بالتفاصيل الدقيقة، وبشكل متكرِّر، ومسبِّب لمزيد من الاضطراب، حتّى ولو في حضور مندوبي الأحداث.
أمّا في الخطوات التي يمكن للأهل القيام بها للمساعدة والدَّعم فهي:
ان نتائج التحرش الجنسي تكون أقل كارثية ان كان موقف الأهل حاضن وحامي ومتفهم للطفل حين يبوح بسره. الضحية يعاني مشاعر مختلفة من حزن الى رغبة بالبكاء الى غضب فقلق وحتى اكتئاب.
تجنبوا لومه او توبيخه لئلا تزيد آثىر صدمته، دعوه يتكلم ما يريد، ساندوه أظهروا له انكم معه ولا تضغطوا عليه بالأسئلة عن النعتدي وطريقة الاعتداء، ليشعر بالأمان ولاحقا سيخبركم بالتفاصيل.
ردود فعله: قلق عارم، اضطراب الشهية والنوم، احساس بالقذارة والتشوش وعدم الفهم، الخوف من مغادرة المنزل، الخوف من الآخرين، مشاعر الذنب،
. المحافظة على الهدوء، والتأكيد للطفل أنَّ ما حصل ليس غلطته، وتذكيره أنَّه الضحيّة (وذلك للحدِّ من مشاعر الذَّنب التي تجتاحه).
. طمأنته، وإخباره بأنَّ الأهل معه، وإلى جانبه دائمًا، ولمساعدته. لا للحكم عليه، أو تأنيبه، أو معاقبته، لأنَّ ذلك قد يزيد صدمته.
. التأكيد له أن لا ذنب عليه، وأنّه ضحيّة، وأنّ المُعتدي سيعاقب حتمًا.
. جَعله يتكلَّم دون إرغامه، وما أن يشعر بالثقة، والأمان ينطلق اللِّسان. فالطفل الذي يتعرَّض للتحرّش، ويُخبر عن ذلك هو أقلُّ عُرضة للآثار السَّلبية إذا ما أُحسِن التعاطي معه.
. توفير أكبر قدرٍ من الدَّعم العائليّ، والشعور بالحماية، والأمان.
. القراءة معه عن الموضوع، وإخباره عن حالات مماثلة، وكيف استجابت للدَّعم النفسيّ، وخرجت من مأزقها وتعافت، وهي وسيلة تساعد على التخفيف من الألم وإعطاء الأمل.
. إن أَخبر بتعرُّضه للتحرّش يجب تصديقه، إذ نادرًا ما يكذب الطفل بهكذا موضوع.
. التأكيد له أنَّه غير مسؤول عمَّا حدث، ولا ذنب عليه، لأنَّه صغير، ولا يعرف أنَّ الأمر ممنوع، وأنَّ المُعتدي البالغ هو الذي يعرف الصَّواب من الخطأ، وكلُّ الذَّنب ذنبه، فهو المجرم، والمسؤول، وسيُعاقب، وأنَّه (أي الطفل) الآن بأمان.
. لنقُل له إنّ ما حصل يُعاقب عليه القانون، لأنَّه ممنوع، وأنَّ مصير المُعتدي السِّجن لئلا يؤذي الآخرين.
. ضرورة اللجوء السريع إلى برامج الحماية، والعلاج النفسيّ.
– الوقاية خيرٌ من قنطار علاج، ما هي برامج الوقاية؟
التحرّش الجنسيّ موجودٌ في كلِّ المجتمعات، والثقافات، وهو أمرٌ ممنوع، كما أنَّ القوانين موجودة لتعاقب المتحرّش وتحمي الطفل. نحتاج إلى التعامل مع هذا الموضوع لدى الأطفال حتّى وإن بدا الأمر مُزعجًا، وذلك باستخدام الكلمات المفهومة، والمُتناسبة مع سنِّهم. وضرورة ذلك تتبدَّى في بثِّ التوعية، والتشجيع على حماية النفس، دون جعله يشعر بأنَّ العالم مخيف وخطير (Thibault,2015). فمجرَّد التفكير بإمكانية تعرُّضه للاعتداء هو أمر مخيف جدًّا للطفل، لكن الخوف يمكن أن تخفَّ حدَّته إن عرف ماذا يفعل فيما لو تعرَّض للأذيَّة.
بالطَّبع ينصح جميع الآباء أطفالهم بعدم التحدُّث مع الغرباء في الشارع، أو على الهاتف، أو وسائل التواصل الاجتماعيّ، وعدم قبول الهدايا، أو الحلويّات من هؤلاء الأشخاص. ولكن كما رأينا أعلاه، الخطر مُتربِّصٌ في البيئة المُفترض أنَّها آمنة للطفل: الأقارب، أو أفراد الأسرة، أو الجيران، أو المدرِّبون الرِّياضيّون، أو حتّى المعلّمون… في هذه الحالة كيف يمكننا أن نتصرِّف؟ بعض الإجراءات المفيدة لاتبَّاعها مع الطفل:
. تهيئة مُناخٍ من الثقة حيث يمكن التحدُّث عن كلّ الأمور الحياتيّة، فما أن يشعر الطفل أنَّه محطُّ ثقة، واهتمام حتّى ينفتح للآخر، وينطلق بالكلام عما يزعجه (Dorais,2013).
. الاستماع بهدوء لما يقول من دون التهويل عليه.
. استعمال كلمات بسيطة ككلماته للتحدُّث معه.
. تعليمه ما هو مسموح به، وما هو غير مسموح به.
. تعليمه احترام جسده.
. جعله يفهم أنّه يتمتَّع دائمًا بالحقِّ في قول “لا” عندما لا يشعر بالراحة أثناء قيامه بفعل ما، حتّى لو كان يُحبّ الشخص الموجود أمامه ويثق به.
. تعليمه أن يطلب المساعدة من شخص يثق به إذا لم يشعر بالأمان مع شخص ما، حتّى لو كان يعرف هذا الشخص جيّدًا.
المطلوب من الأهل إظهار الاهتمام الدائم بالطفل عندما يروي شيئًا ما، حتّى لو بدا “سخيفًا”. فإذا كان يكذب (يحدث ذلك) فسيكون من السَّهل كشف القناع لاحقًا، ولكن إذا قال الحقيقة، وسخرنا منه، فسيظلُّ محبوسًا في صمته، ومن الصَّعب جدًّا كسر حاجز الصَّمت لاحقًا. نقطة أخيرة مطلوبة من الأهل، وهي ألَّا يبقوا لوحدهم في محنتهم ومعاناتهم، وليتحدَّثوا إلى طبيب، أو نفسانيّ، أو أيِّ شخص أهل للِّثقة لمساعدتهم هم وطفلهم.
– قواعد الحماية:
إنَّ قواعد الحماية تساعد الطفل ليكون أكثر استقلاليّة، وثقة بنفسه، وحماية الطفل هي وقايته من الإساءة، والإهمال، والاستغلال مع الاستجابة لشكواه، والتعامل معها (Gabel.2005). والخطوة الأولى لذلك هي السَّرّيّة، أي حفظ السِّر الذي ائتمننا عليه، فصحيح أنَّ السَّرّيّة المهنيّة ركنٌ أساسيّ في أخلاقيّات النفسانيّ، لكن حين نعمل في مراكز كبيرة، ومُتعدِّدة الاختصاصات ثمَّة إجراءات عديدة لاتِّخاذها، أهمّها حفظ المعلومات المتعلِّقة بالأطفال، وعائلاتهم ضمن جوارير مقفلة، وحمايتها وفق السياسات، والإجراءات المناسبة من عدم مشاركتها إلاّ مع الأشخاص الذين يحتاجونها لحماية الطفل، إلى ضرورة عدم ذكر اسم الطفل، ووضع رمزٍ ما مكانه، ولا تاريخ ميلاده، أو حتّى أيّ تفاصيل تعريفيّة أخرى عنه، وفي أيِّ رسالة بريد إلكترونيّ. إرسال المعلومات الدقيقة في مستند محميٍّ بكلمة مرور، أو نقل التفاصيل شفهيًّا إن استدعى الأمر.
وبعد الحرص على السرّيَّة، وإخبار الأهل، والطفل بذلك، يمكننا أن نقول للطفل الأمور التالية التي عليه معرفتها لحمايته أمنه وحفظه، وهي إرشادات الأهل أيضًا، والمربِّين لأطفالهم، وليعرف الطفل:
. إنَّ له الحقُّ برفض عرضٍ من راشد ما حتّى، وإن كان يعرفه.
. إنَّ رَفْضَ طلب أحدهم لمرافقته إلى منزله، أو إلى مكان ما ليس قلَّة أدب، ويجب تعلُّم قول “لا”.
. أن نُخبره بأنَّ جسده هو له، ويجب أن يقول لا لمن يسعى لملامسته رغمًا عنه، وأنَّ من حقوقه الاحترام، والحماية من قبل الراشد.
. إنَّ عليه أن يقترّب من أيّ تجمُّع بشريّ، أو أن يدخل إلى أيِّ محلٍّ، أو متجرٍ قريب عند الشعور بالخطر في الشارع.
. لنُخبره عن الأماكن التي عليه تجنُّبها، وعدم الَّلعب فيها.
. لنكتب معه لائحة بالأشخاص الأهل بالثقة ليتواصل معهم إن شعر بالخطر: شرطيّ، بائع، معلّم، أو أقارب، أو أهل، أو صديق…
. لنحرص على أن يذهب إلى المدرسة مع رفيق أو اثنين، أمَّا صغار السن فمن الأفضل أن يرافقهم أحد أبويهم.
. لتشجيعه على القيام بالأنشطة التي تعلِّم كيف يُساعد الأطفال بعضهم بعضًا، وكيف يهتمُّون بالأصغر.
. لتشجيعه على كسب الثقة بنفسه، فإن كان أقلّ خجلًا مع الرَّاشدين يستطيع التجرؤ أكثر في الدِّفاع عن نفسه.
. لإعطائه معلومات سليمة، وصحيحة عن الأمور الجنسيّة متى ما بدأ بالتساؤل حولها، فإسكاته وتركه من دون إجابات يدفعه إلى البحث عنها في أماكن أخرى، أو عند أشخاص آخرين، وقد يقع على السيِّئ منهم.
هنا لا بُدَّ من طرح نقاط في التربية الجنسيّة من باب حماية الطفل وتحصينه كي لا يكون ضحيّة أفعال مؤذية. فعندما يسأل الطفل، ويُعبِّر عن المحرَّم تجاه أحد أبويه يجب التحدُّث عن الموضوع، ولنستفد من هذا النوع من الأسئلة (عندما أكبر سأتزوج من ماما، أو بابا، من أين أتيت؟ كيف دخلت بطن الأمّ؟) لنتكلَّم عن الجنسيّة مع الطفل، ولنقدِّم له توضيحات تُرشده، وترسم له الحدود السليمة، وهي مسؤوليّة الأهل، وهم الأكثر حِرصًا على مصلحته.
التربية الجنسيّة تتمُّ بشكل عفويّ، ومتدرِّج في الأسرة، وبشكل صحيح، وضمن حدود الأسئلة، ومع لغة علميَّة مبسَّطة، من دون الدُّخول في التفاصيل، وذلك من خلال أسئلة الطفل، والأحداث الحياتيّة، يجب أن نعلِّمه ألَّا “يرهب” أهله كما يجب ألَّا يفعلوا ذلك، في نقل لمفهوم المُحرَّم.
ضمن هذا الجوِّ من التبادل، والحوار، والمحبَّة يُطوِّر الطفل قدراته على أن يكون أبًا جيِّدًا، أو أمًّا جيِّدة في المستقبل، كما يُطوِّر وعيًه بالحياة الجنسيّة ما يُشكِّل حماية له.
– خاتمة:
تشكِّل الصدمة جزءًا من حياتنا، وتحفر عميقًا في جسدنا الذي يتذكّرها جيّدًا، ويُكوِّن مشاعر موازية لها. ويُعدّ التحرّش الجنسيّ كأكثر تجربة إنسانيّة مدمِّرة للضحيّة وحياتها، هي رحلة طويلة من المعاناة النفسيّة، والأخلاقيّة، والعاطفيّة، والمادّيّة التي تؤثِّر في جميع جوانب الحياة.
هي جريمة غالبًا ما تكون “مثاليّة”، وتُعطِّل نُطق اللسان، وتُفعِّل لُغة الجسد والانفعالات، والكلمات ليست سوى ذكريات ماضٍ عنيف وأليم. والضَّحايا، الذين كانوا في مُعظمهم أطفالًا، أو كانوا في مرحلة الطفولة، يعيشون حالة من فقدان الذاكرة “المَرَضِيَّة”.
التي تنتج عن الصَّدمة، والتي تمنعهم من إقامة الصِّلة بين اضطرابهم الحاليّ، وصعوبة تكيُّفهم الحياتيّ، وما عانوا منه أطفالاً.
المأساة في عالمنا اليوم هي عندما يُعرف مرتكب الجريمة، ونجد المجتمع غير راغب في رؤية، أو سماع، أو إدانة هذه الحقائق عن العنف الجنسيّ، ما يجعلها تستمرُّ في الانتشار، والتدمير، لعلَّ الضحيّة لا تموت في الحال، لكنَّها تحترق ببطء.
هو ذا السبَّب في أنَّه من الأهمِّيّة بمكان أن تبدأ رحلة حقيقيّة لإصلاح هذا الأمر، وأن يتمّ تدريب عدد كبير من المهنيِّين الصِّحيّين، والنفسيّين على الرِّعاية الدقيقة والخاصِّة. ومن المهمِّ أيضًا ضمان مساعدة ضحايا التحرّش الجنسيّ في أقرب وقت ممكن، وتقديم بروتوكولات وقاية، وعلاج، وحماية فعَّالة، ومحدودة زمنيًّا.
نعم، يُمكن أن نولد مُجدَّدًا من جريمة التحرّش الجنسيّ، ويُمكن أن نشفى من جروحها، وأن نُعيد الرُّوح الإبداعيّة الجميلة، والانطلاقة الحياتيّة الإيجابيّة، ونرمِّم بذلك “الأجنحة المُتكسِّرة” لدى الضحيّة.
المراجع
– Bonnet, C.(2015), L’enfant cassé, l’inceste et la pédophilie, Albin Michel : Paris.p55 et 60-70.
– Dorais, M. (2013), ca arrive aux garçons, Les éditions du Seuil-babelio: Paris. p 47.
– Germain, S. (2010), L’Enfant Méduse, Ed: Gallimard paris. P 77.
– Gabel, M. (2009), Les Enfants victimes d’abus sexuels, PUF :Paris.p65.
– Gabel, M(2005). La protection de l’enfance: Maintien, rupture et soins des liens, Association pierre Strauss: France. P 12.
-Manciaux,M. Gabel, M.(1998), enfances en danger, éd Fleuris psychopédagogique, fondation de France. P 655.
-Thibault, F. (2015), les abus sexuels, des clefs indispensables pour comprendre, aider et prévenir, éd: Odile Jacob, Paris. P 33.
– VAN der Kolk, B. (2019), le corps n’oublie rien, éd: Albin Michel, Paris. p 52.
– Verdrager, P. (2013), L’enfant interdit. Comment la pédophilie est devenue scandaleuse, Armand Colin, coll. «Individu et société», Paris. p 34 – 35.